موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

المشحون بالفيض الإلهى لقى شخص آخر عبد الله ابن عمر وقال «يا أبا عبد الرحمن. قد حل زمن زاد فيه الجور والظلم وزادت حالة العباد ضيقا واشتدادا وبناء على هذا فأنا أريد أن أهاجر إلى بلد ذى شهرة بالرخص». فذكر له عبد الله بن عمر الحديث الطويل سالف الذكر وقال له لا تفارق مكانك الذى أنت فيه ولو خطوة واحدة.

إن تفضل الآمر بالحكمة ـ عليه أفضل التحية ـ قائلا «أكون إما شفيعا أو شهيدا على من يتحملون بلايا المدينة المنورة بالصبر عليها» لا يشك فيه لأن معناه أكون شاهدا للمطيعين وشفيعا للعصاة ولما كانت هذه الشفاعة أخص من الشفاعة العامة فإن ذلك الحديث يدل على أن سكنة تلك المدينة المذكورة يتوفون على إيمانهم ومعلوم أن الشفاعة ستكون فى حق أهل الإيمان.

إن تبشير متوفى المدينة جعل سكان دار السكينة رهن السرور ومما لا شك فيه أن الحديث الشريف (من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة) (١) سيسر الذين يؤثرون الفداء بأرواحهم فى المدينة المنورة ، ويروى ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدعو فى أثناء وجوده فى مكة قائلا «نرجو من المعطى ألا يتوفانا فى مكة المكرمة» وذلك عن صحبته له ـ عليه السلام ـ ويروى من مصدر موثوق أن صاحب الآيات ـ عليه أفضل التحيات ـ يقول «إن الذين لهم ملك فى المدينة يجب أن يحرصوا على المحافظة على أملاكهم وأن يسعى الذين لا يملكون شيئا فى المدينة لبذل الجهود على أن يمتلكوا شيئا فيها» ، كما أنه ـ عليه السلام ـ نبه المهاجرين إلى البلدة الطيبة أن يهيئوا لأنفسهم ولو شجرة نخلة (٢) واحدة.

وقد روى الإمام الزهرى مرفوعا «لا تتخذوا الأموال بمكة واتخذوها فى دار هجرتكم فإن الرجل مع ماله» كما روى ابن عمر الحديث اللطيف «لا تتخذوا من وراء الرق حاملا ولا ترتدوا على أعقابكم بعد الهجرة ولا تنكحوا بناتكم طلقاء

__________________

(١) عند الترمذى بلفظ : «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإنى أشفع لمن يموت بها» وفى رواية الطبرانى : «فإنه من مات بها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة». وقال : حسن صحيح. انظر : إعلام الساجد ص ٢٤٨ ، مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٦.

(٢) راجع مجمع الزوائد ٣ / ٣٠١.

١٠١

أهل مكة» وبهذا ينقلون أن النبى صلى الله عليه وسلم حض على عدم امتلاك الأموال فى مكة بل فى المدينة لأن مال كل إنسان يكون بجانبه.

إن مدينة دار السكينة مثل (١) كير الحداد يفرق بين المخلصين من الموحدين وأهل النفاق وتفصل بينهما ، كما أن الكير يفصل بين الحديد وخبثه وهكذا تفصل المدينة المنورة تمحص قذارة ووسخ أهل النفاق وتبعدهم عنها وتصفى وتبقى على أهل الإخلاص.

قال أحد الأعراب ـ وكان قد مرض بالمدينة ـ للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! أقلنى عن بيعتى (٢).

فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه ، وغادر الأعرابى المدينة.

عندئذ قال خير البرايا ـ عليه أكمل التحايا ـ «وإن المدينة المنورة مثل كير الحداد يزيل الخبث ويصفى الطيب» (٣) يفهم من هذا الحديث أن المدينة المنورة لا تقبل أهل الفساد والبدعة وتطردهم بعيدا ، وما زالت هذه الخاصية فى المدينة الشهيرة ومشهورة بها.

وإن قال بعض الذوات أن الخاصية بالمدينة تنحصر فى عصر السعادة فبناء على حكم القول الشريف «لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها» (٤) وبناء على ما قاله عمر بن عبد العزيز عند ما كان يفارق المدينة المنورة «أخاف أن أكون من الذين تبعدهم المدينة وتطردهم» فخاصية المدينة المنورة ستستمر إلى ظهور الدجال ، ولكن الأشخاص الذين ستطردهم المدينة هم الكفار الذين يتصفون بالخبث الكامل ، أما العصاة الذين لم يصلوا إلى درجة الكفر ينقلون إلى أماكن مناسبة بواسطة الملائكة بعد ارتحالهم وموتهم ، ويفهم من هذا أن أهل المدينة الذين لا

__________________

(١) يطلق الكير على موقد الحداد موقد المعادن.

(٢) الإقالة الادعاء بأن الإنسان قال شيئا وفى الحقيقة لم يقل شيئا كالافتراء.

(٣) الخبر فى الصحيحين : انظر صحيح مسلم ٣٢٩٦ فتح البارى ١٣ / ٢٠٠ ، ٢٠١ باب بيعة الأعراب ، عمدة القارى ١٠ / ٢٤٥.

(٤) رواه الإمام مسلم فى صحيحه ، كتاب الحج ، باب المدينة تنفى شرارها ، حديث ٣٢٩٣. ط دار الغد العربى.

١٠٢

يستحقون الشفاعة ينفون إلى أماكن أخرى لإزالة ومسح ذنوبهم أو أنهم يمحون ذنوبهم بزيادة أجورهم ومثوباتهم كما تفيد الآية الجليلة :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ). (هود : ١١٤).

أو أنها تظهر خباثة وفساد من فى قلوبهم الفساد والخبث.

وقد ثبت بحكم الأحاديث الشريفة أن الذين يحدثون البدعة فى المدينة أو يعينون على ذلك سيلعنون من قبل الرحمن ، وأن صلوات مثل هؤلاء الرجال المفروضة ونوافلهم لن تقبل منهم فالآثام الصغيرة التى ترتكب فى المدينة المنورة تعد من الكبائر بناء على الإفادة العاتبة لله ـ سبحانه وتعالى ـ إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يمحو الذين يسيئون إلى أهل المدينة المنورة كما يذيب الماء الملح يذيبهم فى جهنم مثل الملح والرصاص (١).

هناك اختلاف فى مدلولى لفظى المحو والإذابة إذ قال بعضهم إن الذين يتعرضون بالسوء إلى أهل المدينة المنورة سيؤاخذون على فعلتهم يوم القيامة ، كما حكم بعضهم على أن هؤلاء سيؤاخذون على أعمالهم فى حياتهم ، وإذا ما نظر إلى تلف المسلم الذى يناقض اسمه ـ أى مسلم بن عقبة (٢) ـ والذى تجرأ فى ارتكاب حادثة الحرم الشهيرة ، وكذلك إلى تلف يزيد (٣) المفضوح الذى عينه للقيام بهذه المهمة الحزينة متعاقبين ترى صحة مؤدى القول الثانى وأصالته ، وإذا ما نظر إلى تأخير مؤاخذة بعض الظالمين يرى أن القول معقول كذلك ، ولا سيما إذا نظرنا إلى مصير طوائف القرامطة الباغية ، ولكننا إذا ما نظرنا إلى مصير المغاربة الذين كانوا سببا فى إحاطة الشهيد نور الدين مرقد السعادة بجدار من الرصاص وإلى مصير المخذولين الأذلة الذين أساءوا إلى المدينة إذ تعرضوا ـ إن عاجلا أو آجلا ـ إلى أنواع المصائب والبلايا يقتضى ترجيح صحة القول الثانى.

وبما أنه قد ثبت أن الجبابرة الذين أساءوا إلى دار الهجرة المدينة المنورة قد نالوا جزاءهم من الآلام والعذاب حتى كانوا عبرة لأمثالهم ومثار الانتباه فلا شبهة أنهم

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم بشرح النووى حديث ٣٢٩٩ ط. دار الغد العربى. وإعلام الساجد ، ص ٢٥٧.

(٢) أهلكه الله منصرفه عن المدينة.

(٣) هلك يزيد بن معاوية أثر إغزائه أهل المدينة.

١٠٣

سيصيرون إلى الدرك الأسفل من النار ويذوبون مثل الرصاص. وقال الفرد الأكمل والأجمل ـ عليه سلام الله عز وجل ـ «يا إلهى!! استعجل فى هلاك كل واحد يسيئ إلى أو إلى المدينة المنورة بلدى وحرمى ، وكل من يظلم أهل المدينة يخيفهم فأخفه» (١) ، وبهذا يومئ بهذا الدعاء أن الذين يظلمون أهل المدينة أو يخيفونهم سيتعرضون للعنة الله ومذمة الناس ويستحقونها.

الاستطراد : كان بسر بن أبى أرطاه أحد أمراء الفتنة ، فلما قدم المدينة كان بصر جابر بن عبد الله قد ذهب ، فقيل لجابر : لو تنحيت عنه؟ فخرج يمشى بين ابنيه فنكّب. فقال : تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ابناه أو أحدهما يا أبت وكيف أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبى (٢).

إفادة مخصوصة : كان بسر بن أبى أرطأة ذهب إلى مكة لإجراء التعليمات التى يحملها فى خلال السنة التاسعة والثلاثين الهجرية بعد المرور بالمدينة المنورة ، وأقدم على هتك حرمة الحرمين الشريفين على سبيل الإهانة. وبعد أن أتلف بسيف الغدر كثيرين من أهل الحرمين الذين لا يوافقونه فيما يرتكب وأعدمهم ثم ذهب إلى ديار اليمن وهناك أيضا جعل رءوس مئات من المسلمين ذوى العقيدة الطاهرة والمساكين ضحية سيفه الغادر الظالم. وكان أبو أيوب الأنصارى والى المدينة قد ترك دار السكينة المدينة المنورة فى اليوم الذى دخل ابن أرطأة فيها.

جمع ابن أرطأة أهالى المدينة المنورة فى مكان واحد وقال مخاطبا لهم «قد هرب أبو أيوب من هنا حتى لا يبايع معاوية ابن أبى سفيان مع أنى سأقبض عليه بأى طريقة كانت فأقتله! يجب عليكم كلكم أن تضعوا رءوسكم فى ربقة بيعة معاوية وأن تطيعوه ، يجب عليكم أن تبحثوا عن جابر بن عبد الله وأن تسوقوه إلى ،! وقال يا أفراد بنى سليم. إذا لم تأتوا إلى بجابر لن أقبل بيعتكم وسأقتلكم كلكم بالسيف وسأظهر لكم سطوتى وجلادتى».

__________________

(١) انظر مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٦.

(٢) رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح : انظر : مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٦.

١٠٤

بناء على ما حققه ابن عبد البر فيما كتبه أن الخائن ابن أبى أرطأة قد بعث لدعوة الناس إلى مبايعة معاوية وفى حالة عدم مبايعتهم فإنه مأذون أن يستخدم معهم الشدة والغلظة ، مع أن الذين رأوا ما أظهره حضرة جابر من شجاعة فى هذا الموضوع أعجبوا بها وقالوا لا يستطيع أن يقبل هذه البيعة وانسحب إلى حرة بنى سليم رافضين عرضه واتحد جابر مع أفراد بنى سليم ونجى من يد غدر ابن أرطأة وظلمه. ومع هذا لما فهم حضرة جابر أنه لن ينجو من يد بسر إذا لم يبايع معاوية وأن غرض بسر الحقيقى كان أن يقبض على جابر مهما بذل فى سبيل ذلك من تضحيات أو مال وفعلا بدأ فى التحريات فى هذا الخصوص. ولما اطلع جابر على ذلك لقى أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ من أمهات المؤمنين وقال لها إن البيعة التى يطلبها بسر بيعة ضالة باطلة ، ولكننى إذا رفضتها فلا شك بأنه سيقتلنى فما رأيكم فى هذا الخصوص؟ فقالت له : «على رأيى يجب أن تذهب بنفسك وتبايعه حتى تمنع وقوع نار الفتنة! فقد بعثت بابنى عبد الله (١) بن أبى سلمة أيضا لذلك وإنه سيذهب للمبايعة». وبما أن أم سلمة رضى الله عنها أفتت بلزوم البيعة فبايع مضطرا وهكذا نجى بنفسه من يد ظلم ابن أرطأة.

وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصى برعاية أهل المدينة ويحذر من إخافتهم وقد ورد فى ذلك أحاديث كثيرة ومن ضمن ما قاله أمير الممالك والشفقة ـ عليه أطيب التحية ـ «المدينة دار هجرتى والمكان الذى رحلت إليه ، فمن واجب أمتى اجتناب الكبائر ومراعاة جانب جيرانى ، وكل من لا يحترمهم ولا يرعاهم يسقيهم الله يوم القيامة من عصارة أهل النار. والحديث إن المدينة مهجرى ومضجعى! إننى سأبعث من هناك فالذى يليق بأمتى رعاية جيرانى والمحافظة عليهم! وكل من يحافظ على وصيتى فإننى سأكون له شهيدا يوم القيامة ، والذين يضيعون وصاياى فالله سبحانه وتعالى يسقيهم يوم القيامة من

__________________

(١) عبد الله بن أبى سلمة هذا قد استشهد فى داخل الحرم النبوى من قبل مسلم بن عقبة فى وقعة الحرة إذ رفض أن يبايع يزيد. والذى فى تاريخ الطبرى أنه عمر ابن أبى سلمة. تاريخ الطبرى ٥ / ١٣٩.

١٠٥

حوض الخبال (١) ويرويهم».

والحديث «جعل الله سبحانه وتعالى المدينة دار هجرة لى! إننى سأبعث من المدينة وسأحشر منها ، فيجب على أمتى اجتناب الكبائر والمحافظة على جيرانى وكل من يحترم أهل المدينة ويرعاهم فى سبيل حرمتى وتعظيمى أكون له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة. وكل من يضيع حرمتى فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يسقيه من حوض خبال».

وبناء على هذا حينما طلب المهدى العباسى من الإمام مالك أن يوصيه فقال له «أوصيك بالاعتراف بوحدانية الله وأن تبذل من لطفك وعطفك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال المدينة دار هجرتى ، فى صحراء القيامة سأبعث من المدينة قبرى فى المدينة ، وأهل المدينة جيرانى والواجب على أئمتى أن يتقيدوا بالمحافظة على أمتى! كل من يرعاهم ويحافظ عليهم يحافظون على حقوقى!

ومن يحافظ على حقوقى أكون شفيعا له فى يوم القيامة وشهيدا. والذين لا يحافظون على وصيتى يسقيهم الله من طينة الخبال يوم القيامة ويرويهم».

عند ما زار الخليفة المهدى المدينة المنورة وذهب لزيارة الحجرة المعطرة ، استقبله الإمام مالك وسادات البلد وأشرافه وجملة الأعيان وكبار موظفى الحكومة من عدة أميال من المدينة. وعندما رأى المهدى الإمام الجليل فاحتضنه وعانقه ، ثم استدعى من معه واحدا تلو الآخر وصافحهم بحرارة. وعندما رأى الإمام مدى التفات الخليفة لأهل المدينة ورعايته لهم وقف ناصحا له وقال يا أمير المؤمنين «إنك ستدخل الآن إلى المدينة وسترى فى يمينك ويسارك بعض الناس ، وبما أن جميع هؤلاء الذين سيراهم بصرك من أحفاد المهاجرين والأنصار ـ رضى الله عنهم ـ فيلزم عليك أن تحيى كل واحد منهم متفردا وتسلم عليهم وتعرض عليهم

__________________

(١) الخبال : عصارة أهل النار من العصاة وهو صديد وعرق أهل النار والحديث رواه الطبرانى فى الكبير على ما ذكر الهيثمى فى مجمع الزوائد ٣ / ٣١٠. وفيه عبد السلام بن أبى الجنوب ، وهو متروك قلت : وعبد السلام قال على بن المدينى : منكر الحديث. وقال أبو حاتم : متروك ، وضعفه الدارقطنى وجرحه ابن حبان. انظر الضعفاء الكبير للعقيلى ٢ / ١٥٠.

١٠٦

احترامك لهم ، لأنه لا توجد على وجه الأرض عشيرة خير وأفضل منهم. كما لا توجد بلدة أفضل من بلادهم «وقد رد الإمام على سؤال المهدى الذى قال له» وما هو دليلك الذى تستند عليه فى هذا القول «وليس على وجه الأرض قبر معلوم لنبى من الأنبياء غير قبر الرسول ـ عليه السلام ـ وإن هذه الطائفة التى استوطنت على أطراف المرقد النبوى ففضلهم ورجحانهم على سكنة البلاد الأخرى ظاهران.

وإذا ما نظرت إلى نصائح الإمام مالك للخليفة المهدى وأمعنت النظر فيما قاله محبوب الأنبياء ـ عليه أعظم التحية : «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (١) يفهم بداهة أفضلية مجاورة قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللامع. ورأيت ما للمدينة المنورة من الفضل والمزية ، وأمكنك ترجيح سكنتها على سكنة مكة المكرمة التى تمتاز بتضاعف الأجر والمثوبة لسكانها.

وبناء على وصية الإمام مالك قد راعى الخليفة جانب سكان دار السكينة ولاطفهم وسرهم ببذل عطايا كثيرة لهم.

فلتسر روح المرحوم دده عاشق الرب فما أجمل منظومته هذه ذات المعانى الكثيرة فى مدح المدينة المنورة :

المدينة هى مدينة المصطفى الطاهرة

إنها محل نظر الله المتكبر

المدينة هى منزل القرآن والوحى

وهى أيضا مهبط رسول الله

المدينة هى مضجع المختار أحمد

وهى مطاف الإنس والجن وأّهل السماء

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ٢ / ٨٥ ، ١٦٠ ومواضع كثيرة. وغيره من كتب السنن.

١٠٧

فى حديثه قال فخر العالم

كان ترابك شفاء للعليل

المدينة هى منبع الفيض والإحسان

وهى راوية المحتاج لمراجعة الحقيقة

المدينة هى فاتحة بلدان الإسلام

خصوصا فاتحة أم القرى

وهى مكان الغفران لقضاة المؤمنين

مدينة محو العصيان والخطأ

وهى حديقة الورد وهى فريدة

وهى كشف الغطاء عن شهود المعرفة

ترى هل نفس عيسى ترابها الطاهر

فهى تعطى الروح للقلب الميت

أنت سريد بيضاء لموسى طاهرة

أنت مليئة بالنور للقلب المظلم

المدينة مرقد خير البشر

وشفيع المؤمنين يوم الجزاء

أنت سرير سلطنة النبوة

المدينة هى العرش المجتلى

إنه الحريم المحرم لولاك لولاك

فالمدينة مجتلى سر الأم

المدينة دار الأنصار والمهاجرين

١٠٨

هذا مكان الدين والإيمان والحياة

المدينة هى ناشرة الرحمة للعالم

وخيرها دائم خاصة لأهلها

فالذى يراها مرة يتحسر قائلا

ليتنى أراها مرة أخرى فلقاؤها محبوب

هكذا انظر كم من مشكلات يحلها ذلك السلطان فمن الصعب أن يحلها العالم فى الحقيقة وإن كان لا ينكر ما خص به أهل مكة من مزايا مثل تضاعف الأجر والثواب فيها ومجاورة بيت الله الوهاب إلا أن أهل المدينة يرجحون ويفضلون على أهل مكة بسبب مجاورتهم وقربهم من حبيب رب العزة والطبيب المداوى قلوب أمته ، وتؤيد الحكم السابقة ما قاله أحمد بن حنبل لما سأل أبو بكر بن حماد «يا أبا عبد الله! ما هو أولى والأحب بالنسبة لك المجاورة فى مكة المكرمة أم السكنى فى المدينة المنورة؟» قال له «المجاورة أولى وأحب بالنسبة للذين يختارون السكنى بالمدينة صابرين على مصائبها وبلاياها».

والقول المختار فى هذا الموضوع أن اختيار المجاورة فى أى من البلدين مستحب لحبه ذلك البلد ولما يوجبه من مزية زيادة الأجر والثواب ، إلا أن الذين ذهبوا إلى أولوية المجاورة فى المدينة على مكة المكرمة كرهوا مجاورة مكة المعظمة (١) رغبو فى الإقامة فى المدينة الأمينة وأحبوها.

__________________

(١) إنما كرهها من كرهها لأمور ، منها : خوف الملل ، وقلة الحرمة للانس وخوف ملابسة الذنوب ، فإن الذنب فيها اقبح منه فى غيرها. انظر : شرح النووى على مسلم باب الترغيب فى سكنى المدينة كتاب الحج ٤ / ٩٢٠ ط. دار الغد العربى.

١٠٩
١١٠

الوجهة الرابعة

تشمل خمس صور تفصل أوائل حال المدينة المنورة وسكانها القدماء والقبائل التى انتشرت من سلالة «أوس بن ثعلبة» مساكنهم ومأواهم ، والحروب التى قامت قبل الإسلام بين قبائل الأنصار.

١١١
١١٢

الصورة الأولى فى ذكر أحوال المدينة الأولى وأطوار سكانها القدماء وأحوالهم.

بما أن أحوال الأقوام التى سكنت أرض يثرب السعيدة قبل الطوفان وشأنهم مجهولة فى نظر التاريخ فالمؤرخون أخبروا فقط عن أحوال القبائل التى سكنت فى المدينة المنورة بعد الطوفان ، تكاثر أحفاد حضرة نوح «عليه السلام» وانقسموا إلى اثنتين وسبعين فرقة وانسحبت كل فرقة إلى المكان الذى اختارته وهاجر شخص يسمى «يثرب بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام» أو «يثرب بن قائنة مهلائيل بن أدم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام» وعلى رواية «عملاق بن أرفخشذ بن سام» من الفرق التى تتحدث باللغة العربية مع أسرته إلى أرض يثرب وبعد أن ظل هناك فترة رحل إلى مكان يسمى «جحفة» من ملحقات المدينة المنورة.

كانت جحفة إلى ذلك الوقت مكانا لا اسم له ، وعقب ورود يثرب بن عبيل فى ذلك المكان أخذت الأمطار تنزل بغزارة وظهر سيل كبير وأجحف بنى يثرب فقيل لذلك الموقع «جحفة».

وأخبر المؤرخون أن هذه الهجرة تتزامن مع حكومة كنعان بن حام من نماردة بنى حام ، إلا أن المرحوم منجم باشى (١) قد ذهب إلى أن الطوفان قد وقع فى سنة ٦٧٩ وفى عهد إمارة فالغ بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح «عليه السلام».

وبناء على تدقيقات المؤرخين الذين قبلوا الرواية الثالثة أى الذين رووا أن الهجرة إلى أرض يثرب قد حدثت أولا فى عهد عملاق بن أرفخشذ بن سام وعندما كثر أولاد وأحفاد عملاق بن أرفخشذ والذى كان يشتهر بضخامة جسمه ،

__________________

(١) أحمد بن لطف الله صاحب كتاب جامع الدول.

١١٣

أظهر كل واحد منهم الكبر والغرور والنخوة وأخذوا يبنون منازل متينة هنا وهناك ، فأوسعوا بلدة يثرب وعمروها ، وحتى يزينوا أطرافها أخذوا يغرسون الأشجار حيثما وجدوا لذلك سبيلا ومنذ أن ظهر من بينهم رجال يعرفون فن الزراعة ، استولوا بكتائبهم على بلاد الحجاز والشام وتوسعوا فى حدودهم فاستولوا على ممالك البحرين وعمان ، مثيرين الفزع والدهشة.

وأخذوا يحكمون البلاد التى استولوا عليها وأهالى القرى والمدن بصورة وحشية وظالمة.

يروى المؤرخون عن العمالقة الذين اشتهروا بضخامة أجسامهم أنهم كانوا يعيشون ما يقرب من مائتى عام وأن الغزلان كانت تربى صغارها فى فتحات مآقيهم.

ووصل ظلم أحفاد عملاق بن أرفخشذ إلى أنهم حتى اشتهروا بين القبائل «بجبابرة العمالقة» وأضروا سكان البلاد التى حواليهم وأوقعوا فيهم الخسائر تحت سنابك خيولهم ، وزاد جورهم وأذاهم تدريجيا حتى أن أطفالهم الذين يلوثون الوجود كانوا يشرعون فى البغى والشقاوة وهم مازالوا فى مهدهم.

واشتد عندئذ الكفر والشقاوة بين القبائل الوحشية التى تنتسب إلى جبابرة تسمى «سقل وفالح» والتى ظهرت حينئذ فأشعلت نيران الشر والقتال حتى أوشك الأهالى الضعاف على الفناء والاضمحلال من جراء الأعمال الدامية لهؤلاء ، فأرسلوا الرسل إلى سيدنا داود ـ عليه سلام الله الودود ـ يستمدون منه العون فساق عليهم كتائب الصولة والقوة فقتل أكثر رجالهم وأعدمهم وأسر نساءهم وأطفالهم وكبلهم بالحديد.

واستطاع أن ينجو بعض هؤلاء من الأبطال الذين بعثهم سيدنا داود منسحبين إلى قمم الجبال إلا أنهم عادوا بعد فترة إلى ناحية «جرف» وأخذوا فى ارتكاب الشقاوة كما فى السابق ولكن لحكمة ما ظهرت فى رقابهم دودة أودت بهم إلى دار البوار ما عدا امرأة تسمى «زهرة» وهكذا أصبحوا غذاء للنمل والثعابين.

١١٤

ويروون أن المقبرة التى تحت سفوح الجبل مقابر هؤلاء الأشقياء. و «زهرة» التى نجت رقبتها من الداهية الدهياء التى أصيب بها هؤلاء القوم تعرضت لمرض الدودة الذى تعرض له قومها وتلفت ، وكان يتوطن على أرض يثرب شخص آخر بعد انقراض هؤلاء القوم ، وكثر أولاد هذا الشخص وأحفاده وانتشروا فى البلاد المجاورة حتى استولوا على البلاد الحجازية كلها وحكموا إلى التاريخ الذى أغرق فيه كليم الله ـ عليه السلام ـ الفراعنة فى بحر القلزم ولما كان هؤلاء قد تجرءوا على إضرار أهالى الممالك المجاورة وإزعاجهم بإيقاع أنواع الظلم والدناءة عليهم وبما أن موسى ـ عليه السلام ـ كان مكلّفا بمهنة تأديب جبابرة الحجاز وتنكيلهم ، بعد أن اضمحل جبابرة مصر والشام. أرسل إلى أرض يثرب بمقدار كاف من الجنود وأوصى قيادة تلك الحملة بتعليمات خاصة فى أن يقتلوا جميع الرجال والذكور الذين بلغوا سن البلوغ وسبى طوائف النساء والأطفال وأسرهم وبعد أن ودع هؤلاء الجنود انتقل إلى إقليم البقاء.

وقد وصل الجنود الذين أرسلهم سيدنا موسى بعد فترة إلى ساحة يثرب الفياضة وأشعلوا دائرة القتال.

وتغلبوا ـ بعون الله وعنايته ـ على مشركى العمالقة وبناء على التعليمات التى معهم كبلوا من استطاعوا أن يمسكوا بهم من الأطفال والنساء بالسلاسل جعلوا الذكور علفا لحد السيف.

وكان ضمن الأسرى ابن حاكم الحجاز أرقم بن أرقم ولما كان هذا فتى فى غاية الحسن والجمال قرروا أن يعرضوه إلى عتبة كليم الله.

وأخذوه حيا إلى الشام حتى يعملوا وفق رأى القضاء الذى سيصدر من قبل العتبة النبوية.

وعندما وصلوا إلى الشام مغادرين المدينة استقبلهم الأهالى بكل احترام وتوقير وبعد أن أخبروهم بموت موسى قالوا «يا غزاة الدين»!! إذا ما قلنا بأنا لم نرض ولم نسرّ من خدماتكم لا نكون قد كذبنا لأنكم قد أذنبتم بمخالفتكم أوامر الله

١١٥

ورسوله وبتأخير قتل ابن الأرقم تحركتم خلاف إرادة الوحى النبوى ، ومن هنا نخاف أن ندخل العصاة والمذنبين فى بلادنا! اذهبوا بعد الآن حيثما شئتم ، ولما كانت البلاد الحجازية أفضل البلاد فمن رأينا أن تعودوا إلى أرض يثرب وأن تقضوا حياتكم هناك إلى آخر أعماركم وأن تستقروا هناك.

وأراد الجنود أن يقنعوا أهل الشام بعرض أفكارهم وقراراتهم بخصوص ابن أرقم ولكنهم لم يوفقوا واضطروا أن يعودوا إلى يثرب وبعد فترة وصلوا إلى موضع يقال له «زهرة» وبعد مرور زمن نزلوا فى المدينة المنورة ونصبوا خيامهم فى محل قريب من «زغابة» (١).

وكان فى ضمن الجنود أبناء بنى قريظة و «إخوته» بنو هذال وعمرو وصريخ ونضير بن النّحام ثم الخزرج بن الصريخ الذين يرتبط نسبهم بسلسلة نسب هارون عليه السلام.

ونزل هؤلاء فى أعالى المواقع التى تطلق عليها «مذينب ومهزول».

وفى حالة الأخذ بما ورد فى هذه الرواية فإن أقوام بنى إسرائيل الذين سكنوا أرض يثرب بعد العمالقة ، لا مفر أن يكونوا هم الجنود الذين لم يقبلهم الشاميون بعد ارتحال موسى.

مع أن الرواية المنقولة عن سيدنا أبى هريرة تكذب هذا القول وتجرحه إذ تفضل المشار إليه قائلا : «إن علماء بنى إسرائيل كانوا قد رأوا فى صفحات التوراة أن «أمير الأصفياء» ـ عليه أجمل التحايا ـ رسولنا الكريم سينقل إلى قرية كثيرة النخيل وسيهاجر إليها وأن اسمها يثرب وإنهم فكروا فى أن يجدوا هذه القرية وقرروا الإقامة فيها إذ خرجوا بعد واقعة «بخت نصّر» من الشام وتجولوا فى المدن التى تقع بين الشام واليمن مدينة بعد مدينة ولما رأوا أن المدينة المنورة هى المدينة التى تقع بين أشجار النخيل وأن اسمها يثرب فبقوا فى البلدة الطيبة منتظرين وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهم عدة أشخاص من حفدة هارون ـ

__________________

(١) زغابة موقع يقع بين حرة زهرة وسافلة ويسمى «القف» ويقال لهذا الموقع فى زماننا مجمع السيول.

١١٦

عليه السلام ـ ولم يبلغ عمر هؤلاء العلماء إلى عصر السعادة واستدعوا أولادهم فى حالة احتضارهم وأوصوهم قائلين : إذا أدركتم زمن ظهور نبى آخر الزمان فأسرعوا بتصديق نبوته وابذلوا أرواحكم فى سبيله واخدموه بكل إخلاص ويا لشدة الأسف أن الذين أدركوا منهم عصر السعادة حسدوا الأنصار السابقين للتصديق وظلوا فى الشقاوة الأبدية.

والذين يريدون أن يطلعوا على تفصيلات هذه الأمور نرجوهم أن يراجعوا الصفحة الثالثة والثمانين من كتاب «محمود السير» الذى طبع ونشر سنة ١٢٨٨.

وذهب بعض المؤرخين إلى أن وجود بنى إسرائيل فى مدينة يثرب قبل العمالقة ، وقالوا إن كليم الله ـ على نبينا وعليه التسليم ـ مر بيثرب بعد الحج ورأى بعض العلماء الذين كانوا فى معيته السامية أن منظر أرض يثرب الطيبة يوافق أوصاف دار الهجرة التى ذكرت فى التوراة بمدينة المصطفى واستدلوا بهذا على أنها المدينة المقدسة وسكنوا فى مكان يسمى «بنى قينقاع» ومع مرور الزمن أدخلوا سكان القرى المتجاورة من طوائف العرب فى دين موسى وإن كان هذا المؤرخ أيد مدعاه بهذا المقال ولكن بناء على حكم ما نقله ابن أبى شيبة مرفوعا عن النبى صلى الله عليه وسلم يقتضى أن تكون إقامة طوائف العماليق فى المدينة المذكورة أقدم من بنى إسرائيل ، لأن موسى ـ عليه السلام ـ حينما مر مع أخيه هارون بيثرب أقام فوق قمة جبل أحد حتى يأمنا هجمات العمالقة ، وهذا الخبر السديد يؤيد الأقوال التى تحكى توطن طائفة العمالقة فى يثرب قبل بنى إسرائيل.

١١٧

الصورة الثانية فى ذكر القبائل التى كانت فى أرض يثرب وقت أن هاجر إليها الأوس والخزرج بن ثعلبة (١).

عندما هاجر الأوس والخزرج بن ثعلبة إلى المدينة المنورة كانوا من أفراد قبائل بنى أنيف (٢) بن مزيد بن معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم.

بنو الجذماء (٣) ، بنو قريظة ، بنو قصيص ، بنو ناعضة ، بنو هذال ، بنو عمرو ، بنو نفير ، بنو زعورا ، بنو ثعلبة ، أهل زهره ، أهل جوانيه ، بنو ماسكة ، بنو محمم ، بنو زيد ، بنو قينقاع ، بنو حجر ، بنو عكوة ، بنو نزاية ، بنو شوط ، بنو والج ، بنو زبالة (٤) وبنو أنيفلة وبنو ناعضة (٥) وبنو قصيص من هؤلاء سكنوا فى قرية «قيا» وفى قرية بنى قريظة سكن بنو نضير (٦) فى موقع نواعم وسكن بنو زعورا فى قرية سبيل أم إبراهيم وبنو زيد (٧) فى مكان يقال له «لات» وبنو قينقاع فى مكان واقع فى جهة العالية من جسر بطحا ، وبنو زهرة وبنو ثعلبة (٨) فى زهرة

__________________

(١) قبائل الأنصار كلها من سلالة هذين الشخصين.

(٢) أفراد هذه القبيلة كانوا بقايا أقوام العمالقة.

(٣) كان هؤلاء من أهل اليمن.

(٤) كان هؤلاء من طوائف اليهود.

(٥) كانت هذه القبيلة طائفة من أهل اليمن سكنوا إلى خلافة حضرة الفاروق فى منازل شعب بنى حرام ، وفى خلافة ابن الخطاب حملهم من ذلك المكان وأسكنهم فى حى مساجد الفتح.

(٦) وكان كعب بن الأشرف من مشاهير اليهود من صناديد بنى النضير على رواية فى ناحية «عهر» وكان منازل بنى مزيد المتشعب من هذه القبيلة فى «بنى حاطمة» وكانت منازل بنو ناعمة بن هيم بن هشام وبنى معاوية قى موقع «بنى أمية بن مزيد» وكان بنو ماسكة بجانبهم. ويروى أن الخرائب التى ترى الآن فى الجهة القريبة من موقع يطلق عليه «ضيات» وفى قرية «مفر» من بقايا حصون تلك القبائل.

(٧) بناء على قول ابن زبالة إن سلسلة نسب هاتين القبيلتين تنتهى إلى جماعة يرتبط نسبهم بحضرة يوسف ـ عليه السلام ـ وهم من أجداد عبد الله بن سلام «رضى الله عنه العلام».

(٨) وكان فيطون الدون الذى اعتاد فض بكارة عرائس أهل المدينة ، من رؤساء أفراد قبائل بنى ثعلبة.

١١٨

وبنو جوانية فى قرى الجوانية وبنو جذماء (١) بنى مقبر بنى أشهل وقصر ابن عراك.

وكان بنو عكوة وبنو حارثة وبنو نزاية يسكنون فى قرية «ناس» وبنو زبالة فى قرية «عين فاطمة» وبلغوا إذ ذاك إلى ما يقرب من سبعين قبيلة (٢) إذ ارتبطوا واتحدوا واتفقوا مع جيرانهم من قبائل العربان واتخذت جماعة كل قبيلة برجا فى حدود ثروته ويساره أو برجين وأسسوا حول هذه الأبراج بيوتا منظمة ومنازل مستحكمة وشكلوا جماعة كبيرة بالنسبة لتلك الأوقات.

وكان لليهود إلى وقعة سيل العرم المشهورة تسع وخمسون قرية وقدر كثرة هذه القرى من النفوس ، لذا كانوا متغلبين على القبائل الأخرى ، ولكن بعد ظهور الوقعة المذكورة أخذت قوتهم وشوكتهم تزول وتنقرض ولا سيما فى عهد بنى ثعلبة صاروا يداسون تحت الأرجل.

وقد حدث سيل العرم نتيجة لهطول الأمطار لمدة طويلة ، وعلى قول بسبب انهيار سد مأرب.

وعرف عمرو مزيقيا أبو ثعلبة خراب السد وتوقع انهياره قبل وقوعه كما سنيين فيما يأتى وترك وطنه.

عمرو مزيقيا ـ هو ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أو عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. وكان نقطة استناد أهالى اليمن فى كل الأمور وكان له ثلاثة عشر ولدا (٣) من امرأته «طريفة الحميرية» من الكاهنات المهرة.

__________________

(١) نقل أفراد هذه القبيلة إلى مكان يسمى «راتج» فيما بعد.

(٢) وكان العشرون من القبائل المذكورة من بقايا العماليق واليهود والباقى من قبائل العربان ولكن طائفة اليهود كانت بالنسبة للأقوام الآخرين أكثر اجتماعا ومدنا.

(٣) وكان عشرة منهم يعيشون فى حياة أبيهم يعنى «ثعلبة (١) حارثة (٢) جفنة (٣) وداعة (٤) أبا حارثة (٥) الحارث (٦) عوف (٧) كعب (٨) مالك (٩) عمران (١٠) وكان الأوس والخزرج ابنى ثعلبة و «خزاعة» بنى حارثة و «غسان» ابن جفنة وكلهم كانوا من حفدة عمرو مزيقيا.

١١٩

وبما أنه كان من أصحاب الثراء المفرط ؛ كان يعيش حياة رفاهية ولا شك أن إلى عمرو مزيقيا ينتهى نسب أفراد قبائل اليمن ، قد اختلف المؤرخون الأسلاف فى تعريف قحطان قال بعضهم أن قحطان هو بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح ـ عليه السلام ـ وقال بعض منهم أنه هود ـ عليه السلام ـ نفسه.

إن عمران أخو عمرو مزيقيا كان محروما من النعمة الجليلة للتناسل وكانت مهارته فى الكهانة معروفة لدى الجميع.

وقد تكهن يوما بانهيار سد مأرب وخرابه وأخبر أخاه عمرو مزيقيا بذلك ، وأيدت طريفة الحميرية ما قاله عمران ببعض العبارات المسجوعة قائلة : «إذا ظهرت الفئران حول السد فهى علامة انهياره» ونبئ يوما أن الفئران التى ظهرت فى أماكن قريبة من السد ، وأنها أخذت تحرك الحجارة التى لا يستطيع تحريكها خمسون أو ستون رجلا وقلبها وحرقها وصدق عمرو مزيقيا ما قاله أخوه وأصبح رهنا لليأس والحرمان ، وقال : «إن الفئران التى تتصف بهذه القدرة تستطيع أن تهدم وتخرب سد مأرب وقتما تشاء» وقد عرف يقينا أن لا بقاء لهذا السد ، وقد شغل هذا القلق فكره وفى نهاية الأمر كتم الأمر عن أهل سبأ وقرر فى نفسه أن يترك وطنه ويبيع ما يملكه ؛ وأولم وليمة للأهالى عامة وأخذ المنازعة التى حدثت فى أثناء الطعام سببا لانفعاله وغضبه ، وقال : «بما أن هذا الموضوع قد جرح شرفى وكبريائى فلا أستطيع أن أبقى فى هذه البلاد» ثم باع أمواله وأشياءه وأخذ القليلين ممن عرضوا عليه تبعيتهم من قبيلة بنى أزد وخرج تاركا أرض سبأ.

ينقل المؤرخون سبب هجرة عمرو مزيقيا من بلاد سبأ على هذه الصورة أيضا فيقولون :

قد تيقن عمرو مزيقيا أن بلاد سبأ سترضخ لاسم الله الجليل «القهار» وذلك سواء أكان من خلال ما سمع من أخيه الكاهن المشهور عمران ، أو زوجته الكاهنة طريفة التى رأت الرؤى المفزعة أو مما استخرجا من علامات مخوفة بمقتضى كهانتهما ، وهى أسباب كافية تؤدى إلى الهجرة إلى بلاد أخرى بأولاده

١٢٠