موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٥

وعند ما أرسل أبرهة (١) الطلب إلى النجاشى أخذ يحفر أسس المعبد وفى ظل نفوذه وقوة دولته أخذ يستدعى من البلاد البعيدة الأساتذة من المهندسين والمتخصصين فى فن العمارة وجلب أنواع الرخام الصافية اللامعة كالفضة وأعمدة متنوعة وملونة ومتينة وحجارة قيمة ملونة ذات أشكال مختلفة والحجارة المنتزعة من قصر بلقيس ذات نقوش ومرصعة بالذهب والفضة وبنى فى صنعاء (٢) اليمن عاصمة ملكه ، كنيسة تثير الحيرة والدهشة بما تحتوى فى خارجها وداخلها من اليواقيت والمجوهرات التى رصعت بها الجدران كما صنع فيها منابر مصنوعة من الأبنوس والعاج ووضع فى أرجاء الكنيسة المذكورة أصناما مصنوعة من الذهب والفضة ، وعلق فى أبراجها نواقيس ضخمة ثم أعلن وأشاع (٣) فى أطراف الجزيرة أنه سيمنع الناس من زيارة الكعبة والطواف حولها وسيجبرهم على زيارة كنيسته هذه.

وبما أن الكنيسة قد بنيت فى مكان عال كما كان مبناها شاهق العلو فأطلق عليها بيت (القليس) إيماء إلى علوها. ثم بعث الرسل يدعون الناس لزيارة الكنيسة والحج إليها.

وكان غرض أبرهة من هذا صرف أبناء العرب عن زيارة الكعبة والحج إليها مرة فى السنة ويحملهم على التوجه إلى كنيسة صنعاء باليمن.

وعلى هذا أكره العرب على زيارة بيت الأصنام الذى فى صنعاء وتوجهوا إليه وأصبحوا لا يريدون أن يروا وجوه الذين يتحدثون عن هذا المعبد المنحوس ، وبناء على كراهيتهم الشديدة لهذه الكنيسة قتل أفراد قبيلة كنانة ، الرسول الذى بعثه «أبرهة بن صباح الأشرم» ليدعوهم ، فقتلوه رميا بالسهم.

__________________

(١) لم يشر أبرهة فى طلبه الذى كتبه للنجاشى إلى عزمه على هدم الكعبة حتى لا يغضبه.

(٢) إن مدينة صنعاء الشهيرة فى القسم الخامس من أقسام البلاد اليمنية وعاصمة البلاد الكائنة فى هذا القسم وتقع بين درجة (٥) (٢٢) دقيقة فى العرض الشمالى وبين (٣٢) درجة و ٤٤ دقيقة فى الطول الشرقى وفوق صحراء واسعة.

(٣) وقد روى هذه الواقعة أبو الوليد وابن هشام وابن إسحاق وإن كان فى أقوال كلهم زيادة أو نقصان إلا أن كلها مؤيدة لرواية ابن إسحاق.

٤٠١

وعند ما شاع بين سكان اليمن متانة بيت القليس ورصانته أخذ أبرهة يبعث الرسائل والرسل إلى سكان اليمن ومن حولها ، ويقول مفتخرا مباهيا إننى قد وفقت فى بناء معبد فخم وضخم لن ينس العرب معه اسم الكعبة فقط ولكنهم سيأنفون من ذكر اسمها.

وأخذت مثل هذه الأخبار تنتشر تدريجيا فى بلاد الحجاز حتى ذكرت فى خيم البدو واستثقلها القرشيون ؛ لذلك اختاروا شابا بطلا من سادات العرب يتصل بنسب بنى فقيم بن مالك ومن قبيلة كنانة وهو «نفيل بن حبيب الخثعمى» ، وبناء على القول المختار «قلمس (١) بن عبد الله بن فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر» من أهل نسئة ، ومعه رفيق شجاع وذهبا إلى صنعاء ودخلا فى بيت القليس حيث قضيا حاجتهما ثم لطخا جدرانه بالقاذورات لينفرا أهل اليمن من زيارة الكنيسة ، وأرادا بهذا أن يلمحا أن الدار القذرة التى يلجون فيها صبح مساء لا تصلح إلا أن تكون بيت خلاء.

لما عرف أبرهة ما جرى زاد غضبه وحزنه وتألم جدا ، ولما عرف أن الذين تجرأوا على فعل ما حدث هم من سكان مكة المكرمة أقسم على هدم وتخريب الكعبة المعظمة وقال : «إننى أستطيع أن أثأر من العرب بهدم البيت المعظم بالفيلة» وأعد جنده وجمع ـ بناء على قول ـ فيلين مشهورين ، وعلى قول ثمانية أفيال ، وفى رواية أخرى عشرة وعلى قول اثنا عشر أو ثلاثة عشر وبناء على روايات أخرى ألف فيل أو أربعة آلاف (٢) فيل شجاع كما أخذ معه فيل النجاشى المسمى محمود (٣) وساق كتائبه وجيشه نحو مكة سنة «٥٧٠ م».

اقتنع أبرهة الذى أعد كل هذه الفيلة وكل هذه الحشرات الحبشية لإدارة الأفيال عندما رأى كل هذه القوة بأنه لن يتعب فى هدم الكعبة المعظمة.

__________________

(١) قلمس بن عبد الله بن فقيم فهو من أفراد أهل نسأة ، اسمه الحقيقى «حذيفة» والزمن الذى ينتسب له يقال له «دور نسأة» أيضا. قيل ذلك لبنى فقيم لأنهم كانوا ينسأون الشهور. انظر المعارف لابن قتيبه ص ٦٠ ، ولسان العرب مادة نسأ

(٢) كان ثلاثة عشر فيلا من هذه الفيلة مدربين أحسن تدريب بينما كان الباقى من الفيلة العادية.

(٣) كان هذا الفيل أبيض اللون ويسمى محمودا وكنيته أبو العباس.

٤٠٢

وكان يسوق أمام جنده أربعة صفوف من الفيلة وكان يظن أنه سينتصر حيثما يتجه بهذه الفيلة ويعتقد أنه لن يجد صعوبة فى هدم البيت المعظم وتخريبه.

قد زحف أبرهة نحو مكة الله ومعه ٦٠٠٠٠ (١) ألف أو ثلاثمائة ألف (٢) من الحشرات الحبشية لإدارة وسوق الفيلة وفى رأسه فكرة هدم البيت وتخريبه المستحيلة.

وقابل فى طريقه العرب الذين خرجوا للدفاع عن بيت الله ، وحاربهم وداسهم بسنابك خيوله وانتصر عليهم وأسر قوادهم وقيدهم بسلاسل الأسر ، وضرب خيامه فى مكان بين الطائف ومكة المكرمة المسمى «بمغمس» وأغار على حيوانات أهل مكة واستولى عليها ونهبها.

من الذين رفعوا السلاح فى وجه جيش أبرهة أولهم «ذو نفر» من أشراف اليمن ، والثانى الذى واجهه فى أرض خثعم «نفيل (٣) بن حبيب الخثعمى» أو «باعس» وأخوه «غفرس بن أقبل (٤) ونهران وناهس» تحت قيادة نفيل وبعض أفراد القبائل العربية.

وقد وقع «ذو نفر» ونفيل بن حبيب وهما من قواد الجيش وملوك اليمن أسيرين ، وتفرق العرب الذين كانوا تحت قيادتهما وقيدا بالسلاسل بأمر أبرهة. ثم فك أسر نفيل بشرط أن يكون دليلا لهم فى أثناء سيرهم فى أرض العرب.

عند ما وصل أبرهة إلى الطائف بدلالة «نفيل بن حبيب ضم مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف» من بنى ثقيف أحد أتباعه الضالين إلى جيش أبرهة ليكون دليلا لهم وهو «أبو رغال».

وقد سار «أبو رغال» مع جيش أبرهة إلى أن وصلوا إلى مكان يسمى

__________________

(١) صاحب هذه الرواية كان يحب أن يبالغ فى كلامه لأن ابن إسحاق لم يذكر عدد الفيلة ولا عدد الجنود.

(٢) هذا القول أقرب إلى الصحة ، لأنه لم يقصد عدد الجنود بل أراد أن يكنى عن كثرتهم كما تشير إلى ذلك الأبيات التى ستقيدها فيما بعد والتى نظمها عبد الله الزبعرى.

(٣) نفيل ـ هو أكمل بن ربيعة بن غفرس وكان من رؤساء قبائل شهران وباعس.

(٤) خثعم لقب أقبل.

٤٠٣

«مغمس» حيث تشقق ومات لحكمة ما ، والبدو سكان البادية يرجمون حتى الآن قبر «أبو رغال» ويستحقرونه. (١)

اسم ثقيف أبو عوف ـ قسى بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعمى بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان ، لما قابل مسعود بن معتب الثقفى أبرهة عظمه وحدثه بفرح وسرور وقال له : «يأيها الملك إننا سندلك على الطريق ، إن عامة أبناء قبيلتنا عبيدك وكل ما تأمر به مجاب .. الكعبة التى تريد أن تهدمها وتخربها لا قيمة لها عندنا ، إن بيتنا بيت اللات وهو فى الطائف وكل أهل الطائف يعظمون هذا البيت كما تعظم الكعبة ثم قدم لهم «أبو رغال» السالف الذكر ليدلهم على طريق مكة.

عند ما انفلق أبو رغال وهلك كان أبرهة قد بعث بكتيبة من الجنود فى رفقة أسود بن مقصود الحبشى الذى كان فى مغمس للتعرف على أحوال مكة المكرمة ، عند ما وصل هؤلاء الجنود إلى أطراف مكة نهبوا وسلبوا الحيوانات التى كانت ترعى هناك.

بناء على هذه الوقعة ركب «عبد المطلب بن هاشم» سيد قريش وخادم الكعبة المعظمة ذو الرأى السديد بغله واتجه نحو معسكر الحبشة ، وقد استقبله أبرهة استقبالا عظيما ورحب به أيما ترحيب ـ إذ بلغه علو شأنه بين قومه وأشار له أن يجلس فوق كرسى فخم مزين.

وفى قول آخر إن أبرهة لم يستطع أن يقاوم ما كان عليه «عبد المطلب» من الوجاهة والمهابة فنزل من كرسيه وجلس فوق البساط وأجلس المشار إليه بجانبه وقاله له : «اطلب منى ما تشاء» فأجابه قائلا : «لا أريد منك شيئا غير أن ترد لى أربعمائة جمل نهبتها جنودك. والصحيح مائتان».

قد تحير أبرهة من هذه الإجابة الساذجة واندهش وقال له : ظننتك قد جئت ترجونى ألا أهدم الكعبة إنك تعرف جيدا أننى جئت لأهدم الكعبة التى تشكل ركنا من دينكم وأخربها.

__________________

(١) السيرة النبوية ١ / ٤٩. والعرب تستحقره لأنه كان دليلا لصاحب الفيل. وفى جامع معمر بن راشد أن أبارغال من ثمود وأنه كان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة ، فلما خرج من الحرم أصابه الهلاك كما أصاب قومه فدفن هناك.

٤٠٤

ثم أراك لا تطلب منى أن أنصرف عن هذا العمل بل تريد أن تسترجع ما نهبه جنودى من إبلك وهذا أمر لا يمكن أن يثير إلا عجبى ودهشتى.

فتلقى من عبد المطلب هذه الإجابة الحكيمة :

«لما كنت صاحب الإبل فإننى أريد أن أستردها. وللكعبة صاحب أيضا فإذا أراد سيمنعك من التسلط عليها».

واستغرق أبرهة فى تفكير عميق إذ تلقى هذا الرد ثم قال مستهزئا : «أذهب وانظر كيف سيحافظ ربك على الكعبة ضد قوتى القاهرة وسطوتى الجبارة» ثم أعاد لعبد المطلب جماله ورده معززا مكرما وبين له أنه لم يأت ليحارب أهل مكة إنما جاء لهدم الكعبة المعظمة ، وتخريبها ، ومن هنا ليس لأهل مكة ما يثير قلقهم أو يخوفهم.

قد رأى سكان مكة ـ بناء على رأى عبد المطلب ـ أن يخلو مكة وينسحبوا إلى الجبال وألا يحاولوا الدفاع عن مكة ولكنهم فى نفس الوقت كانوا يتمنون أن يروا المصيبة التى سوف يتعرض لها أبرهة.

قال بعض المؤرخين : «قد أخبر الجنود المكلفون بالذهاب إلى مكة أبرهة أنهم لم يوفقوا في قتل عبد المطلب بعد ما نهبوا جماله».

وقد أرسل أبرهة إلى عبد المطلب حميريا يقال له «حناطة» ليخبره بأن هدفه من المجئ إلى مكة هو هدم الكعبة وإذا كان بين الأهالى من يريد أن يدافع عن الكعبة يجب عليهم أن يستعدوا للحرب والقتال.

وكان رد عبد المطلب إننا لا نحارب إن البيت بيت الله إذا ما صانه وحفظه فهو بيته. أما إذا لم يحفظه ، فليس لنا قبل للدفاع عن البيت. ثم ذهب مع «حناطة» إلى أبرهة وعند ما مثل أمامه قد نزل من سريره وأجلسه بجانبه ورحب به أعظم ترحيب وكرمه تكريما.

لو كان أبرهة رأى من عبد المطلب أدنى علامة تدل على رغبته فى عدم هدم

٤٠٥

البيت لتنازل عن فكرته ورجع إلى بلده لأن هيئة البيت المحتشمة وما فيه من روحانية فى طريقة وضعه وما فيه من عظمة ومهابة قد ألقى فى قلبه خوفا وخشية فوق العادة ـ فالأمين إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد بناه تنفيذا لإرادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا أن عدم صدور أدنى التماس أو رجاء بخصوص عدم هدم البيت من عبد المطلب حمل أبرهة على المضى فى عزمه لأنه لم يجد سببا يثنيه عما أقدم عليه.

وبلهجة كلها ثقة رد عبد المطلب على أبرهة ردا قاطعا مما أيأسه وآنس أهل مكة ببشارة خفية ، لأنه كان واثقا أن أى فرد مهما كانت قوته لن يستطيع إلحاق الخسارة ببيت الله المعظم وذلك تكريما وحرمة لخاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم.

لأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتقل إلى رحم أمه فى الفترة التى غزا فيها أبرهة الحجاز ووصل بالقرب من مكة وبدأت تظهر علامات خارقة للعادة ، كما سعد عبد المطلب بالرؤى الجميلة فى منامه ، وكل هذه القرائن كانت تنم عن قرب تشريف النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الدنيا ، ولكل هذا كان عبد المطلب يأمل ألا يستطيع أبرهة هدم كعبة الله بتخريبها ، أخذ حناطة الحميرى عبد المطلب مع بعض أولاده وأتى بهم إلى خيمة أبرهة.

وعلم عبد المطلب بأن سيف ذى نفر فى السجن فالتقى معه واستمع إليه إذ يقول : يا عبد المطلب ماذا تنتظر من أسير يترقب قتله اليوم أو غدا وماذا تأمل منه ، ومع هذا سايس الفيل «محمود» من أحبائه وهو شخص يسمى «أنيس» وهو من الذين يثق فيهم أبرهة ويعتمد عليهم وقد أرسلت له بأنباء. فاذهب إليه وفعلا ذهب إليه عبد المطلب وتلاقى معه.

كان النبأ الذى أرسله ذو نفر إلى أنيس (١) يشمل المعانى الآتية :

__________________

(١) قد رأت السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنيس وسائق الفيل محمود ، فى مكة يتسولان. وكما تقول المشار إليها إن كليهما كان أعمى وبما أنهما قد نبهوا أبرهة بحسن قبول عبد المطلب أنجاهما الله بما حل بجيش أبرهة وأصيبا بالعمى.

٤٠٦

«إن الشخص الذى نهبت حيواناته ، هو سيد قريش وهو صاحب عين زمزم الموجودة بمكة إن هذا الشخص يطعم الناس فى الصحراء والوحوش على رءوس الجبال».

إن المطلوب منكم هو إبلاغ أبرهة بأن جنوده قد استولت على مائتين من إبل عبد المطلب سيد قريش ، فإذا استطعت فاشرح الموضوع لأبرهة واحمله على تكريمه ورد إبله له ، وقد نقل أنيس هذه الأقوال إلى أبرهة لذا أكرمه أعظم إكرام وأعاد له جماله.

إن «يعمر بن نفاثة بن عدى بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة» رئيس قبيلة بنى بكر وخويلد بن وائلة الهذلى رئيس قبيلة «بنى هذيل» أرادا أن يصرفا أبرهة عن هدم الكعبة وذلك بعرض ثلث واردات تهامة (١) الحجاز السنوية ، ولما رفض طلبهما استعدا للحرب بالاتفاق مع قبائل (قريش وكنانة وخزاعة وهذيل والقبائل الأخرى) ، ولكنهم غيروا رأيهم واتبعوا فكرة عبد المطلب إذ أحسوا أنهم سيتعرضون للهزيمة.

وعند ما رأى أبرهة أن أهل مكة لا يدافعون عن بلادهم ، ساق حشراته إلى «وادى المحسر» (٢) الواقع بين المزدلفة ومكة المعظمة واستعجل فى تنظيم صفوف جيشه وطلب من ساسة الفيلة أن يهيئوا أفيالهم للهجوم على مكة ودفعوا الفيل «محمود» نحو الكعبة ، ورغم جهود السايس المضنية لسوق الفيل محمود ناحية الكعبة المعظمة لم يتحرك الفيل خطوة واحدة نحو الهدف ، ولم تفد جميع محاولاتهم وما بذلوه من سعى لدفع الفيل نحو الكعبة كلما كانوا يسوقونه إلى الأمام يقع ولا يتحرك.

ولما رأوا أن المحاولات المضنية لدفعه إلى الأمام لم تأت بنتيجة ، لذا سقوه

__________________

(١) إنها مدينة زبيد المشهورة فى الناحية الجنوبية من قطعة الحجاز.

(٢) إن سبب إطلاق محسر على هذا المكان لأن أصحاب الفيل قد تعرضوا هناك لعذاب الله وعقابه. لأن الفيل محمود لم يتقدم إلى الأمام بعد هذا المكان وتبعته الأفيال الأخرى ولم تتحرك خطوة إلى الأمام.

٤٠٧

خمرا ـ بأمر أبرهة ـ حتى يفقد عقله وتمييزه ثم وجهوه إلى جهة أخرى.

وأسرع محمود السير لتلك الجهة وتبعته الأفيال الأخرى وأخذت تجرى بسرعة خلف محمود وعند ما أرادوا أن يوجهوها إلى الكعبة كانت تبرك ولا تتحرك وكأنها لا تريد أن تهاجم الكعبة المعظمة.

عند ما رأى «نفيل بن حبيب الخثعمى» الأسير المصفد ، بالأغلال لدى أبرهة هذه الحالة المليئة بالحكم للفيل «محمود» ـ إذ كان يمتنع من السير نحو الكعبة وعند ما يوجهونه ناحية الشام أو اليمن كان يسرع ـ أمسك نفيل بن حبيب أذن الفيل وقال له : «يا محمود احذر من التقدم لأنهم يريدون أن يستغلوك في تخريب بيت الله مع أنك في بلدة الله ، فابرك محمود أوعد راشدا من حيث جئت».

أراد نفيل بن حبيب بفعله هذا أن ينبه الجيش الحبشى أن ما يريده أبرهة يشبه خيالا مستحيلا وأن محمودا والفيلة الأخرى لن تهاجم كعبة الله المعظمة. إلا أن أبرهة لم يتنبه لما يريده ابن حبيب الخثعمى كما لم يستطع أن يدرك شيئا من حركات الأفيال الحكيمة بل أصر على تنفيذ ما في ضميره وأخذ يضرب الفيلة ويشتمها حتى كاد يهلكها.

وفى تلك الأثناء أخذ عبد المطلب «عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى وبضعة من رجال قريش المخلصين معه ومضى إلى باب المعلى من الكعبة المعظمة واحتضن حلقاته وأخذ يتضرع ويناجى قاضى الحاجات وهو ينشد الأبيات الآتية :

يا رب إن المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصلي

ب وعابديه اليوم آلك

إن كنت تاركهم وقب

لتنا فأمر ما بدا لك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم أبدا محالك

فلئن فعلت فإنه

أمر يتم به فعالك

٤٠٨

بينما كان أبرهة مشغولا بسوق الفيلة نحو كعبة الله التصق عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن عبد الدار بباب الكعبة العظيمة أيضا وأخذ يناجى ربه وينشد بعض الأبيات التى تبين نهب أسود بن مقصود الحميرى (١) حيوانات أهل مكة واستيلائه عليها.

وبينما كان عبد المطلب ورفاقه منهمكين عند كعبة الله بالتضرع والابتهال وكان أبرهة يبذل جهده لحمل الفيلة للسير نحو الكعبة إذ ظهر فجأة فى السماء مجموعة من الطيور الصغيرة تشبه طائر «السنونو» من ناحية البحر يحمل كل واحد منها فى منقاره حجرا واثنين بين مخالبه وكان أكبرها فى حجم حبة الحمص وأصغرها فى حجم حبة العدس أى ثلاثة أحجار من سجيل (٢) واتجهت أسراب الطيور نحو مكة المكرمة.

جاء في رواية أن هذه الطيور الصغيرة أقبلت من ناحية البلاد الهندية ، وكانت مناقيرها حمراء ورءوسها سوداء ، رقابها طويلة أجسامها شبيهة بأجسام الخفافيش وبناء على قول آخر أن مناقيرها كانت صفراء رقابها خضراء وأجسامها شبيهة بأجسام العصافير وقد سطر على كل حجر تحمله اسم الشخص الموكول بهلاكه.

قد فسر عكرمة (طَيْراً أَبابِيلَ) (الفيل : ٣) كلمة أبابيل عنقاء المغرب.

يقول صاحب القاموس إن (عنقاء المغرب) ظهرت فى عصر موسى ـ عليه السلام ـ قد خلق أولا أنثاها ثم خلق ذكرها وهكذا تناسلا وتكاثر نسلهما وبعد وفاة النبى المشار إليه انتقلت هذه الطيور إلى حجاز نجد حيث أخذت تؤذى

__________________

(١) أسود بن مقصود هو من رؤساء الحشرات الحبشية التى أرسلها أبرهة من مغمس للاستيلاء على حيوانات أهل مكة. والأبيات التى كان يرددها عكرمة يدعو بها على أسود بن مقصود أوردها ابن هشام فى السيرة ١ / ٥٣.

(٢) إن هذه الحجارة خليط من التراب والحجر والذى أطلق عليه فى القرآن الكريم اسم «السجيل» وكان أصغره فى حجم حبة العدس وأكبره فى حجم حبة الحمص.

٤٠٩

الأطفال الصغار ولكنها طارت إلى أعشاش الهلاك والعدم بفضل استجابة دعاء «خالد بن سنان العبسى (١)» الذى عاش فى عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم.

يروى أن أجناسا من طيور الأبابيل تعيش فى زماننا فى نواحى الهند الصينية وأنها تبعت إلى دار السعادة استانبول كهدايا.

إن هذه الطيور لا تشبه طيور الأبابيل تمام الشبه إلا أن الذين ينظرون إليها بعين الإمعان يجدون فيها علامات تحمل الناس على تشبيهها بتلك الطيور ، ويعتقد أنها تعرضت لتغير شكلها بمرور الزمان وقد نقلت روايات كثيرة عن شكل ولون وصورة هذه الطيور ، حتى أن «عبد الله بن عباس» يروى أن لها مناقير كخراطيم الفيل وأسنانا شبيهة بأنياب الكلاب. ويدعى بعض الرواة أن الطيور الموجودة الآن فوق باب إبراهيم ووالزرازير من بقايا طيور الأبابيل والله أعلم بالصواب.

لم يكن يعرف شيئا عن ظهور هذه الطيور لا أبرهة ولا عبد المطلب ورفقاؤه الذين كانوا يتضرعون إلى الله ممسكين حلقات كعبة الله. وفى فترة نظر عبد المطلب إلى السماء ورأى كثيرا من الطيور الأبابيل تقبل نحو مكة المفخمة وتعجب من أشكالها وقال لرفقائه : «أيها الأصدقاء إن هذه الطيور لا تشبه طيور نجد وتهامة ولا بد أن يكون فى هذا حكم ما» ثم اتفقوا على أن يصعدوا فوق قمة جبل أبى قبيس ليروا الطيور جنود الله المجندة ـ التى ظهرت من ناحية البحر وبعد فترة وقفت حذاء جنود أبرهة الذين أزعجوا العالم. ثم تركت الحجارة التى كانت ذات آثار نارية الواحد تلو الآخر وكان كل حجر يدخل من فوق رءوس الأعداء الحشرية وينفذ فى أجسامهم ويخرج من أدبارهم ويقضى عليهم بالهلاك في التو واللحظة.

لم يبق بين جنود الأعداء فرد متنفسا لم يهرب إلا أبرهة والفيل محمود والأفيال التابعة له.

وكل من يمسك بجثة أحد هالك كان يستطيع أن يحملها كما يحمل البيضة لأن الحجارة كانت قد أحرقت أجسامهم كما تحرق النار الفتيل. ثم ظهر سيل عظيم

__________________

(١) انظر خبره فى : المعارف لابن قتيبة ص ٦٢.

٤١٠

بالبحر مثير للدهشة وحمل جثث الأعداء المنتنة وكنسها إلى البحر وهكذا طهرت ساحة مكة الله.

وهناك قول يدعى أن الحجارة التى ألقيت من قبل طيور الأبابيل إذا ما أصابت شخصا تظهر فى جسمه بثور مثل البثور التى تظهر فى الشخص المصاب بالحصبة والجدرى ، والذين أصيبوا بها ماتوا وهلكوا من شدة أوجاعها والبقية الباقية وصلوا إلى الحدود اليمنية بكل صعوبة ونجوا بجلدهم فارين.

حينما تشتت جيش أبرهة واضمحل كما سبق تعريفه ، هجم أهالى مكة على معسكره وأخذوا ما وجدوه من أموال وأسلحة وأشياء ونالوا ثروة وأصبحوا من أهل اليسر والغنى ونالوا غنائم بدون أن يتعبوا ودون أن يتعرضوا للمحاق والمشاق وذلك لحرمة حبيب الحق رسول رب الفلق وتضاعفت شهرتهم عن ذى قبل ونجوا من شر العدو القوى الشرس الذى أخاف عربان جزيرة العرب ، كما أن القبائل المعارضة لهم انصرفت عن حربهم وقتالهم لأنهم اعتقدوا أن أهل مكة مؤيدون من قبل الله.

وقد ولد خاتم الأنبياء سيدنا محمد بعد واقعة الفيل بأربعة وخمسين يوما وبناء على هذا التقدير قد حدث قدوم أبرهة إلى مكة ومغادرته لها فى أواسط شهر المحرم ويوافق ولادة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر ربيع الأول الموافق لشهر أبريل من الشهور الرومية.

قد أطلق العرب على السنة الميلادية التى توافق خمسمائة وتسع وستين «عام الفيل» وقد اتخذوا هذه الواقعة مبدأ تاريخ لهم وتفاخروا بها وأنشدوا فى حقها أناشيد وألقوا القصائد وأخذوا يعظمون أهل قريش ويوقرونهم قائلين «هؤلاء أهل الله ، لذلك أهلك الله أعداءهم» ، لا يستطيع إنسان أن يحصى الأشعار والقصائد التى ألقيت بخصوص هذه الواقعة وإننا قد أدرجنا بعض هذه القصائد المختارة من قبل المؤرخين.

والقصيدة الآتية من جملة تلك القصائد وقد أنشدها عبد المطلب بن هاشم.

٤١١

قلت والأشرم تردى خيله

إن ذى الأشرم غربا لحرم

كاده يتبع فيمن جندت

حمير والحى من آل قدم

فانثنى عنه وفى أوداجه

جارح أمسك فيه بالكظم

نحن أهل الله فى بلدته

لما يزل ذلك على عهد أتم

إن للبيت لربا مانعا

من يرده بآثام يصطلم

والأبيات التالية من قصيدة طويلة لعبد الله بن الزبعرى بن عدى بن قيس بن عدى بن سعيد (١) بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر ، يقول عبد الله بن الزبعرى :

يتكلموا عن بطن مكة أنها

كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى ليالى حرّمت

إذ لا عزيز من الأنام يرومها

سائل أمير الجيش عنها ما رأى

ولسوف ينبى الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم

بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

كانت بها عاد وجرهم قبلهم

والله من فوق العباد يقيمها

وعرض ابن الزبعرى فى المصراع الذى قال فيه «بل لم يعش بعد الإياب سقيمها» بأن أبرهة هلك أيضا في صنعاء. كما أنشد هذه الأبيات أبو قيس صيفى بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك الأوسى :

ومن صنعه يوم فيل الحبو

ش إذ كلما بعثوه رزم

محاجنهم تحت أقرابه

وقد شرموا أنفه فانخرم

وقد جعلوا سوطه

مغولا إذ يمموه قفاه كلم

فولى وأدبر أدراجه

وقد باء بالظلم من كان ثم

__________________

(١) كذا نسبه ابن إسحاق ، والصواب سعد بن سهم ، وسعيد أخو سعد بن سهم انظر : السيرة النبوية ١ / ٥٨.

٤١٢

وينسبون القطعة الآتية إلى أمية بن أبى الصلت ـ الأبيات :

فقوموا فصلوا لربكم وتمسحوا

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء مصدق

غداة أبى يكسوم (١) هادى الكتائب

فلما أتاكم نصر ذى العرش

ردهم جنود المليك بين ساف وحاصب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب

إلى أهله الأحباش غير عصائب

أراد أبرهة أن ينجو من هذه الكارثة المهولة وطلب من «نفيل المكى» الذى مازال فى أسره أن يدله على الطريق فأجابه قائلا :

«أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب»

حينئذ اعتمد على نفسه في الفرار ووصل إلى بلاد الحبشة بصعوبة يقع تارة فى الطريق ويقوم أخرى ، وقص كل ما حدث على النجاشى بالتفصيل ، واصفا شكل الطيور وصورها فقال النجاشى : ما أعجبه من حادث أيا ترى ما نوع هذه الطيور؟! فأشار أبرهة إلى طائر قائلا : كانت تشبه لهذا الطائر الصغير وإذا بالطائر يرمى الحجارة التى يحتفظ بها على أبرهة ويقضى عليه بحيث قطع الحجر يديه من منكبيه ، ورجليه من فخذيه بينما أصابه واحد من الحجارة فى رأسه وأهلكه.

وبناء على رواية أخرى أن أبرهة لم يهلك بحجارة طير الأبابيل بل مرض بمرض الجذام الخبيث وعاد إلى اليمن بعد ما ترك أبا يكسوم نائبا عنه حيث لقى حتفه (٢).

إن أبا يكسوم هذا أخذ يقص للنجاشى أحداث طيور الأبابيل ، وإذا بأحد طيور الأبابيل الذى كلف بإهلاك أبى يكسوم هذا يلقى بحجر على أبى يكسوم بمجرد الانتهاء من كلامه وهكذا تأسف النجاشى إذ عرف كيف هلك جيشه فى أرض مكة.

قد حدثت وقعة الفيل الغريبة في اليوم السابع عشر من شهر المحرم فى وقت

__________________

(١) أبو يكسوم اسم الشخص الذى تركه أبرهة فى المعسكر نائبا عنه.

(٢) انظر السيرة لابن هشام ١ / ٥٥ ، المعارف لابن قيتبة ص ٦٣٨.

٤١٣

الفجر. كما أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرف الوجود ليلة الاثنين من الثانى عشر من شهر ربيع الأول ، فكانت ولادة النبى صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الفيل بأربعة وخمسين يوما بالتمام.

بعد ما هلك أبرهة على الوجه الذى ذكر اختلف الأحباش فيما بينهم وتركوا العناية بالقليس.

وأهملت كنيسة الأحباش فترة طويلة حتى تحول ما حولها إلى غابات وأصبحت مقرا للوحوش والسباع ، حتى أن الذين يرون منظرها الذى يثير الدهشة ـ يخافون أن يمروا من جانبها.

وبعد فترة باتت بجانبها قبيلة من عربان البادية فى ليلة من اليالى وأوقدوا نارا فسرت شرارة منها إلى تلك الكنيسة فاحترقت وانمحت من الوجود.

ويزعم بعض المؤرخين أن الخليفة الأول أبو العباس السفاح من خلفاء الدولة العباسية قد عرف أن القليس قائمة كما هى فأمر والى اليمن بهدم تلك الكنيسة وهكذا استطاع أن يستولى على الدر واليواقيت التى لا تعد ولا تحصى.

استطراد :

بناء على ما قرره علماء طبقات الأرض بعد الكشف على الفيل محمود أنه من فصائل الأرض الثالثة إلا أنه قد شوهد في الأرض الرابعة أيضا.

ويستدل من الحكاية التالية على أن محمود كان من الحيوانات الضخمة فى الجثة وإقدام أبرهة على هدم الكعبة بفيلين أو اثنى عشر فيلا فقط. إلا أنه إلى وقتنا هذا لم ير حيوان فى ضخامته كما أن علماء طبقات الأرض والطبيعة لم يكتبوا شيئا عن وجود حيوان ضخم مثله فى كتبهم.

إلا أن صياد السمك قد وجد جثة حيوان ضخم متجمد بين الثلوج قبل هذا بست وسبعين سنة في مصب نهر (لنا) بسيبريا.

إلا أنه لم يستطع أن يعرف كنه هذه الجثة ، لذا تركها على حالها وعاد. وبعد ما ذابت الثلوج بخمسة أعوام ظهرت الجثة للعيان واستطاعت المياه أن تدفعها إلى شاطئ النهر بالقرب من قرية فانتزعها سكان القرى المجاورة.

٤١٤

كما أن كلاب العراء والوحوش التى أقبلت من فوق الجبال ظلت تأكل لحمها فترة ولم يبق منها إلا هيكلها العظمى بدون رجليها الأماميتين.

وأرسلت أكاديمية بطرسبورج متخصصا ليعاين الجثة وبعد المعاينة قرر ذلك المتخصص أن الجثة جثة الفيل محمود واسترجع بقايا الجثة من أيدي القرويين ولم يكن قد بقى منها غير الرأس والأنياب ومع هذا لم يستطع أن ينقلهما إلا بهمة عشرة من الحمالين.

قد وزن أنياب هذا الحيوان فوجدها (١١٢) أقة ، فإذا ما سلمنا بضخامة جسم الفيل محمود بهذا القدر وعرفنا بناء على الروايات أن أبرهة قد ساق أربعة آلاف فيل لهدم الكعبة ـ المستحيل التنفيذ ـ نستطيع أن نفهم بأدنى ملاحظة عدد السياس الذين يحتاج إليهم أبرهة للعناية بالفيلة ومن هنا لا يستبعد أن يكون عدد المشتركين في الجيش ستين ألفا.

معلومات خاصة فى صورة خلقة الفيل وكيفية العناية به :

إن الحيوان الذى نطلق عليه الفيل قد خلق بخصائص تميزه عن جميع الحيوانات ، لقد استخدم الناس فى الأزمنة القديمة الفيل فى الحرب وفى أعمال شاقة أخرى.

بما أن الفيل يتصف بالصدق والوفاء والحلم والذكاء وهى من الصفات الحميدة فما لا شك فيه أن الإنسان يمكنه أن يستفيد منه.

ومن صفاته الحدة والغضب أيضا إلا أنه يعرف مدى قوته ، لذلك يكظم غيظه وحدته ولا يتهور إلا إذا تعرض للخطر.

وبما أن قوته تامة وكاملة فإن هذا يدفعه إلى أخذ ثأره ممن أساء إليه ، ولكنه يشكر نعم من أحسن إليه ويبين له صداقته.

إن عينيه صغيرتان بالنسبة لضخامة جسمه. وبما أن عينيه الصغيرتين مرآة لما يعتمل فى أعمال نفسه يمكن أن يفهم من حركة عينيه شكره ومجاملته وغضبه وتهوره.

٤١٥

أذناه مبسوطتان كبيرتان عريضتان وأرجله غليظة وجلده تخفيه طبقة فوق طبقة وله خرطوم يرتخى من فيه.

وبما أن خرطومه فيى غاية القوة فهو يدافع به ضد كل شىء وغير هذا له نابان قويان بارزان من جانبى فمه فإذا اضطر استخدمهما فى الهجوم أو الدفاع.

وقد استخدمه الناس فى الأزمنة القديمة مستفيدين من طبيعته الحليمة في جميع الأعمال. والآن يستخدمه الناس فى آسيا والهند كحصان عادى ، حتى إنهم يقدمون على صيد الحيوانات المفترسة بواسطة الفيلة.

كان الأوائل يبنون قلاعا صغيرة ويملأونها بالأسلحة الخاصة بزمنهم مثل الخنجر ، الرمح ، السهم ، القوس السكين ويقومون بتعبئتها بالجنود القادرين على الحرب والضرب ثم يحملون الفيلة بهذه القلاع والحصون الصغيرة ويسوقونها إلى ميدان المعركة.

يروى أن «بدوس» ملك الهند قد ساق مثل هذه الحصون فى حروبه ضد الإسكندر الأكبر الشهير فى آسيا فى سنة ثلاثمائة قبل ميلاد عيسى عليه السلام.

والخلاصة أن الأقوام الهندية كانوا يسوقون فى حروبهم الفيلة المدربة لنظم قتالهم قبل اختراع الأسلحة النارية وتعد أقوى جيوشهم وفيالقهم ، تلك التى تضم هذه الحصون المتنقلة. وبما أن الفيلة تخاف وتنفر من دخان البارود وضوئه ومن أصوات المدافع والبنادق فقد أهمل سوق الفيلة فى ميادين الحرب ، منذ اختراع الأسلحة النارية.

فى تعريف رصانة أبنية القليس :

إن معبد الأصنام الذى بناه أبرهة فى صنعاء اليمن كان بناء متينا مربع الشكل ، وكان ارتفاع جدرانه ستين ذراعا «٨٥ قدما» وكان سمك جدرانها ستة أذرع «٨ قدم و ٨ بوصة».

وكانت قاعدتها السفلية قد ملئت قدر عشرة أذرع وفرشت بحجارة ملونة مصقولة ووضعت أمام الباب سلالم من الرخام المجلو الصقيل.

٤١٦

إن مقدار ٢٠ ذراعا «٢٨ قدم ٤ بوصة» من الجدران ابتداء من الأرض كانت مبنية من الحجارة المنقوشة التى يطلق عليها اليمانيون «حورب» والجزء الأعلى منها كان مصنوعا من الرخام الملون العجيب فى أشكال مثلثة وركزت فوق زوايا المثلث الرأسية تماثيل مصقولة مصنوعة من خشب الآبنوس ونصبت فوق كل هيكل أعمدة مصنوعة من المرمر.

وكان يحيط ـ دائرا ما دار ـ ببيت القليس حائط عال فى غاية العلو ومتين وفى اتساع مائتى ذراع أى ٣٨٢ قدم و ٤ بوصات بينه وبين البيت ، وكانت بوابة كبيرة تفتح فى محاذاة باب بيت القليس ، وكان ارتفاع مصراع البوابة ١٤ ذراعا أى ١٩ قدم ، ١٠ بوصات وعرضه أربعة أذرع أى ٥ أقدام و ٨ بوصات وكان مصنوعا من قطعة واحدة من النحاس.

وكان يربط بين بوابة الحائط الخارجى ودرج باب بيت القليس جسر معلق فى طول ثمانين ذراعا أى ١١٣ قدم و ٤ بوصات وفى عرض أربعين ذراعا أى ٦٥ قدما و ٨ بوصات وكانت كل مساميره من الذهب والفضة وخشبه من خشب شجرة الساج.

وكان فى داخل بيت القليس قصر عجيب فى اتساع أربعين ذراعا مربعا أى ٥٦ قدما و ٨ بوصات وكان على يمين ويسار هذا القصر شجرة عظيمة مصنوعة من الذهب حاملة الكرة الأرضية وصور الكواكب وكان في داخل هذا القصر قبة كقبة السماء مبنية فوق أربعة أعمدة متساوية متوازية وكان فى مركز استقامة هذه القبة قصر آخر قد زين داخله وخارجه بالذهب والفضة وهو قصر مشع يثير العجب والدهشة وكان فى وسط هذا القصر عمود شفاف مجلو وكان يلمع ويتلألأ كلما انعكس عليه ضوء الشمس والقمر.

وكان العمود المذكور فى ارتفاع عشرة أذرع أى ١٤ قدما ، وبوصتان وقد علق على جوانبه كثير من السلاسل الفضية وقد اتصل به كرسى مصنوع من العاج والأبنوس وغطيت أدراج هذا الكرسى بعضها بالذهب وبعضها بالفضة قد مرت على جانبيه قطعتان من الخشب المنقوش المسميتان ب «كعيب. إمرة كعيب»

٤١٧

وكانت القبائل الحميرية قد اتخذت كعب وإمرة كعيب إلها ويؤمنون بأنه يخبر عن الخير والشر ولذا يتعبدون له ويزورون ويطوفون حول بيت القليس من داخل السور.

وقد بلغ قوة معتقد الحميريين بكعيب أو إمرة كعيب حدا يفوق معه أن كل من يقصر فى تعظيمهما أو إجلالهما سوف يتعرض حتما لغضبهما ، لذا كانوا يفرون منه خوفا من أن يصيبهم شر غضبهما.

قد دام هذا المعتقد مدة طويلة لدرجة أنه لما تهدم بيت القليس وخرب ، وبينما تباع أنقاضه مرض أحد الذين اشترى الشجرة التى كان يطلق عليها أبرهة كعيبا صدفة فقيل إن كعيبا قد أصابه بسوء ، ولما عرفوا أن الرجل قد شفى واعتدل مزاجه استعجبوا من ذلك.

قصة بيت أصنام بنى بغيض :

قد بنى بنو بغيض بن ريث بن غطفان فى فترة ما رغم وجود الكعبة المعظمة ، بيت كفر وأسندوا سدانته إلى بنى مرة بن عوف الغطفانى ، إلا أن زهير بن جناب بن خليل (١) بن كنانة بن بكر بن عذرة الكلبى ، وهو من الكهنة المشهورين ، جمع قوة عسكرية وأحرق معبد الأصنام المذكور وهدم جدرانه ومحاه من الوجود.

كان زهير بن جناب من رؤساء قبائل قضاعة ، عرف بسداد الرأى وعاش (٢٥٠) عام أو على قول آخر (٤٥٠) عام وخاض فى أثناء حياته هذه مائتين من الوقائع.

وقد تغلب زهير على العربان الذين أرادوا أن يدافعوا عن معبد الأصنام الذى خربوه وأسر أولادهم ونساءهم ونهب أموالهم وبناء على توسلات بنى غطفان أعاد لهم أسراهم كلهم.

__________________

(١) يروى بناء على قول آخر أن أبا جناب هو هبل بن عبد الله بن كنانة.

٤١٨

هجوم ملك الروم .. بقصد تخريب كعبة الله القيوم :

إن ملك الروم الذى عاصر ألب أرسلان من ملوك آل سلجوق ، تحرك ضد الإسلام وبناء على ما جاء فى تاريخ رضوان باشا قد نوى وقصد هدم البيت المعظم بسوق مليونين من الجنود ، وحينما عرف ألب آرسلان بهذا الخبر أسرع بإعداد قليل من الأبطال فى شجاعة الأسود ، وخرج من أصفهان وقابل المعاندين الروم فى مكان قريب من ديار بكر وابتدر بحربهم واستطاع أن يأسر رومانوس ملك الروم بينما كان مشغولا بالصيد كما أسر من كان معه من الصيادين وكبلهم بالسلاسل وأعمل السيف في جنده الذين أعدهم لسوقهم إلى مكة ودمرهم بينما هرب من نجا من السيف (١).

وإن كانت هذه الواقعة منقولة من تاريخ رضوان باشا إلا أن أبا بكر الطرطوشى (٢) مؤلف «سراج الملوك» يكتب عن انتصار ألب آرسلان على رومانوس بهذه الصورة.

إن القيصر رومانوس (٣) حشد جيوشه للاستيلاء على البلاد الإسلامية والقضاء على الأمة الإسلامية من على سطح الأرض.

وكان لهذا الخبر وقعه السيئ فى المدن الإسلامية ، فاضطرب ملوك المسلمين واضطروا إلى أن يتخذ كل واحد منهم وسائل الدفاع ويعد جنودا ـ قدر استطاعته ـ وبقى منتظرا قدوم الأعداء.

وكان ألب آرسلان (٤) فى ذلك الوقت في أصفهان فأعد قوة عسكرية صغيرة

__________________

(١) إن إعداد مليونين من الجنود فى ذلك الوقت بعيد الاحتمال إنما أراد المرحوم رضوان باشا أن يكنى عن كثرة عدد جند الروم لأن تجهيز مليونين من جند مستحيل من الناحية العسكرية والفن العسكرى.

(٢) إن كنية المؤلف المشار إليه أبو بكر ، واسمه محمد بن أبى الوليد بن محمد القرشى ، ولد سنة ١٠٥٩ الميلادية وسنة ٤٥١ الهجرية فى مدينة طرطوش بالأندلس ، وتوفى فى مدينة الإسكندرية سنة ١١٢٦ م و (٥٢٠) الهجرية من شهر جمادى الأولى ، وكان من زهاد عصره وعبادهم.

(٣) رومانوس هو القيصر الخامس والستون وقد تولى الملك ١٠٩٩ م والموافق ٤٩٢ ه‍ ، وفى عام (١١١٣ م الموافق ٥٠٦ ه‍ سملت عيناه وانصرف عن الملك.

(٤) المشار إليه من الشعبة الثانية من السلاجقة الذين حكموا خراسان والعراق وما وراء النهر ، وكان اسمه محمد واشتهر باسم الملك العادل ألب آرسلان ، وقد انتصر على الإمبراطور رومانوس فى هذه الواقعة وارتحل عن الدنيا عام ٤٦٥ ه‍ الموافق ١٠٧٣ م.

٤١٩

وخرج من المدينة ليدافع عن دينه ضد أعدائه وعقب ذلك ظهرت طلائع جيش رومانوس ونصبوا خيامهم أمام معسكر جيش أصفهان.

ولما كانت الليلة ليلة الجمعة كان الأعداء فى حالة إعياء أجلوا القتال للصباح بالاتفاق وعينوا حراسا وباتوا يتكاثرون إذ أخذوا يفدون طول الوقت.

وفى الصباح أرسل المسلمون الجواسيس ليطلعوا على أحوال جيش العدو وقد رأى هؤلاء أن جند العدو أكثر من رمال الصحراء وقد ملئوا الجبال والصحارى وكان معسكر رومانوس بحرا زاخرا وعدة الجيش وعتاده مما يخرج عن الحصر والتخمين.

ولما رأى ألب آرسلان أن قوته بالنسبة للأعداء كخال أسود على جسم ثور أبيض عرف أن مقاومة عدو فى هذه الضخامة غير مجدية ، وأمر بعقد مجلس شورى مع كل الذين يهمهم هذا الأمر.

وكانت نتيجة المناقشات والمشاورات أنه يجب أن يعد جميع أسباب الحرب والمقاومة حفظا لكرامة الأمة الإسلامية ، وعرضت نتيجة المشاورة على ألب آرسلان وقد ساند المسلمون بعضهم بعضا ، وقد تهيئوا للقتال.

وقد سر ألب آرسلان من هذا القرار وقال اليوم الجمعة وهو يوم مبارك ، مادمنا سنحارب فلنصبر إلى أن نصلى صلاة الجمعة لأن الخطباء سيدعون فى هذا اليوم فى جميع أنحاء العالم الإسلامى بانتصار جيش الموحدين ، ثم نخوض المعركة لإعلاء كلمة الله ثم بعث بعيونه إلى معسكر العدو ، وطلب منهم أن يعرفوا مكان خيمة رومانوس وشكله وهيئته ، وبعد ما اطلع على ما يريده جمع رجاله الأبطال ، وقال لهم : أهجموا حيث أهجم ووجهوا سيوفكم وسهامكم ورماحكم حيث أوجه ، ثم هجم على خيمة رومانوس ساحبا جنده خلفه ـ وقتل القيصر وبث هذا العمل الرعب والفوضى فى معسكر الأعداء فاضطربوا باكين مولولين.

حينما رأى العدو أن جنود المسلمين يهاجمون جيوشهم كالأسود الشجعان غير

٤٢٠