موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

تقديم

إن الحمد والثناء والمحامد لله سبحانه وتعالى الذى فاض نوره وتقدست ذاته والذى تجلت أنواره الفياضة فى سناء الوجود وتلألأت أنواره اللامعة فى عيون الشهود والذين اعترفوا بألوهيته إذ استجابوا قائلين (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر : ١٦) لسؤاله بديع المعنى والمآل (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) سبحانه وتعالى جل شأنه قد جعل طيبة الطيبة مجتلى سلطنة الذى خلق من أجله الكون والمكان ، وجعل ذلك الوادى المقدس نتيجة المفاجآت وملجأ الفلاح والنجاة لأفراد أمته القلقين ، كما جعل لموسى وادى طوى منار الهدى عندما استجاب لأمره البليغ فى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) والصلاة والسلام ، لحظة فلحظة ، على صاحب الروضة الرضية صلى الله عليه وسلم تلك الروضة التى تفوح منها روائح ورود رياض الثقلين ، الصلاة والسلام عليه إذ ملأ عقول الباحثين عن الحقيقة بالهداية السرمدية ، كما هدى الضالين وأفعم قلوبهم بعطور الرشد والسعادة ، ولتهب نسمات رحمة الله سبحانه وتعالى على آله وأصحابه حراس العقيدة واليقين الذين كانوا كل واحد منهم مظلة الهداية والسلام لسكان الصحراء الذين ظلوا فى الفيافى وخزعبلاتها.

أما بعد ـ فلا يخفى على أنظار أصحاب الرأى المستنير أن وقائع الحرمين الشريفين التى حدثت فى عهد الأسلاف ، والتى تحمل العبر والعظات ، ظلت مدة مديدة مرتدية رداء اللغة العربية أمام أهل الرأى والمطالعة ، لكن العثمانيين الذين كانوا ذوى دين وشوق إلهى ظلوا محرومين من القيام بمراسم الترحيب لهذين المشهدين على مراحل التوحيد ، إذ ظلوا بعيدين عن أحداثهما لجهل معظمهم باللغة العربية الفصيحة واللغة الفارسية المزخرفة ، وفى عصر السلطان الغازى

٧

«عبد الحميد» العصر المبرور الذى شاهد نشر المعالى والعلوم ، ظهرت إحدى هاتين الجملتين مرتدية ملابس اللغة العثمانية وذلك بإيعاز وتشجيع من صاحب السلطنة ، تحت عنوان «مرآة مكة» أما الأخرى فلم يكتب لها الظهور لتقلب أحداث عجلات الزمان تقلب لون الحرباء.

وأخذ المطلعون على أحوال الحرمين الشريفين المقانع (١) من أصحاب الوجد يرجوننى قائلين : «لتلبس تلك الحسناء العربية ملابس الفتاة الرومية» ، كما أن الأصدقاء الكرام ضموا أصواتهم لرغبة هؤلاء إذ رأوا أن ظهور أحد شعارى التوحيد مكتسيا بالزى العثمانى وترك الآخر على المحرومين من مشاهدة الروضة المطهرة واشتراكهم مع المحبين فى مجلس الصحبة ـ مما لا يتماشى مع شيمة العدل والتدين وبهذه البراعة فى الاستهلال دفعونى إلى القيام بهذا العمل ، كما أننى أقبلت على هذا العمل مكررا ببعض قدرتى وقلة حيلتى ، آخذا من كتاب الإمام السمهودى «خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى» هذا الكتاب الذى انتشر فى أرجاء العالم الأربعة حاويا الأفكار البديعة والأخبار الشيقة مستمدا منه مادتى العلمية اللازمة لكتابتى ، مضيفا إليه معلوماتى الشخصية وما حصلت عليه من الأخبار من تحقيقاتى الذاتية وبهذا ألبست تلك المحبوبة الجميلة ما قمت بتفصيله من الزى العثمانى ، وبما أنه سيعكس أنوار عيون أصحاب الدين سميته «مرآة المدينة».

كما أن كتابى هذا الذى لا يخلو من الأخطاء نتيجة لقلة بضاعتى قد يبدو عديم القيمة والأهمية ، ومع هذا فهو أول كتاب يشتمل على الأحوال العامة والخاصة للمدينة المنورة باللغة التركية ، ومن هنا حاز شرف الأولية ، كما أنه صدر فى عهد خلاصة السلالة العثمانية كهف الثقلين وخادم الحرمين ولى نعمتنا السلطان ابن السلطان ابن السلطان الغازى عبد الحميد خان الثانى وبهذا نال شرفا آخر.

__________________

(١) العدول المرضيين.

٨

فإذا ما نال هذا الكتاب شرف شمول نظرات السلطان الحكيمة سيكتب له قيمة سرمدية لا حد لها وبهذا الأمل أقدمه على عتبات نظرات الخليفة ظل الله على أرضه وأدعو الله أن يستجيب لدعائى هذا :

اللهم اجعل عرش ظلك الظاهر السلطان عبد الحميد خان مستقرا ما استمرت الدنيا قائمة ، ومن الله التوفيق.

٩
١٠

الوجهة الأولى

وتحتوى على عشر صور فى تعريف الأحوال الجغرافية لمدينة طيبة مهجر النبى صلى الله عليه وسلم وتورد عادات أهلها.

١١
١٢

الصورة الأولى فى ذكر الأحوال الجغرافية للمدينة الميمونة والبلدة الطاهرة وأوضاع أسوارها الجديدة والقديمة : طرزها وهيئاتها ومتانتها.

المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والتحية من الممالك المعمورة والبلاد المنتظمة ، الثانية فى البلاد الحجازية ، ولا يوجد بلد يشبهها من حيث المياه الجارية والرياض المتعددة والأبنية المنتظمة المزينة.

لم يهتم بها فى الزمن الجاهلى ، كما ظلت فى صدر الإسلام لفترة طويلة فى حالة خراب ، ولكن كلما تقدمت العصور الإسلامية وتجددت وترفت ، أنفق السلاطين العظام أموالا زاخرة وبذلوا المساعى الجمة حتى أصبحت مدينة جديرة بمهجر سيد الأنبياء ـ عليه وعليهم التحايا ـ وذاع صيتها بذلك.

إن المدينة المذكورة والبلدة الطيبة المباركة تقع فوق واد مسطح مرتفع بين درجة ٢٥ ، ٢٠ دقيقة فى الشمال عرضا وبين درجة ٣٧ ، ٣ دقائق فى الشرق طولا ، ويحدها من الشمال جبل أحد ومن الشرق جبل الطبرى.

يروى أن عدد سكان المدينة المنورة وضواحيها يبلغ ثلاثين ألف نسمة إلا أنه لم يبق من ذرية الصحابة الكرام اليوم على أصح الروايات إلا رجل وبضع إناث ، أما الباقون فقد أتى أجدادهم مجاورين واستوطنوا فى المدينة. لأن حجاج المسلمين يريدون أن ينالوا الأسرار الجليلة التى صدرت فى شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه : «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» (١) (حديث شريف) ويقبلون على زيارة «الروضة المطهرة» قبلة العاشقين والمتضرعين والمتوسلين بغية

__________________

(١) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد ، باب فيما بين القبر والمنبر : ٤ / ٨ ـ ٩. عن أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى ، وعزاهما لأحمد بإسناد صحيح. إلا أنه قال : ما بين بيتى ومنبرى ..» ، وعزاه لأحمد وأبو يعلى والبزار عن جابر بن عبد الله ، وعزاه أيضا للطبرانى عن ابن عمر ، ورحاله ثقات.

١٣

نيل الشفاعة الموعودة ويدخلون فى «الحجرة المعطرة» حيث يحلو لبعضهم أن يظلوا مجاورين لهذه الأماكن المباركة. وقد بلغ عدد هؤلاء أو الذين تركوا ديارهم مع أولادهم وعيالهم محتاجين الإقامة مجاورين الرسول محبة فيه ، بلغ عدد هؤلاء اليوم ألفين أو ثلاثة آلاف شخص (١). وأولاد المجاورين الذين ولدوا وعاشوا فى المدينة الطاهرة ، يعدون من أهل البلدة الطيبة ، وبهذا يكون أغلب سكان المدينة من ذرية أسلاف المجاورين الذين تكاثروا جيلا بعد جيل وكونوا جماعة كبيرة واشتهر بعضهم بأولاد «برى» كما اشتهر بعضهم بأولاد السمهودى كما اشتهر الآخرون بأسماء أخرى.

إن الذوات الذين عرفوا باسم أولاد «برى» أصلهم من الغرب ، وأبناء السمهودى من البلاد المصرية المجاورة ، والآخرون ينتمى كل واحد منهم إلى بلد ما. تقع هذه البلدة السعيدة فى الجهة الشمالية الغربية من مكة المكرمة وعلى بعد أربعمائة كيلومتر منها ، وعلى بعد مائة كيلومتر من الجانب الشرقى من البحر الأحمر وفى نهاية صحراء عظيمة ، وطريقها البرى الواصل إلى مكة المعظمة عبارة عن صحراء رملية وجبال صخرية ووديان قابلة للزراعة.

وهى محاطة بسور على شكل قطع ناقصة وجميلة من جهاتها الأربعة ، والجهات الأربعة لهذا السور محاطة بجبال متسلسلة ومحددة ، وفى جهتها التى تهب منها رياح السموم قطعة واحدة من صخرة نصبت حولها قلعة قديمة ولكنها متينة تعرف بقلعة «أروج حصار».

وطول هذا السور «١٤٠٠٠ ذراع» تخمينا وارتفاعه عشرون ذراعا وسمكه عشرة أذرع ، وأحجاره فى غاية الصلابة والمتانة ، وله خمسة أبواب اشتهرت بأسماء : درب المصلى ، درب الصغير ، درب الشامى ، درب السوارقية ، درب البقيع.

درب المصلى : ويطلق عليه درب السويقة وباب السوق وباب المصر ، وقد كتب

__________________

(١) فى زمن المؤلف.

١٤

فوق طاقته (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل : ٣٠) وقد طرحت مبانيه وأسست من حجر أسود فى غاية الإحكام إلا أن بعض أماكنها أخذت تتشقق والباب المذكور فى الجهة الغربية من السور وفى جهة «مصلى عيد النبى» وما بينه وبين باب السلام «ستمائة خمسة وأربعون» ذراعا.

الدرب الصغير : ويقع بالقرب من حصن الأمير وفى جهة درب المصلى.

الدرب الشامى : ويطلق عليه الدرب الكبير أيضا.

درب البقيع : هو الباب الكبير الذى يقع فى الجهة الشرقية من السور ، وهو الباب الذى يعرف بباب الجمعة ، وبينه وبين باب جبريل مسافة أربعمائة ثلاثة وثلاثون ذراعا.

إخطار

الذراع الذى أذكره فى تعريف هذا السور هو الذراع المعمارى ، ولكن فى قياس الحجرة المعطرة أو ساحة مسجد السعادة ، اعتبر الذراع الذى يستخدم فى البلاد المصرية والحجازية ، وعلى هذا يلزم أن يكون هذا المقياس مقياسا فى طول شبرين ، لأن الذراع الآدمى ومقياس مصر والحجاز ذراع وثلث ذراع.

درب البقيع : ظل هذا الباب مسدودا إلى سنة خمس وسبعين وسبعمائة ، وقام الملك الصالح المصرى بفتح هذا الباب فى خلال تلك السنة وأدخل السرور فى قلوب سكان هذه الجهة ، ولكنه سده مرة أخرى بعد فترة ، واندرس أساسه وانمحى شكله وبهذا أصبح عدد أبواب أسوار المدينة أربعة. ولما وفق والد السلطان كثير المحامد فى تجديد مسجد السعادة أمر بفتح الباب الشامى لتسهيل نقل أنقاض مبانى مسجد السعادة عند تجديده وبهذا أصبحت أبواب المدينة المنورة خمسة أبواب مرة أخرى.

إن الأبواب الخمسة أكثر الأبنية نظاما بالقياس للمبانى الموجودة فى البلاد

١٥

الحجازية ، وكل واحد منها قد أسس وفتح تحت أبراج منقوشة بألوان متنوعة ومستحكمة بنيت لصد هجمات عربان البوادى ، ويبعد كل واحد عن الآخر مسافة منزل رصاص وبنيت مطابقة لفن وقواعد بناء القلاع والحصون على شكل نصف دائرى ، وصنع فوق جدران الأسوار بعض الأبراج وزرعت فى داخل المدينة وخارجها أشجار نخيل لا تعد ولا تحصى وذلك بمساعدة وفرة المياه وجودة الهواء.

ولم يكن فى عصر السعادة أسوار ولا مستحكمات ، وكانت دور أجداد الأنصار من قبائل «الأوس والخزرج» متصلة بعضها ببعض مثل قرى متسلسلة ، لذا كان شكل المدينة الطاهرة بلدة طولية جسيمة وقد وصل أحد أطرافها إلى قرية «قباء» التى تثير الشوق إليها. وقد دام عمارها الذى حدث فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلى واقعة الحرّة الشهيرة ، وبعد ذلك آلت إلى الخراب تدريجيا ، وبما أنها قد صغرت إلى أقصى حد فى عهد طائع الله بن المطيع لله العباسى ، فقد أخذ العربان الذين يسكنون الصحراء يثورون من حين لآخر ويطوفون ويمضون ثم يغيرون على المدينة وينهبون أموال الأهالى ويستولون على كل ما يمتلكون ، فأراد عضد الدولة (١) ابن بويه أن يحمى سكان دار السكينة وأموالهم من نهب أشقياء البدو وأن يخلصهم من تسلطهم ، فأحاط تلك المدينة بسور متين فى سنة «٣٦٠ ه‍» (٢) ، ودام السور الذى بناه عضد الدولة وأسسه ما يقرب من مائتى عام ، إلا أنه لم يعمر ولم يصلح ولم يرمم لفترة طويلة فآلت أبراجه وجدرانه بالتدريج إلى الخراب واندرس حتى لم يبق أثر لأسسه ، وأخذ العربان الذين لا يذعنون فى إزعاج الأهالى ، لذا بنى صاحب رباط العجم (٣) «جمال الدين محمد بن أبى منصور» الأصفهانى سورا جديدا قويا فوق أنقاض السور القديم المندرس ، وبهذا

__________________

(١) كان هذا الشخص وزير «طايع الله أبو شجاع ركن الدولة» ومن آثاره الخيرية سوق شيراز الذى يطلق عليه «سوق الأمير» ودار شفاء بغداد ، وأضرحة الإمام على والإمام الحسين «رضى الله عنهما» فى النجف بكربلاء

(٢) يروى البعض أن السور المذكور قد طرح فى سنة «٣٦٣ ه‍».

(٣) قد عرف موقع هذا الرباط فى الصورة الأولى من الوجهة الثانية عشرة.

١٦

أنقذ الأهالى الضعاف من شقاوة الأشقياء وذلك فى سنة ٤٥٠ ه‍ مع أن هناك روايات مختلفة كثيرة يتناقلها الناس بخصوص القلعة القديمة التى قام بتجديدها المرحوم جمال الدين فمن المحقق أن تلك القلعة هى التى جددها جمال الدين المذكور إذ قال شهاب الدين ابن أبى شامة فى كتابه نقلا عن ابن الأثير :

بينما كان ابن الأثير يؤدى صلاة الجمعة فى مسجد المدينة المنورة ، رأى أن أحد الأشخاص يطيل فى الدعاء لجمال الدين الأصفهانى فسأله عن سبب ذلك؟

فكان رد الرجل : إن أهل دار السكينة يدينون فى كل وقت وآن وساعة بالدعاء لجمال الدين ؛ وكيف لا يدعون له؟! أليس هو الذى أنقذ سكان مدينة الرسول من إساءة العربان ومضرة أهل العدوان ، إذ أحاط المدينة بالسور الذى تراه وكانوا قبل ذلك أسرى فى أيادى العربان وكان أشقياء العرب يهاجمونهم فى كل آن وينهبون أموالهم ويغتصبون حيواناتهم ويغيرون عليهم. ولسنا وحدنا نخصه بالدعاء حتى خطباء منبر السعادة يقولون فى أثناء خطبهم اللهم صن حريم من صان حريم نبيك بالسور ، محمد بن على بن أبى منصور ، فرحمه الله ورضى الله عنه.

إن رواية ابن أبى شامة هذه تؤيد القول الذى يحكى أن بانى هذا السور ومجدده هو جمال الدين محمد بن أبى منصور.

ويجرح ابن خلكان القول الذى يقول إن هذا السور قد بنى من قبل عضد الدولة قائلا إن «إسحاق بن محمد الجعدى» هو الذى كان قد بنى سور المدينة القديم فى خلال سنة مائتين وثلاث وستين ، وكان للسور الذى بناه إسحاق بن محمد أربعة أبواب فى ذلك الوقت يفتح أحدها إلى جهة مقبرة بقيع الغرقد والثانى إلى عضد الدولة وادى العقيق والثالث إلى قبور الشهداء والرابع يفتح إلى جهة الغرب ؛ وقد خرب هذا السور الذى بناه إسحاق بن محمد ، وهذا هو سبب نسبة السور القديم إلى عضد الدولة ابن بويه وحكم بهذا المقال أن السور القديم من آثار إسحاق بن محمد وبعض المؤرخين يؤيدون هذه الرواية أيضا

١٧

قائلين إن الذى بنى السور القديم هو معز الدولة ، وجدده فى سنة أربعمائة وخمسين صاحب رباط عجم جمال الدين الأصفهانى ، وإن تمسك المؤرخون بادعائهم هذا إلا أن الرواة الذين نقلوا خبر ابن بويه من الأشخاص الذين يوثق فى أقوالهم وهذا يقتضى ترجيح هذه الرواية على الروايات الأخرى.

والمؤرخون الذين رأوا آثار خرائب السور القديم الذى بناه عضد الدولة ذهبوا إلى أن هذا السور يمتد من جبل سلع إلى وادى بطحان يحتوى فى داخله ما نسميه فى زماننا «بمسجد النبى» والذى كان مصلى العيد المصطفوى ، ومبانيه وما حوله من جميع البيوت وبهذا ادعوا أن السور القديم كان سورا عظيما.

وبعد أن جدد المرحوم جمال الدين سور المدينة وأنقذ الأهالى من أن يداسوا تحت سنابك خيول العربان وخلصهم من شرورهم ، أخذ سكان مدينة الرسول يزيدون يوما بعد يوم وبناء على هذا أصبح لازما بناء البيوت خارج السور وامتلك فقراء الناس قطعان من الأرض فى خارج السور وأخذ كل واحد منهم يبنى بيتا على قدر طاقته ، إلا أن أشقياء العربان الخبثاء أخذوا يزعجون فقراء السكان فى خارج السور كلما وجدوا فرصة نتيجة لما جبلوا عليه من الخسة إلى أن ورد إلى المدينة الشهيد «نور الدين» وقد ذهب الشهيد نور الدين بغتة إلى المدينة الزاخرة بالرحمة بناء على رؤيا رآها ـ كما ذكر فى الوجهة التاسعة والصورة الأولى ـ وانتهز أصحاب البيوت التى فى خارج السور الفرصة وقدموا طلبا يفيد لجملة ما يأتى : يا أيها الملك! لم تبق لنا طاقة لتحمل غارات أشقياء العربان ، إذ يغيرون علينا من حين لآخر ويستولون على حيواناتنا ويأسرون أولادنا وعيالنا ، نرجو أن تنقذنا من شرور هؤلاء بأن تصدروا أمركم ببناء سور يحيط بمنازلنا ، وما كان من الملك إلا أن أسعف رجاء الأهالى وأمر بهدم السور القديم الذى آل للسقوط والخراب وأسس سورا جديدا يحيط بالمنازل والمحال التى بنيت فيما بعد وما زال هذا السور مشهورا إلى يومنا هذا ، وهكذا أنقذ أصحاب المحلات الجديدة والبيوت من تسلط عربان الصحراء وإضرارهم وذلك فى سنة (٥٥٨).

١٨

وقد رأى فريق من المؤرخين فوق الباب الذى فتح فى جهة بقيع الغرقد من السور عبارة : «هذا ما أمر بعمله العبد الفقير إلى الله تعالى محمود بن زنكى بن أقسنقر غفر الله له ، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة» وذهبوا إلى أن السور المذكور قد شيد من قبل محمود بن زنكى. ومن هنا لا شبهة فى أن السور المذكور من أثر بناء الشهيد نور الدين.

والشهيد نور الدين هو «محمد القاسم» ابن الملك المنصور عماد الدين بن أبى الجواد ، زنكى أقسنقر.

وقد ولد فى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ورحل عن دنيانا سنة تسع وستين وخمسمائة إلى عالم البقاء والخلود وبناء على هذا يكون قد مات وعمره أربع وخمسون سنة رحمه الله.

وقد أمن سور المدينة الطيبة الذى بناه الشهيد نور الدين السكان من تسلط العربان ، وحافظ عليهم ما يقرب من مائة وخمسين عاما ، إلا أن تقلبات الزمان ومرور الأيام خربت السور الجديد وحفرة الخندق التى حفرت من قبل سعد بن ثابت وأخذت هجمات الأشقياء المتوالية تزعج سكنة دار الهجرة مرة أخرى ، وعندئذ جدد الملك الصالح ابن الناصر قلاوون وهو من الملوك الشراكسة المصريين الأماكن الخربة من ذلك السور فى سنة ٧٥٥ ، كما شيد وأصلح السلطان قايتباى الأماكن التى خربت وانهدمت من ذلك السور.

شرع فى حفر الخندق سالف الذكر ، بتشجيع سعد بن ثابت جماز من ولاة المدينة واتفاق الأهالى واتحاد الأعيان والسادات فى سنة ٧٥١ هجرية ، إلا إنه تم حفره فى عهد وولاية فضل بن جماز الذى أصبح واليا بعد موت سعد بن ثابت. وللأسف الشديد قد امتلأ ذلك الخندق بالأحجار الصغيرة نتيجة للإهمال وأصبح أرضا مستوية حيث أنبتت بعض الخضر والفواكه.

وكما لم تجدد أى جهة من جهات السور منذ عصر الملك قايتباى المصرى إلى عصر السلطان سليمان بن السلطان سليم خان عليهما الرحمة والغفران ، أخذت

١٩

أبراجه وجدرانه تتشقق وتنهار فانفتحت شقوق كبيرة وأخذ البدو يمارسون عاداتهم القديمة المألوفة فيمدون أياديهم إلى أموال الأهالى والمواشى وأخذوا يزعجون سكنة دار السكينة ، مما دفع الأهالى إلى عرض أحوالهم على أعتاب السلطان سليمان وإعلامها فى سنة ٩٣٧ هجرية ، فصدر الأمر السلطانى بتعمير سور المدينة القديم بشكل متين قوى وإنقاذ الأهالى الكرام من تسلط اللصوص ، وتعيين من يقتضى تعيينهم من أجل هذا العمل على وجه السرعة وإرسالهم إلى دار الهجرة ، وإشعار ذلك إلى والى ولاية مصر ، وبناء على صدور الصحيفة التى تحوى الأمر السلطانى وإرسالها إلى والى مصر ، تم تدبير الشخص الذى أنيطت به مهمة أمانة البناء كما دبرت المبالغ اللازمة ، وتوجه مستصحبا معه لوازم البناء إلى المدينة المنورة وتحرك من مصر لينال هذا الشرف وعندما وصل إلى دار الهجرة أخذ يقيس الأماكن التى تحتاج إلى التعمير والبناء من السور فتكشف له أن أربعة آلاف ذراع معمارى من الجدران فى حاجة إلى التأسيس والتشييد من جديد ماعدا الأبراج والدعائم ، وكان ارتفاع هذا الجدار سبعة عشر ذراعا وسمكه عشرة أذرع ، وقد جلب أمين البناء العمال المطلوبين من المدينة المنورة ، وابتدئ فى حفر الأساس فى أواسط سنة ٩٣٩. وقد بذل أقصى الجهود وأخلص المساعى فى بناء السور وقدمت التسهيلات اللازمة من جميع الجهات ومع ذلك لم يتم بناؤه. إلا فى ظرف سبع سنوات واكتمل فى أواخر سنة ٩٤٦ وفتحت للسور الخارجى أربعة أبواب وللسور الداخلى الذى يطلق عليه «القلعة الداخلية» بابان.

وكان أحد أبواب «القلعة الداخلية» مفتوحا أو مغلقا على صورة دائمة بينما كان الآخر قد صمم على أن يفتح ويغلق فى وقت الحاجة فقط لذلك أطلق عليه «الباب السرى».

وقد غطيت مصاريع أبواب القلعة الخارجية والداخلية بألواح حديدية بينما صنع «الباب السرى» من الحديد الخالص وقد رممت بروج القلعة الخارجية أكثر من بروج القلعة الداخلية ، وعمقت حفرة الخندق وشيدت جدرانها قوية متينة على قدر الإمكان ، وأجرى مقدار كاف من المياه من «عين الزرقاء» حتى لا يحرم

٢٠