موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٥

أمة محمد ويطلق عليه أبو بكر ؛ لأن الصورة كأنها نفس أبى بكر. ثم أشار إلى الهيكل القائم على الجهة اليسرى من الصورة التى تشبه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسألنى هيكل من هذا؟ فأجبته لا بد أنها صورة رجل شهير يسمى عمر بن الخطاب ؛ لأنها كانت تشبهه شبها كبيرا وكأنها ذاته.

ثم قال لى هرقل : بعد أن تلقى منى الإجابات السابقة إنه قد ذكر فى الإنجيل أن الإسلام سيبلغ كماله بمعاونة هذين الرجلين. وقال : جاء فى الإنجيل أن الناقص من الدين سيبلغ حد الكمال بمعاونة المشار إليهما. وقد أعادنى معززا إلى المدينة دار السكينة.

وبعد فترة مثلت أمام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكيت ما رأيته من هرقل الرومى ، فقال حضرة النبى الصادق القول :

«لقد قال هرقل الصدق فالله سيعز الإسلام بأبى بكر وعمر ، وسيوفقهما فى الحصول على الفتوحات العظيمة».

ـ حكاية :

كان الحكيم بن حزام (١) إذا اجتمع فى مجلس من المجالس مع قومه ، وانتقل الحديث لذكر هرقل كان يقول : قبل أن أتشرف بالإسلام ، ذهبت إلى الشام فى تجارة ، ولم يكن سلطان الأنبياء ـ عليه أعظم التحية ـ قد هاجر بعد إلى المدينة المنورة ، وكان بصحبتى «أمية بن الصلت بن عبد الله بن ربيعة» وهو من الطائف ، وعند ما علم هرقل أننا من أهل مكة استدعانا وقال : من أى قبيلة أنتما؟ وهل لكم صلة قرابة بمحمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب دعوة النبوة؟

فأجبته : نحن من قريش ، ومحمد الأمين من أبناء عمومتنا ويتصل نسبنا به فى

__________________

(١) حكيم بن حزام ابن أخى سيدتنا خديجة الكبرى رضى الله عنها ، وقد ولد داخل الكعبة قبل واقعة الفيل بثلاثة عشر عاما ، وقد أمضى نصف عمره فى الإسلام والنصف الآخر فى الجاهلية ، وعاش عشرين ومائة عام حيث توفى فى العام الستين من الهجرة فى المدينة المنورة. ويروى أن سيدنا على أيضا ولد داخل الكعبة المشرفة ولكن هذه الرواية لا أصل لها. انظر : الإصابة ٢ / ٣٢.

٣٤١

الدرجة الخامسة. فقال هرقل : أتجيبوننى عما أسألكم عنه فيما يتعلق بهذا الرجل بدون خلاف؟ وهل أنتم ممن يصدقونه ويؤمنون بدعوته لله؟ فأجبته عن سؤاله الثانى وقلت : ونحن ممن يرفضونه ويرفضون أحكام دينه ودعوته.

لكننا لن نكذب فى حضورك وسنجيبك بصدق على كل ما تسأل عنه ، وأقسمت بآلهتنا بأننى سأقول الصدق.

وسأل هرقل عن أحكام الشريعة المحمدية الغراء ، فلما أجبناه إجابة واحدة لا خلاف فيها ، قام من مكانه ، وسار إلى الأمام وذهبنا معه كذلك. وكان بداخل قصره كنيسة مزينة فأمر بفتح بابها ، واصطحبنا معه لداخلها.

وكانت هذه الكنيسة حجرة ملكية فخمة لا نظير لها ، ويوجد فى وسطها صنم كبير مغطى بأستار من الذهب وموضوع فوق كرسى مرصع ، رفع هرقل الأستار وقال : هذه الصورة صورة من؟!

فأجبناه : لا نعرف! لم نر صورة كهذه من قبل.

فقال : إنها صورة وجه أبى البشر.

ثم أخذنا من غرفة إلى أخرى وأرانا تماثيل مختلفة ، وسألنا هل الشخص الذى يدعى النبوة يشبه إلى واحد من هذه القبائل؟

وكانت هذه التماثيل تماثيل أنبياء مختلفة ، وكانت مغطاة بستائر ثمينة مزركشة وجميلة.

وبما أننا لم نر تمثالا يشبه الذات النبوية العالية أجبناه بقولنا : «إنها لا تشبه محمد بن عبد الله عليه السلام».

وبعد ذلك ، أمر بفتح قاعة كبيرة ومزينة أيضا ، وهى أكبر من كل القاعات التى رأيناها من قبل وكان فى وسطها تمثال مغطى ذو هيئة نورانية ، فكشف التمثال بأن رفع الستار وسأل : من يكون هذا؟ قلنا : نعم.

إن هذه الصورة تشبه محمدا الأمين الذى يدعى النبوة فى بلدنا. وفى الواقع أنها كانت صورة لا تختلف عن شكله أبدا.

٣٤٢

بناء على هذا وجه هرقل خطابه إلينا ، وقال :

(إن هذه التماثيل التى شاهدتموها قد نحتت قبل ألف سنة ، لو كان هذا التمثال هو تمثال محمد الأمين الذى ذكر تماما فمما لا شك فيه أن الرجل نبى مرسل. فعند وصولكما إلى مكة فعليكما بتصديق نبوته بلا تردد. وإذا قدر لى لقاءه فسوف أغسل رجليه المباركتين وأشرب ماء غسيلهما).

ـ حكاية :

كان «جبير بن مطعم» من الصحابة (١) الكرام ، ومن أولاد نوفل القرشى ، ويتصل نسبه بعبد مناف الجد الثالث للنبى صلى الله عليه وسلم ، وقد قال : كنت قد ذهبت إلى الشام فى بدء البعثة النبوية ، فاستدعانى رئيس أساقفة نصارى الشام وسألنى : أتعرف الرجل الأمى الذى يدعى النبوة فى بلدتكم؟ فلما أجبته : نعم! إنه ابن عمى! أمسكنى من يدى وأدخلنى غرفة مليئة بصور الأنبياء المزينة ، وأشار إلى الصور واحدة تلو أخرى وسألنى : أيمكن أن ترى بينها صورته؟ فلما أجبته : بالنفى أخذنى إلى حجرة أخرى ، وكانت بيت التماثيل وكان فى داخلها تماثيل مزينة ومجسمة ، وسألنى رئيس الأساقفة : يا ترى هل يوجد تمثال مشابه لصورة ابن عمك؟! فلما تأملنا رأيت تمثالا نورانيا على شكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبجانبه صورة تشبه الصديق وصورة أخرى بجانب صورة الصديق تشبه عمر بن الخطاب فأشرت إلى الصورة ، وقلت هذه الصورة تشبه صورة حضرة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولما استفسر عن الصورتين الأخريين ؛ أجبته قائلا : هذا ابن عمى ابن أبى قحافة وذلك ابن عمى عمر بن الخطاب. بناء على ذلك أنهى كلامه قائلا : إن هذا الرجل الذى ظهر فى بلدتكم مدعيا النبوة ، أشهد أنه المبعوث الحق والرسول المطلق وهذان خليفتيه.

ـ حكاية :

تروى حكاية ذات عبر حدثت فى عهد أبى بكر الصديق ؛ إذ بعث فى أثناء خلافته ـ رضى الله عنه ـ هشام بن العاص سفيرا إلى إمبراطور الشرق هرقل ، وقد تحدث هشام عن ماهية هذه السفارة وحقيقتها.

__________________

(١) انظر : الإصابة ١ / ٢٣٥ ، والخبر فى دلائل النبوة للبيهقى ١ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

٣٤٣

قال هشام بن العاص (١) : كنت أرسلت أنا وصديق لى من قبل أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ لدعوة هرقل إلى الإسلام ، وعند ما وصلنا إلى المدينة عاصمة إمبراطورية هرقل أنزلونا فى قصر غاية فى الفخامة ، وبعد ثلاثة أيام استدعانا هرقل ، وأجرى لنا مراسم الاستقبال ، وفى أثناء الحديث أمر بإحضار صندوق كبير جدا ومزين بالذهب ذى أدراج كثيرة ، ففتح أحد هذه الأدراج وأخرج منه لوحة حمراء اللون ملفوفة بقطعة قماش سوداء. وقد رسم عليها صورة شخص حسن الطلعة طويل القامة ، فأشار هرقل إلى اللوحة المذكورة ، وسألنا هل تعرفون هذا الرجل؟

أجبناه بالنفى. فقال : إنها صورة سيدنا آدم عليه صلوات الله الأعظم. وكانت هذه الصورة لرجل أحمر الوجه واسع العينين ، ذو قامة طويلة شعره مفرق إلى جانبين وقد جدل بصورة منسقة ، وبعد أن وضع هرقل صورة سيدنا آدم فى مكانها فتح درجا آخر من أدراج الصندوق ، وأخرج لوحة أخرى ناصعة البياض لامعة وملفوفة داخل قطعة قماش سوداء. وكانت الصورة المرسومة فى هذه اللوحة ، صورة لرجل أحمر العينين فسأل هرقل : صورة من هذه؟

وكانت الإجابة بالنص : لا نعرف!!

فقال : إنها صورة سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ وقد رسمت هذه الصورة لرجل أبيض اللون ، عيناه تميلان إلى اللون الأحمر كبير الرأس ، كثيف اللحية. وفى النهاية فتح هرقل درجا ثالثا ، وأخرج لفافة قماش سوداء ، بداخلها لوحة بيضاء. وكانت اللوحة تحوى صورة رجل أبيض البشرة ، وضاء الوجه وكأنه يبتسم وهو فى أبهى صورة.

وسأل هرقل : أتعرفون هذا الرجل؟ ولما أخذ الرد بالنفى ، قال : هذه صورة إبراهيم عليه التحية والتعظيم ، ثم فتح درجا آخر ، وأخرج صورة صاحبها فائق الجمال وساطع الأنوار ، وتذكرنا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقد بكينا فى أول مشاهدتنا للصورة كأننا رأينا حضرة صاحب الرسالة القدسية. وقد أظهر هرقل لهذه الصورة توقيرا وتعظيما أكثر من الصور الأخرى.

__________________

(١) الخبر فى دلائل النبوة ١ / ٣٨٦ ـ ٣٩٠ بطوله ، ونظر أيضا تفسير ابن كثير ٣ / ٥٦٤ ـ ٥٦٧.

٣٤٤

وعند ما سأل هل تعرفون صاحب هذه الصورة؟ وقد تلقى الجواب منا إذ قلنا : إن هذا التمثال اللطيف يشبه صورة محمد عليه السلام ، قال : الله يعلم أنه هو ونهض من مكانه وجلس عدة مرات. ثم قال : إذا كانت هذه الصورة هى الشكل المبارك لمحمد ـ عليه السلام ـ فاعلموا أن دينكم هو الدين الحق.

وأراد أن يبين شك فى كون هذه الصورة لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ نطق بهذه الجملة. ولكننا قلنا له : يا ملك بلاد الروم إن هذه الصورة صورة الحبيب ذى الكبرياء عليه أفضل التحيات ولا شك فى ذلك ، وبها الكثير من شمائله الشريفة ، حتى إننا ظننا أنفسنا فى حضرته السعيدة فائضة النور. وبهذه الإجابة زال شك هرقل إلى درجة ما ، ولكنه لم يجرؤ على تصديق أن هذا التمثال صورة مشابهة لرسول الله العالى المقام ، وظل يوجه إلى وجهنا نظرات بلهاء لمدة ساعة ثم أفاق ، واستجمع عقله وسألنا وقد ظهرت عليه الحيرة :

احذرا أن تكونا قد أخطأتما فى تمييز صاحب الصورة إذ قد تكون لشخص آخر. ثم فتح درجا آخر وأخرج منه تمثال رجل غائر العينين متراكب الأسنان مقلص الشفتين. وكانت هذه الصورة تبدى علامات الغضب والحدة وتبعث الخوف فى مشاهديها. وإذا بها صورة سيدنا موسى بن عمران عليه صلوات الرحمن. وبجانب صورة موسى ـ عليه السلام ـ صورة أخرى تشبه صورة موسى الذات العالى إلى حد ما. أخبرنا هرقل أنها صورة هارون بن عمران ـ عليه سلام المنان ـ ثم فتح ثمانية أدراج درجا بعد درج ، وأخرج من كل واحد منها صورة ملفوفة فى قطعة حرير سوداء ، وقال إنها الأشكال المنيرة لحضرات سادتنا : لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ إسماعيل ـ يوسف ـ داود ـ سليمان ـ عيسى عليهم السلام.

وكانت صورة سيدنا لوط داخل صرة من الحرير الأبيض ، وتبدو صورته جميل الوجه عليها علامات الغضب. كما كانت صورة إسحاق داخل صرة بيضاء وقد رسمت بلون مائل للحمرة ، وكانت صورة يعقوب ـ عليه السلام ـ داخل صرة بيضاء وكانت تشبه شكل إسحاق المبارك إلا أنها كانت تتميز بوجود خال

٣٤٥

أسود اللون فى الشفة السفلى. أما صورة إسماعيل ـ عليه السلام ـ فقد كان أبيض اللون ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، متناسق القوام ، وكان يلمح فى وجهه السعيد نور محمد ساطع اللمعان.

وقد وصف هرقل هذه الصورة الجميلة أن صاحبها إسماعيل ـ عليه السلام ـ جد نبيكم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام.

وكانت صورة يوسف ـ عليه السلام ـ ساحر زليخا فى صرة بيضاء ، وكان فى الخلقة يشبه آدم ـ عليه السلام ـ تماما لكنه فى صورة أجمل ، متناسق الأعضاء حتى إن من يرونه يقولون : لا بد أن تكون شمس الملاحة هذا النور.

وكانت صورة داود ـ عليه السلام ـ داخل صرة بيضاء ، وقد بدا فيها أحمر اللون ضخم البطن متقلدا السيف.

وإذا جئنا إلى صورة سليمان بن داود فنجده ممتطيا جوادا ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، وكانت هذه اللوحة ملفوفة بقطعة حريرية بيضاء.

أما هيكل عيسى ـ عليه السلام ـ فكان ملفوفا فى داخل صرة بيضاء ، وكانت صورة ذاته الشريفة تبديه فتيا صلبا أسود اللحية ، كثيف الشعر حسن الوجه.

وكنا نشاهد الصور المذكورة واحدة تلو الأخرى ، وننظر فى كل واحدة منها بكل رقة بالبصر والبصيرة. وغرقنا فى بحر الحيرة من شدة التعجب والاستغراب. ولم نجرؤ على القول بأن هذه هى صورة الأنبياء المشار إليهم ، قلنا للملك : أيها الملك ، كيف حصلتم على صور الأنبياء هذه؟!

فإذا ما نظرنا إلى الرسم اللطيف لسيدنا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نبينا رأينا أنها تحمل نفس شمائله الشريفة ؛ فلا بد أن تكون كل هذه الصور مطابقة لصور الأنبياء مع العلم أنه من الصعب إيجاد دليل قوى وسند يعتمد عليه الحكم على هذا الأمر ، وبهذه العبارة لم نصدق ولم نكذب صحة تلك الصور المشروحة.

٣٤٦

وعند ما رأى هرقل ترددنا الواضح فى تصديق حكاية الصور قال : إن هذه الصور بقيت من الأزمنة الغابرة ، وإن كان من الصعب إثبات مدى مطابقة الصور لشكل أصحابها ما لم نرهم ، إلا إننى عندى البينة الكافية لتأكيد صحة هذا الأمر.

يجب ألا ترتابوا فى أن الصور الشريفة للأنبياء ذوى الشأن الذين ذكرت أسماؤهم هى لهم. فإن سيدنا أبا البشر ـ عليه سلام الله الأكبر ـ أراد رؤية من اتصفوا بخير الصفات والذين سيتبوأون مقام النبوة من أولاده وأحفاده. ولما عرض أبو البشر ما فى ضميره على عالم السر والخفايا ، أنزل الرحمن من عنده الصور المذكورة مرسومة على لوح مزين لحكمة لا يعرفها سواه.

وقد وضع سيدنا آدم اللوح المذكور فى مغارة فى بلاد المغرب بعد رؤيتها وهال عليها التراب والحجارة إلى أن وجدها ذو القرنين. ولفها فى قطعة من الحرير وحفظها ، ولهذا انتقل اللوح المذكور مع قطعة الحرير هذه إلى يد النبى دانيال ـ عليه السلام ـ وقام المشار إليه برسم كل واحدة منها فى لوحة مستقلة ، وبذلك نجح فى عمل صور كثيرة للأنبياء.

إن الذى ابتهجتم برؤيته وقررتم عينا بمشاهدته من الصور فجميعها من جملة الصور التى رسمها النبى دانيال ، وقد ورثها الناس كابرا عن كابر إلى أن وصلت إلينا فى نهاية الأمر. وهكذا طيب خاطرنا وأعادنا إلى وطننا.

ورغم أننا لم نصدق أن الصور التى رأيناها عند هرقل تشبه شمائل الأنبياء الكرام ، إلا أن الأمر ظل يتفاقم فى ذهننا وقد اضطررنا أن نعرض الأمر على الخليفة حتى نستوضح حقيقة الأمر منه.

وحينما وصلنا إلى المدينة المنورة توجهنا للقاء حضرة الخليفة الصديق وقبل أن نتحدث بما حدث أخبرنا بكل ما حدث أمام هرقل من مشاهدة الصور وما تحدث به بلا زيادة ولا نقصان وبعد ما بكى قليلا قال : إن طوائف اليهود وطوائف النصارى قد قرءوا فى كتبهم صفات النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونعوته ولكنهم تمردوا وعاندوا ولم يؤمنوا به.

٣٤٧

إن خلاصة هذه الحكاية مكتوبة فى كتاب دلائل النبوة منقولا عن الإمام البيهقى الذى نقله عن أبى أمامة الباهلى وهو قد نقله عن هشام بن العاص الأموى (١).

وقد نقل عن كعب الأحبار أن حضرة آدم ـ عليه السلام ـ حينما اقترب أجله ، استدعى أبناءه الذين كانوا على قيد الحياة وأراهم تابوتا ، ونظر أبناؤه إلى التابوت ، فوجدوا به أدراجا كثيرة صغيرة بعدد الأنبياء الكرام ـ على نبينا وعليهم السلام ـ والدرج السعيد الذى فى نهاية الأدراج ، كان خاصا بخاتم الأنبياء وكان تحفة لامعة الأنوار مصنوعا من الياقوت الأحمر.

وفى داخل البيت كان إمام الأنبياء ـ عليه وعليهم السلام ـ قائما يصلى وعن يمينه الصديق وعن يساره الفاروق ومن خلفهم ابن عفان وأمامهم صاحب القرآن على بن أبى طالب ـ رحمهم الله ، ورضى عنهم أجمعين.

وكان مسطورا على جبهة الصديق الكريم عبارة : «هذا أول من تبعه من أمته» وعلى الجبين المبارك للفاروق عبارة «قرن من حديد ، أمين شديد لا تأخذه فى الله لومة لائم» وعلى جبهة ابن عفان «ثالث الخلفاء» وعلى جبهة على بن أبى طالب «هذا أخوه وابن عمه المؤيد بنصر الله» وعلى قول «ليث كرار غير فرار يحب الله ورسوله» وكان يرى فى جوانب هؤلاء المهاجرون والأنصار النقباء والخلفاء الآخرون.

صورة دخول عبادة الأصنام إلى أرض الحجاز :

إن القبائل التى تقطن الخيم حول كعبة الله عبدة أصنام مصنوعة من الأحجار والأشجار ، والزمن الذى مالوا فيه إلى الضلالة كان فى عهد (أردشير بن شابور) من ملوك الفرس وكان «عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف» الذى لا دين له حاكما لأرض الحجاز المقدسة.

وقد نقل الإمام «الراشطى» أن عمرو بن لحى بن قمعة هو الحارث بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء بن الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة مازن بن أزد

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقى ١ / ٣٨٦ ـ ٣٩٠.

٣٤٨

من نسل زيد بن كهلان بن سبأ ، وأن نسبه هو نهاية نسب أفراد قبائل بنى خزاعة. ورغم هذا فإن بعض علماء النسب انتقدوا هذه الرواية المنقولة عن الراشطى وخرجوها قائلين : إن هذه الرواية رأى من يدعون أن خزاعة من أهل اليمن. ورفعوا سلسلة نسب عمرو إلى إلياس بن مضر.

والواقع أنه عند ما توفى قمعة بن خندف كانت زوجته حاملا وتزوجت من الحارث بن عمرو مزيقيا وبعد فترة ولدت لحى وتربى لحى فى كنف الحارث ونسب إليه.

وعلى هذا يكون لحى ربيب الحارث بن عمرو مزيقيا وابن قمعة بن إلياس بن مضر. وهذا القول هو المرجح وأكثر صحة من القول الآخر.

واسم لحى بن قمعة ربيعة وجدته لأبيه : خندف المسماة بليلى بنت حلوان بن عمران بن الحان بن قضاعة وزوجها هو إلياس بن مضر.

أما سبب إطلاق اسم خندف على ليلى فقد ذكر فى البحث الخاص بانتقال حكومة مكة إلى قصى بن كلاب. وقد انفصلت قبيلة خزاعة من عمرو بن لحى وبما أن ليلى «خندف» وكانت والدة قمعة أطلقت أفراد قبيلة خزاعة على ليلى اسم الأم.

قال المؤرخون الذين ذكروا سبب إطلاق اسم خزاعة لبنى عمرو قد هاجر أهل سبأ عقب وقعة سيل العرم من بلادهم ، وهاجر كل جماعة إلى مكان ما واشتهروا باسم ذلك المكان.

وفى ذلك الوقت استقر أولاد وأحفاد مازن الأزد بن الغوث بن ليث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان فى جانب ماء اسمه غسان (١) القريب من المكان المسمى «مشلل» واختاروا الإقامة فيه قبل بنى مازن ، ولما انقطع وانجزعت جماعة عمرو بن لحى عن القبائل الأخرى ، وسكنوا بأطراف مكة المكرمة قيل لبنى عمرو بن لحى بنو خزاعة.

__________________

(١) هناك رواية تقول إن الماء المسمى «بغسان» من مياه سد مأرب وإنه اسم ماء منسوب لأبناء مازن بن الأزد بن الغوث ولذلك يطلق على بنى مازن الغسانى إلا أن الرواية الأولى أصح.

٣٤٩

الأوس والخزرج أجداد الأنصار الكرام هم أبناء حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة مازن بن عبد الله بن الأزد بن الغوث.

وعند ما أخرج بنو خزاعة قبائل الجراهمة من مكة المعظمة بالقوة وأبعدوهم إلى بلاد اليمن اتخذوا عمرو ـ مستحق الجمر ـ رئيسا لقبيلتهم واجتهدوا على أن ينفذوا كل ما جاء به من البدع والخزعبلات عن طيب خاطر (١).

إن الأسباب الرئيسية لرضا بنى خزاعة العمل بما كلفهم به عمرو دون تفكر ترجع إلى تكريمه للقبائل البدوية وجوده معهم وإلباسه الخلع للعظماء والوجهاء فى مراسم الحج.

وكان عمرو بن لحى ، الذى نال رئاسة بنى خزاعة يسافر إلى بلاد الشام فى أثناء حكومته. وقد رأى أحفاد العمالقة يعبدون الأصنام فى مدينة مأرب من أرض البلقاء التى استوطنوا بها فسألهم : ما أسباب عبادتكم لهذه الجمادات؟ فأجابه عبدة تلك الأصنام بقولهم : إنها مجموعة من الآلهة صنعت على غرار الهياكل العلوية والصور البشرية وإننا نستمر فى عبادتها واحترامها وتوقيرها وقد اتخذناها آلهة لنا وعلى هذا فهى تستجيب لتضرعاتنا ، فإذا ما طلبنا منها مطرا فى أى وقت تنزل مطرا وإذا استعنا بها فى حاجة من حوائج الدنيا فتحقق مطالبنا ؛ فصدق قولهم وطلب منهم أن يعطوه واحدا منها قائلا : إذا أعطيتمونى واحدا منها أحمله إلى أرض الحجاز وأدعو بنى إسماعيل لعبادته وأرغبهم فيه ، فقاموا على الفور بإهدائه صنما ثقيلا يسمى هبل.

وفى رواية أخرى أن إساف ونائلة من الأصنام التى أهديت إلى عمرو بن لحى من قبل العمالقة.

وقد سر عمرو بن لحى إذ أهدى له إله وأخذ هبل المذكور ووضعه فى المخزن الذى صنعه إبراهيم لحفظ الهدايا المقدسة لعتبة الكعبة الشريفة ، وعلى قول آخر ركزه فوق جبل الأخشب (٢) وطلب من الأهالى أن يظهروا له الاحترام اللازم ويتعبدوا له ليلا ونهارا.

__________________

(١) إن هذه الكيفية قد حررت بالتفصيل فى المكان الخاص به من كتاب مرآة المدينة.

(٢) هذا القول ضعيف.

٣٥٠

وقد عرف فاضل أبو الفوز البغدادى فى كتابه القيم المسمى «سبائك الذهب فى معرفة قبائل العرب» أصل هبل الذى اعتقد عمرو فى ألوهيته. وقال : إن هبل الذى حمله عمرو بن لحى من الشام إلى مكة كان تمثالا لإنسان عجيب الشكل. وكان مصنوعا من العقيق إلا أن يده اليمنى كانت مكسورة.

وقال إن قريشا الذين صدقوا ألوهيته قاموا بتركيب يد من الذهب له وأخذوا يعبدونه مظهرين له الاحترام والتوقير والإخلاص.

قال ابن إسحاق فى تعريف هبل : هبل صنم كبير مصنوع من العقيق على شكل إنسان لكن يده اليمنى كانت مكسورة ومفقودة ، ولما رأى آل قريش أنه بلا يد صنعوا له يدا من ذهب وركبوها فيه.

وكان لهبل خزينة خاصة لوضع الهدايا التى تقدم له وتحفظ فيها. وكذلك كان له سبعة أقداح لإجراء القرعة (١) ولا يمكن للذى يريد إجراء القرعة استخدام القداح ما لم ينذر بذبح مائة من الإبل. انتهى.

وبعد ذلك بمدة شاع خبر هبل الذى جلبه عمرو ـ متسحق الجمر ـ بين مشركى البدو ، حيث أخذوا يوقرون ويعظمون ذلك الصنم بتحريض من عمرو وتشجيعه وأشركوا هبل المصنوع من الحجر بخالق الأفلاك ـ تنزهت ذاته عن الشرك ـ وهكذا كفروا.

ورغم أن مشركى العرب قد اعتنقوا الكفر فقد ظل بينهم بعض الأفراد محافظين على دين الخليل وتمسكوا به.

وكان هؤلاء يقومون بتعظيم بيت الله ، والطواف حوله وأداء الحج ويخرجون لأداء العمرة ويصعدون عرفات والمزدلفة ويذبحون الأضاحى ويعتمرون اقتفاء لآثار سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل ـ عليهما السلام.

وكانت دعوة عمرو بن لحى قبائل العرب البدو لعبادة الأصنام قبل البعثة

__________________

(١) توجد معلومات وافية حول هذا الموضوع فى البحث الخاص بالقرعة عند العرب فى الجاهلية.

٣٥١

النبوية بألف عام وعلى قول بثلاثمائة وخمس وعشرين سنة ، وبعد فترة قصيرة كان كل ساكنى منطقة الحجاز من أولاد إسماعيل ـ عليه السلام ـ قد اتجهوا إلى عبادة الأصنام المنحوتة من الأشجار والأحجار ولهذا فإذا خرج أى واحد منهم أو أى قبيلة خارج ميقات كعبة الله كان يأخذ معه ـ بهدف تعظيم بيت الله ـ حجرا من المسجد الحرام على النحو الذى سنذكره مفصلا فيما بعد ـ ويضعه فى الأماكن التى ينزل فيها ويأخذ فى الطواف حوله كما كان يطوف بالكعبة.

وبمضى الوقت غاب عن الذهن سبب تعظيم الأحجار واستبدل دين الخليل بعبادة الأصنام وتحول الناس عن عبادة خالق العباد إلى عبادة الأصنام.

وبعد ذلك اهتم الذين غيروا دينهم بتعظيم حجارة المسجد الحرام حتى إنهم فاقوا فى عبادة الأصنام الضالين من أفراد الأمم الأخرى الذين يعبدون الأصنام.

وبلغ الأمر حدّا حتى إن قبيلة قريش وطائفة بنى كنانة كانوا يلبون فى وقت الحج قائلين «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» ويدخلون داخل الكعبة ممسكين بأيديهم غير المباركة الأصنام التى صنعوها بأيديهم ، واستمر هذا الحال المشؤوم حتى يوم إشراق نور النبوة.

وخلال تلك الفترة اهتم أهل الحجاز بعمل أصنام كثيرة مثل : اللات ـ العزى ـ مناة ـ ذو الخلصة ـ ذو الكفين ـ ذو الشرى ـ قلس ـ رضاء ـ ذو الكعبات وغيرها من الأصنام وقد سميت بعض هذه الأصنام بأصنام عبدة الأصنام فى عهد نوح ـ عليه السلام.

وقد ظهر فى الفترة التى بين آدم ونوح ـ عليهما السلام ـ خمسة أشخاص (١) وكانوا حريصين على طاعة الله وعبادته وبهذا نالوا حب الناس واحترامهم وعند ما أتم هؤلاء آجالهم وارتحلوا إلى عالم العقبى لم يستطع أولادهم وأتباعهم أن يتحملوا آلام فراقهم وتحسّروا عليهم ، فصنعوا ـ بإيعاز من الشيطان ـ لكل واحد منهم صورة ليعلقوها فى مساجدهم. وفعلا قد وضعوا هذه الصور فى مساجدهم وظلوا يزورونها بكثرة ليخففوا شدة حزنهم وليزيلوا وطأة حسرتهم.

__________________

(١) توجد تفاصيل وافية فى هذا الموضوع فى البحث الخاص ببدء ظهور الأصنام.

٣٥٢

وبطبيعة الحال ، مات الأبناء والأتباع فأوعز الشيطان إلى بقية الناس بعبادة الصور. إذ قال : «أيها الناس! إن هذه الصور (١) كانت صور من عبدهم آباؤكم فأنتم باتخاذكم إياها آلهة وعبادتها تعملون على نشر الدين وعلى إدامة الطقوس التى قام بها آباؤكم». ودفع الناس إلى عبادة صور هؤلاء الأفراد الخمسة إلى قبيل زمن نوح عليه السلام.

وفى واقعة الطوفان المشهورة دفنت هذه الصور المجسمة تحت التراب ، واختفت عن أعين الناس ، ورغم هذا فإن إبليس اللعين ـ كما سنذكر فيما بعد ـ استطاع أن يبرز جميع هذه الصور إلى الأعين بطريقة ما دفع العرب إلى عبادة الأصنام وأثار هذا العمل ضيق أهل الإيمان وأزعجهم.

وقامت جماعات حمقى من القبائل من أحفاد بنى إسماعيل وبتدخل الشياطين بصناعة أصنام مشابهة للأصنام التى أخرجت من تحت الأرض وسموها بأسماء هؤلاء الصالحين الذين ذكروا آنفا وأخذوا يعبدونها بكل إخلاص وخضوع.

وتبعا لدراسة المؤرخين فإن أسماء هؤلاء الصالحين المشار إليهم كانت : سواع ـ ود ـ يعوق ـ يغوث ـ نسر.

والأصنام التى صنعت لتختص بهذه الأسماء :

سواع : وصنعت على شكل امرأة ، ود : على صورة رجل ، يغوث : على صورة أسد ، يعوق : على صورة حصان ، ونسر على صورة طائر النسر وفى النهاية كانت تلك الأصنام التى عبدتها القبائل العربية البدوية على أشكال الحيوانات المذكورة.

بدء ظهور عبادة الأصنام على وجه الأرض

لم يكن على وجه الأرض أحد من بنى البشر يعبد الأصنام حتى تاريخ رفع سيدنا إدريس إلى السماء وأصبح مظهرا للسر الإلهى القدسى.

__________________

(١) المقصود بهذه الصور هى صور الخمسة أشخاص الذين سلف بيانهم ويروى ـ على نحو ما سنبينه فى محله ـ إن أحدهم سيدنا إدريس والأربعة هم خلفاؤه ، أو أولاد سيدنا آدم أبى البشر.

٣٥٣

وبناء على قول المؤرخين فإن رفع إدريس إلى السماء كان بعد هبوط سيدنا آدم أبى البشر ب ١٤٧٢ سنة وكان أبوه يزد يبلغ من العمر ٥٢٩ سنة فى ذلك الوقت وكانت ذاته النبوية على اختلاف الروايات ٣٢٥ أو ٣٧٠ أو ٤٥٠ أو ٣٦٥ سنة من عمره وبعد هذه الواقعة ظل يزد والده على قيد الحياة مدة ٤٣٥ سنة أخرى.

ومع اعترافنا بأن الله قادر على كل شىء ، فإن بقاءه على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة أمر خارق للعادة ولهذا لو حكمنا بأن هذه الروايات لا تخلو من الخطأ فإننا نعتقد أن أحدا من القراء لن ينتقدنا ولن يخطئنا.

وعند ما أصبح سيدنا إدريس مظهر الله الجليل (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (مريم : ٥٧) لم يحتمل أحد خلفائه المخلصين ألم الفراق وأخذ يصيح ويصرخ حتى وصل صوت صراخه إلى الملأ الأعلى وأزعج سكانه.

وذات يوم ذهب إبليس اللعين إلى حجرة الخليفة المشار إليه وقال له : أيها العاشق المشتت القلب والوجدان ما أصعب تحمل نار الفراق الحارقة وإيجاد حل لهذا الأمر من أصعب الأمور بل هو مستحيل.

فإذا ما رسمت صورة تحتوى على شمائل حضرة إدريس ثم تضعها فى مكان ما فى حجرتك وأبرزتها بحيث تشاهدها أمامك دائما وتتذكر أوقات مصاحبته لك لعلك تجدد الود المؤثر لآلام فراقك. قال هذا وصنع صورة الجسم لسيدنا إدريس وقدمها لهذا المحب الوفى المتحسر.

وكان ذلك الخليفة صافى القلب ساذجا غافلا عما يهيئ له إبليس من شر ودسيسة وفى نفس الوقت ثملا من شراب فراق إدريس فأخذ الصورة الخالية من الروح التى قدمها له الشيطان ، وظل ينظر لها إلى أن حان أجله.

وبهذه الطريقة خفف من نار الشوق لكنه لم يعلن لأحد قط حقيقة الأمر. حيث ظل على هذه الحال طوال فترة حياته.

وعند وفاة الخليفة عجز الناس الذين رأوا هذه الصورة فى حجرته الخاصة عن معرفة صاحب الصورة وعن سبب وجودها فى حجرة الرجل فظلوا فى حيرة من أمرهم.

٣٥٤

ورأى الشيطان أن الفرص سانحة فى هذا الوقت لغواية البشر وإضلالهم فتمثل فى هيئة رجل من الزهاد العابدين وتوجه إلى حيث يجتمع الحيارى فى فهم كنه الصورة التى وجدت فى غرفة الخليفة فتحدث قائلا : إن فى رأيى أن هذه الصورة ـ وحاشا ـ صورة الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالق السموات والأرض.

ولا شك أن العبادة الخفية أكثر قبولا عند الله ، لهذا كتم عنا حضرة إدريس ـ عليه السلام ـ وخليفته الذى ترك ملذات الدنيا وأخفيا تعبدهم لهذه الصورة وبهذه المقدمة دفع الناس إلى الضلالة وأراهم أول طريق للضلالة.

وانخدع الناس بمظهر الشقى الأبدى المتخفى فى زى المتصوفة وأعدوا صنما وأخذوا يمارسون طقوس عبادة الأصنام.

وقد نقلت هذه الحكاية عن مؤلف (روضة الصفا مولانا محمد خاوند).

والشخص الذى قال عنه إنه أحد خلفاء سيدنا إدريس هو الحكيم أسقلينوس أعقل وأرشد خلفائه وأفضلهم إلا أن عبارة : «أخذ من الشيطان الصورة المجسمة لسيدنا إدريس ولم يغيبها عن نظره» ، لا بد وأن تكون غير صحيحة لأن سيدنا إدريس اتخذ لنفسه أربعة من الخلفاء هم «إيلادس» و «أوس» و «أسقلينوس» و «بسلوخس» وأسند إدريس ـ عليه السلام ـ لكل واحد منهم إدارة جهة من جهات الدنيا الأربع ، وكان «أسقلينوس» أكثرهم زهدا وورعا ؛ لذا نال لقب خليفة الخلفاء.

وفى أثناء رفع سيدنا إدريس إلى السماء كان «أسقلينوس» فى بلاد اليونان ، مركز الجهة التى كلف إدارتها ولما علم بالأمر ظل يبكى وينوح لفترة طويلة وأزعج الناس فى الدنيا ببكائه ونواحه ، وفى النهاية قام بعمل رسمين مجسمين لسيدنا إدريس ـ عليه السلام ـ أحد الصورتين وهو جالس على كرسى والأخرى وهو يرفع يده إلى السماء واعتاد فى أثناء عبادته أن يلقى نظرة على هذين الرسمين.

٣٥٥

وبما أنه لا شك فى أن «أسقلينوس» كان مؤمنا موحدا بالله فلم يكن هدفه من إقامة الصورتين المجسمتين عبادة الأصنام وإنما كان من أجل تعظيم سيدنا إدريس وتوقيره.

ولكن وآسفا!! عند ما توفى «أسقلينوس» لم يستطع «صاب بن إدريس» وسائر الحكماء البلهاء أن يدركوا نيته وعقيدته وحملوا ما فعله هذا على أنه من عبدة الأصنام وبعد مدة بنوا بيوتا للأصنام ونظموها وأصبحوا من عبدة الأصنام وثملوا إذ شربوا من خمر الضلال واتخذ كل واحد منهم صنما فأضلوا الناس وحملوهم على عبادة الأصنام.

وقال بعض المؤرخين : إن ابتداع الأصنام كان أولا بين أبناء قابيل ، وقد ابتدعت فى زمن حكم (اليارد بن مهلائيل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه السلام).

وطبقا للنتائج التى أسفرت عنها الدراسات التى قام بها ناقل هذه الرواية إن أبا شيث ـ عليه السلام ـ قد تلقى أمرا خاصا من سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ لكى يخفى التابوت الذى وضع فيه أبو البشر عن أولاد وأحفاد قابيل.

وبسبب هذا الأمر نقم أولاد قابيل على شيث ـ عليه السلام ـ واتجهوا للعمل ضده ولهذا ظلوا لفترة طويلة يظهرون عدم رضاهم ويبدون علامات الألم والضيق.

ولأن هذا الأمر كان سببا كافيا لدى إبليس اللعين لضلالة الناس ، فقد أقام تمثالا مباركا لسيدنا أبى البشر ، وضعه فى تابوت ، ثم أعطاه إلى أحفاد قابيل قائلا لهم : إن الشىء الذى أخفى عنكم هو نفسه هذا الشكل فأخذه الأحفاد وهدأ هذا الشكل المجسم من روعهم بعد ما رأوه لفترة ، وبعد ذلك سعى كل واحد منهم إلى الحصول على صنم. ثم أصبحت بدعة أن يوجد صنم فى منزل كل إنسان وفى مركز ومجمع كل قبيلة تابوت على صورة خاصة.

وأظهروا جميعا لها الاحترام الشديد والتوقير والتعظيم وأخذوا يعبدونها حيث أصبحت من الضرورات الدينية بين آل قابيل.

٣٥٦

والأصنام التى عبدت فى زمن نوح ـ عليه السلام ـ هى : ود ، سواع ، يعوق ، يغوث ونسر ، صنعت على غرار الأصنام التى عملت فى زمن أبناء قابيل.

وكما حقق وصف حضرة إسماعيل حقى ـ قدس سره الجلى ـ مؤلف «روح البيان» فأسماء هذه الأصنام الخمسة هى أسماء أولاد سيدنا آدم من صلبه ، وإنه بواسطة الشيطان اللعين ، قد عمل نموذجا لكل واحد منهم ، وكان ذلك فى عهد يارد بن مهلائيل ، وظلت تعبد حتى عهد نوح ـ عليه السلام.

وعند ظهور طوفان نوح دفنت هذه الأصنام فى الأرض واختفت عن العيون. ورغم هذا فإن إبليس الملعون أخرجها من باطن الأرض فى فترة من الفترات ـ ولما نقلت إلى مكة المكرمة برأى ومشورة «عمرو بن لحى بن قمعة بن إلياس بن مضر» أخذ الناس يتعبدون لها ثم اتخذها كل عرب الجاهلية آلهة لهم وظلوا يعبدونها إلى البعثة النبوية لخير الورى عليه أفضل التحايا.

وكانت قبيلة هذيل تعبد سواع وقد اتخذت طقوسا خاصة بها ونظمت مواسم حج وزيارة لإلهها سواع رغم القبائل الأخرى المخالفة.

وحسبما قال فاضل أبو الفوز البغدادى فإن الأسماء التى أطلقت على الأصنام المذكورة هى أسماء الصالحين الخمسة السالفة التعريف والذين كانوا على قيد الحياة فى عهد «يارد أو يرد» والد سيدنا إدريس ولما توفى هؤلاء الخمسة فى عهد يارد فى خلال شهر واحد الواحد تلو الآخر ، تأثر الناس أعظم التأثر وأبدوا مظاهر الحزن والألم لوفاتهم وعندئذ ظهر شخص يتصل نسبه بنسب قابيل فأقام تماثيل لهؤلاء الخمسة وأطلق على كل واحد منها اسم أحدهم ووضعها فى ميدان الميادين.

وأخذ الخزانى يزيلون حزنهم وألمهم بالطواف حول هذه التماثيل وفى هذه الفترة كان طواف الناس حول التماثيل لإظهار التعظيم والتوقير والحب لهؤلاء الصلحاء الخمس وفيما بعد اتخذ الناس هذه التماثيل آلهة يعبدونها واستمرت هذه الحالة إلى زمن نوح ـ عليه السلام.

٣٥٧

وادعى بقى بن مخلد أن هذه الأسماء انتقلت إلى الهنود وأطلق الهنود هذه الأشياء على أصنامهم العظام.

ولما كان فى داخل كل صنم هندى جن يخبر المتعبدين بأخبار الغيب كان يظن الهنود أن أصنامهم تتكلم وتتحدث وتسمع.

ولما بدأت أصنام مكة أيضا تخبر مشركى قريش ببعض الأخبار عما سيحدث فيما بعد اعتقدوا مثل الهنود أن أصنامهم تنطق وتتحدث.

الكلمات المسموعة من أصنام أهل مكة

قال سيدنا عبد الله بن عباس وهو يتحدث عن سبب إسلام عمر الفاروق : وعد سيدنا عمر بن الخطاب صناديد قريش بقتل الذات النبوية الشريفة وذهب إلى بيت فى داخله صنم يتعبد له بعض البلهاء من بنى خزاعة ، ذهب ليؤكد لقريش بالقسم أمام الصنم بأنه سيوفى بوعده.

وبينما كان سيدنا عمر يستعد للقيام بقسمه صدر من داخل الصنم صوت هاتف. وقد تعجب أفراد قريش من صدور مثل هذا الصوت وأنصتوا فى قلق وخوف وحيرة لما يقوله الصنم فأدركوا أنه يردد الأبيات الآتية :

شعر

يا أيها الناس ذو الأجسام

ما أنتم وطايش الأحلام

ومسندو الحكم إلى الأصنام

أصبحتمو كراتع الأصنام

أما ترون ما أرى أمامى

من ساطع يجلو دجى الظلام

قد لاح للناظر من تهامه

حتى بدا نورا بأرض الشام

محمد ذو البر والإكرام

أكرمه الرحمن من أمام

قد جاء بعد الشرك بالإسلام

يأمر بالصلاة والصيام

والبر والصلات للأرحام

ويزجر الناس عن الآثام

فبادروا سبقا إلى السلام

بلا نفور وبلا إحجام

٣٥٨

وتفرق القرشيون الموجودون فى معبد الأصنام المذكور كما تتفرق صغار الحجل ، واتجه كل واحد منهم إلى ناحية ، بينما اتجه الفاروق الأعظم ـ رضى الله عنه ـ إلى بيت أخته فاطمة بنت الخطاب ، ومن هناك إلى بيت حمزة وعلى قول إلى دار الأرقم ابن الأرقم. ولكن قبل وصوله إلى ذلك البيت السعيد المشار إليه قابل رجلا من بنى سليم فقال له ما يدور فى نفسه. وحينئذ استصوب الرجل أن يذهب عمر قبل اتخاذ أى قرار إلى صنم قبائل بنى سليم الذى اتخذوه إلها والمسمى ب ضمار (١) ليفصل فى القضية ، وهكذا توجه الرجل إلى بيت أصنام بنى سليم ، ولكن عمر سمع منه الأبيات الآتية فحطم ضمار الضخم من شدة غضبه.

شعر

أودى الضمار وكان يعبد مرة

قبل الكتاب وقبل بعث محمد

إن الذى ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهند

سيقول من عبد الضمار ومثله

ليت الضمار ومثله لم يعبد

أبشر أبا (٢) حفص بدين صادق

تهدى إليه وبالكتاب المرشد

واصبر أبا حفص قليلا إنه

يأتيك عز فوق عز بنى عدى

لا تعجلن فأنت ناصر دينه

حقا يقينا باللسان وباليد

وبعد ما حطم سيدنا عمر ضمار وجعله ألف قطعة ، قد تحولت العداوة التى كان يضمرها للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مودة أبدية ؛ لهذا رجع فورا إلى المنزل أخته ومن هناك إلى دار ابن الأرقم السعيدة بصحبة زوج أخته ، ودخل فى دائرة الإسلام المنجية على النحو المذكور فى كتب السيرة بالتفصيل. رضى الله عنه.

ـ حكمة :

وائل بن حجر «بن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمى» أحد الصحابة الكرام (٣) ، ومن ملوك حضر موت المشهورين كان يعبد صنما لامعا من العقيق

__________________

(١) ضمار على وزن كتاب وهو الصنم الذى كان يعبده عباس بن مرداس وقومه.

(٢) كنية سيدنا عمر.

(٣) انظر ترجمته فى الإصابة ٦ / ٣١٢.

٣٥٩

الأحمر ، وكان يسجد احتراما وتوقيرا له وكان يذبح له قرابين كثيرة كل يوم بغية نيل رضاه.

قال هذا الصحابى : كنت نائما فى قصرى وقت الظهر فى يوم من الأيام ، فاستيقظت إذ سمعت صوتا حادا يصدر من خزانة الصنم ، فوثبت من فوق سريرى وأخذت أسجد بجانب الصنم ، فسمعت فى ذلك الوقت هذه الأبيات التى تخرج من بطن الصنم.

الأبيات :

يا عجبا لوائل بن حجر

يخال يدرى وهو ليس يدرى

ماذا يرجى من نحيت صخر

ليس بذى عرف ولا ذى نكرى

ولا بذى نفع ولا ذى ضر

لو كان ذا حجر (١) أطاع أمرى

وعند ما سمعت هذا الشعر رفعت رأسى وقد ملأنى العجب والحيرة وما لبثت أن قلت :

يا أيها الناصح ـ بما تأمرنى؟ فسمعت صوتا يقول فى عبارات منظومة :

«شد الرحال إلى يثرب المباركة .. حيث يكثر النخيل .. فليس لفضلها حصر».

وفى نهاية الشعر المذكور سقط الصنم على وجهه وتحطم وتفتّتت أجزاؤه ، وعقب ذلك ارتحلت إلى دار السكينة المدينة المنورة وأسرعت بالدخول فى المسجد النبوى الشريف ، ودعانى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبسط طرف ردائه المبارك ، وأقعدنى عليه ثم صعد المنبر وألقى خطبة بليغة وقال عقب الخطبة : «أيها الناس إن هذا الرجل هو وائل بن حجر ، وقد جاء من بلاد بعيدة كحضرموت راغبا فى الإسلام» وما لقيت بعد ذلك رجلا من الصحابة فى المدينة إلا وقال لى : يا وائل إن النبى ـ عليه صلوات الله الأكبر ـ قد بشرنا بمجيئك إلى المدينة المنورة منذ ثلاثة أيام.

__________________

(١) يعنى وائل بن حجر.

٣٦٠