موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٥

فاجعل لها عشا فى الخفاء

عند ما تشاهد فى تصعد زفرتك فى ألم

وفى التو تندم كل الندم

احذر يا من أنت ظل الرحمن

أن تنال النبوة بأى سوء كان

أنت بكل رحمة تغمرنى

لكن فى تلك اللحظة لا ترحمنى

أتعلم ما سوف تؤول إليه الحال

وإذا ما لم تطع أمر الله فى الحال

عند ما سمع إبراهيم ـ عليه السلام ـ هذا الجواب من ابنه قال :

«يا بنى ما أجمل استسلامك لإرادة الله. وأوثق رباط قدمى ابنه ويديه ثم ألقاه على وجهه ، ثم أغلق عينيه ووضع السكين الحار على رقبته البلورية وسحبها بقوة؟ لكن جبريل الأمين بأمر ربه قلب حد السكين فلم يقطع رقبة إسماعيل البيضاء كالفضة.

وفى قول آخر إن سيدنا إبراهيم قيد سيدنا إسماعيل على النحو المذكور وعند ما قلبه على وجهه ، قال إسماعيل ـ عليه السلام ـ يا أبتى! حل رباط يدى وقدمى ، حتى لا أكون قد استجبت لأمر الله مجبرا ، فحل والده وثاق يديه ورجليه ، وأوقفه على قدميه عندئذ نام إسماعيل على جنبه الأيمن وقال : يا والدى الآن ضع سكينك على رقبتى دون أن تشفق على حتى يرى الملائكة أن ابنك إسماعيل قد انقاد لأمر الله وأطاعه كما أطاع والده ويشهدوا بذلك.

وضع سيدنا إبراهيم السكين على رقبة سيدنا إسماعيل ليذبحه وضغط عليه بشدة لكن السكين لم يقطع فغضب حضرة الخليل من السكين وضرب حده فى صخرة عظيمة فشطرها نصفين فتعجب إبراهيم وقال : «ترى ما الحكمة؟ وأخذ يفكر فى الأمر وبينما هو كذلك سمع هاتفا ذا خطاب مستطاب» يا إبراهيم قد

٢٤١

صدقت الرؤيا وقد أرسلنا لك كبشا ليكون بدلا وفداء لابنك ، وظهر جبريل الأمين عند صفح جبل ثبير ومعه كبش عظيم وحمل سيدنا إبراهيم الكبش إلى مكان مسجد المنحر وبعد أن كبر هو أولا والكبش ثانيا ثم سيدنا إسماعيل أرقده على الأرض وذبحه قربانا لله!!.

نظم

أخذ الفزع كل مأخذ من نبى الله

وسرعان ما ستر وجهه وأخفاه

وفى هيبة أخرج شفرة كالهلال

ليذبح من هو البدر فى الجمال

الشفرة على رقبة إسماعيل وضعها

فما أثرت فيها وما قطعها

وشحذه على الحجر فانشطر فى الحال

وأصبح جزءين من النّخالة

وأنزل من السماء كبشا جميلا

فذبحه بدلا منه فى الحال

وفى رواية أخرى «بينما كان سيدنا إبراهيم مندهشا مما حدث كان ابنه المطيع على الدوام لكل أوامر الله سبحانه يقول يا أبى ما بك حتى إنك تتكاسل عن إنفاذ أمر الله سبحانه؟ فلما أجابه «إن السكين لا يقطع» قال له إذا كان الأمر كذلك فاضرب رأسى بمقبضه حتى تنفذ مهمتك بهذه الصورة» ، وبهذا بين له ابنه الطريقة التى يتبعها فى إنجاز مهمته وبينما كان الأب الرحيم يهم بفداء ابنه بأن يضرب على رأسه بمقبض ذلك السكين الذى فى يده إذ جاءه الهاتف. «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا لقد أرسلنا لك كبشا ليكون فداء لابنك ـ دع إسماعيل وأمسك بهذا الكبش الذى تراه فى ذلك الجبل واذبحه بدل ابنك وفى لحظة سماع عبارة يا

٢٤٢

إبراهيم قد صدقت الرؤيا سقط السكين الذى فى يد الخليل الجليل على الأرض من رهبة الصوت المذكور.

وكان سيدنا جبريل ممسكا بالكبش سابق الذكر من أذنه ، وأراه لسيدنا إبراهيم وبإشارة من الرسول الجليل كبر الكبش كما بينا سابقا ، وقد نبه هذا التكبير إسماعيل عليه السلام فرفع رأسه من الأرض التى يرقد عليها ، وقال بلسان عذب العبارة المنجية (الله أكبر ولله الحمد) وأمسك سيدنا إبراهيم الكبش الذى أراه إياه جبريل الأمين وذبحه. وفى رواية أخرى إذ رأى سيدنا الخليل مدى طاعة إسماعيل الذى هو ثمرة بستان عمره واستسلامه لأوامر الله سبحانه وتعالى غشيته الحيرة وقال وهو حزين «يا إلهى ، لقد أنعمت على وأسعدتنى فى آخر عمرى بابن وبعد ذلك أحزنتنى بفراقه إذ أمرتنى بذبحه ولو أن هذه الرؤيا التى رأيتها مصونة من وساوس الشيطان ومقرونة برحمتك ورضائك الشريف سأبدأ فى تنفيذها ، أما إذا كانت ضد إرادتك الإلهية فإننى أنصرف عنها وأستغفرك لك.

ثم وضع حد السكين الذى فى يده على عنق إسماعيل عليه السلام الذى يرقد على الأرض مقيد اليدين والقدمين وسحب السكين ثلاث مرات ولكن فى كل مرة كان حد السكين ينقلب وتنجو رقبة إسماعيل عليه السلام من الذبح وغضب نبينا إبراهيم عليه التحية والتكريم وضرب بالسكين صخرة كبيرة لا يقدر ثلاثون أو أربعون رجلا على تحريكها فانشطرت تلك (١) الصخرة السوداء الضخمة من شدة الضرب إلى نصفين وتدحرج أحد النصفين فى جانب والثانى إلى جانب آخر.

***

__________________

(١) هذه الصخرة موجودة أمام المزار المسمى مذبح إسماعيل ويظهر عليها أثر السكين حتى الآن.

٢٤٣

الشكل السادس

بينما وضع سيدنا إبراهيم السكين على رقبة ابنه واجتهد أن يذبحه أظهر سيدنا إسماعيل لوالده نهاية الطاعة ومنتهى الاستسلام الذى يفوق كل ما أصف. وإذا بصوت مثير للشوق يقول «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ولقد أرسلنا كبشا فداء لابنك فأمسك به واذبحه».

شمس التبريزى

إسماعيل قد جاء به

وجعله قربان كبش له

فاستدار إبراهيم عليه السلام على عقبيه بمجرد أن وصل الصوت إلى مسامعه ورأى عند سفح جبل ثبير كبشا فريدا متناسق التكوين ومن فرط سعادته ترك ابنه إسماعيل ملقى على الأرض مقيد اليدين وذهب للإمساك بالكبش الذى رآه ولكن الكبش المذكور انطلق ناحية مسجد الحنيفة متبعه وألقى فى ثلاثة أماكن سبع جمرات وأمسك به بالقرب من جمرة العقبة ، وأخذه إلى مكان مسجد المنحر وذبحه.

والمواضع التى ألقى فيها سيدنا إبراهيم بالحجارة على الكبش هى الأماكن التى يوجد بها الآن : الجمرة الأولى ، والجمرة الثانية وجمرة العقبة.

وكان الشيطان اللعين قد ظهر لإبراهيم فى تلك الأماكن وحاول أن يصرفه عن تنفيذ الأمر الإلهى ولكن لما رأى نفسه لا يستطيع أن يحقق أمله انسحب إلى ناحية ما خائبا مدحورا. وإشارة إلى هذه الحادثة يرمى الحجاج الكرام الجمرات الثلاث.

قطعة

ما يرمى به إبليس من حجر

إما حصى وإما جمر

وفى المآل إذا قلبت الكلمتان

٢٤٤

فالرجمة تكون جمرة

بينما كان سيدنا إبراهيم منهمكا فى ذبح الكبش عند مسجد المنح ، حل جبريل الأمين وثاق يدى إسماعيل ـ عليه السلام ـ وقدميه وقال له «يا إسماعيل اطلب من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ما تشاء فى هذا الموقف المبارك الذى يستجاب فيه كل الأدعية. وقف سيدنا إسماعيل بين يدى عتبة الرب الجليل وأخذ فى الدعاء قائلا : «يا إلهى أدعوك وأتوسل إليك أن تغفر للمؤمنين الذين أتو إلى الدنيا ثم ذهبوا إلى الآخرة حتى هذه اللحظة» وخلال دعائه جاء والده المكرم وقال : يا بنى أنت مؤيد من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد سمع فى الآفاق صوت الهاتف يقول يا خليل يا أصدق القائلين ويا إسماعيل يا أصبر الصابرين.

حكمة :

إذا قيل ما الحكمة فى إرسال «كبش» فداء لإسماعيل ـ عليه السلام ـ وعدم إرسال ثور أو جمل مثلا؟ نقول إنه أرسل كبش لكى لا يكذب والده إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأنه إذا أرسل جمل أو أى حيوان آخر لما صدق سيدنا الخليل ، لأنه عند ما أخذ إسماعيل ـ عليه السلام ـ طلب منه أن يأتى بحبل وسكين ، ولما سأله إسماعيل عن سبب ذلك قال له أبوه لأننا سنذبح شاة. لذا أنزل كبش دون سائر الحيوانات.

يقول عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ إن الكبش الذي جاء به جبريل الأمين آنذاك كان القربان الذى تقبله الله من هابيل بن آدم ـ عليه السلام ـ ، وقد أخرج من فرعى الجنان قبل واقعة ذبح إسماعيل بأربعين سنة وامتنع عن الطعام والشراب أربعين سنة كاملة إلى أن أنزل إلى مراعى البسيطة.

وكان الكبش المذكور كبير القرنين أسود العينين ولونه يميل إلى السواد وظل القرنان معلقين فوق ميزاب الكعبة المعظمة ، وعلى قول آخر فوق باب المعلا ، إلى وقعة الحجاج الظالم واحترقا فى أثنائها.

وكان المكان الذى شوهد فيه جبريل الأمين مع الكبش فى مضيق منى. وسفح جبل «ثبير» حيث توجد صخور كثيرة. وقد بنى فوقه قبة من الحجر على أربعة قوائم ظنا أن الحجاج يزورون هذا المكان ويطلق على هذه القبة «قبة الكبش» من قبل سكان مكة.

***

٢٤٥

الشكل السابع

استطراد

إن أسلافنا من المؤرخين تناولوا بالبحث الكيفية التى تم بها أمر إسماعيل بالذبح واختلفوا فى هذا الموضوع كثيرا ولكنهم بعد ذلك اتفقوا على كلمة واحدة ، وقالوا : «إن بلوغ خليل الله إبراهيم الرابعة والثمانين من عمره دون أن يكون له ولد مما أحزنه وآلمه. ولذا توجه لربه قائلا : إذا أنعمت على بولد نجيب حليم ـ حتى لا ينقطع نسبى فلكنت أفديه طالبا رضاك وكان هذا نذرا منه ومن فرط سعادته بولادة سيدنا إسماعيل ذا السعادة الباهرة غاب عن ذهنه أن يوفى النذر ، وبعد ثلاث عشرة سنة من الواقعة اقتضى صدور الخطاب الإلهى تنفيذ إبراهيم نذره إذ قال الله سبحانه وتعالى : «يا إبراهيم كنت ستذبح إسماعيل قربانا فلماذا لا توفى بنذرك».

وتردد إبراهيم فى تصديق هذه الرؤيا وظل فى ذلك اليوم حتى المساء يفكر فى هذا الموضوع! لذا أطلقوا على اليوم المذكور يوم التروية».

وإن كان معنى التروية لغة التفكير إلا أنه قد اصطلح على أن يطلق هذا الاسم على اليوم الثامن وأخذ يفكر بعمق فى صباح تلك الليلة وكان اليوم التاسع من شهر ذى الحجة إسماعه الصوت الهاتف : «يا إبراهيم إن إبليس يبعدك عن طاعة الله ، فقرر أن ينفذ أمر القضاء ، وقد عرف أن الهاتف الإلهى يوحى له بإنفاذ الأمر ، ولذا أطلق على هذا اليوم اسم «عرفة». واليوم الثالث وكان اليوم العاشر من ذى الحجة وأطلق عليه يوم النحر لأن إبراهيم عليه السلام بادر فيه بذبح فلذة كبده.

٢٤٦

لاحقة :

الحكمة من أمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ كما ينقلها على بن أبى طالب ـ رحمه الله ـ وقد قال العالم الواقف على سرائر نبينا صلى الله عليه وسلم : إنه بينما كان خالق السموات والأرضين يرى سيدنا إبراهيم عليه السلام السموات والأرض ويوقفه على جمالهما وما فيهما رأى حضرة الخليل ـ عليه السلام ـ رجلا يرتكب معصية ، فلما دعا الله أن يهلكه هلك ذلك الرجل ، وبعد قليل دعا على بضعة أشخاص من المذنبين فلما هلكوا صدر خطاب رب العزة له يا إبراهيم إن دعاءك مستجاب دائما فلا تدع على عبادى فإنهم مجبولون على ثلاث خصال : إما أن يتوبوا وإما أن يسبحوا وإما أن يفوضوا أمورهم ، فإذا شئت غفرت لهم وإذا لم أشأ عاقبتهم ، ويرى البعض أن سبب صدور الأمر لسيدنا إبراهيم أن يذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو إظهاره القسوة على العباد وأنه لم يرحمهم.

وقال جماعة من المفسرين العظام عقب تفسير الآية الجليلة (كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الأنعام : ٧٥) إنه ذات ليلة فى أثناء عروج إبراهيم عليه السلام إلى السماء رأى عبدا عاصيا يرتكب ذنبا فقال : يا رب إن هذا العبد يأكل رزقك ويمشى ويتحرك فوق الأرض التى خلقتها ، ومع هذا يخالف أوامرك فأهلكه!! ولما كان دعاؤه مستجابا فقد هلك ذلك الرجل ثم رأى بعد ذلك مذنبا آخر فلما دعا الله أن يهلكه ، خاطبه الله ـ سبحانه وتعالى ـ معاتبا يا إبراهيم لا تدع على عبادى أمهلم وأمنحهم فرصة ، فإنهم يا إبراهيم كثيرا ما يقترفون الذنوب. وفى تلك الليلة أمر فى رؤياه بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.

ولكى ينفذ سيدنا الخليل الجليل «عليه التحية والتبجيل» ما رآه فى رؤياه ألقى ابنه على الأرض وهو مقيد اليدين فى سفح جبل ثبير على النحو الذى ذكرناه مفصلا فى موضعه ، وعند ما أمسك السكين بيده غلبت عليه رقته فقال : «يا رب

٢٤٧

إن هذا الابن الذى استعد لوضع السكين على عنقه هو ثمرة فؤادى وابنى الغالى. وإنه أحب الناس إلى» ، وكان قصده من هذا أن يعرض على أرحم الراحمين ما بقلبه من رقة وشفقة ، ولما انتهى من كلامه إذا به يسمع هاتفا من الوحى يقول : «يا إبراهيم أنسيت الليلة التى دعوت فيها بهلاك عبادى؟! إذا كنت رحيما بابنك على هذا النحو وأنا أيضا رحيم وشفيق على عبادى ألا تعرف أننى أنا الرحيم؟! لقد أردت هلاك عبادى وأنا فى المقابل أريد ذبح ابنك.

تكليف حضرة الخليل ببناء الكعبة المعظمة :

كانت إقامة إسماعيل ـ عليه السلام ـ مع أمه السيدة هاجر فى الوادى المقدس غير ذى زرع مقدمة لتأسيس قواعد البيت المعظم ، لذا تحمل إبراهيم ـ عليه السلام ـ كل ما سبق ذكره من الصدمات تحملها صابرا دون قنوط. قد أمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ بتأسيس كعبة الله. قبل ولادة إسحاق ـ عليه السلام ـ بثمانية أو (١٤) أو (١٨) أو (١٧) عاما (١) وبعد حادثة الذبح بسبعة أو (١٣) ، أو (١٧) أو (١٦) (٢) عاما (٣).

وبما أنهم لا يعرفون حسب عجزهم البشرى مكان بيت الله فقال رب العزة «يا إبراهيم اتبع سكينة» وهى ستدلك على مكان الكعبة.

ذلك لأن الموضع المقدس لكعبة الله كان معروفا للبشر حتى طوفان نوح الذى أغرق الدنيا غطّى الطوفان ببحر رماله مكان البيت فتركه مجهولا بدون أية علامة ، ومع هذا فإن السيول التى تكونت من شدة هطول الأمطار كانت تتحاشى الأرض المباركة للبيت الشريف وتطوف من حول أركانها الأربعة. والذين رأوا هذه العلامة الميمونة عرفوا أن هذا المكان بالذات مكان مبارك مقدس واعتقدوا

__________________

(١) القول الثالث مرجع على القول الأول والثانى.

(٢) الرواية الثالثة مرجحة على الروايات الأخرى.

(٣) كان عمر إسماعيل فى ذاك الوقت ثلاثين أو عشرين عاما كما أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان قد دخل فى المائة من عمره المبارك.

٢٤٨

فى ذلك. حتى إن المرضى والمظلومين والمهمومين كانوا يطوفون بهذا المكان ويرون أن أدعيتهم قد استجيبت.

عند ما كلف سيدنا إبراهيم ببناء وتشييد كعبة الله بوحى من الله الكريم وتشرف بخطاب رب العزة أن اتبع السكينة ركب البراق الذى نزل من السماء وسار مستظلا بظل السكينة سالفة الذكر.

وكانت «السكينة» المذكورة ريح (١) عجيبة الآثار فى صورة حية ذات رأسين أسمها حجون. كما أن لها رأس وأيضا جناحان وقد ظهرت على شكل سحابة ذات أربعة أركان وكانت بحجم الكعبة المعظمة وأوصلت «السكينة» إبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة ووقفت فوق أرض وساحة البيت الشريف وقالت بلسان حالها إن المكان الذى تظله هو الموضع الأنور لبيت الله المقدس.

وكانت السكينة المذكورة تبدو أحيانا على هيئة أسد أو على هيئة جمل ، وكانت تجيب على أسئلة إبراهيم ـ عليه السلام. سارع حضرة الخليل بمعاونة ابنه إسماعيل تحت إرشاد السكينة التى بينت لهما حجم البيت ومكانه أسرعا فى حفر وتعميق أسس البيت المعظم.

وعند ما عزم إبراهيم ـ عليه السلام ـ على الذهاب (٢) إلى مكة المكرمة متتبعا «السكينة رجته زوجته المحترمة السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ ألا يقابل السيدة هاجر ولا يكلمها ، وعند ما اهتدى إلى الموقع الأنور للبيت الأعظم الذى دلته عليه السكينة وعرفه ، ذهب إلى دار ابنه السعيدة إسماعيل ـ عليه السلام ـ ودق الباب فردت زوجة ابنه قائلة ماذا تريد؟ سألها عن سيدنا إسماعيل وأمه الرحيمة هاجر ، وعرف منها بخروج إسماعيل إلى الصحراء للصيد كما علم بوفاة (٣) هاجر

__________________

(١) يقول الإمام الكلبى إن هذه الريح كانت سحابة على شكل رأس إنسان.

(٢) هذه هى المرة الثالثة التى يذهب فيها حضرة الخليل إلى مكة.

(٣) كانت السيدة هاجر عند وفاتها فى الستين من عمرها ، وكان ابنها إسماعيل قد بلغ العشرين من العمر.

٢٤٩

ودفنها فى المكان المسمى (١) حجر إسماعيل ، رجع إلى الحرم الشريف ، واغتسل بماء زمزم ثم انتحى وجلس ينتظر قدوم ابنه.

وعند ما رجع إسماعيل ـ عليه السلام ـ من الصيد وجد والده فى انتظاره عند بئر زمزم فصافحه وقبّل يده ، ثم أحضر مقدارا من الحليب واللحم المطبوخ واستضافه. وبعد أن أكل سيدنا إبراهيم الطعام الذى أعده ابنه إسماعيل قال له : «يا بنى إن الله قد أمرنى برفع قواعد بيته ـ عز وجل ـ فوق تلك الربوة الحمراء ، فساعدنى فى إنجاز هذا الأمر وأفهمه أنه مكلف بوضع أساس بناء كعبة الله ، وشرع بسم الله فى تعميق الحفرة بعون إسماعيل عليه السلام.

وفى قول آخر إنه عند ما خرج سيدنا الخليل من بيته السعيد كلف الله «السكينة» سالفة الذكر وطائرا سريع الطيران وملكا ليرشدوا إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى موضع الكعبة المباركة ، وعند ما وصلوا إلى مكة المشرفة وقفت «السكينة» المذكورة فوق ساحة البيت المعظم وقالت لإبراهيم : «إن كعبة الله التى أمرت بتأسيسها وبنائها فى المكان الذى يحيط به ظلى». وهكذا رأى مكان بيت الله المقدس وعينه.

وكان مع حضرة إبراهيم سبع من الملائكة يعاونون فى ذلك الوقت. وكان الموضع الذى أرته إياه «السكينة» ذا أربعة أركان غير متساوى الأضلاع. وبعد مدة قد أطلقوا على أحد أركانه الركن الشرقى يعنى الحجر الأسود وعلى الركن الآخر الركن العراقى وعلى الركن الثالث الركن الشامى وعلى الركن الرابع الركن اليمانى.

إخطار :

إن الموضع الحقيقى لبيت الله كان ذا ثلاثة أركان وذلك إيماء إلى أن فى قلوب الأنبياء العظام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثلاث خواطر وهى «إلهية وملكية ونفسية» وأن قلوبهم لن تفتح لأية خاطرة أخرى غيرها ثم شاءت الإرادة الإلهية

__________________

(١) يوجد داخل الحطيم الكريم وتحت الميزاب الذهبى ويشار إلى مكانه بعلامة وهى حجر أخضر.

٢٥٠

أن يشيد بناؤه أربعة أركان وكان هذا إشارة إلى إمكان وجود أربع خواطر فى قلوب المؤمنين.

(روح البيان).

والطرف الشرقى لكعبة الله فيما بين ركنى الحجر الأسود والعراقى يميل قليلا إلى الشمال وفى هذه الجهة من بيت الله مقام إبراهيم ، بئر زمزم ، باب بنى شيبة.

وجهة الشمال ما بين الركن العراقى والركن الشامى تميل بعض الشىء ناحية الغرب ويقع حجر إسماعيل والميزاب الذهبى والمقام الحنفى الكائن محل دار الندوة فى هذا الجانب من البيت الأعظم ، والجانب الغربى ما بين الركن الشامى والركن اليمانى يميل قليلا ناحية الجنوب ويقع فى هذا الجانب من بيت الله عز وجل الباب المسدود الغربى ، وباب العمرة باب الوداع ، وباب إبراهيم.

وجهة الجنوب ما بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود ، وهى مائلة بعض الشىء ناحية الشرق ويوجد فى هذه الجهة من الكعبة المعظمة باب الصفا وكل الأبواب الجنوبية وبناء على ما يتضح من الشكل التالى للساحة المطهرة للكعبة المعظمة نجد أن طول المسافة بين ركن الحجر الأسود إلى الركن العراقى ٣١ ذراعا ومن الركن الشامى إلى الركن اليمانى ٣٢ ذراعا والطول من الركن العراقى إلى الركن الشامى ٢٢ ذراعا ومن الركن اليمانى إلى ركن حجر الأسود ٢٠ ذراعا.

٢٥١

مساحة هذا الشكل قد قيست بالمقياس المسمى «ذراع اليد» والمقياس المذكور يساوى المسافة ما بين مرفق الرجل إلى طرف الإصبع الأوسط فى يده.

وبما أن كل الذين قاموا بقياس المسجد الحرام قد استخدم كل واحد منهم ذراعه الشخصى لذا لم يوافق مقياس أحدهم الآخر.

مثلا : إن صاحب تشويق الساجد وجد أن ارتفاع «الكعبة المعظمة» الأعلى ٢٧ ذراعا وستة أصابع بينما وجد الإمام النووى ارتفاعها ٢٧ ذراعا فقط كما ضع فى كتاب الإيضاح ووافق مؤلف تاريخ خميس على مقياس الإمام السابق ، لأن ذراع اليد يختلف من شخص إلى آخر. ولا يعد مقياسا متفقا عليه.

يقول مؤلف هذا الكتاب إننى قد اختبرت كثيرا من الأذرع وقمتها فوجدتها مساوية لسبع عشرة بوصة إنجليزية واعتبرت هذا هو المقياس المتوسط للذراع وحولت متوسط طول الأذرع إلى القدم الإنجليزى وقست به الأماكن المقدسة ، وبما أن المقياس الذى يطلق عليه «ذراع اليد» لا يشبه الذراع الحديدى ولا الذراع العادى ، يجد الإنسان صعوبة فى تعيين المقياس الصحيح ولكن القدم الإنجليزى يمكن تحويله بسهولة لأى نوع من أنواع الأذرع وبهذا التقدير يقتضى أن يكون الطول الشرقى للكعبة المعظمة الذي يظهر في الشكل المذكور أعلاه وهو ٤٤ قدما و ٦ بوصات والطول الغربى أيضا ٤٣ قدما ١١ بوصة وعرض الجانب الشمالى ٣١ قدما وبوصتان وعرض الجانب الجنوبى ٢٨ قدما و ٤ بوصات.

ابتدأ نبينا حضرة الخليل «عليه الصلاة والسلام» فى حفر المكان الذى بينته له السكينة بمقتضى الإرادة الإلهية الحكيمة ، ونقل الأحجار من جبال لبنان ، وطور سينا ، طور زتيا ، والجودى ، وحراء (١) بمساعدة الملائكة وبعد أن انتزع صخورا ضخمة لا يستطيع ثلاثون أو أربعون رجلا أن يرفعوها من مكانها إلى أن وصلوا إلى الأساس القديم الذى وضعه سيدنا آدم أبو البشر. وأخذ فى بناء الجدران جاعلا مبدأ الطواف المكان الذى وضع فيه الحجر الأسود الذى أتى به جبريل الأمين من جبل أبى قبيس ـ وما زال فى مكانه إلى الآن.

__________________

(١) قد وضع أبو البشر أساس البيت الحرام بالحجارة من نفس الجبال المذكورة.

٢٥٢

وكان الحجر الأسود قد أودع أمانة فوق جبل أبى قبيس فى واقعة طوفان نوح.

وقد أخذه جبريل الأمين من الجبل المذكور وأحضره إلى سيدنا إبراهيم الذى رأى أن يجعله بتفكيره الصائب والرفيع علامة بداية الطواف فوضعه فى جدار الركن الشرقى للكعبة المعظمة.

وما زال إلى الآن فى المسجد الذي فوق قمة جبل أبى قبيس حجر أمام المحراب يزوره الناس على أنه كان الموضع الذى حفظ فيه الحجر الأسود فى وقت طوفان نوح.

وفى قول آخر إن إسماعيل ـ عليه السلام ـ وجد حجرا رآه مناسبا ليكون علامة بداية الطواف بناء على رأى والده ومشورته ولكن الحجر لم يعجب سيدنا إبراهيم وذهب للبحث عن حجر آخر وفى هذه اللحظة نطق جبل أبو قبيس وقال : «يا إبراهيم لدى حجر محفوظ أمانة لك وأظنه الحجر الذى تبحث عنه ليكون بداية الطواف ولا بد أنه الأمانة الكبرى المحفوظة عندى» وأخذ حضرة الخليل عليه صلاة الله الجليل ، الحجر المذكور بنفسه ووضعه فى المكان الذى أعده.

قطعة :

الخليل الجليل الذى أرسله الحق إن شمل الجماد برحمة فنطق ولا ريب أن بيت الله إذا تكلم حجر الركن بالكلام فاه ونار الشوق أبو قبيس تحرق أمام جمال الكعبة فذاك أليق

٢٥٣

نظم

تقوم الدار بحجر فوق حجر

وبذاك اللون أو بلون آخر

محل برعم تفتح فى روضة الخليل

أنار به للخليل الجليل

ونادى أبو قبيس فى العلاء

قائلا سمعت منه ذاك النداء

إن طوفان هذه الدنيا مسح

وهذا البيت للسماء تفتح

ذلك البيت وجبريل الذى أنزله

إن لدى حجرا وديعة أحمله

وبيعتى حتى تسلموها

وفى موضع شئتم ضعوها

(فتوح الحرمين).

ارتفعت جدران البناء المبارك للكعبة المعظمة ، وعند ما رأى إبراهيم ـ عليه السلام ـ أنه فى حاجة إلى استخدام إسقالة عثر على حجر واستخدمه في مكان الإسقالة وهذا الحجر الشريف هو الحجر القيم الذى غسلت فوقه رعلة بنت عمرو بن جرهم حماها إبراهيم عليه السلام.

ويعرف هذا الحجر المبارك في ساحة المسجد الحرام باسم مقام إبراهيم الآن وقد استخدمه إبراهيم ـ عليه السلام ـ إسقالة عند بناء البيت وارتفعت جدران

٢٥٤

البناء السعيد لبيت الله وكان المقام الشريف المذكور يرتفع مع ارتفاع البناء وعند ما ينزل إبراهيم إلى الأرض كان يعود إلى هيئته الأصلية.

وقد ذكر شكل وصورة الأبنية التى أقيمت فوق المقام الشريف المذكور فى الصورة الأولى من الوجهة السابعة.

وعند ما وصل ارتفاع جدران الأبنية الشريفة لبيت العزة إلى تسعة أذرع ترك حضرة الخليل سقفه مفتوحا وألحق جانب باب المعلا إلى أرض المطاف وصنع سقفا من الخشب متصلا بالبيت والمسمى بحظيرة أغنام إسماعيل. وحفر حفرة كبيرة العمق ثلاثة أذرع فى الأرض التى تقع جهة يمين الداخل فى بيت الله ، لكى يوضع بها الهدايا التى ترسل من الأطراف والأكناف وبذلك أتم بناء كعبة الله المعظمة سنة ٣٥٧٤ ق. م.

والمكان المسمى حظيرة أغنام إسماعيل يطلق عليه الآن اسم «حجر إسماعيل» وهذا المكان الشريف هو مدفن السيدة هاجر.

ويروى المؤرخون الكرام أن البقعة السعيدة للكعبة المعظمة ظل بابها دون مصراع ولما مر بها الملك الحميرى قام بأداء الحج والزيارة ولما رأى باب الكعبة بدون مصراع ركب بابا خشبيا عليه مفتاحه كما علق فوق البناء المقدس كسوة مزينة ، كما جاء بيانه فى الصورة الثالثة من الوجهة الرابعة.

وفى أثناء قيام سيدنا إبراهيم ـ عليه التحية والتكريم ـ بحفر أساس الكعبة المعظمة رأى حجرا بين أحجار الأساس القديم وكان مكتوبا عليه العبارة البديعة التالية «أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من أسمائى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». وترجمة هذه الفقرة المترجمة للعربية باللغة التركية» أنا الله صاحب مكة خلقت الرحم وجعلته اسما من أسمائى وهو الرحمن. وكل من يتصف بهذه الصفة ويعمل بمقتضاها أجزيه جزاء حسنا ، وكل من يخالفها أعاقبه أشد العقاب».

٢٥٥

ويروى «الإمام الواقدى» أن الحجر المذكور حجر أخضر اللون وكتب عليه السطور الآتية ونقلها على أنها من جملة تدقيقاته.

السطور التى نقلها إلينا الإمام الواقدى هى :

١ ـ السطر الأول : «لا إله إلا أنا رب البيت مغلبها وهى قرار ومرخيها وهى قفار».

٢ ـ السطر الثانى : «لا إله إلا أنا رب البيت مهلك الطغاة ومفقر الزناة ومخزى تارك الصلاة».

٣ ـ السطر الثالث : «أنا الله لا إله إلا أنا رازق من لا حيلة له حتى يعلم من له حيلة أن لا حيلة له».

وبعد أن فرغ إبراهيم ـ عليه السلام ـ من بناء كعبة الله المقدسة رفع يديه وابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ متجهين إلى أبواب رحمة الله راجين منه ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون ما قاموا به رهن قبول معطى العطايا.

وبعد هذا نزل جبريل ـ عليه السلام ـ باسطا أجنحته وقال «إن عملكم قد حاز القبول عند الله» ثم تقدمهما وعلمهما مناسك الحج.

وأدى إبراهيم ـ عليه السلام ـ مقتديا بجبريل ـ عليهما السلام ـ فريضة الحج ، وثبت جميع شروط الحج ومناسكه فى خزينة حافظة ثم ودع ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ عازما على العودة وصعد فوق قمة جبل الرحمة ونظر مرة إلى جهة بلاد الشام وأخرى إلى ناحية مكة المعظمة السعيدة وتذكر جودة جو الشام ولطافة هوائها وعذوبة مائها ومر بخاطره حرارة الحجاز الشديدة المتعبة فتأسف على بقاء ابنه فى هذا المكان الذى تحيط به الحجارة ودعا له طويلا. ثم ضغط برجليه على المهماز قاصدا ناحية الشام. وفى هذه الفترة صدرت الإرادة الإلهية «أذن فى الناس بالحج» وهكذا أمر بدعوة الناس إلى الحج فأخرج رجليه من المهماز وقال مخاطبا ربه : «يا ربّ قد فرضت طواف البيت على عبيدك وأمرت عبدك المطيع هذا بدعوة هؤلاء جميعا لينالوا من هذه المائدة العامة نصيبهم ولكننى كيف

٢٥٦

أستطيع أن أدعو هؤلاء جميعا حتى يؤدوا مناسك الحج والطواف آتين من الشرق والغرب» فتلقى هذا الجواب ذا الحكمة : «يا إبراهيم؟ فإذا ما دعوتهم بصيحة عالية فإننا نوصل صوتك إلى آذان الخلائق كلهم».

حينئذ اتجه للجهة اليمنى من باب الكعبة السعيدة حيث كان قد ترك المقام الشريف وصعد فوق الحجر حتى صار مساويا للجوهر وسد أذنه بأصابعه وصاح متجها إلى الشرق والغرب : «يا عباد الله إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمركم أن تحجوا إلى الكعبة الشريفة التى أمرنى ببنائها وأن تطوفوا حولها ، فأسرعوا إلى إيفاء هذا الغرض تكونوا قد استجبتم للدعوة الإلهية التى تستوجب المغفرة.

وبهذا القول البليغ ذاع الأمر الإلهى وأعلنه على العالم وقد سمع نداء الخليل سواء من كان حاضرا فى وقتها أو من كانوا فى أصلاب آبائهم أو فى أرحام أمهاتهم والذين قدر حجهم فى العالم الأزلى من الأمة واستجابوا قائلين «لبيك».

رواية : قد سر حضرة الخليل من استجابة الأمة المحمدية قائلين «لبيك» وقال «يا ربّ إننى أريد أن أستضيف هؤلاء» وبالأمر الإلهى أخذ قبضة من تراب الأرض ونثره إلى الجهات الأربعة وفى الأماكن التى أصابها التراب المنثور ظهر الملح وإن هذا المعدن سيكون وليمة مقدمة إلى أهل الأرض إلى يوم القيامة بطلب من إبراهيم وباستجابة الله ـ سبحانه وتعالى ـ لدعائه وحيا.

وإذا قيل ألم يكن قبل ذلك ملح؟ يجاب عليه أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ علق ظهور المعادن لسبب ما وكان نثر إبراهيم ـ عليه السلام ـ التراب سببا فى ظهور الملح. «محاضرة الأوائل».

كان أول من أحس بصيحة دعوة إبراهيم أهل اليمن وعند البعض أن جرهم كان أو أول من سمع الدعوة ومع ذلك فجرهم من أهل اليمن.

٢٥٧

نظم

ما العمل إنه جاءه على أنه التواب

وجاءه الأمر «أذن فى الناس»

ما لم يكن بيت القلب من طين وماء

فلتكن الضجة منها حتى تسمع أذن القلب

إن كل من كان فى الأصلاب والأرحام

سمع منه ذبذبة الصيت

إن كل سامع معجل

جعل من رأسه قدما للعبودية

إن الخلق منذ القدم فى هذه المحبة

وبلا سبب لم يسلكوا هذا الطريق

(فتوح الحرمين).

بناء على ما يروى أن عدد مرات حج شخص يتوقف على عدد إجابته لصيحة خليل الرحمن وكان الذى سيحج مرة واحدة قال «لبيك» مرة واحدة والذى قدر حجه مرتين قال «لبيك» مرتين وهكذا.

إذا ما نظرنا إلى حج الأمة المحمدية اليمنية كل عام يدل على أنهم فاقوا جميع المسلمين فى البلاد الأخرى فى التلبية. قال بعض المؤرخين إن إبراهيم عليه السلام عند ما أراد أن يدعو الناس للحج لم يدعهم من فوق المقام الشريف بل صعد فوق جبل أبى قبيس أو جبل «ثبير» ونفذ أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا أن القول الأول هو المصدق عند الجمهور ومرجح على الأقوال الأخرى.

وبهذه الصورة أتم سيدنا إبراهيم مهمته ونزل من فوق المقام الشريف نزل جبريل ـ عليه السلام ـ وأخذ إبراهيم ـ عليه السلام ـ وابنه إلى جبل الصفا ومن

٢٥٨

هناك إلى جبل المروة وأراهما حدود المسجد الحرام وأوصى بأن يوضع حجر كعلامة فارقة فى الأماكن التى عينها. ووضع خليل الرحمن (١) العلامات فى الأماكن التى بينها الرسول الجليل. وفى السابع من شهر ذى الحجة تلا إبراهيم ـ عليه السلام ـ خطبة بليغة مقابل البيت الشريف. والآن تلقى الخطبة فى السابع من ذى الحجة من فوق منبر المسجد الحرام تشرح فيها بالتفصيل مناسك الحج والمسائل الخاصة بالحج.

وفى أثناء الخطبة كان إسماعيل ـ عليه السلام ـ يستمع إلى خطبة أبيه فى خضوع وخشوع وصدق وأدب جم.

وفى اليوم الثانى أحرما من الحرم الشريف بنية الحج وسارا إلى منى ملبين ومهللين ، وقضيا ليلهما فى الموقع الذى يوجد فيه الآن مسجد «الخيف» وكلما يحين وقت الصلاة كانا يؤديان الفرائض الخمسة فى أوقاتها وأطلق على هذا اليوم يوم «التروية» والحكمة من إطلاق هذا الاسم أنه قد كان انتظاره قبل وقعة ذبح إسماعيل بيومين مترويا كما سبق أن بيناه.

وبعد ذلك بيوم كان اليوم التاسع من ذى الحجة وبعد أن أديا صلاة الصبح وانتشر ضوء الشمس فوق جبل «ثبير» ذهبا إلى وادى الفيوضات «عرفات» ووقفا فى المكان الذى يسمى الآن مسجد «نمرة».

وأحد أسماء هذا المسجد «مسجد إبراهيم» ويؤدى الحجاج فرضى الظهر والعصر جمع تقديم.

وفى اليوم المذكور صحبهما جبريل الأمين ليريهما الجبال التى فى الوادى وليعرفهما مناسك الحج وفعلا بين لهما الحدود المطهرة والجبلين اللذين يقطعان حدود «عرفات».

وبعد ذلك دخل إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى مكان يطلق عليه الآن مسجد «الصخرة» ، وأجلس ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ فى مكان ما ، وتمتم ببعض الكلمات وهو واقف على قدميه وصلى هو وابنه صلاتى الظهر والعصر متصلتين جمعا ، وأخذا يذكران الله ويسبحانه وعادا بعد الغروب إلى وادى «المزدلفة».

__________________

(١) قد بين فى بحث الميقات كيفية وضع هذه العلامات وإلى أى وقت ظلت معووفة.

٢٥٩

ويروى أن المكان الذى جلس فيه إسماعيل ـ عليه السلام ـ وكان عاليا وغير مستوبين الصخور ، وإنه الآن المكان الذى وقف فيه رئيس قافلة الأنبياء على نبينا وعليهم التحايا ، والمحل الذى تمتم فيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بكلمات وهو المحل الذى يلقى فيه الآن قضاة مكة خطبة عرفات.

وقد أدى إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو وابنه صلاتى المغرب والعشاء متصلتين جمعا جمع تأخير ، ثم أخذا يجمعان الحصى كل واحد منهما (٤٩) حصاة لرمى الجمرات وقضيا ليلتهما تلك فى المزدلفة ، وبعد أن صليا صلاة الصبح نهضا وواصلا سيرهما نحو مكان يسمى وادى المحسّر (١) وسارا فى هذا الوادى قدر خمسمائة ذراع سيرا سريعا.

وبعد ذلك أعدّا ذبيحة وذبحاها فى مكان يسمى مسجد «منحر» ، وهو مسجد لطيف فى ناحية مسجد «الخيف» من منى.

وفى اليوم الثالث من وصولهم إلى «منى» رميا الجمرات التى جمعاها من المزدلفة بعد الزوال حسب الأسس الشرعية ثم توجها إلى مكة المكرمة بعد أن استراحا فترة فى وادى «محصب» (٢) وصليا فيه صلاة الظهر ثم عادا إلى مكة المكرمة.

وأخيرا عاد إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى الشام وفى العام التالى أدى مع زوجته سارة وابنه إسحاق ـ عليهم السلام ـ فريضة الحج الشريف.

__________________

(١) المحسر اسم واد بين «منى والمزدلفة» وطوله خمسة وأربعون وخمسمائة ذراع. يقال إن أصحاب الفيل قد تعبوا فى هذا المكان وأصبحوا غير قادرين على السير ، لذا سمى الوادى بهذا الاسم وبما أن السير فى هذا الوادى ببطء سنة نبوية فإن الحجاج يسيرون فيه بتؤدة وبطء ولا يجوز وقوف وقفة عرفات فى هذا الوادى أو فى وادى عرنة.

(٢) ويقال لهذا المكان أبطح أيضا وهو مكان ذو حجارة فى مدخل مكة المكرمة وبالقرب من مقبرة حجون ومن السنة السنية أن يقف فيه الحجاج الكرام ويصلوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء وأن يقضوا ليلهم فيه ثم يدخلون مكة المكرمة.

٢٦٠