موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٥

الشكل الرابع

إخطار :

على رغم عدم وجود المعلومات الصحيحة حول ما إذا كان المنجنيق الذى علمهم صنعه إبليس ذو التلبيس لإلقاء سيدنا إبراهيم فى النار هو نفس الآلة التى بينا شكلها أم لا. ولكننا نستطيع أن نحكم أنها تشبه المنجنيق الذى اخترع فى زمن النمرود الشقى ، خاصة أن هذه الآلة من الآلات الحربية القديمة المستعملة فى الحروب قبل اختراع الأسلحة النارية.

ونقول فى وصف شكل الآلة المذكورة ، إنها عبارة عن قطعتين من الخشب قويتين ورصينتين ، وربطت كل منهما بالأخرى فى شكل أفقى ، ومدت بينهما أحبال وغرست فيها ـ فى نهاية الخشبتين والموضوعتين بشكل أفقى ، بواسطة وتر طويل بقدر كاف مثل الملعقة ، وقد ربطت بوتر أفقى ثالث من أطرافها العلوية.

أما طريقة استعمال هذه الآلة ، فإن الوتر «م» ينتقل إلى الوضع الأفقى بواسطة البكرة «دد» مرميها وتوضع الأشياء التى ستلقى فى الوتر (م) المذكور ويتم إرخاء ذلك المسمار وتلك البكرة وهكذا تصطدم الخشبة (م) بالوتر ق وتلقى الأشياء إلى النقطة المطلوبة.

صورة هجرة سيدنا إبراهيم إلى مصر :

بعون الحق وعناية فيض الله المطلق نجا إبراهيم من نار النمرود ، وتزوج بسارة ابنة أخيه وعلى قول ابنة عمه ، وظل لفترة طويلة منتحيا جانبا ، يعالج الآلاف من أهل معقل العصيان مرضى القلوب من خلال إرشاداته الشافية.

ولما أخبره ابن أخيه لوط أن النمرود يريد أن يزعجه (١) بالكيد والإساءة إلى

__________________

(١) كان سيدنا إبراهيم آنذاك على اختلاف الروايات فى الخامسة والسبعين من عمره.

٢٠١

الآخرين ، اصطحب سارة وابن أخيه واتجهوا نحو مصر ليبتعدوا عن شرور النماردة المستحقين اللوم واللعنة. وقبل ذلك أقاموا قليلا فى حران ، ثم فى بعلبك الشام ولم يمكثوا فى مصر ذات الأهرامات طويلا ، وغادروا راكبين إلى الشام ونزلوا فى وادى السبع وكان قد اصطحب معه أمه مع والده آزر ، غير أن آزر انتقل إلى دار الآخرة فى مدينة حران وقد بلغ الخمس بعد المائة.

إضافة :

وادى السبع موضع فى «طريق الرقة» وقد قال «وائل بن قاسط» عن سبب تسميته «ما أدرى عن هذا شيئا إلا أنه وادى السباع» ووائل هذا رجل من مشاهير العرب دخل بالصدفة إلى خيمة أسماء ابنة ريم فى أثناء عبوره من المكان المذكور. وكانت أسماء فائقة الحسن ونظرا لوجودها بمفردها فى خيمتها عند مجئ «وائل بن قاسط» فطمع فى أن يقضى وطره منها فامتنعت وهى تدافع عن نفسها قائلة : «إذا لم تكف يدك عنى فإننى سأستدعى سباعى ، ولم يكن وائل يرى أحدا سواها ، وعند ما قال لها يا ترى أين سباعك؟!

نادت أسماء بصوت عال : يا كليب يا ذئب ، يا دب ، يا فهد ، يا سرحوف ، يا أسد ، يا ضبع ، يا نمر.

وهذه الأسماء كانت أسماء أبنائها فظهر كل واحد منهم من ناحية وهو شاهر سيفه فخاف وائل منهم وظل يقول «ما أدرى هذا إلا وادى السباع» ، لذا أطلق اسم «وادى السباع» على الموضع المذكور.

وقلة من المؤرخين الذين بينوا سبب هجرة سيدنا إبراهيم : «فى اللحظة التى نجا فيها حضرة الخليل من نار النمرود صدق بنبوته لوط بن أخيه هارون وسيويل بن ناحور ابن أخيه الآخر وسارة ابنة هارون ابنة عمه وسارعوا بالاعتراف والإقرار بوجود واجد الوجود.

وتكاثر أتباع خليل الرحمن بإقبال الناس على الإيمان بوحدانية الله ـ سبحانه

٢٠٢

وتعالى ـ أما صناديد النماردة فكانوا قلقين من تزايد عدد المسلمين وأخذوا يبحثون عن وسيلة للقضاء على حضرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وإبعاده من كل بابل وما حولها.

وأخذ النماردة يؤسسون الجمعيات فى كل مكان ويوسعون دائرة الشر ويعملون على تقوية أنفسهم حينئذ عثر النمرود على حضرة الخليل ، وقال له :

«يا إبراهيم! أصبحت إقامتك هنا غير مأمونة الآن ، وربما ستكون خطيرة ، لذا يستحسن أن تهاجر إلى مكان أمين تقيم هناك فترة وتستريح.

ووافقت فكرة الهجرة فكر إبراهيم أيضا فترك مدينة بابل متجها إلى مصر ، وعند دخول حضرة إبراهيم إلى الحدود المصرية علم أن شرفه وعرضه لن يسلم من اعتداء فرعون. وبناء عليه وضع السيدة «سارة» فى داخل صندوق فى أثناء دخوله إلى مصر ولكن الموظفين المنتشرين خارج المدينة وداخلها كسروا هذا الصندوق بالقوة ، وأخرجوا السيدة سارة رضى الله عنها.

ولما أعجبوا بحسنها الأخاذ وجمالها أبلغوا فرعون بالأمر وتكفل به الجواسيس الذين كانوا معهم إذ أسرعوا إلى فرعون قائلين : قد جاء إلى مقر عرشك رجل وزوجته تمتاز بجمال فريد وحسن لم ير أو يسمع عن مثله حتى هذه اللحظة وسهلوا له استدعاء إبراهيم.

وبناء على هذا أحضروا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وزوجته إلى فرعون.

إخطار :

كان فراعنة مصر فى ذلك الوقت يقيمون فى بلدة منف. وكانوا يأخذون الرسوم والضرائب من المسافرين الذاهبين والقادمين بواسطة حراس الطرق وفق نظم موضوعة.

رغم وجود أقوال كثيرة ومختلفة حول السن التى كان بلغها حضرة الخليل عند هجرته إلى مصر ، فإن صاحب تاريخ العالم قد قبل الرواية التى تخبر أن سيدنا

٢٠٣

إبراهيم كان فى السبعين من عمره ، كما اتفق المؤرخون على أن فرعون مصر فى ذلك الوقت كان «سنان بن علوان» من أبناء سام بن نوح عليه السلام.

ومع هذا يدعى صاحب «بدائع الزهور» أن اسم فرعون الملك هو طوطيس «انتهى».

عند ما رأى فرعون جمال سارة وحسنها ـ رضى الله عنها ـ سحر بهذا الجمال الذى وصف بأنه قطعة من نور السماء. تحركت رغبته الشهوانية ، استدعى خليل الرحمن وسأله ما صلة سارة بك؟ وسرعان ما أدرك نيته تجاه أمنا سارة.

ولم يكن فى ذلك الوقت فى مصر من يعبد الله الحق ، لذا خاف إبراهيم ـ عليه السلام ـ من تعرض «سارة» لسوء فأجاب قائلا : «إن سارة أختى وبهذا كان يريد أن يلمح أن سارة أخته فى الدين ولم يكن هنا أحد يعرف حقيقة الأمور.

وإن كان فرعون اقتنع بأن سارة أخت إبراهيم من بطن واحد إلا أنه قرر فى قرارة نفسه ألا يمنعه هذا الأمر من ارتكاب ما صمم عليه ، وأمر بأن يخرج إبراهيم من قصره. وتدخل «سارة» إليه فى خلوته ، وبدأ رأسا تنفيذ ما فى نفسه قائلا : «وإن كان إبراهيم أخاك فأنا لست أخاك» ومد يده إليها وتوهم أنه سينال منها. وبما أن زوجات الأنبياء مصونات لا تمسهم أيادى الأجانب والأعداء فلما أراد أن ينفذ ما يريده وإذا بجدران القصر المشيد وأسقفه تهتز وإذا باليد التى مدت إليها تشل (١) رأى (سنان بن علوان) هذا الحادث الشريف المخيف المرعب فاستولى عليه الخوف والفزع وطلب من السيدة سارة أن تدعو الله لتعود يده إلى حالتها الأولى. وأخذت السيدة «سارة» تدعو إلى الله وتبتهل فترة دون أن تنظر لما ارتكبه فرعون مصر. وإذا باليد التى شلت وجمدت تعود إليها الحياة كما كانت من قبل.

__________________

(١) سنان بن علوان هو أخو ضحاك من ملوك القبط واسمه عند البعض «صاروق» وإن الشخص الدنئ الذى أراد أن يسيئ إلى سارة هو «حلاون» ملك الأردن.

٢٠٤

وكان هذا الفرعون الذى إنكب على الظلم والإهانة وأصر عليها ، قد تكررت محاولته ثلاث مرات وعلى رأى مؤلف ـ بدائع الزهور ـ سبع مرات ، فاندهش فرعون وسألها ما هذه الحال؟ وكان جوابها إن الرجل الصالح إبراهيم زوجى. وفهم فرعون حقيقة الأمر.

فأخذ يستعطفها وقال لها معظما موقرا : «يا سارة إننى لن أحاول أن أتعدى عليك مرة أخرى وإننى تخليت عن شهواتى النفسية» لذا أطلب منك أن تدعو ربك مرة أخرى حتى تعود يدى لحالتها الأولى. وقامت سارة تدعو الله سبحانه وتعالى قائلة : «إذا كان فرعون صادقا فى قوله أعد يده إلى حالتها الأولى» وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائها فرجعت يد فرعون لحالتها الأولى.

إتعظ (سنان بن علوان) من هذه الحادثة المليئة بالحكم ، وأهداها جارية قبطية لا نظير لها وملكها لسارة ثم تركها تذهب إلى زوجها إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذى كان خارج القصر يعانى من القلق والاضطراب والحيرة كأنه غارق بين أمواج البحر المتلاطم.

إخطار :

بناء على بعض الروايات أن هاجر لم تكن جارية رقيقة بل كانت من بنات ملوك القبط. وقد أهداها فرعون لسارة قائلا : «ها أجر دعائك» وهذا يفيد سبب تسميتها «بهاجر».

أما إبراهيم ـ عليه السلام ـ فحينما أخذت سارة إلى خلوة فرعون أصيب الزوج حسب بشريته بالهم والغم واضطرب اضطرابا شديدا فلم يكن منه إلا أن يتوجه إلى عتبة قاضى الحاجات داعيا. وأراد الله سبحانه وتعالى أن يخلص إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أوهامه ووساوسه ، فحول جدران قصر فرعون الكثيفة إلى زجاجة شفافة لطيفة كأنها مرآة تعكس ما فى داخلها وهكذا رفعت من أنظار إبراهيم ـ عليه السلام ـ ستائر الظلام والحجاب وهكذا قد اطلع على ما جرى بين (سنان بن علوان) وبين سارة زوجته. ولما جاءت المشار إليها.

٢٠٥

أبيات

مرت فى بحر الحسن هاجر

والصدف يجدر بالدر

وصلب الخليل الطاهر

وهبها ذلك الجوهر

فظهر على الفور حملها

كانت درة ، لا درة مثلها

كابن من جوهر ينفق فى أيام

أما هى فوديعة على الدوام

رغم أن المشهور هو أن ولادة سيدنا إسماعيل ـ باهر السعادة ـ كانت عام ٢٧٨٢ قبل الهجرة النبوية ، وعلى قول إنه كان سنة ٢٧٦٣ ، فإن هناك من يدعى أن ولادته كانت عام ٢٥٢٨ أو ٢٩٠٢ قبل الهجرة النبوية ، وكان سيدنا إبراهيم آنذاك فى السادسة والستين من عمره.

سبب سفر خليل الرب الجليل إلى واد غير ذى زرع

ومكة وطريقة سفره

سكن إبراهيم ـ عليه السلام ـ فى قرية تسمى «فسط» تقع بين البلدة المسماة «رملة» (١) و «أيلة» (٢) فى أرض فلسطين (٣).

وأصبح واسع الثراء مما ساعده على استضافة المسافرين الغادين منهم والرائحين.

__________________

(١) أيلة تضم ولايتى القدس وغزة.

(٢) اسم بلدة فى الشام.

(٣) اسم آخر للقدس الشريف تعنى فى اللغة السريانية بيت الله.

٢٠٦

وعند ما اقترب وقت هلاك قوم لوط الخبثاء أخرج سيدنا لوط من بين الطائفة الخبيثة. ونزلت الملائكة ضيوفا على بيت خليل الله ، وبعثت السعادة فى نفس السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ بتبشيرها بولادة سيدنا إسحاق باهر السعادة.

ويروى أن هؤلاء الملائكة كانوا اثنى عشر ملكا ، وفى رواية أخرى أن الملائكة هم : جبريل وميكائيل وإسرافيل ـ عليهم السلام.

لم يعرف سيدنا إبراهيم أن ضيوفه كانوا الملائكة وقام بنفسه بخدمتهم وتوفير ما يلزمهم وذلك تعظيما لشأنهم.

وأعد لطعامهم عجلا صغيرا سمينا ، ولما رأى أن الضيوف لا يمدون أياديهم إلى الطعام علاه الخوف والوهم وبدت عليه مظاهر الخشية والرهبة فخاطبه الملائكة قائلين : «لا تخف يا إبراهيم إنا مرسلون لقوم لوط» (إبراهيم : ٧٠)

حينئذ أدرك أنهم رسل مكلفون من عند الله ، وصرح الملائكة بحقيقة الأمر وأفهموه أنهم نزلوا من السماء لكى يقهروا ويدمروا قوم لوط الذين زاد فجورهم وبغيهم ، كما بشروه بأن السيدة «سارة» ستلد له غلاما سعيد الطالع اسمه إسحاق.

كان هذا الحوار قبل هجرة نبينا عليه أفضل التحية ب ٢٧٩٢ سنة ، وفى قول آخر ٢٧٧٣ ، وفى قول ثالث ب ٢٥٣٨ سنة وفى رابع أنه كان قبل الهجرة ب ٢٩١٢ سنة.

كانت السيدة «سارة» فى ذلك الوقت تقف بجوار زوجها المكرم إبراهيم ـ عليه السلام ـ وسمعت ما قاله الملائكة الكرام ، ولكنها استبعدت أن يكون لها ولزوجها أولاد ، فهى ترى نفسها عجوزا كما أن زوجها شيخ كبير.

فقد كانت فى التسعين من عمرها ، وكان سيدنا إبراهيم فى السادسة والتسعين من عمره ، ولذلك تبسمت لبشرى الملائكة هذه ، ومع ذلك فقد جاءها الحيض ، وبعد انقضائه حملت ثم ولدت إسحاق ـ عليه السلام ـ بعد عشر سنوات من ولادة إسماعيل.

٢٠٧

استطراد

فى الليلة التى سيولد فيها سيدنا إسحاق رأى سيدنا إبراهيم فى الرؤيا ، أن ألف كوكب مضىء يجتمع فى برج واحد ، وقص ما رأى على جبريل الأمين ورجاه أن يفسر له دلالة هذه الرؤيا. فقال له جبريل الأمين فى تفسير رؤياه إنها تشير إلى أنه سيخرج من الصلب الطاهر لابنك إسحاق الذى سيولد من زوجتك سارة ، ألف رسول سيكونون زينة الدنيا.

سر إبراهيم ـ عليه السلام ـ من التأويل وأخذ فى التضرع إلى الله قائلا : «اللهم اجعل لابنى إسماعيل أيضا نصيبا من هذه النعم الجليلة» وبمجرد ما انتهى من دعائه استمع إلى صوت هاتف يتردد بصداه يا إبراهيم ، سيأتى من نسل إسماعيل الطاهر نبى عظيم القدر ، كريم الخلق واجب التعظيم ، وسيكون هذا النبى بداية رسالة المرسلات وخاتم باب النبوة ، وهو مخلوق محمود ، وسبب وجود الرسل والأنبياء واسمه الشريف (محمد المصطفى).

فبدت عليه علامات السعادة ، وكان سببا فى ظهور تلك الساحة المزينة بالأنبياء وشكر الله معربا عن امتناعه وحمد الله على نهج الآية الكريمة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (إبراهيم : ٣٨).

(قصص النيسابورى)

إن السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ قد أنعم الله عليها بابن تسعى السعادة فى ركابه ، عالى القدر مثل إسحاق عليه السلام ، وقد غلبت عليها فى نهاية عمرها نوازع غيرة النساء بصورة تجاوزت كل الحدود. وكانت تغار من السيدة هاجر أم إسماعيل ـ عليه السلام ـ ولما رأت أن سيدنا إبراهيم يحب امرأته هاجر وابنه إسماعيل حبا جما قررت «سارة» ألا تألو جهدا لتكدير زوجها باستخدام جميع الأساليب المؤذية.

٢٠٨

لم يستطع إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يتحمل أعباء الشيخوخة وظلم «سارة» وسخريتها فأراد أن يجأر بالشكوى من تصرفات «سارة» ولكنه قال فى نفسه «سارة ناقصة العقل وأنت من فحول العقلاء فعليك أن تتحمل سلوك غير المتزن كالرجال الشهماء» وعزم على السكوت. ومع ذلك حدث ذات يوم أن أعرب عن حبه لإسماعيل ابنه الأكبر فى وجود أخيه الأصغر إسحاق.

غار إسحاق من كلام أبيه بحكم صغر سنه ، وغضب من والده وخاصمه فأثار هذا غضب أمه سارة ، ولهذا أقسمت بالله أن تشوه جاريتها هاجر بقطع جزء من لحمها.

عند ما سمعت هاجر قسم السيدة سارة ملأها خوف شديد فأسرعت بالخروج إلى الوادى وقررت الهرب إلى مكان تأمن فيه على نفسها ثم ربطت فى خصرها (١) وتركت ذيل ثيابها يجر على الأرض ليخفى آثار أقدامها.

وعند ما هدأت غيرة النساء فى نفس السيدة سارة ـ رضى الله عنها ـ بعد فترة ندمت على ما بدر منها من قسم فى حق السيدة هاجر ، ووجهت كل أفكارها واجتهادها لتجد سبيلا للوفاء بقسمها دون أن تؤذى هاجر.

فقال لها زوجها المكرم : «يا سارة» اقطعى جزءا من اللحم الزائد من عضو هاجر المستور ليكون ختانا ، وافتحى ثقبا فى الموضع الرقيق من أذنها ، فإذا علقت به قرطا تكونى قد وفيت بقسمك. فختنت السيدة سارة السيدة هاجر وثقبت أذنها وعلقت بها قرطا وهكذا برت بقسمها.

إخطار :

كان هدف سارة ـ رضى الله عنها ـ من هذا القسم أن تنفر سيدنا إبراهيم من جاريته هاجر. ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد أن يجعل ختان هاجر سنة يتبعها المسلمون فاختتن إبراهيم ـ عليه السلام ـ وزوجته «سارة» أما ما يتعلق بثقب أذن

__________________

(١) يروى أن ربط النساء وسطهم بزنار هى عادة اكتسبنها من هاجر.

٢٠٩

هاجر فقد أصبح ـ بالنسبة لسائر النساء ـ وسيلة من الوسائل للتزين والتحلى باللآلئ والجواهر. وتثقب النساء ـ الآن ـ آذانهن ، ويلبسن الأقراط ، بل إن هذه العادة تعتبر من مكملات الزينة لدى النساء.

وبعد فترة جد نزاع ـ من نزاعات الصبية ـ بين الأخوين ، جعل السيدة سارة فى ضيق وقلق دفعاها لإظهار ما فى قلبها صراحة وقالت لزوجها المكرم «إننى لن أستطيع بعد اليوم أن أعيش مع هاجر فى مكان واحد فخذها إلى مكان بعيد واتركها هناك».

وبناء على هذا أخذ حضرة الخليل زوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى أرض الحجاز العطرة وتركهما هناك.

وفى اللحظة التى أعربت فيها السيدة سارة عما فى ضميرها ، وأقسمت على عدم قدرتها على الحياة مع هاجر فى بيت واحد هبط براق من السماء كريح الصبا ، وقال إنه مأمور من الله بحمل حضرة إبراهيم إلى مكة. فما كان من النبى إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلا أن يركب البراق حاملا ابنه أمامه وزوجته خلفه ، وطاروا صوب مكة المكرمة ؛ وفق إرادة الله.

وفى أثناء الرحلة كان جبريل الأمين دليلهم ، وكلما مروا بمكان فى أثناء الطريق سأله حضرة الخليل هل سنهبط هنا؟ يجيبه جبريل الأمين : «لا سنذهب إلى مكان أبعد» وقابلوا فى مكان قرب حدود مكة المعظمة طائفة من قوم العمالقة أحبت هذه الطائفة سيدنا إسماعيل ولا طفوه وأعطوا له عشرة من الغنم (١).

والمعروف بين المؤرخين أن سلالة الماعز الموجودة الآن فى مكة وما حولها هى بقية نسل الماعز الذى أهداه العمالقة ـ آنذاك إلى سيدنا إسماعيل.

وعند ما وصلوا إلى جبل «كدا» المواجه لجبل «حجون» (٢) قال جبريل الأمين :

__________________

(١) هذه طبقا لتحقيقات بعض المؤرخين أهداها الجراهمة إلى إسماعيل ـ عليه السلام ـ بعد السيدة هاجر.

(٢) حجون : على وزن حبور ، وهو اسم جبل من الجبال الموجودة فى الناحية المسماة «المعلا من معلاة الكعبة ، أى من مدينة مكة.

٢١٠

«ستهبطون هنا فهذا المكان مقام عال. وهنا سيخرج من ذريتك رسول له شأن عظيم وبه تتم كلمة الإسلام».

ثم أنزل سيدنا الخليل فى المكان المقدس للبيت الشريف وكانت أرض مكة فى ذلك الوقت بيئة مليئة بأشجار البلوط وكانت خالية من الناس وتشبه الغابة ومحاطة بأشجار السنط المسماة «أم غيلان» من أشجار البوادى وكانت هادئة ساكنة.

وكان المكان المقدس للبيت الحرام مكانا مباركا مرتفعا بعض الشىء مغطى بالرمال الحمراء.

نظم

وفى النهاية خليل الله

عمر هذا البناء وأعلاه

وبقدم هاجر المهاجرة

أصبحت بها الصحراء عامرة

وشاهدت عيون تسعة أبناء

أن حمل الفلك كبش الفداء

تبعه عين ماء الحياة التى سالت

وجرى الماء وجرى قدم الحوض ليسلم

فتفجر ماء زمزم

وبعد أن أعطى سيدنا إبراهيم للسيدة هاجر جرة ماء ومقدارا من التمر ، وعلى قول ، إنه أعطاها ملء كيل من الدقيق وبين لها المكان الذى فيه حجر إسماعيل الجوهرة الخضراء داخل المطاف السعيد الآن. أو مكان بئر زمزم (١) الشريف وقال «يا هاجر ، أقيمى خيمة هناك ، واسكنى فيها ـ فهذا ما جرى به أمر قضاء الله».

__________________

(١) ذلك المكان الشريف كان مكانا لا نظير له ، يحتوى على أشجار غير مثمرة ذات ظلال وأفرع تحمى من حرارة الشمس.

٢١١

فأجابته : «إذا كان هذا هو أمر الحق؟ فإن الله خير الحافظين سيحمينا ويحفظنا ، فتلقى إبراهيم هذه الإجابة من زوجته ورجع ـ وكان سيدنا إسماعيل فى ذلك الوقت فى الثانية عشرة من عمره.

تنبيه :

لا يجوز لأى إنسان أن يترك أولاده وزوجته فى البرية والخلاء تقليدا لسيدنا إبراهيم ، فحضرة الخليل عمل بالوحى الإلهى وتوكل على الله وهو يعلن أن الله خير الحافظين سيتولى حفظهم.

وتوكل عامة الناس لا يمكن أن يشبه توكل الرسل الكرام أولى العزم ، الذين ذكروا فى هذا البيت :

أولو العزم نوح والخليل بن آزر

وموسى وعيسى والحبيب محمد

وتقليد هذا العمل غير مشروع ، وجاء فى بعض الروايات أن السيدة هاجر عند ما رأت نفسها وقد تركت وحيدة فى ذلك الوادى الغير ذى زرع تتبعت زوجها وقالت له : «هل تتركنا وتمضى عائدا؟ ولم تتلق منه إجابة بنعم أو لا فسارت وراءه حتى جبل» «كدا» وعند ما وصل سيدنا إبراهيم إلى الجبل المذكور التفت وقال : يا هاجر ، إننى أستودعك الله أمانة عنده ؛ فقالت له : إذا كان قد أوحى إليك بهذا. فإن الله الواحد الأحد ـ الذى تركتنا فى كنفه ـ كافينا وكافلنا .. ثم عادت إلى جانب إسماعيل وصعد زوجها المكرم إلى قمة الجبل سالف الذكر.

فلما رأى أنه ترك زوجه وابنه فى مكان موحش خال من آثار العمران والزرع ، تأثر من فرط الرحمة والشفقة ودعا الله قائلا :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم : ٣٧) ثم رجع إلى الشام.

٢١٢

وفى قول آخر ، إن السيدة «سارة» أصابتها الغيرة من إسماعيل ـ عليه السلام ـ وقالت : يا إبراهيم ، إذا كنت تريد لى راحة البال وهدوء الحال فاحمل هاجر وابنها إلى مكان قفر بلا ماء واتركهما هناك. ولما كان الوحى الجليل قد نزل آنذاك بأن يعمل تبعا لرأى سارة فإن ، حضرة الخليل ترك المشار إليهما مع جرة ماء فى واد غير ذى زرع بمكة ، ودعا على النحو السابق.

ولما كان دعاؤه مقبولا مجابا؟ فقد ظهرت قبائل «جرهم» و «قطورا» وعمرت مكة المكرمة ، وأصبحت آهلة.

كيف ظهر بئر زمزم الشريف :

عند ما نفذ الماء من الجرة التى تركها الزوج المكرم ـ عليه السلام ـ فى ثلاثة أيام ، ورأت السيدة هاجر أن ابنها إسماعيل أصبح على وشك الموت من العطش ولا حيلة له ، وهى أيضا لا حيلة لها ولا قوة ، فلبن ثدييها قد انقطع (١).

وبعد أن تأملت وبكت لفترة ، وهى فزعة جزعة من وحدتها فى ذلك الوادى الموحش ، تركت ابنها إسماعيل أسفل الخيمة التى أقامتها من قبل وصعدت فوق قمة جبل الصفا للبحث عن الماء. ومن فوق هذا الجبل نظرت تجاه ابنها ، حيث لا أثر لماء ، أو لإنسان يروح أو يغدو ، ونزلت إلى بطن الوادى ، وكان المكان المنخفض الذى تركت فيه ابنها يوارى ويحول دون رؤيته فألقت فوق كتفيها بالزائد من الملابس الموجودة وراء ظهرها ، وصعدت بسرعة فوق ربوة جبل المروة ، فرأت ابنها من هناك ثم نزلت إلى الوادى ومع ذلك لم تستطع أن ترى ابنها ، فأسرعت بالصعود إلى أعلى قمة جبل الصفا وابتهجت عيناها برؤية ابنها الذى يبعث السعادة فى النفوس. استمرت على هذا المنوال سبع مرات (٢) تذهب وتغدو من الصفا إلى المروة ، ومن المروة إلى الصفا ، بنحو لم يفعله مخلوق من بنى البشر وهى تقول «ليس من الممكن أن يوجد هنا ماء أو أن أقابل بشرا

__________________

(١) هذه الرواية تختلف عما يدعيه المؤرخون بأن سيدنا إسماعيل أثناء الهجرة ، كان فى الثانية عشرة من عمره.

(٢) لم يكن هناك من سعى بين الصفا والمروة قبل السيدة هاجر. لذا فإنها أول الساعين.

٢١٣

ورجعت إلى إسماعيل وقد امتلأت يأسا وخيبة أمل. وهناك سمعت صوتا يشبه صدى صوت إنسان فأحست بالفرح ، لكنها لم تستطع أن تحدد ناحية مصدر الصوت وتحيرت ، فماذا تفعل؟! وقد كف الصوت المذكور وبدأت تتلفت حولها وهى حزينة.

بعد ما أفاقت بفترة قالت : «يا صاحب الصوت الندى الذى شغف سمعى. عند ما سمعت صوتك الملائكى غرقت فى بحر الأمل ، إذا كنت نصيرا إلى فعجل ، لأننى وابنى قد استولى علينا الألم واليأس. فقد بلغنا درجة الموت عندئذ اضطر صاحب الصوت أن يظهر ، وكان جبريل الأمين وأن يظهر ماء زمزم بضربة من جناحه.

وسرت السيدة هاجر بظهور الماء سرورا عظيما وبعد أن شربت (١) وارتوت أخذ ضرعاها اللذان جف لبنهما فى الإدرار ، وأحاطت الماء بالرمال حتى لا يسيل الماء فى الوادى ، وفى قول آخر إنها عند ما حفظت بعض الماء للإدخار أظهرت نوعا من عدم التوكل ، لذلك غاض الماء فى الحال فى باطن الأرض وكان هذا سببا فى توارى (٢) الماء عن وجه الأرض بعد ما كان الماء جاريا.

لو لم تحاول هاجر ـ رضى الله عنها ـ أن تمنع الماء من الجريان بإحاطته بالرمال ، لظل جاريا إلى يوم القيامة كما جاء فى الحديث الشريف. ظهر ماء زمزم على النحو المذكور وكانت السيدة هاجر فى أمان وسعادة ولما رأى ذلك جبريل الأمين خاطب هاجر قائلا : «يا هاجر لا يحزن قلبك من هذا المكان الساكن هما وغما ولا يجول بخاطرك أن هذا الماء ينضب ، فقد انفجر هذا الماء الذى يهب الحياة لحرمة ماء وجه إسماعيل الذى يزين حضنك ، وإن ابنك هذا سيتشرف بشرف النبوة وسوف يبنى مع زوجك إبراهيم هذه الساحة المباركة التى تزيل الهم

__________________

(١) يروى أن السيدة هاجر سقت ابنها قبل أن تشرب.

(٢) لم يكن حول بئر زمزم حتى زمن أبى جعفر المنصور خرزة من الحجارة والرخام ولم يوجد حول فوهته خرزة يحيط بها وفى زمن خلافة المشار إليه أقاموا خرزة كما غطى ما حولها بالرخام.

٢١٤

والغم وهى بقعة مفخمة مشرفة ، وبناء على هذا سيزيد عمران هذا الوادى من سنة إلى أخرى.

سيق أفراد من الأقوام والقبائل ليزوروا هذا المكان المقدس الذي سيعمره المشار إليهما.

وبما أن هذا المقال قد أزال الحزن من نفس هاجر وبشرها بأن هذا المكان سيكون فى دائرة المسجد الحرام الذى سيسبب الفرح والإبتهاج فى النفوس. فما كان منها إلا أن قامت وأدت فرائض العبودية والشكر لله ـ تعالى ـ وقررت أن تمضى حياتها فى هذا المكان المبارك المقدس.

وقد اختلف العلماء فى بيان كيفية تفجر ماء زمزم الشريف ، فقال فريق إنها ظهرت من أثر ضربة جناح جبريل ـ عليه السلام ـ وذهبت جماعة إلى أنها ظهرت من أثر ضربة كعب سيدنا إسماعيل ، ولكن القول الأرجح حسبما ذكرنا أن جبريل ضرب الأرض بجناحه فتفجرت المياه وأحاطتها هاجر ـ رضى الله عنها ـ بما حولها من رمال ، ثم قام إبراهيم بعد ذلك بحفرها وتعميقها حتى أصبحت على شكل بئر وهذا ما قرره الجمهور.

كما اختلف المؤرخون فى تعريف سبب تسمية زمزم الشريف أيضا ، ففى بعض الأقوال إنها سميت زمزم لكثرة تدفقها ، وعند البعض أن تسميتها تعود إلى معنى «اجر بطيئا بطيئا» أى زم زم (١) وثبت هذا الاسم على البئر وعرف به.

وإننا سنبين فى موضوع كيفية انتقال الحكم من يد حكومة مكة إلى أيادى بنى خزاعة ، أن هذا الماء ضاع وغاب فى زمن الجراهمة الذين كانوا عنوانا للضلال والطغيان ، وبمرور الأيام نسى اسمه وجسمه ومكان وجوده.

وبالصدفة أقام أهل مكة صنمين لهما عند طرفى بئر زمزم الشريف الذي كان مجهول المكان.

__________________

(١) إذا عرفنا أن معنى زمزم باللغة اليونانية «قف» يجب علينا أن نحمل التسمية لهذا السبب.

٢١٥

فأقاموا نائلة فى طرف وإساف فى الجانب الآخر. وكانوا يذبحون القرابين بين هذين الصنمين فوق فوهة بئر زمزم الشريف وعند ما آل حكم مكة ورئاسة قريش إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وكان قد اقترب الزمن الذى ستجد فيه قلوب عطاش الجاهلية ماء حياة الهداية وستتحول أرض يثرب البطحاء القاحلة إلى جنات مأوى بفضل الماء الزلال الذى يفيض من نور النبوة.

وفى زمن عمرو بن حارث الجرهمى ، كان زمزم قد اختفى عن العيون وظل خفيا مدة خمسمائة عام بعيدا عن العيون. وصدرت الإرادة الإلهية لحكمة ما بظهور زمزم الشريف ، وكلف عبد المطلب ذات ليلة من الليالى فى رؤياه بأن يقوم بحفر زمزم مفتخرا.

ورغم أن عبد المطلب قد أمر بهذه المهمة ، إلا أن مكان البئر المذكور كان غير معروف فى ذلك الوقت ، لذا رأى أنه لن يستطيع بمفرده القيام بهذا العمل واضطر للاستعانة بقريش قديما ورؤساء قبائل قريش ووجه إليهم هذا السؤال «قد كلفت بحفر بئر زمزم وإظهارها فهل تعينونى فى هذا العمل؟».

فسألوه هل تعرف مكان بئر زمزم؟ فقال : لم ألهم بذلك أيضا يعنى لم أعرفه فقال الرؤساء : «يا عبد المطلب يجب أن تستخير هذه الليلة إذا كنت مأمورا بهذا العمل من قبل الرحمن فإنه سيخبرك بمكانه ، وإذا كانت الرؤيا شيطانية فلن ترى مثل هذه الرؤيا مرة أخرى.

وقد أعجب عبد المطلب برأى الرؤساء وأسرع بكل إخلاص وتوكل يستخير فى تلك الليلة.

وبناء على هذه الاستخارة ظهر لعبد المطلب فى رؤياه فى تلك الليلة شخص تحدث بهذه العبارات المسجوعة : «احفر زمزم إن حفرتها لن تندم وهو تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزف أبدا ولا تندم فسقى الحجيج الأعظم ليس كبعض ما تقدم وهى بين الفرث والدم» ولما رجا عبد المطلب من الهاتف أن يبين له المكان القديم للبئر المذكورة ، فأشار له قائلا «عند قرية النمل حيث ينقر الغراب» وكأنه أراد من

٢١٦

عبد المطلب أن يحفر فى مكان يعيش فيه النمل حيث يأتى غراب فى الصباح وينقر فوق بيت النمل وينكشه. ورغم هذا لم يستطع عبد المطلب أن يهتدى إلى المقصود من هذا الرمز والإشارة ثم وصاه بأن يبدأ فى الحفر مسترشدا بهذه الأقوال إذ قال له بعد ليلة «زمزم وما زمزم هزمه جبريل برجله وسقياء إسماعيل وأهله زمزم البركات روى الرماق الواردات شفاء سقم وخير طعام» ، وفى الليلة التالية قال «احفر تكتم بين الفرث والدم وعند نقر الأعصم وفى قرية النمل مستقبل الأصنام الأحمر» تكتم اسم من أسماء زمزم المكرم بمعنى «مكتوم» كما سيبين فيما بعد.

الغراب الأعصم :

يطلق على غراب إحدى رجليه حمراء على قول ابن شيبه. وبناء على رأى حاكم يطلق على غراب أحمر الرجلين والمنقار ، وبناء على قول صاحب الإحياء يطلق على غراب بطنه بيضاء ، وبناء على تدقيق صاحب حياة الحيوان يطلق على غراب أبيض الجناحين أو أبيض الرجلين أو يطلق على غراب أبرش.

على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ بناء على القول الموثوق الذى يروى عن على بن أبى طالب بن عبد المطلب عند ما رأى الرؤيا السابقة الذكر ، غشيته الرهبة والدهشة وتحير فيما يفعله ، ولم يستطع أن يبدأ فى حفر البئر ، وبعد فترة رأى عبد المطلب فى رؤياه أن شخصا يقول له «أحفر بئر طيبة. وبعد ليلة يقول له احفر بئر مضنونة وعمقها وفى ليلة أخرى بعد أن ذكر الفقرات السابقة المسجوعة عرفه بموقع البئر وبين بعض خواصها؟ ولكن عبد المطلب لم يستطع أن يفهم معنى هذه العبارات المبهمة وراح فى تفكير عميق. وفى ليلة من الليالى استغرق فى النوم ورأسه مشغول بهذه الأفكار فى حجر إسماعيل. وإذا به رأى فى منامه أن هذا الرجل المبارك يقول له : «هل تعرف معنى زمزم ، زمزم بئر الماء الذى فجره جبريل عليه السلام بضربة من رجله وهو اسم ماء إسماعيل ـ عليه السلام ـ وأتباعه. وهو البركة ذاتها وإنه يروى العطاش الذين يردون للشرب ويشفى

٢١٧

المرضى ، وهو أنفس أنواع الطعام ، وبهذا الإيضاح وضح شأن بئر زمزم وخواص مائها».

عبد المطلب ـ عرف عبد المطلب بدلالة هذه الرؤيا معنى زمزم لدرجة ما؟ ولكنه لم يستطع أن يعرف موقعه بالضبط.

لذا توجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ متضرعا مبتهلا قائلا : «يا ربى العليم ومولاى الكريم ، دلنى على موقع البئر الذى كلفت بحفره. وقد أصاب سهم دعاته هدفه ونال قبولا إذ رأى فى رؤياه من يقول له : يا عبد المطلب احفر بئر زمزم وإذا أردت أن تعرف مكانها فإنها بين صنمى «إساف» و «نائلة» ، حيث يذبح فيه القرشيون قرابينهم وفوق بيت نمل. وغدا سيأتى غراب أبرش وينبش بمنقاره فضع علامة حيث ينبش ثم عجل بحفر وتعميق المكان الذى فيه بيت النمل فتنال مطلبك».

وهكذا وضحت الرؤيا الأمر ، ولم يبق أدنى شك فى مكان زمزم ، واستيقظ عبد المطلب من نومه واتجه صوب المسجد الحرام ورأى الغراب ينبش ما بين إساف ونائلة فى وقت السحر ، وذهب هناك حيث وجد بيت النمل وبدأ مع ابنه الحفر فى هذا المكان ومعه أدوات الحفر مثل الفأس والمجرفة.

حينما رأى أفراد قبيلة قريش أن عبد المطلب يحفر المكان المذكور شاع الخبر سريعا فيما بينهم وهجموا على عبد المطلب قائلين :

«إننا لن نتركك تحفر المكان الذى نذبح فيه القرابين وخاصة المكان الذى يوجد فيه إساف ونائلة. وأرادوا أن يمنعوه من الحفر ، وقد زادت جلبتهم وصياحهم حتى إنهم قد أطالوا الكلام والجدال وتحول الموقف إلى ما يشبه القتال فمات كثيرون».

لم يكن لعبد المطلب حينذاك أبناء غير الحارث وقد رأى أنه لن يستطيع أن يقاوم القرشيين مع ابنه ، لذا ترك مقاومتهم واتجه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ مخلصا يائسا «يا إلهى ، إذا ما نصرتنى على قريش وأبلغت عدد أولادى إلى عشرة فإننى أفدى واحدا منهم قربانا لك» وكان هذا نذر منه.

٢١٨

وبظهور بعض العلامات أدرك عبد المطلب أن دعاءه قد حاز القبول فتوكل على الله وقام بأداء ما كلف به ، وغلب هو وابنه الوحيد كل قبائل قريش وكفت القبائل المعتدية يدها عنه ووقفوا فى موقف المشاهدة والتفرج.

وفى اليوم الثالث عند ما ظهرت العلامات التى تشير إلى وجود بئر زمزم مثل (١) الأسلحة وتماثيل صغار الغزلان (٢) التى ألقاها الجراهمة فى بئر زمزم ، عند ما أجبروا على ترك مكة المكرمة والجلاء عنها ، عندئذ قال عبد المطلب : «إن كل هذه الأشياء لدليل كاف للإثبات أن بئر زمزم فى هذا المكان» ومن فرط سروره أخذ يكبر بصوت مرتفع.

عند ما سمع القرشيون تكبير عبد المطلب اجتمعوا كلهم حوله وأدركوا أنه نال مراده ورأوا الأشياء القيمة التى أخرجها من البئر فطمعوا فيها وظهرت عليهم بوادر النزاع والخصومة وقالوا «يا عبد المطلب إن لنا نصيبا فى الأشياء التى أخرجتها من داخل البئر».

لأن البئر بئر جدنا إسماعيل ـ عليه السلام ـ وهذا يوجب تقسيم ما وجدته بين أفراد قبائل قريش فقال لهم لاحق لكم فى هذه الدفينة لأنكم لم تساعدونى فى حفر البئر بل أردتم منعى من الحفر مما أدى إلى إراقة الدماء ، ولكنهم اعترضوا عليه مهددين بتجدد النزاع وقالوا : «إذا رفضت إشراكنا فى المال كله فعلى الأقل نقسمه مناصفة بينك وبين القبائل ، فإذا رفضت هذا الحل أيضا فإننا نقاتلك من جديد».

ولما رأى عبد المطلب أن المعارضة قد استفحلت وأنها قد تؤدى إلى قتل بعض الأشخاص ، خاطب الذين استمروا فى الضغط عليه «عليكم أن تختاروا حكما نافذ الكلمة ليفصل بيننا فى هذا الأمر» وقد ارتضت قريش هذا الرأى الصائب وقرروا اللجوء إلى كاهنة قبيلة «بنى سعد بن هذيم» التى تسكن قريبا من بلاد

__________________

(١) عند ما ألقى الجراهمة هذه الأشياء الثمينة فى بئر زمزم ألقوها ليخفوها عن أعدائهم ثم سدوها بالحجارة والتراب حتى يجبروا أعداءهم على ترك المكان تحت وطأة العطش.

(٢) صغار الغزلان هذه كانت مصنوعة من الذهب الخالص ومرصعة بأنواع الجواهر.

٢١٩

الشام العامرة لتحكم بينهم ، وخرجوا جميعا للذهاب إلى حيث تقيم الكاهنة المشار إليها ، ولما كانت منطقة الحجاز فى ذلك الوقت خالية من الطرق المنتظمة وليس بها قرى متقاربة أو عيون ماء أو آبار ممرات ضيقة لدفع الوحشة. ولا شك أن السير فى مثل هذه الطرق أمر مخيف ، كما أن السير فى تلك الصحارى الخالية من المياه من الصعوبة بمكان ، لذا حمل عبد المطلب ومن معه من صناديد قبيلة قريش ما يحتاجون إليه من أطعمة ومال يكفيهم إلى أن يصلوا إلى حدود الشام.

وعند ما ابتعدوا عن مكة ووصلوا إلى واد موحش عديم الماء نفد الماد الذى كان مع عبد المطلب وفئته وأوشكوا على الهلاك ، وبعد أن احترقت أكبادهم من العطش. وطلبوا بعض الماء من خصومهم حتى ينجو من هذه المصيبة العظيمة ، ولكنهم رفضوا قائلين : «نحن الآن فى واد تنعدم فيه فرصة العثور على نقطة ماء فإذا ما أعطينا لكم الماء فإننا سنتعرض للعطش الذى تعرضتم له كما أن الماء الذى معنا قليل يكاد أن يكفينا وهذا عذر مقنع فى عدم إمدادكم. فزادت حيرة عبد المطلب وجماعته وقلقهم عند ما تلقوا هذا الرد.

وعند ما رأى عبد المطلب هذا الجحود والإساءة من معارضيه سأل من معه مستطلعا رأيهم «ما رأيكم فى هذا الأمر؟! فقالوا نحن طوع أمرك ، ننفذ ما تراه. عندئذ قال : «رأيى أن يحفر كل واحد منكم قبرا لنفسه فى انتظار الموت ، ومن يموت أولا يدفنه الذى ما زال على قيد الحياة ، فإذا دفن كل من يموت يبقى فى النهاية جثمان شخص واحد بدون دفن والأفضل أن يبقى جثمان واحد فقط بدون دفن من أن تبقى أجسادنا جميعا فى العراء مكشوفة فليحفر كل واحد منكم قبرا طالما فيه القدرة على الحفر. وافق رفاقه على رأيه وحفر كل واحد منهم قبرا لنفسه وانتظر حلول أجله.

وبعد مدة قال عبد المطلب : «يا رفاقى ـ إن حفر قبر انتظارا للموت شىء عجيب لم يحدث منذ عهد آدم ـ عليه السلام ـ ويدل على عجزنا وضعف هممنا ، فإذا قمنا وسرنا ربما يكتب الله لنا النجاة بأن نصل إلى بلدة أو قرية ويبعث لنا ماء

٢٢٠