موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ١

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٥

من التواريخ الإسلامية ، أو من هؤلاء الذين يترددون على الحجاز «غير أن عددا من السياح المشهورين مثل : برق جارد من إيطاليا ، لودو ويقو بارتاما من روما وجوزيف تبس من أهل اكستر (١) قد زاروا المناطق الحجازية ، وسجلوا مشاهداتهم ، ووصفوا مشاهداتهم وصفا كاملا. وهذا يبين كذب ادعاء المدعو «جبون» من أخطائه. وترهاته نجمت عن تعصبه الفطرى الشديد.

لودو ويقو بارتاما ـ قد طاف فى عام ٩٢٠ هجرية بالأراضى الحجازية المباركة ، وكذلك «جوزيف تبس» فى عام ١١٠٧ هجرية وتجولا فى كل أرجائها وبعد عودتهما ، سجل كل منهما رسالة شاملة ، مفصلة فى معلوماتها عن أحوال منطقة الحجاز.

وكانت رسالة لودو ويقو بارتاما» التى طبعها عام ٩٢٨ ه‍ مكتوبة باللغة الإيطالية ، وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية ، وطبعت ونشرت عام ٩٧٢ ه‍ ، كما طبعت رحلة «جوزيف تبس» باللغة الإنجليزية ونشرت فى إنجلترا عام ١١١٧.

وقد جاء فى رسالة «لودو ويقو بارتاما» أنه تظاهر بالإسلام ودفع إلى أحد الجمالين أموالا كثيرة ، ليرافق قافلة الشام إلى الحجاز حتى يستطيع أن يطلع بنفسه على أحوال الحجاز.

أما «جوزيف تبس» فقد ذكر فى رسالته أنه وقع أسيرا فى طفولته فى يد أحد الجزائريين ، وظل لفترة طويلة فى خدمته ، ثم رافق سيده فى رحلة الحج إلى الحجاز ، وعند عودته سجل مشاهداته كلها.

وقال «برق جارد» فى كتابه الذى نشره : «فى أثناء عودتى من واد فاطمة ، إلى مكة مررت بمكان يسمى وادى النعمان ، وكان مزدحما أشد الازدحام بالمترددين هناك من الحجاج أو المعتمرين ، رغم أنه مكان موحش مخيف وهبت عاصفة فاحتميت بسفح جبل لعدم استطاعتى الاستمرار فى السير ، وبقيت محتميا بسفح الجبل إلى أن هدأت شدة السيل والعاصفة».

__________________

(١) اكتسر اسم مدينة مشهورة فى إنجلترا.

١٤١

ويقول مؤرخ آخر هو (يوما) : «لا يسمح لغير المسلمين بدخول مكة» ، ونحن شاكرون لهذا لأن برق جارد ، ذهب إلى هناك ، وجاء فى رسالته أن مكة المكرمة محاطة بمجموعة من الجبال السوداء والوديان خالية من الأشجار والأزهار.

والذى يرى منازل مكة وبيوتها ـ لأول وهلة ـ بعد الخروج من بين الجبال لا يستطيع إلا أن يشبه هذه المدينة بخزينة مجوهرات وضعت فى داخل محفظة خشنة غليظة سوداء ، لا يستطيع أن يقدر قيمة هذه الخزينة إلا المسلمون.

فشوارعها متوسطة ، ومبانيها منتظمة عالية والذى يرى مكة بعد رؤيته لبلاد أخرى لا يمكنه إلا أن يعجب ويتحير من انتظام مبانيها ودقة ترتبيها. وهذا القول منه يوضح خطأ ما ادعيناه فى هذا الأمر. وهذه العبارة المليئة بالثناء الجميل توضح كذب ادعاء الأوربيين.

وبناء على الفقرة الواضحة لبرق جارد والإفادة المفصلة ل «يوما» نستطيع أن نحكم أن الدخول فى مكة المعظمة ليس ممنوعا ، سواء كان من قبل الحكومة أو من قبل الأهالى. فإذا كان بعض السياح الأجانب لم يجدوا فى أنفسهم الجرأة الكافية لدخول حدود مواقيت مكة المكرمة فإن ذلك يرجع إلى الرهبة الإلهية المعنوية للبيت المعظم.

نعم لم يمنع أحد من زيارة الحرمين المعظمين ، حتى لو كان هدف الزائر هو الخيالة والسخرية والاستهزاء ، لكن فى هذه الحالة تأديب ذلك الشخص ومنعه من الزيارة يكون أمرا واجبا.

نعم باب الزيارة مفتوح فى كل لحظة وساعة ، إلا أن الزائر يجب أن يراعى لبس ملابس أرض الحجاز مثل الجبة والعباءة الطويلة والعمامة والكوفية حتى يحظى باحترام الناس ، وأما الأجانب بملابسهم الغربية لا ينالون التوقير بل يتعرضون للسخرية والاستهانة بهم وهذا أمر طبيعى.

لذا فالأمر يتطلب ممن يذهبون إلى تلك البقعة المباركة أن يلبسوا ملابسهم وهذا الأمر لمن يجوبون الوديان والصحارى فى غير أوقات الحج ، ولكن الذين

١٤٢

يقيمون فى مكة المكرمة أو المدينة المنورة يستطيعون أن يرتدوا الملابس الخاصة ببلدانهم دون أن يتعرضوا لسوء معاملة من الأهالى بل على العكس يلقون منهم ترحيبا واحتراما.

وكل أهالى الحرمين الكرام مجبولون على حسن استقبال الضيف فهذا من طباعهم الفطرية ، وهو أمر لا مجال لإنكاره ومن ينكر هذا فعليه أن يتذكر مجاورى الحرمين.

ورغم تحقيق الإمام مالك ـ رحمة الله عليه ـ صحة ما ذكر عن فضائل مكة المكرمة وآثارها المتدثرة بآيات الحكم ، إلا أنه يرى أن المدينة المنورة أفضل من «مكة المكرمة» ويؤيد رأيه قائلا : «إن المدينة المنورة مدفن رسول الرحمن أفضل من مكة المكرمة ، لأن رسولنا باعث خلق العالم ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا الله بقوله يا ربّ أنت تعلم أن قريشا أخرجتنى من البلدة التى أحبها فأسكنى يا رب البلدة التى تحبها» وكرر هذا الدعاء فاختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ معطى العطايا المدينة المنورة دارا للهجرة النبوية. وإذا كان المكان هذا أحب البلدان إلى الله ـ عز وجل ـ فلا بد أن يكون ذلك المكان أفضل وأشرف من سائر البلدان.

وقد رأينا أنه من الأفضل التزام الصمت بخصوص هذه المسألة قائلين : الله سبحانه وتعالى أعلم ببواطن الأمور.

شعر

مكة التى هى قبلة أهل النجاة

حرسها الله من الحادثات

ترابها يبعث الحياة فى الموات

إن الورد خجل من شوكه وغثائه

لأن حصباء أرضه نجوم سمائه

حقا إنه لمن ضل الطريق دليله

١٤٣

جعل الأرض القاحلة جنة

جمع الدر وأصبح نعيم الجنة

ليس وردا ولكن نسيم سحره ينفح عطرا

ليس خمرا ولكن حانته تموج بالضجّة

ليس زرعا ولكن بيدره يهب الحب

ليس عرشا ولكن طوباه وارفة الظلال

ليس بستانا ولكن ثمره موفور

ليس سهلا ولكن زرعه مخضوضر

ليس زهرة حمراء مشتعلة ولكن فيه نبراسا

فى قلبه جراحات من الحسرات

حدود حرم الله ومواقيت كعبة الله المكانية :

قال المؤرخون : إن حدود الحرم الشريف لكعبة الله ، تبلغ ستة أميال من ناحية الشرق ، وثمانية عشر ميلا من ناحية الغرب ، واثنى عشر ميلا من ناحية الشمال وأربعة وعشرين ميلا من ناحية الجنوب.

أما مؤلف «تاريخ خميس» ، فقد قال : «لقد قست بنفسى بقياس المسافة ، ووجدتها ثلاثة أميال من طريق المدينة المنورة وتسعة أميال ، من طريق شعب آل عبد الله بن خالد الواقع ناحية جعرّانة».

وفى قول آخر : «عشرة أميال وسبعة أو تسعة أميال من طريق عرفات المسمى بطن نمرة».

وكتب مؤلف «نخبة الدهر» فى كتابه المذكور :

أنها ثلاثة أميال من جهة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وعشرة من طريق جدة ، وأحد

١٤٤

عشر ميلا من طريق الطائف ، وستة أميال من ناحية العراق. والأرض التى خارج هذه الحدود ليست من الحرم (١)».

وهذا الاختلاف لم يكن فيما يتعلق بتحديد أماكن ومواقيت مكانية أو تعريف نقاطها وإنما فى مقياس المساحة ، لذا فالمساحة بالنسبة لكل واحد منهم تخضع لحسابه وكلها صحيحة بالنسبة لحساب كل واحد منهم.

ويقول على بن بلبان الفارسى الحنفى مؤلف الكتاب المستطاب المسمى «عمرة السالك فى المناسك» نقلا عن الإمام الأزرقى (٢) : إن ميقات أهل المدينة عند التنعيم وهو مكان قريب من «بيوت تغاره» الواقعة جهة المدينة على مسافة ثلاثة أميال من مكة المعظمة.

ويقول : الإمام مالك رضى الله عنه : إن أهل المدينة المنورة يحرصون ويبدءون فى التلبية من قرية ذى الحليفة.

وهذا المكان اللطيف يقع عند البئر المسمى بئر على ومسجد الشجرة وهو على مسافة تسع ـ وعلى رواية عشر ـ مراحل من مكة المعظمة من ناحية المدينة المنورة ويقول البعض عن سبب تسمية بئر على أن الكرار ـ عليه رحمة الله ـ قاتل الجن هناك ، لذا أطلق على هذا البئر اسم بئر على ، لكنها رواية مختلقة لا أصل لها.

و «ذو الحليفة» أبعد مكان عن مكة من ناحية الميقات وهى أطلال قرية مشهورة ، وقد أراد رسول الملك المتعال أن يحرم أهل المدينة هناك تعظيما لأجرهم

__________________

(١) الجبال والوديان والصحارى.

(٢) الإمام الأزرقى هو الإمام أبو الوليد محمد بن عبد الكريم المكى ، المعروف بالأزرقى وهو من أعلم العلماء وهو أول من كتب عن تاريخ مكة. وتلاه فى كتابة التاريخ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهى. وثالثهم سيد تقى الدين محمد بن أحمد بن على الحسينى وبعده الحافظ نجم الدين عمر بن محمد بن فهد الشافعى ، ثم الشيخ عز الدين بن عبد العزيز وهو ابن الحافظ نجم الدين وآخرهم القطب المكى. وقد كتب كل منهم كتابا فى التاريخ باللغة العربية أما القطب المكى فى تاريخه فقد نقل وروى بالذات عن الشيخ عز الدين ونقل وروى بالواسطة عن سائر المؤرخين.

١٤٥

وثوابهم وقد ذكر «ابن بلبان الفارسى» فى صدد تعريفه وتعيينه لميقات أهل اليمن أن المكان الذى يحرم عنده اليمنيون هو منطقة «أضاة اللبن» الواقعة على مسافة سبعة أميال من مكة المفخمة من جهة اليمن ، وقد ركز هناك علمان لتعيين هذا المكان الذى يبدأ عنده ارتداء ملابس الإحرام.

و «أضاة اللبن» لا بد وأنه الموضع المسمى «يلملم» على مسافة مرحلتين من مكة المعظمة. ومكان إحرام المصريين هو مدينة «رابغ» القريبة من الجحفة ميقات أهل الشام. أما المكان الذى يحرم منه أهل نجد فهو أعلى ربوة فى تهامة ، أما الذيت يتوجهون للحج عن طريق الشام الشريف فإنهم يحرمون في المكان المسمى جحفة ، وجحفة هذه أطلال قرية تقع على مسافة خمس مراحل وعلى قول ست مراحل من مكة المكرمة ، والاسم الأصلى لقرية جحفة كان على وزن مهيعة ، ذلك أن جماعة من العمالقة سكنوا فيه وذات ليلة اجتاحهم السيل وقضى عليهم تماما ، لذا أطلقوا على سكان أطلال هذه القرية اسم جحفة.

قال ابن بلبان الفارسى : رغم أن الرواية تقول إن الحجاج القادمين من طريق العراق يحرمون من نقطة «ثنية الهيك» الواقعة على بعد سبعة أميال من مكة المعظمة ، إلا أن الإمام مالك قال ـ كما جاء فى كتاب ـ أحسن المسالك : إن قوافل حجاج العراق تحرم من موقع قرية قرن وهو المكان المسمى قرن المنازل. وقد استقر حول المكان المذكور جماعة «قرن» التى انفصلت من قبيلة «مراد» وحضرة «أويس القرنى» (١) من أفراد هذه الجماعة.

وإذا قرئ لفظ قرن بسكون الراء فهو اسم جبل ، وإذا قرئ بفتح الراء فهو اسم طريق يقع بجوار الجبل المذكور ، وتقع مكة المشرفة شرق الجبل المذكور بمرحلتين. ورغم أن الإمام الفاكهى قد ذكر أنه يوجد جبل باسم قرن على بعد

__________________

(١) سيد التابعين : له ذكر فى صحيح مسلم وكان ـ رحمه الله برّا بأمه ، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «من لقبه منكم فمروه فليستغفر لكم» ، الحديث. لقى الله شهيدا يوم صفين مع على رضى الله عنه. ترجمته مطولة فى الإصابة ١ / ١١٨ ـ ١٢٠ رغيرها.

١٤٦

ألف وخمسمائة ذراع من مسجد الخيف (١) إلا أنه غير «قرن المنازل» لأن ذلك الجبل يسمى ، قرن الثعلب.

وقد قام شخص بترتيب ونظم الأبيات الآتية للتوفيق بين الروايات المختلفة.

شعر

عرق العراق يلملم اليمنى

وذى الحليفة يحرم المدنى

للشام جحفة إن مررت بها

ولأهل نجد قرن فاستبن

وقد ذكر فى هذه الأبيات اسم الميقات الخاص بأهل كل جهة ، وفى الأبيات التالية سنعرف أبعاد كل ميقات فى مكة.

شعر

وللحرم التحديد من أرض طيبة

ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه

وسبعة أميال عراق وطائف

وجدة عشر ، ثم تسع جعرانة (٢)

فتوح الحرمين

إن جبل رابغ ، هو ميقات حجاج بلاد الروم والأناضول ومن يتوجهون للحج بحرا عن طريق قناة السويس ، وكل باخرة تحمل الحجاج عند ما تصل إلى محاذاة جبال رابغ ، يبلغ الحجاج الذين على ظهرها مبدأ الإحرام ويستخدم مرشد ماهر من أبناء العرب فوق كل باخرة للقيام بهذه المهمة.

__________________

(١) يقع هذا المسجد أمام مسجد المرسلات فى «منى».

(٢) هذه الأبيات لشخص يدعى ابن الملقن.

١٤٧

أسماء الذين جددوا أميال المواقيت :

إن حدود حرم كعبة الله هى المواقيت التى ذكرت وعرفت فيما سبق ، يقول الإمام الأزرقى أنه عند ما هبط آدم ـ عليه السلام ـ على الأرض انتابه إحساس بالخوف والرهبة من وحشة الفراغ ، واستعاذ بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ولجأ إليه فأنزل الله إلى الأرض ملائكة كثيرين لإزالة هذا الخوف والرهبة من نفس آدم ـ عليه السلام ـ وأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الملائكة أن يقيموا حول مكة المعظمة ، وبذلك تعين حدود حرم كعبة الله ، وهو المكان الذى أحاط به الملائكة من كل الجهات.

وفى قول آخر أنه عند ما أنزل الحجر الأسود من خزائن الجنان فى البلدة المقدسة لكعبة الله ، تحددت حدود الحرم بما بلغه من النور والضياء المنعكس من الحجر الأسود فى كل الاتجاهات ، وهذه الحدود هى المواقيت المكانية السابق ذكرها.

ويقول الإمام الأزرقى : إن آدم ـ عليه السلام ـ ثبت علامات فى المواقع المذكورة لتعين حدود حرم الله ، وللحفاظ على هذه الحدود أرسل الله ـ سبحانه وتعالى ـ كثيرا من الملائكة العظام للقيام بهذه المهمة.

وقد طمست هذه العلامات التى وضعها آدم ـ عليه السلام ـ ولم ير لها أثر ، فعرف الله ـ سبحانه وتعالى ـ حضرة الخليل الأماكن التى وضعت فيها هذه العلامات من قبل أبى البشر ـ عليه السلام ـ فأعاد إقامة الأحجار فيها مرة أخرى. وكان برفقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ عند ما أعاد وضع العلامات ابنه إسماعيل ـ عليه السلام.

وبمرور الوقت طمست الرمال الأحجار التى وضعها إبراهيم ـ على نبينا وعليه التفخيم ـ وغابت عن العيون ، وفى عهد عدنان بن أد أصبح من الضرورى تعيين هذه الحدود بين مناطق الحل والحرم ، لذا تقصى عدنان بن أد المشار إليه أماكن الأحجار التى وضعها خليل الرب الجليل حتى وجدها فأقام فى أماكنها مبان قوية

١٤٨

من الطين والحجارة هى تلك العلامات لكى لا تطمس بسهولة وبعد ذلك قام قصى بن كلاب بن مرة بإعادة ترميم العلامات وتجديد بناءها وجعلها أمتن وأقوى.

وبعد قصى بن كلاب لم يتم ترميم العلامات وتعميرها ، وفى يوم فتح مكة «ذلك اليوم الميمون» كلف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوحى من قبل الله بترميم مبانى المواقيت وتقويتها.

وبعد ارتحال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان بن عفان ومن بعده معاوية بن أبى سفيان ومن بعده عبد الملك بن مروان ، قاموا كلهم بتقوية مبانى العلامات التى بناها عدنان بن أد وذلك لتحديد المواقيت المكانية الشريفة.

وفى عهد خلافة المقتدر بالله العباسى تم إصلاح وتصويب علامات مسافات الأميال المذكورة. وفى سنة ٣٢٥ ه‍ قام الراضى بالله من خلفاء العباسيين بوضع علامات «العمرة كما قام بعده بفترة مظفر حاكم أربل بوضع علامات «عرفات» وهذا لأنه لم تكن قبل عهد «الراضى بالله» علامات للعمرة ، ولم تكن هناك علامات لتحديد أماكن عرفات قبل حكم المظفر. وكان للسلطان» أحمد خان الأول العثمانى ـ طيب الله ثراه ـ شرف تجديد علامات عرفات.

ومن ذلك الوقت يطلقون اسم الحرم على المكان الذى داخل حدود العلامات الموضوعة لتحديد حدود الميقات ، ويطلق اسم الحل على خارجها.

***

١٤٩

الصورة الخامسة فى توضيح المسائل الهامة الخاصة بإيجار واستئجار بيوت هذه المدينة المفخمة للإقامة فى مدينة مكة المعظمة

الإقامة فى مكة المكرمة مكروهة عند العلماء ، وقد قيل فى هذا أن طول فترة البقاء يورث فقدان حرمة بيت الله فى النفوس. وبمقارنة ما يشعره الإنسان من ألفة واستئناس عند ما يسكن فترة طويلة فى البلاد الأخرى يخشى أن الإقامة الطويلة قد تزيل من القلوب ما يجب من التعظيم والتوقير نحو كعبة مكة المعظمة ، وهذا شىء طبيعى فى الناس. والأولى بأهل الإيمان أن يقيموا فى بلادهم مبدين الشوق والحب لكعبة الله من بعيد.

وكان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى زمن خلافته يأمر أن يعود الحجاج إلى بلادهم بمجرد عودتهم من عرفات حتى يحافظ على حرمة الكعبة فى قلوب الناس وهيبتها. وكان يستحث القوافل على الرحيل مرددا النداء يا أهل اليمن ، يا أهل الشام ، يا أهل العراق ، سيروا إلى بلدكم ، فإنه أبقى لحرمة بيت ربكم» وكأنه كان يعيد معنى الحديث الشريف : «من فرغ من حجه فليعجل بالرجوع إلى أهله» (حديث شريف).

أصح مثال الذين يرومون مجاورة الحرم الشريف يستأنسون بغير الله بينما يقيم الرجال الصالحون في بلاد بعيدة وممالك نائية وقلوبهم أكثر قربا لبيت الله ممن يطوفون حول المقام السعيد.

وحيثما يكون الإنسان فى أى مكان وتغويه نفسه بعصيان الله بارتكاب ما يحرمه ثم ينصرف عن هذه النية قبل أن يشرع فى تنفيذها أو القيام بما جال بخاطره فلا تكتب عليه سيئة. أما من يقيم فى مكة المكرمة ويجول بخاطره القيام

١٥٠

بما حرمه الله فيكون آثما ، وإن لم يرتكب ما جال بخاطره وتكتب عليه سيئة فى صحيفة أعماله.

وبناء على هذا الأمر استوطن عبد الله بن عباس الطائف ، وقال ابن مسعود : «لا يوجد بلد غير مكة يؤاخذ فيه بالهمّ قبل الفعل ـ يعنى فعل السوء».

حكاية : يقال إن رجلا استودع أحد أحبابه أمانة ليحفظها له لفترة ، ولكنه كان امرأ سوء فقرر ألا يعيد الأمانة إلى صاحبها وأنكر أنه أخذها بل اجترأ على القسم بذلك أمام كعبة الله. وفي نفس الليلة التى أقسم فيها مات وتحول وجهه إلى وجه كلب.

حكاية أخرى : يروى أن رجلا آخر فى أثناء طوافه بالكعبة لمح معصم امرأة جميلة كانت تطوف بجواره ، فمد يده لذراع المرأة ليتلذذ بملامستها. ولأن المرأة كانت عفيفة صالحة فقد تضايقت من تصرف الرجل ، وتعلقت بجدار الكعبة وهى تنوى أن تشكو هذا الأمر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ صاحب البيت المشرف.

ولكن الرجل لم يقتنع بالوقاحة التى ارتكبها ، وسار فى أعقابها ومد يده إلى المرأة للمرة الثانية وعلى الفور شلت يده التى مدها فصار أكتع «نعوذ بالله تعالى» انتهت.

وهكذا تكون نهاية من يرتكبون الآثام فى الحرم الشريف ويلقون جزاءهم بما اقترفوا ـ حفظنا الله جميعا ـ آمين. الحرم الشريف للمسجد الحرام ليس مكانا خاصا لأداء الصلاة فقط مثل سائر المساجد ولا يحد بجدران المسجد ، بل يمتد ليحتوى كل الأراضى المقدسة داخل المواقيت المكانية المعلومة ، لذا فإن الباحثين المدققين من الأسلاف الذين اختاروا المجاورة فى مكة المكرمة ، كانوا يخدمونه بتبصرة تامة وانتباه كامل.

قصة غريبة : كان وهب بن رودكى أحد أولياء الله الذين لهم باع طويل بحقائق المسجد الحرام ، انتهز الفرصة المناسبة لتنبيه الذين اختاروا المجاورة في مكة المكرمة فقال : «كنت أصلى ذات ليلة فى حجر إسماعيل ، وفجأة سمعت صوتا

١٥١

من وراء ستار الكعبة ، فأنصت إليه فإذا بالكعبة ذاتها تقول : «يا جبريل أشكو إليك بعد الشكوى إلى الله الحق من أهل الهوى الذين يتفوهون بكلمات تدل على انصرافهم للهو ولغو الكلام فى أثناء وطول مصاحبتهم ، فإن لم يستغفروا ويتولوا عن ذنوبهم ويتخلصوا مما اقترفوا فسوف أنتفض انتفاضة قوية بحيث يتطاير كل حجر من أحجارى إلى الجبل الذى أخذ منه وهكذا أزول فى الحال «وما إن سمعت هذه الشكوى والحوار بين الكعبة والرسول الجليل حتى اعترانى الاضطراب والرجفة.

ويتناقل هذه الحكاية الغريبة من سمعوها من وهب نفسه ، ويوصون الحجاج بألا يحرصوا على الإقامة بمكة بعد الرجوع من عرفة.

وقد أجاب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ على سؤال طرح عليه لتوضيح هذه المسألة وكان السؤال : هل العودة بعد الحج أفضل أم الإقامة بمكة للمجاورة؟

فأجاب : إن العودة بعد الحج أفضل.

وإذا كان الإمام مالك يرى أنه يكره المجاورة ، فإن الإمام أبا حنيفة يروى عنه فى رواية صحيحة أنه قال «يجب على الذين ينتهون من أداء الحج أن يعودوا إلى بلادهم وأولادهم وزوجاتهم» غير أن الإمام أبا يوسف والإمام محمدا والإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل لم يتشددوا فى هذا الأمر اتفقوا بأن مجاورة مكة أمر مستحب.

أما الإمام الأعظم فأفتى بكراهية مجاورة مكة المكرمة ، وذلك لملاحظة أن عامة الناس يعجزون عن رعاية حقوق الحرم المحترم ، وفى الواقع أن طوائف العامة لا يراعون حرمة الكعبة المعظمة حق رعايتها.

والمقصود من كراهة المجاورة بالنسبة للإمام الأعظم ليس مجرد الإقامة في مكة المكرمة ، بل إنه يذكر محظورين يجب اجتنابهما أحدهما : أنه كلما طالت الإقامة فيها يأنس القلب بالبيت ويألفه لأن تكرار المشاهدة وكثرتها تؤدى إلى

١٥٢

التقليل من حرمة بيت الله عند النظر إليه. والآخر الخوف من ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى فساد الأخلاق والفسق فى حرم الله نعوذ بالله تعالى من هذا وما أتعس المؤمن الذى تعرض لارتكاب هذين المحظورين. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (الحج : ٢٥) وما تفيده الآية الكريمة أن كل من يعدل عن الحق ويرتكب الظلم والجور قاصدا معصية الله فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سيذيقه عذابا أليما.

أما من كانوا مفطورين على إعزاز البيت الشريف وإجلاله عند ما يرونه كل مرة يعتريهم الخشوع والمهابة والدهشة. كأنهم يرونه أول مرة إذا كانوا قادرين على ذلك فمما لا شك فيه ولا شبهة أن نعمة المجاورة سعادة فوق الوصف ومبعث الفخر والسرور.

ومع هذا فإن كراهية مجاورة مكة خاصة بالمسلمين الذين عاشوا فى العصور السابقة ، وأما الآن فقد تغيرت الدنيا واضطر المسلمون أن يختلطوا بالأجانب وأن يتأثروا بأخلاقهم ، كما أن أسباب المعيشة اضطرت الناس إلى المقابلة بالتقى والشقى ، لذا فأولى بالنسبة لصفاء النفوس أن يلجئوا إلى بلدة الله أو إلى البلدة الطيبة لرسول الله حيث يلوذون إلى الله الغفار راجين عونه ورحمته.

وبما أن الكعبة وما حولها مقر الأنبياء والأولياء فمن المرجو أن يتأثر هؤلاء الضعاف من المسلمين بهم ويقتدوا بهم وهم يداومون فى الطواف حول بيت الله.

يقول الإمام اليافعى فى كتابه المسمى «روض الرياحين» :

«يرى أحيانا الملائكة الكرام والأنبياء العظام وخاصة الأولياء الكرام ذوى الاحترام حول الكعبة وجوارها ، وأكثر ما يرى فى ليالى أيام الاثنين والخميس والجمعة ، ويروى أنه يشاهد إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأولاده عيسى عليه السلام وجماعته فى حجر إسماعيل وفرق الملائكة عند الحجر الأسود ، وسيد الأنبياء عليه وعليهم التحيات ، وأهل بيته والصحابة والأولياء أمام الركن اليمانى.

١٥٣

وقد ثبت تضاعف الأجر والمثوبة الحسنة عند الأكثر فى مكة المكرمة ، إلا أن السيئة تظل سيئة واحدة بينما الحسنة يضاعف ثوابها.

ومن المتفق عليه أن أولياء الله يترددون على المسجد الحرام عند ما يكون خاليا ، ومن يحظى بنظرة أو التفاتة من هؤلاء الصالحين ينل سعادة عظيمة كما برهن عليه كبار العلماء. نفعنا الله ببركات أنفاسهم.

وقصر النظر على البقعة المقدسة للكعبة المعظمة هو عين العبادة ، وتغفر ذنوب الذين ينظرون إليها بمحبة كاملة وإيمان صادق واحتساب ، ومن يقصرون نظرهم على الكعبة وحدها فلهم أجر طاعة وعبادة سنة كاملة.

وينظر الله الحق إلى الخلائق ٣٦٠ مرة كل يوم ، وأول من يكون محط نظره ـ سبحانه وتعالى ـ هم أهل مكة ، ومن ينل من هؤلاء نظرة الله وهو قائم يصلى أو فى حالة طواف أو حال استقبال الكعبة يغفر لهم ذنوبهم ، أو حتى النائمين يلحقون بزمرة المغفور لهم.

وثواب من يكون فى مكة المفخمة ويقضى أيام رمضان صائما ولياليه قائما يعادل ثواب من يقضى الليل قائما والنهار صائما فى رمضان مائة ألف رمضان فى غيرها من البلدان ، وسوف تحشر مكة المعظمة يوم القيامة مثل العروس عند الزفاف ويتعلق بأستارها الحجاج والطائفون ويدخلون رياض الجنة وهم يطوفون حولها.

نظم

بما أنك تسكن هذا الدير بأدب

فعليك أن ترعى أصول الأدب

إن الشوق يزداد لأن ما كان إنما كان نارا

أيما امرئ كان مجاورا في هذه المحلة

١٥٤

كان زواره أكثر من أحجارها

يجدر بمن هو كامل الأدب

أن يصل الليل بالنهار بشوقه

يحكى أنه أكثر من ذلك

من كثرة ما خربت بالدره

من خلف عن قافلة الحج

فلن يتسع العذر لذلك

ولا يحترم حرمة هذا البيت

حينما يفكر فى الطواف به

لا يرعى أصول الأدب

أنت تتغافل عن التشكيك

وأصبحت بذلك آثما عاصيا

لقد تجاوزتنا فى سوء الأدب

وليس لنا موضع من هذا الوضع

(فتوح الحرمين).

خلاصة مسألة إيجار البيوت :

بمراجعة الكتب الفقهية لمعرفة ما إذا كان إيجار البيوت والمنازل فى مكة المكرمة جائزا أو غير جائز شرعا ، وإن فهم هذا الموضوع يكون ممكنا بالرجوع إلى الكتب الفقهية.

ولما كان أخذ إيجار المنازل من الحجاج الذين يفدون إلى مكة ليس حلالا ، لذا كان الأوائل يأخذون ثمن الإيجار فى السر والخفاء حتى أن عمر بن الخطاب أمر

١٥٥

أن تترك أبواب بيوت مكة مفتوحة فى موسم الحج حتى يسكن الحجاج فى المنازل الخالية ، كما كان لعمر بن عبد العزيز أوامر مشددة إلى أمراء الإمارة الجليلة لمكة المكرمة بألا تؤجر بيوت مكة إلى الحجاج.

وقد أجاز الإمام محمد والإمام أبو يوسف أن تباع بيوت مكة مع الكراهة ، إلا أن الإمام الأعظم قال إنه مكروه فى كل الأحوال. وقد أفتى صاحب الواقعات فى هذه المسألة ورجح القول الأول.

وحسب قول مؤلف «عيون المسائل» إن الإمام الأعظم قال فى رواية : «إن بيع بيوت مكة جائز». كما أن الإمام أبا يوسف قد رجح هذا القول على ما عداه من أقوال. وبالنظر إلى قول المرحوم «قوام الدين» فى شرح الهداية أن بيع بيوت مكة جائز باتفاق العلماء. وبما أن كل بناء ملك بانيه وأن المبانى التى أقامها الأشخاص على أراض موقوفة يستطيعون بيعها شرعا فبيع بيوت مكة جائز أيضا.

وطبقا لما نقله ورواه صاحب التقريب ، فقد رأى الإمام الأعظم أن إيجار بيوت مكة مكروه ، وقال : والذين يفدون إلى مكة من خارجها. إذا لم يجدوا مبانى خالية لسكناهم أفلا يسكنوا فى بيت بالإيجار ، كما أيد الإمام محمد هذا القول بما ورد فيما معناه «أن من يعيش حتى يأكل من ثمن إيجار بيوت مكة يدخل النار». إلا أن الدار قطنى عد هذا الحديث من الأحاديث الموقوفة.

وفى رواية أخرى للإمام الأعظم عن كراهية الإيجار لمن يأتون فى مواسم الحج وليس للمقيم. فبما أنه لا توجد ضرورة بالنسبة للمقيم فمن الجائز إيجار المنازل لهم. ولا يجوز إيجار البيوت لمن تتبين حاجتهم الضرورية فى موسم الحج. وقال لنسكن هؤلاء فى المنازل الخالية رحمة الله ـ تعالى ـ عليه وعلى سائر الأئمة أجمعين رحمة واسعة.

وفى عصرنا الحالى يؤجر أهل مكة بيوتهم للحجاج ويسكنون هم فى وقت الحج فوق أسطح منازلهم ، وبهذه الطريقة يسكبون أموالا تكفى لإعاشتهم وأولادهم سنة كاملة.

١٥٦

الوجهة الثانية

تحتوى على ثلاث عشرة صورة مرتبة تضم أقوال المؤرخين التى ذكرت حول تفاصيل بناء مكة المعظمة وعمارتها ، وعن الذين قاموا ببناء هذه البقعة المقدسة المباركة ، وأسباب تجديدها وتعميرها وإنقاص مساحتها وتوسيعها.

الصورة الأولى

تعرض الأقوال التى ذكرت فى أوليات بناء الكعبة

ذكر مؤرخو السلف أقوالا متباينة كثيرة حول عدد مرات تجديد بناء كعبة الله العليا ، واختلفوا فى أقوالهم وأطالوا فيها وقرروا أخيرا أنها جددت سبع مرات على قول بعضهم ، وعشر مرات بناء على أقوال الآخرين.

واعتمادا على الرواية المنقولة عن زين العابدين والد الإمام الباقر ـ رضى الله عنه ـ قال المؤرخون : «إن الملائكة هم البناة الأوائل لهذه البقعة المقدسة».

والذين يقولون إنه تم تجديدها سبع مرات يذكرون أن تجديدها تم على النحو التالى : المرة الأولى بناها الملائكة الكرام ، وفى الثانية جددها سيدنا إبراهيم ، وفى الثالثة جددها العماليق ، وفى الرابعة طائفة الجراهمة ، وفى الخامسة قبيلة قريش ، وفى السادسة عبد الله بن الزبير ، وفى السابعة جددها الحجاج الظالم.

أما الذين يقولون إنها أعيد بناؤها عشر مرات فيذكرون أن الملائكة العظام بنوها فى المرة الأولى وفى الثانية بناها أبو البشر آدم ـ عليه السلام ـ وفى الثالثة سيدنا شيث وأولاده وأحفاده. وفى المرة الرابعة إبراهيم الخليل ، وفى الخامسة أفراد قبيلة العماليق وفى السادسة عشائر جرهم ، وفى السابعة قصى بن كلاب بن مرة وفى الثامنة قريش قبل البعثة النبوية وفى التاسعة عبد الله بن الزبير ، وفى العاشرة جددها الحجاج بن يوسف الثقفى الظالم ، كما قام السلطان مراد خان الرابع من سلاطين العثمانيين العدول بتجديد البناء الرصين الأركان لكعبة الله فى المرة الحادية عشرة ، وما زالت على تلك الصورة التى جددها عليها إلى الآن.

١٥٧

شعر

بنيت الكعبة أحد عشر مرة فاعلم

الملائكة وآدم وأولاده والرابع إبراهيم

والعمالقة وجرهم وقصى وقريش أقاموها

وتاسعهم الزبير الذى أقامها وكرمها

كذلك الحجاج شىء أتمه

لقد فرق الحطيم وكأنما رممه

وأرادها السلطان مراد التجديد

وكان الحادى عشر بتاريخه المجيد

سنة ١٠٤٠

١٥٨

الصورة الثانية فى تفصيل وبيان كيفية بناء الكعبة المعظمة للمرة الأولى

خاطب خالق الأرضين والأفلاك تعالى شأنه عن الفهم والإدراك الملائكة العظام بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة : ٣٠) ، وذلك ليبدى لهم بأنه ـ سبحانه وتعالى ـ سيخلق أبا البشر آدم ليكون خليفة فى الأرض وأدركت الملائكة بشفافية وجدانهم الملائكة أو بإلهام رب العزة أو بالنظر فى اللوح المحفوظ ، أن بنى البشر سيسفكون الدماء ويفسدون على وجه البسيطة ، وأرادت أن تعرف الحكمة من إعطاء خلافة الأرض إلى بنى آدم الميالين إلى الظلم وسفك الدماء ، ولم تعط إلى طائفة معصومة وتساءلت : لماذا تخلق من يفسد فى الأرض؟ ونحن نسبح بحمدك ونقدسك بذكرك فأجابهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاسما الأمر بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠) ، ولم يكن الغرض من تساؤل الملائكة الاعتراض على أفعال الله حسب تقديرهم ، ولكن فى هذا السؤال نوعا من الاحتجاج كما يفهم من قول الله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ولذا ندم الملائكة ولاذوا بالعرش الأعظم يبكون ويتضرعون طلبا للعفو والصفح عما اقترفوه ليتجنبوا الغضب الإلهى ، واستمروا لمدة ثلاث ساعات يطوفون بالعرش الإلهى ويستعطفون فى تذلل وخضوع وهم فى قلق وخشوع زائدين ، وفى النهاية بلغ منهم الرجاء والتضرع العفو والمغفرة واستجلبت توسلاتهم شفقة ورحمة صاحب الكبرياء ، وأمرهم أن يطوفوا بالبيت المعمور الواقع تحت العرش الأعظم ، ثم أمرهم بأن يبنوا على وجه الأرض بقعة مقدسة فصدعوا بالأمر الإلهى ، وقاموا ببناء ورفع بنيان الكعبة المعظمة التى أصبحت مطافا إلى الآن.

١٥٩

تفصيل :

شاء خالق العالم أن يقام بيت مقدس على وجه الأرض ، وأرسل كثيرا من الملائكة لإنجاز هذا الأمر ، وخاطب الملائكة آنذاك بقوله : «شيدوا على وجه الأرض بيتا معظما وعند ما يطاف بالبيت المعمور فى السماء الدنيا ، يطوف أيضا أهل الأرض بهذا المقام الرفيع الذى ستقيمونه على وجه الأرض ، بناء على ذلك قام الملائكة الكرام الذين هبطوا إلى الأرض ببناء بقعة مفخمة مباركة فى الموقع المقدس للكعبة المعظمة.

وعند ما صدر الأمر الإلهى للملائكة الذين سكنوا على وجه الأرض ببناء البيت الشريف تحت مستوى البيت المعمور ومحاذاته ، وأن يقوموا بالزيارة والطواف حول هذا البيت لم يكن آدم ـ عليه السلام ـ قد هبط على وجه الأرض.

وإذا كانت هذه الروايات تشير إلى أن بناء البيت المعظم كان بعد خلق الأرضين فإن على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال : إن البيت الشريف خلق قبل خلق الأرض والسماء بأربعين سنة ، وكان فوق الماء مثل فقاعة بيضاء أو رغوة وبسطت الأرض من تحته وحفظ ، وقال الإمام مجاهد مصدقا ما قاله الإمام على «إن خلق موقع بيت الله كان قبل خلق الأرض بألفى سنة ، ثم بسطت الأرض تحت الكعبة» بناء على هذا فلا شك فى أن الموضع الطيب لبيت العزة خلق قبل الأرض وأن كعبة الله المقدسة قد شيدت بعد خلق السموات والأرض. وحسبما جاء فى الكتب الموثوق بها أن حضرة الخالق المطلق عند ما أراد خلق وجه الأرض وإيجادها بسط بيد الجلال وقبضة القدرة التى لا نظير لها تراب الموقع المبارك لكعبة الله بعد خلق وجه الأرض ، وهكذا ظلت الكعبة المعظمة فى وسط الأرض تحيط بها القشرة الأرضية من جميع الجهات.

وفى الواقع أن الساحة المفخمة للكعبة المعظمة كانت موجودة قبل خلق وجه

١٦٠