مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

(٤) ويقول في تفسير قوله تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ما نصه : ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدى ونيل رضوان الله والنعيم المخلد ا ه. وأنت ترى أن في ذلك تعريضا بإنكار رؤية الله ؛ إذ يصرح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها ، مع أنه لم يذكر الرؤية. وقد صرح بإنكارها في سورة الأنعام إذ قال في تفسير قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ما نصه : ـ البصر هو الجوهر اللطيف الذى ركّبه الله في حاسة النظر ؛ به تدرك المبصرات. فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه ، لأنه متعال عن أن يكون مبصرا فى ذاته ، إذ الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصالة أو تبعا ، وذلك كالأجسام والهيئات ا ه.

ويردّ عليه أهل السنة (أولا) بأن الإدراك المنفى عبارة عن الإحاطة. ومنه قوله تعالى (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أى أحاط به. وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى :

(إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أى محاط بنا. فالمنفى إذن عن الأبصار إحاطتها به عزوجل ، لا مجرد الرؤية. ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام ؛ وهذا لا يمنع أن تعرفه. فالإحاطة للعقل منفية كنفى الإحاطة للبصر. وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ، ثابت غير منفى.

(ثانيا) أن الزمخشرى لم يذكر على إحاطة الرؤية عقلا دليلا ولا شبه دليل ، سوى أنه استبعد أن يكون المرئى لا في جهة. وهذا نعارضه بالمثل فنقول : يلزمكم استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة ، إذ الاتباع للوهم يبعدهما جميعا ، والانقياد للعقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا.

وحسبنا هذا فحبل النقاش بين أهل السنة والمعتزلة طويل. وميدان الأخذ والرد بينهما علم الكلام ، فارجع إليه إن شئت المزيد. عصمنى الله وإياك من الزلل ، ووفّقنا للقصد في الاعتقاد والعمل ، آمين.

٥٤١

كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن :

مؤلفه هو القاضى عبد الجبار بن أحمد بن الخليل. وكنيته أبو الحسن البغدادى. برع فى علم الكلام ، وفاق أهل زمانه ، ووضع كتبا جليلة ، وإليه انتهت رئاسة المعتزلة ومشيختها ، فصاروا يأخذون برأيه ، ويعتمدون على كتبه ، إلى أن توفى سنة ٤١٥ خمس عشرة وأربعمائة. وله مصنفات كثيرة ، من أهمها كتابه هذا : «تنزيه القرآن عن المطاعن».

وهو مرتّب على مسائل كل مسألة تتضمن سؤالا وجوابه ، ولم تكن همته تفسير القرآن ، بل كان كل همه موجّها نحو تأييد مذهبه. لذلك تراه لم يفسر جميع القرآن ، بل يذكر من السورة الآية التى يستطيع أن يؤولها على مقتضى عقيدته ويؤيد بها مذهب المعتزلة على نمط ما فعل الزمخشرى في الأمثلة التى بين يديك. وهذا الكتاب يحتوى كثيرا من الفوائد على رغم تعصّبه المذهبى وعدم عنايته بالتفسير كما يجب.

ق ـ تفاسير الباطنية

الباطنية قوم رفضوا الأخذ بظاهر القرآن وقالوا : للقرآن ظاهر وباطن ، والمرد منه باطنه دون ظاهره. ويستدلون بقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) وهم فرق متعددة على المثال الآتى :

١ ـ القرامطة : نسبة إلى حمدان قرمط إحدى قرى واسط ، وهو الذى تزعمهم فيما ذهبوا إليه.

٢ ـ الإسماعيلية. نسبة إلى إسماعيل أكبر أولاد جعفر الصادق ، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون الإمامة فيه. وقيل إنهم سموا إسماعيلية ، لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل.

٥٤٢

٣ ـ السبعية : نسبة إلى عدد السبعة. ذلك لأنهم يعتقدون أن في كل سبعة إماما يقتدى به.

٤ ـ الحرمية : نسبة إلى الحرمة. وذلك لأنهم يستبيحون الحرمات.

٥ ـ البابكية : نسبة إلى زعيمهم بابك الخرمى الذى خرج بأذربيجان.

٦ ـ المحمرة : سموا بذلك للبسهم الحمرة.

ومذهب الباطنية على عمومه وباء انتقل إليهم بطريق العدوى من المجوس. ومن تأويلاتهم الفاسدة في القرآن أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) إن الإمام عليّا ورث النبى في علمه.

ويقولون : معنى الجنابة أنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الطهارة التبرّى من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. ومعنى التيمّم : الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعى الإمام ، ومعنى الصيام : الإمساك عن كشف السر.

ويقولون : إن (الكعبة) هى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ (والباب) علىّ ، (والصفا) هو النبى ، (والمروة) على ، (ونار إبراهيم) هى غضب النمروذ عليه ، (وعصا موسى) هى حجته. إلى غير ذلك من الخرافات التى لا يقبلها عقل ولا يؤيدها نقل.

وهذه التأويلات الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به الإسلام والمسلمون ؛ لأنها تؤدى إلى نقض بناء الشريعة حجرا حجرا ، وإلى الخروج من ربقة الإسلام وحلّ عراه عروة عروة ، ولأنها تجعل القرآن والسنة فوضى فاحشة يقال فيهما ما شاء الهوى أن يقال ، كأنهما لغو من الكلام ، أو كلأ مباح للبهائم والأنعام. وأخيرا ينفرط عقد المسلمين ، ويكون بأسهم بينهم من جراء هذا العبث بتلك الضوابط الدينية الكبرى ،

٥٤٣

والحوافظ الأدبية العظمى. وما دام لكل واحد أن يفهم من القرآن ما شاء له الهوى والشهوة دون اعتصام بالشريعة ، ولا التزام لقواعد اللغة ، لم يعد القرآن قرآنا ، وإنما هما الهوى والشهوة فحسب.

لهذا شرطنا في التفسير ما شرطنا. وفي مقدمة شروطه التزام قوانين الشريعة والتزام قواعد اللغة العربية. أما التزام قوانين الشريعة فلكيلا تتهافت النصوص وتتناقض التعاليم.

وأما التزام قواعد اللغة فلأن القرآن نزل بلسان عربى مبين. ويقول منزله جلّ شأنه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقضية عروبته هذه أن يفهم على قوانين لغة العرب ، وإلا فلا يرجى أن يعقل ما فيه ، ولا أن يفهم ما يحويه. وذلك معنى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بعد قوله «عربيا».

ر ـ تفاسير الشيعة

الشيعة طائفة كبيرة بالغت في حبها للإمام على وتقديرها إياه ، والمبالغة والإسراف حتى في الفضائل يعود بها إلى الرذائل.

ولهذا يقول علماء الأخلاق : الفضيلة وسط بين رذيلتين. ويقولون : إذا خرج الشيء عن حده عاد إلى ضده.

ومن هنا أمر الإسلام بالاعتدال حتى في حب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقديره.

يقول الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ويقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته : «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم. ولكن قولوا عبد الله ورسوله».

٥٤٤

ولكن الشيعة بالغوا وأسرفوا في حب الإمام وتقديره. وهم فرق. فمنهم من أغرق فى نفس التشيع حتى كفر. وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودى عدو الله الذى ما أظهر الإسلام إلا بقصد الكيد له والإفساد فيه. ولهذا كانت تلك الفرقة في موقف خصومة وحرب من المسلمين. حتى ورد أن الإمام عليّا نفسه شنّ الغارة عليهم وحاربهم وطاردهم.

ومنهم قوم معتدلون لم يسقطوا في هاوية الكفر ، وإن خالفوا أهل السنة والجماعة فى تفضيل أبى بكر وعمر وعثمان ، وتقديمهم على الإمام على في الخلافة رضى الله عنهم أجمعين. ولهؤلاء مذاهب ودراسات ، وكتب وتفسيرات ، وأدلة وتأويلات.

ومن تفاسير الشيعة كتاب يسمى :

مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار

مؤلفه يدعى المولى عبد اللطيف الكازلانى من النجف. وهذا التفسير مشتمل على تأويلات تشبه تأويلات الباطنية السابقة. فالأرض يفسرها بالدين ، وبالأئمة عليهم‌السلام ؛ وبالشيعة ، وبالقلوب التى هى محل العلم وقراره ، وبأخبار الأمم الماضية الخ فيقول في قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) المراد دين الله وكتاب الله. ويقول في قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) المراد أولم ينظروا في القرآن الخ. فأنت ترى أنه قد حمل اللفظ الذى لا يجهله أحد على معان غريبة من غير دليل. وما حمله على ذلك إلا مركب الهوى والتعصب الأعمى لمذهبه. وذلك لا شك ضلال لا يقل عن ضلال الباطنية ولا البهائية.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)

(٣٥ ـ مناهل العرفان ١)

٥٤٥

ش ـ التفسير الإشارى

هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوّف ، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا.

وقد اختلف العلماء في التفسير المذكور ، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه. وإليك شيئا من أقوال العلماء لتعرف وجه الحق في ذلك.

قال الزركشى في البرهان : كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل إنه ليس بتفسير ، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة ، كقول بعضهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) إن المراد النفس. يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هى القرب ، وأقرب شىء إلى الإنسان نفسه.

وقال ابن الصلاح في فتاويه : وجدت عن الإمام أبى الحسن الواحدى المفسر أنه قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق في التفسير ، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح : وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن. فان النظير يذكر بالنظير. ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك. لما فيه من الإبهام والالتباس.

وقال النسفى في عقائده : «النصوص على ظواهرها ؛ والعدول عنها إلى معان يدّعيها أهل الباطل إلحاد» ا ه. قال التفتازانى في شرحه : سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها ، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم. وقصدهم بذلك نفى الشريعة

٥٤٦

بالكلية. قال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ، ومحض العرفان.

ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشارى ، وبين تفسير الباطنية الملاحدة. فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر ، بل يحضون عليه ويقولون : لا بدّ منه أولا. إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر ، كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب.

وأما الباطنية فإنهم يقولون : إن الظاهر غير مراد أصلا ، وإنما المراد الباطن. وقصدهم نفى الشريعة.

ونقل السيوطى في الإتقان عن ابن عطاء الله في لطائف المنن ما نصه : اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعانى الغريبة ، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره.

ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان. ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه. وقد جاء في الحديث : (لكل آية ظهر وبطن). فلا يصدنّك عن تلقى هذه المعانى منهم ، أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فليس ذلك بإحالة. وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا. وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما ألهمهم ا ه.

ملحوظة :

لعل من المناسب هنا أن نسوق إليك عبارة عن السيوطى في بيان معنى ظهر الآية وبطنها ، وحد الحرف ، ومطلع الحد. قال : نوّر الله ضريحه : «فإن قلت» : فقد قال الفريابى. حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٤٧

«لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ولكل حد مطلع» قلت : أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه :

(أحدها) أنك إذا بحثت عن باطنها ، وقسته على ظاهرها ، وقفت على معناها.

(الثانى) أنه ما من آية إلا عمل بها قوم ، ولها قوم سيعلمون بها ، كما قال ابن مسعود (الثالث) أن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها.

(الرابع) قال أبو عبيدة : ـ وهو أشبهها بالصواب ـ إن القصص التى قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ، ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وحديث حدث به عن قوم ، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم ، فيحلّ بهم مثل ما حلّ بهم.

وحكى ابن النقيب (قولا خامسا) : أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأمل العلم بالظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التى أطلع الله عليها أرباب الحقائق.

ومعنى قوله (ولكل حرف حد) أى منتهى فيما أراد الله من معناه. وقيل لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب.

ومعنى قوله : (ولكل حد مطلع) لكل غاية من المعانى والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ، ويوقف على المراد به. وقيل : كل ما يستحق من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة. وقال بعضهم : الظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد. قلت : يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبى حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون لا تنقضى عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه يرفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال. وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه. وظهر وبطن : فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل

٥٤٨

فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء ا ه : غير أن الوجه الأول الذى نقله السيوطى في معنى الظهر والبطن ليس بواضح. وإذا التمسنا له بعض الاحتمالات تشابه أو اتّحد بما بعده من الأقوال. والقول الخامس متّحد كذلك مع الثالث أو قريب منه. فتأمل

شروط قبول التفسير الإشارى

مما تقدم يعلم أن التفسير الإشارى لا يكون مقبولا إلا بشروط خمسة وهى :

(١) ألا يتنافى وما يظهر من معنى النظم الكريم.

(٢) ألا يدّعى أنه المراد وحده دون الظاهر.

(٣) ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا ، كتفسير بعضهم قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بجعل كلمة «لمع» فعلا ماضيا. وكلمة «المحسنين» مفعوله.

(٤) ألا يكون له معارض شرعى أو عقلى.

(٥) أن يكون له شاهد شرعى يؤيده.

كذلك اشترطوا. بيد أن هذه الشروط متداخلة ، فيمكن الاستغناء بالأول عن الثالث ، وبالخامس عن الرابع. ويحسن ملاحظة شرطين بدلهما أحدهما بيان المعنى الموضوع له اللفظ الكريم أولا. ثانيهما ألّا يكون من وراء هذا التفسير الإشارى تشويش على المفسّر له. وسيأتيك في نصيحتى وفي كلام الغزالى ما يقرر هذين الشرطين.

ثم إن هذه شروط لقبوله بمعنى عدم رفضه فحسب ، وليست شروطا لوجوب اتباعه والأخذ به. ذلك لأنه لا يتنافى وظاهر القرآن ، ثم إن له شاهدا يعضده من الشرع ، وكل ما كان كذلك لا يرفض. وإنما لم يجب الأخذ به لأن النظم الكريم لم يوضع للدلالة عليه ، بل هو من قبيل الإلهامات التى تلوح لأصحابها غير منضبطة بلغة ، ولا مقيدة بقوانين.

٥٤٩

أهم كتب التفسير الإشارى

وأهم كتب التفسير الإشارى أربعة : تفسير النيسابورى ، وتفسير الألوسي ، وتفسير التسترى ، وتفسير محيى الدين بن عربى.

(١) أما تفسير النيسابورى : فقد تقدّم الكلام عليه ، وبقى أن نذكر لك عنه أنه بعد أن يوفى الكلام على ظاهر معنى الآية أو الآيات يقول : قال أهل الإشارة. أو يقول : (التأويل) ثم يسوق المعنى الإشارى لتلك الآية أو الآيات تحت هذا العنوان. مثال ذلك أنه قال بعد التفسير الظاهر لقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآيات. قال ما نصه : «التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحانى ، وهو الجهاد الأكبر. «موتوا قبل أن تموتوا».

«اقتلونى يا ثقاتى

إنّ في قتلى حياتى

وحياتى في مماتى

ومماتى في حياتى»

مت بالإرادة تحى بالطبيعة. وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحى بالحقيقة (ما هِيَ؟ إِنَّها بَقَرَةٌ) : نفس تصلح للذبح بسيف الصدق ، «لا فارض» فى سن الشيخوخة ، فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية ، كما قيل : الصوفى بعد الأربعين بارد. «ولا بكر» فى سن شرخ الشباب ، يستهويه سكره. (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (بَقَرَةٌ صَفْراءُ») إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات. (فاقِعٌ لَوْنُها) يريد أنها صفرة زين ؛ لا صفرة شين. فإنها سيما الصالحين (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) : لا تحتمل ذلة الطمع ، ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها. (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ولا يسقى حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق ؛ وبماء وجاهته عند الخالق ، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق. «مسلّمة» من آفات صفاتها ، ليس فيها علامة طلب غير الله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) بمقتضى الطبيعة ،

٥٥٠

ولا فضل الله وحسن توفيقه :

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) يعنى القلب : (فَادَّارَأْتُمْ) فاختلفتم أنه كان من الشيطان.

أم من الدنيا أم من النفس الأمارة (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ضرب لسان البقرة المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر ، فحيى بإذن الله ، وقال (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) مراتب القلب في القسوة مختلفة : فالتى يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها لغليان أنوار الروح بترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات ، كما يكون لبعض الرهبان والهنود. والتى تشقّق فيخرج منها الماء ، هى التى يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعانى المعقولة ، كما يكون لبعض الحكماء ؛ والتى تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية.

وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم. والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان ، فيزيدون في قربهم وقلوبهم ودرجاتهم. ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان ، فيزيدوا فى غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم. والمسلمون مختصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلّى أنوار الحق ورؤية برهانه.

فإراءة الآيات للخواصّ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ). (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). لكن إرادة البرهان لأخصّ الخواص كما جاء في حق يوسف (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال : واردات ترد على القلوب ، فتعجز القلوب عن تكذيبها. والله أعلم ا ه.

٥٥١

(مثال ثان) قال النيسابورى أيضا بعد تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ما نصه : «التأويل» مساجد الله التى يذكر فيها اسمه عند أهل النظر ، النفس ، والقلب ، والروح ، والسر ، والخفى وهو سر السر. وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد. فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ، ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات. وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ، ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات ، والتعلق بالشهوات ، فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عنى محجوبة. وذكر مسجد الروح بالشوق والمحبة ، ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات. وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ، ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات. وذكر مسجد الخفى وهو سر السر ، بذل الوجود ، وترك الموجود. ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات» الخ ما قال.

(٢) وأما تفسير الألوسي فاسمه روح المعانى. ومؤلفه العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمد الألوسي البغدادى مفتى بغداد المتوفى سنة ١٢٧٠ سبعين ومائتين وألف.

وهذا التفسير من أجل التفاسير وأوسعها وأجمعها. نظم فيه روايات السلف بجانب آراء الخلف المقبولة. وألف فيه بين ما يفهم بطريق العبارة وما يفهم بطريق الإشارة. رحمه‌الله وتجاوز عنه.

ومما قاله في التفسير الإشارى بعد أن فسّر قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إلى آخر الآيات بعدها. قال ما نصه :

ومن مقام الإشارة في الآيات. وإذا قلتم يا موسى القلب ، لن نؤمن الإيمان الحقيقى حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان. فأخذتكم صاعقة الموت الذى هو الفناء في التجلى الذاتى. وأنتم تراقبون أو تشاهدون. ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية. والبقاء بعد الفناء ،

٥٥٢

لكى تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عزوجل. وظللنا عليكم غمام تجلى الصفات ، لكونها حجبت شمس الذات ، الخ ما قال.

(مثال ثان) : قال بعد تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال ما نصه :

وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل ، بتوحيد الأفعال والصفات ، ورفعنا فوقكم طور الدماغ ، للتمكن من فهم المعانى وقبولها. أو أشار سبحانه بالطور ، إلى موسى القلب ، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد والشرائع ، لكى تتقوا الشرك والجهل والفسق ، ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك. فلو لا حكمة الله بإمهاله ، وحكمه بإفضاله ، لعاجلتكم العقوبة ، ولحلّ بكم عظيم المصيبة.

«إلى الله يدعى بالبراهين من أبى

فإن لم يجب ، بادته بيض الصّوارم»

فهذه الإشارة إنما يعرفها ذو الوجد والمشاهدة ، وهى لأصحابها رياض يانعة ؛ وأنوار لامعة. ا ه.

(٣) تفسير التسترى : هو أبو محمد سهل بن عبد الله التسترى المتوفى سنة ٣٨٣ ثلاث وثمانين وثلاثمائة. وتفسيره هذا لم يستوعب كل الآيات ، وإن استوعب السور ، وقد سلك فيه مسلك الصوفية مع موافقته لأهل الظاهر. وإليك نموذجا منه إذ يقول في تفسير البسملة ما نصه : ـ

(الباء) بهاء الله عزوجل. (والسين) سناء الله عزوجل. (والميم) مجد الله عزوجل. (والله) هو الاسم الأعظم الذى حوى الأسماء كلها. وبين الألف واللام

٥٥٣

منه حرف مكنى غيب إلى غيب ، وسر من سر إلى سر ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان.

(والرحمن) اسم فيه خاصة من الحرف المكنى بين الألف واللام. (والرحيم) هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع ، والابتداء في الأصل ، رحمة لسابق علمه القديم.

قال أبو بكر : أى بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه : الرحمن الرحيم. اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر. فنفى الله بهما القنوط عن المؤمنين من عباده ا ه.

ومن تفسيره بما هو قريب من المعنى الظاهر قوله في تفسير الآية الكريمة.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الخ ما نصه : ـ أفكان شاكا في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية معجزة ليصح معها إيمانه؟ فقال سهل : لم يكن سؤاله ذلك عن شك ، وإنما كان طالبا زيادة اليقين ، يقينا في قدرة الله وتمكينا في خلقه. ألا تراه كيف قال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى) فلو كان شاكا لم يجب ببلى. ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر الشك ، لكشف الله ذلك. إذ كان مثله مما لا يخفى ا ه.

وهذا الكتاب صغير الحجم ، غير أنه غزير المادة في موضوعه ، مشتمل على كثير من علاج الشبهات ، ودفع الإشكالات. يقع في نحو من ٣١٤ أربع عشرة وثلاثمائة صفحة وهو مطبوع بمصر.

(٤) تفسير ابن عربى : هو عبد الله محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله ، محيى الدين بن عربى ، الحاتمى ، الصوفى ، الفقيه ، المحدث. ولد بمرسية سنة ٥٦٠ ستين وخمسمائة وتوفى في دمشق سنة ٦٣٨ ثمان وثلاثين وستمائة.

٥٥٤

ومن مصنفاته كتاب الجمع والتفصيل ، فى إبداء معانى التنزيل. ومنها إيجاز البيان فى الترجمة عن القرآن. وقد طبع تفسيره في جزءين بالمطبعة الأميرية سنة ١٢٨٧ سبع وثمانين ومائتين بعد الألف ، وقد قال في خطبته ما نصه :

قد تذكرت خبرا قد أتانى فازدهانى ، مما وراء المقاصد والأمانى ، قول النبى الأمى الصادق ، عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق : «ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع». وفهمت منه أن الظهر هو التفسير ، والبطن هو التأويل ، والحدّ ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام ، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام.

وقد نقل عن الإمام المحقق السابق ، جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أنه قال : لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون. وروى عنه عليه‌السلام أنه خرّ مغشيا عليه وهو في الصلاة ، فسئل عن ذلك فقال : «ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها».

قال : فرأيت أن أعلق بعض ما يسنح لى في الأوقات ، من أسرار حقائق البطون ، وأنوار شوارق الكائنات ، دون ما يتعلق بالظواهر والحدود ؛ فإنها قد عين لها حدّ محدود. وقد قيل : «من فسّر القرآن برأيه فقد كفر» وأما التأويل فلا يبقى ولا يذر ، فإنه باختلاف أحوال المستمع وأوقاته ، فى مراتب سلوكه وتفاوت درجاته. وكلما ترقّى عن مقام انفتح له باب فهم جديد ، واطلع به على لطيف معنى عتيد. إلى أن قال : «وكل ما لا يقبل التأويل عندى أو لا يحتاج إليه ، فما أوردته أصلا الخ ا ه.

ومن تفسيره الإشارى لقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ما نصه :

٥٥٥

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) هى النفس الحيوانية ، وذبحها قمع هواها الذى هو حياتها ، ومنبعها من الأفعال الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة. وقال في تفسير آية (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) إلى قوله. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) من سورة الأنبياء ، قال ما نصه.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أى سخرنا لسليمان العقل العملى ، والمتمكن على عرش النفس فى الصدر ، ريح الهوى «عاصفة» فى هبوبها. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) مطيعة له «إلى الأرض» أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب. (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بتمييز الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ) من أسباب الكمال «عالمين». «ومن الشّياطين» شياطين الوهم والتخييل ، (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) فى بحر الهيولى الجثمانية ويستخرجون درر المعانى الجزئية «ويعملون عملا دون ذلك» من التركيب والتفصيل والمصنوعات ، وتهييج الدواعى المكسوبات وأمثالها. (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب (وَأَيُّوبَ) النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة ، البالغة كمال الزكاء في المجاهدة (إِذْ نادى رَبَّهُ) عند شدة الكرب في الجد ، وبلوغ الطاقة والوسع في الجهد. (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من الضعف والانكسار والعجز. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بالتوسعة والروح. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بروح الأحوال عن كدّ الأعمال ، عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) من ضر الرياضة بنور الهداية. ونفّسنا عنه ظلمة الكرب ، بإشراق نور القلب (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) القوى النفسية التى ملكناها وأمتناها بالرياضة ، بإحيائها بالحياة الحقيقية. (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ، ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية ، وأحوال العلوم النافعة الجزئية (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ا ه.

٥٥٦

ت ـ نصيحة خالصة

بيد أن هذا التفسير كما ترى ، جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعانى الوضعية للنصوص القرآنية. وهنا الخطر كل الخطر. فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعانى الإشارية ، هى مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام ، والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذى ارتضاه لهم.

ولعلك تلاحظ معى أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر ، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هى إلا سوانح وواردات ، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات. وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات ، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح ، فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية ، كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأدهى من ذلك أنهم يتخيّلون ويخيّلون إلى الناس ، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية ، واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف ، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب. وهذا ـ لعمر الله ـ هو المصاب العظيم ، الذى عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام ، كيما يهدموا التشريع من أصوله ، ويأتوا بنيانه من قواعده. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ. وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذّرهم الوقوع في هذه الشباك ، ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية ، ولا يعوّلوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية. لأنها كلها أذواق ومواجيد ، خارجة

٥٥٧

عن حدود الضبط والتقييد. وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل. وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل. وإذا ظهر فقد يكون من الكفريّات الفاحشة ، التى نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة بل من صادقى عامة المسلمين. والتى نرى الطعن فيها بالدس والوضع ، أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه بالكفر والفسق.

فالأحرى بالفطن العاقل ، أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق ، وأن يفرّ بدينه من هذه الشبهات. وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات. (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)؟!.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وبالله تعالى توفيقى وتوفيقك. نسأله تعالى أن يخرجنا من ظلمات الأوهام ، وأن يحققنا بحقائق الدين وتعاليم الإسلام ، آمين.

كلمة لحجّة الإسلام الغزالى

وأختتم نصيحتى هذه بكلمة قيّمة تتصل بموضوعنا اتصالا ماسا ، وهى مدبّجة بيراعة الإمام الغزالى ، حين عرض في كتابه الإحياء للذكر والتذكير وما أدخله الناس فيهما ، فقال ـ بلّل الله ثراه ـ :

وأما الشطح فنعنى به صنفين من الكلام أحدثهما بعض الصوفية :

(أحدهما) الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى ، والوصال المغنى عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهى قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب ، والمشاهدة بالرؤية ، والمشافهة بالخطاب ، فيقولون : قيل لنا كذا وقلنا كذا ، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلّاج الذى صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس

٥٥٨

ويستشهدون بقوله : أنا الحق. وبما حكى عن أبى يزيد البسطامى أنه قال : سبحانى سبحانى.! وهذا فنّ من الكلام عظيم ضرره على العوام ، حتى لقد ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم ، وأظهروا مثل هذه الدعاوى ، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع ، إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال ، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة. ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا : هذا إنكار مصدره العلم والجدل ، والعلم حجاب ، والجدل عمل النفس ، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق ... فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره ، وعظم في العوامّ ضرره ، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة. وأما أبو يزيد البسطامى رحمه‌الله ، فلا يصح عنه ما يحكى ، وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عزوجل في كلام يردّده في نفسه ، كما لو سمع وهو يقول : «إنّنى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى» فإنه ما كان ينبغى أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.

(الصنف الثانى من الشطح) : كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر رائقة ، وفيها عبارات هائلة ، وليس وراءها طائل. وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله ، وتشويش في خياله ، لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه. وهذا هو الأكثر. وإما أن تكون مفهومة له ، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعانى بالألفاظ الرشيقة. ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوّش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان ، أو يحمل على أن يفهم منها معان ما أريدت ، ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حدّث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان

٥٥٩

فتنة عليهم (١)» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلموا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتريدون ، أن يكذّب الله ورسوله (٢)» وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع ، فكيف فيما لا يفهمه قائله؟ فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحلّ ذكره. وقال عيسى عليه‌السلام : «لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء» وفي لفظ آخر : «من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ، ومن منعها أهلها فقد ظلم. إن للحكمة حقا ، وإن لها أهلا ، فأعط كلّ ذى حقّ حقه».

وأما الطاعات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح ، وأمر آخر يخصها ، وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة ، كدأب الباطنية في التأويلات. فهذا أيضا حرام وضرره عظيم ، فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل ، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ ، وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له ، بل تتعارض فيه الخواطر ، ويمكن تنزيله على وجوه شتى. وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب ، لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذّة له. وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها ، وتنزيلها على رأيهم ، كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهرى المصنف في الرد على الباطنية.

__________________

(١) هذا الحديث رواه مسلم في مقدمة صحيحه ، موقوفا على ابن مسعود. ورواه العقيلى فى الضعفاء.

(٢) هذا الحديث رواه البخارى موقوفا على علىّ ، ورفعه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من طريق أبى نعيم.

٥٦٠