مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

١

بسم الله الرحمن الرحيم

(الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ).

نحمده سبحانه على هذه النعم المترادفة ، ونصلى ونسلم على من نشر فى العالم هدايته وعوارفه ، سيدنا ومولانا محمد شارح الكتاب الحكيم بسنته ، ومفسر القرآن الكريم برسالته ، (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وشمل الله برضوانه وإحسانه ، آل الرسول وأصحابه ، وأتباعه وأحبابه ، والعلماء العاملين : وأصحاب الحقوق علينا أجمعين.

أما بعد فهذا هو الجزء الثانى من كتاب مناهل العرفان فى علوم القرآن ، وكتبته لقرائى الأكرمين كما كتبت لهم الجزء الأول ، ضارعا إلى الله ـ جلت قدرته ـ أن يسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، وأن يؤيدنا فيه بالإخلاص والتوفيق حتى يكون ذخيرة عنده نافعة ، كما أسأله سبحانه أن يلطف بالبلاد والعباد ، إنه تعالى الكريم الجواد ، الفتاح الوهاب ، لا رب غيره. ولا مأمول إلا خيره ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير ، آمين.

ولقد نهجت فى هذا الجزء منهج سابقه ، ورتبت مباحثه على مباحثه ، وبما أن ذاك قد قطع اثنى عشر مبحثا ، فلنفتتح هذا بما يليها عدا ، وهو :

٢

المبحث الثالث عشر

فى ترجمة القرآن وحكمها تفصيلا

أهمية هذا المبحث.

توجه الأذهان فى فاتحة هذا المبحث إلى أهميته وخطره ، من نواح ثلاث :

(أولاها) دقته وغموضه إلى حد جعل علماءنا يختلفون فيه قديما وحديثا ، وجعل مصرنا العزيزة منذ أعوام ميدانا لتطاحن الأفكار والآراء فيه منعا وتجويزا.

(ثانيها) أن كثيرا من الناس قاموا فى زعمهم بنقل القرآن إلى لغات كثيرة ، وترجمات متعددة ، بلغت بإحصاء بعض الباحثين مائة وعشرين ترجمة ، فى خمس وثلاثين لغة ما بين شرقية وغربية ، وتكرر طبع هذه الترجمات حتى أن ترجمة واحدة هى ترجمة جورج سيل الانجليزى طبعت أربعا وثلاثين مرة.

وأوفر هذه الترجمات وأكثرها طبعا هى الترجمات الانكليزية فالفرنسية فالألمانية فالإيطالية. وهناك خمس ترجمات فى كل من اللغتين الفارسية والتركية ، وأربع ترجمات باللغة الصينية ، وثلاث باللاتينية ، واثنتان بالأفغانية ، وواحدة بالجاوية ، وأخرى بالأوردية.

ومن هؤلاء الذين ترجموه من يحمل للإسلام عداوة ظاهرة ، ومنهم من يحمل حبّا له ولكنه جاهل به ، «وعدو عاقل خير من صديق جاهل».

(ثالثتها) وقوع أغلاط فاحشة فى هذه التى سموها ترجمات ؛ وكان وجودها معولا هداما لبناء مجد الإسلام ، ومحاولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية. لأمتنا الإسلامية (صانها الله).

أمام هذه الوقائع القائمة ، والحقائق الماثلة ، والمحاولات الخطيرة ما كان ينبغى لنا أن نقف مكتوفى الأبدى ، مكممى الأفواه ، كأن الأمر لا يعنينا فى قليل ولا كثير ، على حين أن الذى وضع منهم فكرة هذه الترجمة ، وتولى كبر هذه المؤامرة ، رجل من رجال

٣

دينهم ، ومطران من مطارنتهم ، يدعى يعقوب بن الصليبى ، إذ خيل إلى قومه أنه ترجم آيات جمة من القرآن باللسان السريانى فى القرن الثانى عشر الميلادى. ثم نشرت خلاصتها فى هذا القرن سنة ١٩٢٥ خمس وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية ، نقلا عن نسخة مخطوطة بالمتحف البريطانى بلندن ، مشفوعة بترجمة إنكليزية لها. وتابع هذا المطران أحبار ورهبان ، كانوا أسبق من غيرهم فى هذا الميدان.

وأنت خبير بما يريدون ، والله أعلم بما يبيتون.

راجع فى ذلك محاضرات الفيكنت دى طرازى (١) ، ثم انظر ما كتبه العلامة أبو عبد الله الزنجانى فى كتابه : تاريخ القرآن إذ يقول :

«ربما كانت أول ترجمة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم فى أوربا ، وذلك سنة ١١٤٣ بقلم (كنت) الذى استعان فى عمله ببطرس الطليطلى وعالم ثان عربى ، فيكون القرآن قد دخل أوربا عن طريق الأندلس ، وكان العرض من ترجمته عرضه على دى كلونى بقصد الرد عليه. ونجد فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر باللاتينة ، (١٥٠٩) ولكن لم يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه ، لأن طبعته لم تكن مصحوبة بالردود. وفى عام (١٥٩٤) أصدر هنكلمان ترجمته ، وجاءت على الأثر (١٥٩٨) طبعة مراتشى مصحوبة بالردود» انتهى ما أردنا نقله ..

أفلا ترى معى أنه يجب علينا بإزاء ذلك أن ندلى برأى سديد فى هذا الأمر الجلل؟ لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا ، ولننظر إلى أى طريق نحن مسوقون؟ عسى أن يدفعنا هذا التحرى والتثبت ، إلى اتخاذ إجراء حازم ، ننتصف فيه للحق من الباطل ، ونؤدى به رسالتنا فى نشر هداية الإسلام والقرآن على بصيرة ونور!

ثم ألا ترى معى أنه يجب علينا بإزاء ذلك أيضا أن نتجرد فى هذا البحث عن العصبية

__________________

(١) هى محاضرات ظفرت بها فى نسخة مخطوطة تحت عنوان «القرآن : محاضرات علمية تاريخية» ألقاها سنة ١٩٤١ م الفيكنت فيلب دى طرازى مؤسس دار الكتب فى بيروت. والعضو فى عدة مجامع علمية شرقية وغربية.

٤

والغايات الشخصية ، فنمسه ما رفيقا هادئا ، وندرسه دراسة واسعة منظمة ، ونلتزم فيه أدب البحث وإنصاف الباحث ، ونجعل الله وحده غايتنا فيما نحاول ونعالج؟ «والله يقول الحق وهو يهدى السبيل».

ولنبدأ الكلام ببيان معنى الترجمة لغة وعرفا ، ثم بتقسيمها إلى حرفية وتفسيرية ، ثم ببيان الفرق بين الترجمة والتفسير ؛ فإن تحديد معانى الألفاظ وتحقيق المراد منها ، مجهود مهم ومفيد ، لا سيما ما كان من الأبحاث الخلافية ؛ كهذا البحث الذى نعانيه.

فلقد هدانا الاستقراء إلى أن تحديد معانى الأمور الخلافية ، أو تحرير محل النزاع (بعبارة فنية أزهرية). كثيرا ما قرب بين وجهات النظر المختلفة ، وطالما أظهر أن خلاف المختلفين كان لفظيا لا حقيقيا ، لأن النفى والإثبات بينهم لم يتواردا على أمر واحد ، بل إن ما أثبته بعضهم لم يخالف أحد فى إثباته بالمعنى الذى أراده ، وما نفاه البعض الآخر لم يخالف أحد فى نفيه بالمعنى الذى أراده كذلك ورجع الأمر أخيرا إلى مجرد اختلاف فى العبارات لاختلاف فى الاعتبارات. ولو أنهم اتفقوا بادئ ذى بدء على هذه الاعتبارات. لما اختلف العبارات ، ولما حدث خلاف البتة.

إذن فإننا نستميح قارئنا الكريم عذرا ، إذا أطنبنا فى توضيح المعنى المراد الذى يدور عليه الكلام فى هذا الموضوع ، وإذا استطردنا ببيان ما اشتبه به وكان سببا فى النزاع ، فنذكر أن لفظ (ترجمة) يطلق على معان متعددة ، بعضها لغوى ؛ وبعضها عرفى عام.

الترجمة فى اللغة :

وضعت كلمة ترجمة فى اللغة العربية ، لتدل على أحد معان أربعة :

(أولها) تبليغ الكلام لمن لم يبلغه. ومنه قول الشاعر :

«إن الثمانين ـ وبلغتها ـ

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان»

(ثانيها) تفسير الكلام بلغته التى جاء بها. ومنه قيل فى ابن عباس : إنه ترجمان القرآن ولعل الزمخشرى فى كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول : «كل ما ترجم

٥

عن حال شىء فهو تفسرته».

(ثالثها) تفسير الكلام بلغة غير لغته. جاء فى لسان العرب وفى القاموس ، أن الترجمان هو المفسر للكلام وقال شارح القاموس ما نصه : «وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر. قاله الجوهرى» اه وجاء فى تفسير ابن كثير والبغوى أن كلمة ترجمة تستعمل فى لغة العرب بمعنى التبيين مطلقا سواء اتحدت اللغة أم اختلفت.

(رابعها) نقل الكلام من لغة إلى أخرى. قال فى لسان العرب : «الترجمان بالضم والفتح (١) هو الذى يترجم الكلام أى ينقله من لغة إلى أخرى. والجمع تراجم (٢)» اه.

وشارح القاموس بعد أن أورد المعنى السابق فى ترجمه وترجم عنه قال : «وقيل نقله من لغة إلى أخرى» اه.

ولكون هذه المعانى الأربعة فيها بيان ، جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة ، فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أى عنون له. وترجم لفلان أى بين تاريخه. وترجم حياته أى بين ما كان فيها. وترجمة هذا الباب كذا أى بيان المقصود منه : وهلم جرا.

الترجمة فى العرف :

نريد بالعرف هنا عرف التخاطب العام ، لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة. جاء هذا العرف الذى تواضع عليه الناس جميعا. فخص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوى فى إطلاقات اللغة السابقة ، وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى. ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى ، التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى ، مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية.

__________________

(١) عبارة القاموس تدل على أنه يضبط بضم التاء والجيم وبفتحهما ، وبفتح التاء وضم الجيم.

(٢) وهذا خلاف ما ذاع على الألسنة من استعمال تراجم جمعا لترجمة.

فاحفظ ذلك.

٦

وهذا هو السر فى تعبيرهم بنقل الكلام. مع العلم بأن الكلام نفسه لا ينقل من لغته بحال.

ويمكننا أن نعرف الترجمة فى هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول : هى التعبير عن معنى كلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده. فكلمة (التعبير) جنس ، وما بعده من القيود فصل وقولنا : (عن معنى كلام) يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج فى صورة اللفظ أول مرة وقولنا : (بكلام آخر) يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه ، ولو تكرر ألف مرة.

وقولنا : (من لغة أخرى) يخرج به التفسير بلغة الأصل ، ويخرج به أيضا التعبير بمرادف مكان مرادفه ، أو بكلام بدل آخر مساو له ، على وجه لا تفسير فيه ، واللغة واحدة فى الجميع.

وقولنا : (مع الوفاء بجميع معانى الأصل ومقاصده) يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته ؛ فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معانى الأصل المفسر ومقاصده ، بل يكفى فيه البيان ولو من وجه. وسنوافيك قريبا بتفصيل ذلك.

تقسيم الترجمة :

وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفى إلى قسمين : حرفية وتفسيرية ، فالترجمة الحرفية هى التى تراعى فيها محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه. فهى تشبه وضع المرادف مكان مرادفه. وبعض الناس يسمى هذه الترجمة ترجمة لفظية ، وبعضهم يسميها مساوية.

والترجمة التفسيرية هى التى لا تراعى فيها تلك المحاكاة أى محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه ، بل المهم فيها حسن تصوير المعانى والأغراض كاملة. ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية. وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعانى والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير ، وما هى بتفسير كما يتبين لك بعد.

فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة فى الأصل فيفهمها ، ثم يستبدل بها كلمة تساويها فى اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها ، وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد

٧

من الأصل ، بسبب اختلاف اللغتين فى موقع استعمال الكلام فى المعانى المرادة إلفا واستحسانا.

أما المترجم ترجمة تفسيرية ، فإنه يعمد إلى المعنى الذى يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ، ثم يصبه فى قالب يؤديه من اللغة الأخرى ، موافقا لمراد صاحب الأصل ، من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره به فى موضعه.

ولنضرب مثالا للترجمة بنوعيها على فرض إمكانها فى آية من الكتاب الكريم.

قال الله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية ؛ أتيت بكلام من لغة الترجمة ؛ يدل على النهى عن ربط اليد فى العنق وعن مدها غاية المد ، مع رعاية ترتيب الأصل ونظامه ، بأن تأتى بأداة النهى أولا ، يليها الفعل المنهى عنه متصلا بمفعوله ومضمرا فيه فاعله ، وهكذا .. ولكن هذا التعبير الجديد قد يخرج فى أسلوب غير معروف ولا مألوف فى تفهيم المترجم هم ما يرمى إليه الأصل من النهى عن التقتير والتبذير. بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذى صيغ به هذا النهى ويقولون : ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق وعن مدها غاية المد؟! وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما ، وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع.

أما إذا أردت ترجمة هذا النظم الكريم ترجمة تفسيرية ، فإنك بعد أن تفهم المراد وهو النهى عن التقتير والتبذير فى أبشع صورة منفرة منها ، تعمد إلى هذه الترجمة فتأتى منها بعبارة تدل على هذا النهى المراد ، فى أسلوب يترك فى نفس المترجم لهم أكبر الأثر فى استبشاع التقتير والتبذير. ولا عليك من عدم رعاية الأصل فى نظمه وترتيبه اللفظى.

وإنما قلنا عند عرض هذا المثال : «على فرض إمكانها» لما ستعرفه بعد من استحالة الترجمة بهذا المعنى العرفى فى القرآن الكريم. والمثال لا يشترط صحته كما هو معلوم.

٨

ما لا بد منه فى الترجمة مطلقا :

لا بد لتحقيق معنى الترجمة مطلقا حرفية كانت أو تفسيرية ، من أمور أربعة :

(أولها) معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة.

(ثانيها) معرفته لأساليبهما وخصائصهما.

(ثالثها) وفاء الترجمة بجميع معانى الأصل ومقاصده على وجه مطمئن.

(رابعها) أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل ، بحيث يمكن أن يستغنى بها عنه ، وأن تحل محله ، كأنه لا أصل هناك ولا فرع. وسيأتى بيان ذلك فى الفروق بين الترجمة والتفسير.

ما لا بد منه فى الترجمة الحرفية :

ثم إن الترجمة الحرفية تتوقف بعد هذه الأربعة على أمرين آخرين :

(أحدهما) وجود مفردات فى لغة الترجمة مساوية للمفردات التى تألف منها الأصل :

حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل ، كما هو ملحوظ فى معنى الترجمة الحرفية.

(ثانيهما) تشابه اللغتين فى الضمائر المستترة ، والروابط التى تربط المفردات لتأليف التراكيب ، سواء فى هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها. وإنما اشترطنا هذا التشابه ، لأن محاكاة هذه الترجمة لأصلها فى ترتيبه تقتضيه. ثم إن هذين الشرطين عسيران ، وثانيهما أعسر من الأول. فهيهات أن تجد فى لغة الترجمة مفردات مساوية لجميع مفردات الأصل.

ثم هيهات هيهات أن تظفر بالتشابه بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها فى الضمائر المستترة وفى دوال الروابط بين المفردات لتأليف المركبات.

٩

ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم : إن الترجمة الحرفية مستحيلة.

وقال آخرون : إنها ممكنة فى بعض الكلام دون بعض. ولقد علمت أنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود كما مر فى المثال السابق. أما الترجمة التفسيرية فميسورة فيما لا يعجز عنه البشر ، والمعانى المرادة من الأصل واضحة فيها غالبا.

ولهذا اعتمدوا عليها فى الترجمات الزمنية ، وفضلها التراجم والمشتغلون بالترجمات على قسيمتها الترجمة الحرفية.

فروق بين الترجمة والتفسير :

ومهما تكن الترجمة حرفية أو تفسيرية فإنها غير التفسير مطلقا ، سواء أكان تفسيرا بلغة الأصل ، أم تفسيرا بغير لغة الأصل. وقد أشرنا إلى ذلك إجمالا فى شرح تعريف الترجمة آنفا. ولكن كثيرا من الكاتبين اشتبه عليهم الأمر ، فحسبوا أن الترجمة التفسيرية هى التفسير بغير لغة الأصل ؛ أو هى ترجمة تفسير الأصل.

ثم رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على ترجمة الأصل نفسه ، وكان لهذا اللبس والاشتباه مدخل فى النزاع والخلاف. لهذا نستبيح لأنفسنا أن نقف هنا وقفة طويلة. نرسم فيها فروقا أربعة لا فرقا واحدا بين هذين المشتبهين فى نظرهم.

(الفارق الأول) أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية براعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محله. ولا كذلك التفسير ، فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله ، بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب ، ثم يشرح هذا المفرد أو المركب شرحا متصلا به اتصالا يشبه اتصال المبتدأ بخبره إن لم يكن إياه. ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جملة ، وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته ، بحيث لا يمكن تجريد التفسير

١٠

وقطع وشائج اتصاله بأصله مطلقا. ولو جرد لتفكك الكلام وصار لغوا أو أشبه باللغو ، فلا يؤدى معنى سليما ، فضلا عن أن يحل فى جملته وتفصيله محل أصله.

(الفارق الثانى) أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد ، أما التفسير فيجوز بل قد يجب فيه الاستطراد. وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له ، فمن الأمانة أن تساويه بدقة من غير زيادة ولا نقص ، حتى لو كان فى الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه فى الترجمة ، بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له. وقد يقتضى هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى فى الاستطراد ، توجيها لشرحه ، أو تنويرا لمن يفسر لهم على مقدار حاجتهم إلى استطراده.

ويظهر ذلك فى شرح الألفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد بها غير ما وضعت له ، وفى الواضع التى يتوقف فهمها أو الاقتناع بها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة.

وهذا هو السر فى أن أكثر تفاسير القرآن الكريم تشتمل على استطرادات متنوعة ، فى علوم اللغة ، وفى العقائد ، وفى الفقه وأصوله ، وفى أسباب النزول ، وفى الناسخ والمنسوخ ، وفى العلوم الكونية والاجتماعية ، وغير ذلك.

ومن ألوان هذا الاستطراد ، تنبيهه على خطأ الأصل إذا أخطأ ، كما نلاحظ ذلك فى شروح الكتب العلمية. ويستحيل أن تجد مثل هذا فى الترجمة ، وإلا كان خروجا عن واجب الأمانة والدقة فيها.

(الفارق الثالث) أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الوفاء بجميع معانى الأصل ومقاصده ، ولا كذلك التفسير ، فإنه قائم على الإيضاح كما قلنا ، سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالى أو تفصيلى ، متناولا كافة المعانى والمقاصد أو مقتصرا على بعضها دون بعض ، طوعا للظروف التى يخضع لها المفسر ومن يفسر لهم

١١

والدليل على هذا الفارق ، هو حكم العرف العام الذى نتحدث الآن بلسانه وإليك مثلا من أمثاله :

رجل عثر فى مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية وهو غير عالم بهذا اللسان الأجنبى ، فدفعهما إلى خبير باللغات يستفسره عنهما. وإذا الخبير يجيبه قائلا :

إن الصحيفة الأولى خطاب تافه من معوز أجنبى يستجدى أباك فيه ويستعينه ، أما الثانية فوثيقة بدين كبير لأبيك على أجنبى. هناك مزق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به ، أما الوثيقة فاعتد بها وطلب من هذا المتمكن فى اللغات أن يترجمها له ، ليقاضى المدين أمام محكمة لغتها لغة الترجمة.

أليس معنى هذا أن التفسير لم يكفه؟ بدليل أنه طلب الترجمة من المترجم ، علما بأنها هى التى تفى بكل ما تضمنته تلك الوثيقة وبكل ما يقصد منها ، فلا تضعف له بها حجة ، ولا يضيع عليه حق؟.

ثم ألست ترى فى هذا المثال أيضا أن العرف يحكم بأن التفسير لا يشترط أن يعرض لجميع التفاصيل ، بل يكفى فيه بيان المضمون ، على حين أنه يرى الترجمة صورة مطابقة لأصلها ، وافية بكافة معانيه ومقاصده؟.

(الفارق الرابع) أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعانى والمقاصد التى نقلها المترجم ، هى مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل منه.

ولا كذلك التفسير بل المفسر تارة يدعى الاطمئنان ، وذلك إذا توافرت لديه أدلته.

وتارة لا يدعيه ، وذلك عند ما تعوزه تلك الأدلة. ثم هو طورا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض ، وطورا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول : رب الكلام أعلم بمراده. على نحو ما نحفظه لكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة.

١٢

ودليلنا على أن الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت من معان ومقاصد ، هو شهادة العرف العام أيضا بذلك ، وجريان عمل الناس جميعا فى الترجمات على هذا الاعتبار. فهم يحلونها محل أصولها إذا شاءوا ، ويستغنون بها عن تلك الأصول. بل قد ينسون هذه الأصول جملة ، ويغيب عنهم أن الترجمات ترجمات ، فيحذفون لفظ ترجمة من الاسم ، ويطلقون عليها اسم الأصل نفسه ، كأنما الترجمة أصل ، أو كأنه لا أصل هناك ولا فرع.

وإن كنت فى ريب فاسأل ما بين أيدينا من ترجمات عربية لطائفة من كتبهم التى يقدسونها ، ويطلقون على بعضها اسم توراة ، وعلى بعضها اسم إنجيل ، وما هما بالتوراة ولا بالإنجيل ، إنما هما ترجمتان عربيتان لأصلين عبريين (١) باعترافهم. ولكنهم أسقطوا وأسقط العرف العام معهم لفظ ترجمة من العنوانين الاثنين. وما ذاك إلا لما وقر فى النفوس من أن الترجمة صورة مطابقة للأصل ، مطمئنة إلى أنها تؤدى جميع مؤداه ، لا فرق بينهما إلا فى القشرة اللفظية. وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترجمات للقوانين والوثائق الدولية والشخصية ، ومن ترجمات للكتب العلمية والفنية والأدبية ، وهى كثيرة غنية عن التنويه والتمثيل.

يقال كل هذا فى الترجمات ، ولا يمكن أن يقال مثله فى التفسير ، فإننا ما سمعنا ولا سمع الدهر أن كلمة تفسير أسقطت من عنوان كتاب من كتبه. بل المعروف عكس ذلك. فكثيرا ما يسقط فى الاستعمال اسم الأصل المفسر ، على حين أن لفظ التفسير لا يسقط بحال. ويدل على هذا تلك الاطلاقات الشائعة : تفسير البيضاوى ، تفسير النسفى تفسير الجلالين ، وما أشبهها من تفسيرات القرآن الكريم. ألم يكف بهذا سندا على

__________________

(١) صوابه : «غير عربيين» وذلك لأن إنجيل مرقس ولوقا ويوحنا أصلها يونانى ، أما إنجيل متى فأصله عبرى.

١٣

أن التفسير مراعى فيه أنه بيان لا يمكن أن يقوم مقام المبين ، ولا أن يدعى فيه الاطمئنان إلى أنه واف بجميع أغراضه ومعانيه.

الترجمة والتفسير الاجمالى بغير لغة الأصل :

بيد أن هنا دقيقة نرشدك إليها. هى أن التفسير بغير لغة الأصل يشبه الترجمة التفسيرية شبها قريبا. إذا كان هذا التفسير إجماليا قائما على اختيار معنى واحد من المعانى المحتملة. ولعل هذا التشابه هو الذى أوقع بعضهم فى الاشتباه ودعوى الاتحاد بين الترجمة التفسيرية وترجمة التفسير. أو التفسير بغير لغة الأصل. ولكن النظر الصحيح لا يزال يقضى بوجود الفوارق الأربعة السابقة بين هذين النوعين أيضا. فالمفسر يقتضيه واجب البيان ألا يسوق المعنى الإجمالى المختار من بين عدة معان محتملة حتى يوجه هذا الاختيار ، وهذا التوجيه محقق للاستطراد الزائد على مدلول الأصل. ثم إن صنيعه هذا سيشعر القارئ أن للأصل معانى أخرى قد يكون هذا الذى اختير من بينها غير سديد. وقد يتوقف المفسر جملة ويعلن عجزه إذا ما أشكل عليه المعنى ورأى أن يلوذ بالصمت. وهذا محقق لعدم الوفاء بجميع معانى الأصل ولعدم الاطمئنان الذى نوهنا به. ثم إن صيغة هذا التفسير لا بد من أن ترتبط بالأصل ولو بالإشارة والتلويح ، فيقال معنى هذه الآية أو الجملة هو كذا .. أو يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا .. وذلك محقق لعدم استقلال الصيغة. بخلاف الترجمة فى ذلك كله.

فإن افترضت أن هذا المفسر سيترك وجه الاختيار وسيقطع الصلة قطعا بين التفسير وأصله ، أجبناك بأن هذا التصرف فى الحقيقة لا تفسير ولا ترجمة ، بل هو ذبذبة خرج بها الكلام عما يجب فى التفسير وفى الترجمة جميعا. لأنه لم يشرح ولم يبين حتى يكون مفسرا كما يجب ، ولم يصور معانى الأصل ومقاصده كلها حتى يكون مترجما كما يجب. فإن أدى ذلك إلى الناس بعنوان أنه ترجمة للأصل ، فإما أن يكون صادرا فى هذا الأداء عن قصور أو عن تقصير. فإن كان عن قصور فهو العجز والجهالة وإن كان عن تقصير فهو تضليل

١٤

للناس وإيهام لهم أن ما أتاه ترجمة ، وما هو بترجمة. وتلك خيانة لهم ولما زعم ترجمته ، والله لا يهدى كيد الخائنين.

تنبيهان مفيدان :

(أولهما) : أنه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة ، فكلتاهما تعبير عن معنى كلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانى الأصل ومقاصده. وما الفرق بينهما إلا شكلى وهو أن يحل كل مفرد فى الترجمة الحرفية محل مقابله من الأصل ، بخلاف التفسيرية كما بينا. فلا تظن بعد هذا أن كلمة ترجمة تنصرف إلى الحرفية أكثر مما تنصرف إلى التفسيرية كما يظن بعض الناس. بل التفسيرية أثبت قدما ، وأعرق وجودا ، وأقرب إلى الأذهان عند الإطلاق لأنها هى الميسورة ؛ وهى الواضحة ، وهى التى يتداولها المترجمون والقراء جميعا. أما الحرفية فإنها تكاد تكون نظرية بحتة ، وذلك من تعسرها أو تعذرها ، ومن غموضها وخفائها أحيانا ، ومن ندرة إقبال التراجم والقراء عليها كما سبق.

(ثانيهما) أن تفسير الأصل بلغته ، يساوى تفسيره بغير لغته ، فيما عدا القشرة اللفظية. ألا ترى أنك إذا قرأت درس تفسير للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة باللغة العربية ، ثم قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه المعانى نفسها ولكن بلغة المخاطبين العامية ، فهل تشك فى مساواة هذا التفسير لذاك فى بيان المعانى المعينة التى فهمتها من الأصل؟. وهل تجد بينهما خلافا إلا فى لغة التعبير وقشرة اللفظ؟.

إذا لاحظنا ذلك أمنا الاشتباه من هذه الناحية ، وأمكن أن نستغنى فى بحثنا هذا بذكر المساوى عن ذكر مساويه ؛ ثقة بأن ما يقال فى أحدهما يقال مثله فى الآخر. فتنبه إلى ذلك دائما ، وبالله توفيقى وتوفيقك.

١٥

الترجمة ليست تعريفا منطقيا :

أوجس بعض الباحثين خيفة من أن يظن أحد أن الترجمة من قبيل التعريف اللفظى. ولكنا إذا أنعمنا النظر رأينا أن الترجمة بالمعنى العرفى الذى قررناه ، لا يمكن أن تكون تعريفا لفظيا ولا حقيقيا وذلك من وجهين :

(أحدهما) أن التعاريف كلها من قبيل التصورات ، أما الترجمة فكلام تام. وقضايا كاملة ، وهى بلا شك من قبيل التصديقات.

(ثانيهما) أن صيغة التعريف مرتبطة دائما بالمعرف ، لأنها قول شارح له ، والشرح والبيان مرتبط فى صيغته بالمشروح والمبين ، أما الترجمة فقد فرغنا من أن صيغتها مستقلة عن الأصل المترجم ، لأن الغرض منها أن تقوم بدلا منه ، وأن يستغنى بها عنه ، فلا معنى لأن يجتمع فيها البدل والمبدل منه.

نعم إن تفسير المفرد بلغة غير لغته ، يكون من قبيل التعريف الحقيقى إن أفاد حصول صورته فى ذهن المفسر له ويكون من قبيل التعريف اللفظى إن أفاد حضور صورته الحاصلة من قبل ، على نمط قولهم فى تعريف الإنسان لمن لا يعرف حقيقته : «الإنسان حيوان ناطق» وقولهم فى تعريف البشر لمن يعرف حقيقة الإنسان ولا يعرف دلالة لفظ البشر عليه : «البشر هو الإنسان». ولكننا لسنا هنا بصدد المفردات وتفسيرها ، فبحثنا فى الترجمة لا فى التفسير ، وفى الكلام المفيد لا الكلمات المفردة.

القرآن ومعانيه ومقاصده

الآن وقد انتهينا من الكلام على أول المتضايفين فى لفظ (ترجمة القرآن) ، نقف معك وقفة أخرى بجانب ثانى هذين المتضايفين وهو القرآن نفسه ، لنستبين المراد به هنا ، ولنعرف أنواع معانيه ومقاصده تمهيدا للحكم الصحيح عليه بأنه تمكن ترجمته أو لا تمكن.

١٦

المراد بالقرآن هنا :

ولقد سبقت كلمتنا فى بيان مدلول القرآن ، وعرض الآراء والمذاهب فيه عرضا واسعا ، بالمبحث الأول فى الجزء الأول من هذا الكتاب. فارجع إليه إن شئت.

بيد أنا نلفت نظرك إلى أن المراد هنا فى مبحث الترجمة هو اللفظ المعجز ، لا الصفة القديمة صفة الكلام ، ولا الكلمات النفسية الحكمية ، ولا النقوش المكتوبة ، على ما قررناه ثمة. وإنما كان المراد بالقرآن خصوص اللفظ المعجز ، لأن الترجمة أضيفت اليه. وبدهى أن الترجمة لا تتناول إلا ما كان لفظا حقيقيا مصورا بصورة الحروف والأصوات ، ولا تتناول الصفة القديمة ، ولا الكلمات الحكمية الغيبية ، ولا النقوش المكتوبة ، اللهم إلا بضرب من التأويل.

معانى القرآن نوعان :

وبما أن الترجمة ملحوظ فيها الاحاطة بمعانى الأصل كلها ، نحيطك علما بأن القرآن الكريم ، بل أى كلام بليغ ، لا بد أن يحتوى ضربين من المعانى هما المعانى الأولية والمعانى الثانوية ، أو المعانى الأصلية والمعانى التابعة. فالمعنى الأولى لأى كلام بليغ هو ما يستفاد من هذا الكلام ومن أى صيغة تؤديه سواه ، ولو بلغة أخرى. كمجرد إسناد محكوم به إلى محكوم عليه. وسمى معنى أوليا لأنه أول ما يفهم من اللفظ. وسمى أصليا لأنه ثابت ثبات الأصول ، لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب. بل هو مما يستوى فيه العربى والعجمى ، والحضرى والبدوى ، والذكى والغبى.

أما المعنى الثانوى فهو ما يستفاد من الكلام زائدا على معناه الأولى. وسمى ثانويا لأنه متأخر فى فهمه عن ذلك. وسمى تابعا لأنه أشبه بقيد فيه ، والقيد تابع للمقيد.

(٢ ـ مناهل العرفان ـ ٢)

١٧

أو لأنه بتغير بتغير التوابع ، فيختلف باختلاف أحوال المخاطبين ، وباختلاف مقدرة المتكلمين ، وباختلاف الألسنة واللغات ، عكس ما تقدم. ولنضرب لك أمثالا توضح دقائق هذين النوعين.

إذا أردت أن تخبر عن حاتم بالجود قلت : (جاد حاتم) إن كنت تخاطب خالى الذهن من هذا الخبر. وقلت : (حاتم جواد) إذا كنت تخاطب شاكا مترددا فيه. وقلت : (إن حاتما جواد) إذا كنت تخاطب منكرا غير مسرف فى إنكاره. وقلت : (والله إن حاتما لجواد) إذا كان مخاطبك مسرفا فى الإنكار. وقلت : (حاتم سخى جواد ، كريم معطاء) إذا كان المقام مقام مدح. وقلت : (ما جواد إلا حاتم) إذا كان مخاطبك يعتقد العكس وأن غير حاتم هو الجواد. وقلت (حاتم ممدود السماط. أو كان فى بنى طىء بحر كثير الفيضان) إذا كان مخاطبك على شىء من الذكاء. وقلت : (حاتم مهزول الفصيل. أو غمر حاتم بانعامه الأنام) إذا كان مخاطبك على جانب عظيم من الذكاء.

فأنت ترى أن هذه الأمثلة كلها دارت على معنى واحد استوت جميعها فى أدائه ، هو نسبة الجود إلى حاتم ، فذلك هو المعنى الأولى أو الأصلى. ثم أنت ترى بعد ذلك أن المعنى الأولى زيدت عليه خصوصيات مختلفة ، ومزايا متغايرة بتغاير هذه الأمثلة ، ففي المثال الأول تجرد من مؤكدات الحكم ، لأن المخاطب خالى الذهن. وفى الثانى تأكيد باسمية الجملة استحسانا ؛ لأن المخاطب شاك. وفى الثالث تأكيد بمؤكدين : اسمية الجملة وإن ، لأن المخاطب منكر إنكارا يقتضيهما. وفى الرابع تأكيد بمؤكدات أربعة ، اسمية الجملة. وإن واللام والقسم ، لأن المخاطب مسرف فى الانكار. وفى الخامس إطناب لأن المقام للمدح ، وهو يقتضى الاطناب. وفى السادس قصر للجود على حاتم ، لأن المخاطب يعتقد العكس ، فقصرت أنت قصر قلب لتعكس مراده عليه. وفى السابع تجوز فى التعبير بكناية قريبة واستعارة تصريحية ، لأن المخاطب على شىء من الذكاء. وفى الثامن تجوز فى التعبير بكناية بعيدة واستعارة مكنية ، لأن المخاطب على جانب عظيم من الذكاء ، بحيث تكفيه الإشارة الخفية واللمحة القصية.

١٨

ثم إن هذه النكات البلاغية ، والاعتبارات الزائدة ، يختص بها اللسان العربى كما أن لكل لغة خصائصها.

وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هى مناط بلاغة الكلام والمتكلم. وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها ، لا تكفى وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوى اللسن والبيان ، بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضى هذا الاعتبار ، وأن تلك الحال تقتضى ذلك الاعتبار ، وهكذا. أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد ، يتوقف على أمور كثيرة. منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين. ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا. ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات. ومنها الذوق البلاغى أو الحاسة البيانية التى تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم. وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة فى علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ، ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان ، فضلا عن أن يبرزوا فى هذا الميدان.

والكلام البليغ بتفاوت تفاوتا بعيد المدى ، تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى ، فى الإحاطة بكل الخواص البلاغية ، سوى القرآن الكريم ، الذى انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء وانبهرت فى حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء. حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز ، ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو طبعة الخلق أما القرآن فهو طبعة الخلاق!.

(صِبْغَةَ اللهِ! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)

مقاصد القرآن الكريم

بما أن الترجمة عرفا لا بد أن تتناول مقاصد الأصل جميعا ، فإنا نقفك على أن لله تعالى

١٩

فى إنزال كتابه العزيز ثلاثة مقاصد رئيسية : أن يكون هداية للثقلين ، وأن يقوم آية لتأييد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس.

هداية القرآن :

وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة ، وتامة ، وواضحة.

أما عمومها فلأنها تنتظم الإنس والجن ، فى كل عصر ومصر ، وفى كل زمان ومكان.

قال الله سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). وقال جلت حكمته : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ، وقال عز اسمه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). وقال عمت رحمته : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ* يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وأما تمام هذه الهداية فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله والناس ، وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق فى العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها وجمعت بين مصالح البشر فى العاجلة والآجلة ، ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذى يعيش فيه ، ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد. اقرأ ـ إن شئت ـ قوله سبحانه (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ

٢٠