مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

القرآن عن الحفظة نجوما عشرين. ولكنا لا نعرف لصاحب هذا الرأى دليلا ولا شبه دليل.

ثالثها : قال البيهقى في معنى قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) «يريد ـ والله أعلم ـ إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع» ا ه. ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا. وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول. ويؤيده ما أخرجه

الطبرانى من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا تكلّم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخرّوا سجّدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله بوحيه بما أراد ، فينتهى به إلى الملائكة فكلما مرّ بسماء سأله أهلها ما ذا قال ربنا؟ قال : الحق ، فينتهى به حيث أمر»

. وأيّا ما تكن هذه الأقوال ، فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض ، ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده.

ما الذى نزل به جبريل؟

ولتعلم في هذا المقام ، أن الذى نزل به جبريل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وتلك الألفاظ هى كلام الله وحده ، لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها ، بل الذى رتّبها أولا هو الله سبحانه وتعالى ، ولذلك تنسب له دون سواه ، وإن نطق بها جبريل ومحمد ، وملايين الخلق من بعد جبريل ومحمد ، من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة. وذلك كما ينسب الكلام البشرى إلى من أنشأه ورتّبه في نفسه أولا دون غيره ، ولو نطق به آلاف الخلائق ، فى آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.

٤١

فالله ـ جلّت حكمته ـ هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب ذاته النفسية لأجل التفهيم والتفهّم ، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم ، ولا ينسب الكلام بجال إلا إلى من رتّبه في نفسه أولا ، دون من اقتصر على حكايته وقراءته ، ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد ، ولا لغير جبريل ومحمد ، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتّبه في نفسه أولا إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطّلع عليه أو سمعه.

وقد أسفّ بعض الناس فزعم أن جبريل كان ينزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعانى القرآن ، والرسول يعبر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحى إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ، ولا يساوى قيمة المداد الذى يكتب به. وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم. وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول : (حتّى يسمع كلام الله) ، إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله.

والحق أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه ، وليس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه ، ثم حكايته وتبليغه ، ثم بيانه وتفسيره ، ثم تطبيقه وتنفيذه. نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ). ونحو (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها. قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي). ونحو (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). ونحو (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

٤٢

ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ، وإن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن ؛ نقل السيوطى عن الجوينى أنه قال : «كلام الله المنزل قسمان : (قسم) قال الله لجبريل : قل للنبى الذى أنت مرسل إليه : إن الله يقول افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا وكذا ، ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى ، وقال له ما قاله ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك : اجتهد في الخدمة ، واجمع جندك للقتال ، فان قال الرسول : يقول لك الملك : لا تتهاون في خدمتى ، ولا تترك الجند يتفرق ، وحثّهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. (وقسم آخر) قال الله لجبريل : اقرأ على النبى هذا الكتاب ، فنزل به جبريل من الله من غير تغيير ، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ، ويقول اقرأه على فلان ، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا» ا ه.

قال السيوطى بعد ذلك. قلت : القرآن هو القسم الثانى ، والقسم الأول هو السنّة. كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداها بالمعنى. ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدّى القرآن باللفظ ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى. والسرّ في ذلك أن المقصود منه التعبّد بلفظه والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه ، وأنّ تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظه الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى. ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل ا ه.

أقول وهذا كلام نفيس ، بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن. وما ذكره الجوينى فهو احتمال عقلى لا يكفى فى هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة ، وهو الحديث القدسى الذى قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا عن الله تعالى ، فهو كلام الله تعالى أيضا ،

٤٣

غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التى امتاز بها عن كل ما سواه. ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز ، لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف ، من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز ، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز ، لأنه تصح روايته بالمعنى ، وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه ، إلى غير ذلك.

وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا ، وأن الحديث القدسى أوحيت ألفاظه من الله على المشهور ، والحديث النبوى أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك ، وليس للحديث القدسى والنبوى شىء من هذه الخصائص. والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه ، وكان مظنة للتغيير والتبديل ، واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسى والحديث النبوى فليست ألفاظهما مناط إعجاز ، ولهذا أباح الله روايتها بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التى منحها القرآن الكريم ، تخفيفا على الأمة ، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

مدة هذا النزول

وابتدأ هذا الإنزال من مبعثه عليه الصلاة والسلام ، وانتهى بقرب انتهاء حياته الشريفة ، وتقدّر هذه المدة بعشرين أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين عاما ، تبعا للخلاف في مدة إقامته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة بعد البعثة ، أكانت عشر سنين أم ثلاث عشرة أم خمس عشرة سنة. أما مدة إقامته بالمدينة فعشر سنين اتفاقا. كذلك قال السيوطى.

ولكن بعض محققى تاريخ التشريع الإسلامى يذكر أن مدة مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما من ١٧ رمضان سنة ٤١ من مولده

٤٤

الشريف إلى أول ربيع الأول سنة ٥٤ منه. أما مدة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهى تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة ٥٤ من مولده إلى تاسع ذى الحجة سنة ٦٣ منه. ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة وهذا التحقيق قريب من القول بأن مدة إقامته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة وفي المدينة عشر سنين ، وأن مدة الوحى بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما.

لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة ؛ ذلك لأنه أهمل من حسابه باكورة الوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر ، على حين أنها ثابتة في الصحيح. ثم جرى فيه على أن ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهى ليلة القدر على بعض الآراء ، غير أنه يخالف المشهور الذى يؤيده الصحيح.

ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك في تاسع ذى الحجة سنة عشر من الهجرة ، وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح.

دليل تنجيم هذا النزول

والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه ، قول الله ـ تعالت حكمته ـ فى سورة الإسراء : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) وقوله فى سورة الفرقان : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً). روى أن الكفار من يهود ومشركين عابوا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول القرآن مفرقا ، واقترحوا عليه أن ينزل جملة ، فأنزل الله هاتين الآيتين ردّا عليهم ، وهذا الردّ يدلّ على أمرين :

٤٥

أحدهما : أن القرآن نزل مفرقا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثانى : أن الكتب السماوية من قبله نزلت جملة ، كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتى كاد يكون إجماعا.

ووجه الدلالة على هذين الأمرين. أن الله تعالى لم يكذبهم فيما ادعوا من نزول الكتب السماوية جملة ، بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا ، ولو كان نزول الكتب السماوية مفرقا كالقرآن لردّ عليهم بالتكذيب ، وبإعلان أن التنجيم هو سنة الله فيما أنزل على الانبياء من قبل ، كما ردّ عليهم بقوله : (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلّا إنّهم ليأكلون الطّعام ويمشون في الاسواق). حين طعنوا على الرسول وقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)؟. ا ه من سورة الفرقان.

الحكم والأسرار في تنجيم القرآن

لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرار عدّة وحكم كثيرة ، نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسية : ـ

الحكمة الأولى

تثبيت فؤاد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقوية قلبه ، وذلك من وجوه خمسة :

الوجه الأول : أن في تجدّد الوحى ، وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سرورا يملأ قلب الرسول ، وغبطة تشرح صدره ، وكلاهما يتجدّد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية ، وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول.

الوجه الثانى : أن في التنجيم تيسيرا عليه من الله في حفظه وفهمه ، ومعرفة أحكامه وحكمه ، وذلك مطمئن له على وعى ما يوحى إليه حفظا وفهما ، وأحكاما وحكما ، كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله.

٤٦

الوجه الثالث : أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجّم معجزة جديدة غالبا ، حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التنزيل ، فظهر عجزهم عن المعارضة ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ولا شك أن المعجزة تشدّ أزره وترهف عزمه ، باعتبارها مؤيّدة له ولحزبه. خاذلة لأعدائه ولخصمه.

الوجه الرابع : أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه ـ المرة بعد الأخرى ـ تكرارا للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب. وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحى والكتاب. وإن كلّ ذلك إلّا مشجّع للنفس مقوّ للقلب والفؤاد. والفرق بين هذا الوجه والذى قبله ، هو الفرق بين الشيء وأثره ، أو الملزوم ولازمه ، فالمعجزة من حيث إنها قوة للرسول ومؤيدة له مطمئنة له ومثبتة لفؤاده ، بقطع النظر عن أثر انتصاره وهزيمة خصمه بها. ثم إن هذا الأثر العظيم وحده مطمئن لقلبه الكريم ومثبت لفؤاده أيضا ، أشبه شىء بالسلاح : وجوده في يد الإنسان مطمئن له ولو لم يستعمله في خصمه ثم انتصار الإنسان وهزيمة خصمه به إذا أعمله فيه مطمئن للفؤاد مريح للقلب مرة أخرى.

الوجه الخامس : تعهّد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه الشدائد. ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعدّدة ، فلا جرم كانت التسلية تحدث هى الأخرى في مرات متكافئة. فكلما أحرجه خصمه ، سلّاه ربه. وتجىء تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين ، التى لها فى القرآن عرض طويل ، وفيها يقول الله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) من سورة هود. وتارة تجىء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ ، كما في قوله سبحانه في سورة الطور : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) وقوله في سورة المائدة : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ونحو ما في

٤٧

سورتى الضحى وأ لم نشرح من الوعود الكريمة ، والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وقوله سبحانه في سورة فصلت : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ). وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جلّ شأنه في سورة الأحقاف : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أو في صورة النهى عن التفجّع عليهم ؛ والحزن منهم. نحو قول الله في سورة فاطر. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).

ومن موارد تسلية الله لرسوله أن يخوّفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فى فاتحة سورة الشعراء. ومنها أن يؤيسه منهم ليستريح ويتسلّى عنهم نحو : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) من سورة الأنعام.

ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) من سورة الفرقان :

الحكمة الثانية

التدرّج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا. وينضوى تحت هذا الاجمال أمور خمسة أيضا :

أولها : تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية ، وهى كما علمت كانت أمّة أمّيّة.

٤٨

وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم ، وكانت مشتغلة بمصالحها المعاشية ، وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم ، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه ، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ، ويتهيّأ لهم استظهاره.

ثانيها : تسهيل فهمه عليهم كذلك ، مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه.

ثالثها : التمهيد لكمال تخلّيهم عن عقائدهم الباطلة ، وعباداتهم الفاسدة ، وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يراضوا على هذا التخلّى شيئا فشيئا ، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا ، فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل ، انتقل بهم إلى هدم آخر ، وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم ، حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهّرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج ، وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة.

وكانت هذه سياسة رشيدة ، لا بد منها في تربية هذه الأمة المجيدة ، لا سيما أنها كانت أبيّة معاندة ، تتحمّس لموروثاتها ، وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها ؛ وتتهوّر في سفك الدماء وشنّ الغارات ، لأتفه الأسباب.

رابعها : التمهيد لكمال تحلّيهم بالعقائد الحقة ، والعبادات الصحيحة ، والأخلاق الفاضلة ، بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة ، وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجراء ، من جرّاء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد ، وبراهين البعث بعد الموت ، وحجج الحساب والمسئولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة ، وثنّى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة ، وختم بالحج في السنة السادسة منها. وكذلك كان الشأن في العادات : زجرهم عن الكبائر وشدّد النكير عليهم فيها. ثم نهاهم عن الصغائر في شىء من الرفق ، وتدرّج بهم في تحريم ما كان مستأصلا فيهم

(٤ ـ مناهل العرفان ١)

٤٩

كالخمر ... تدرّجا حكيما حقّق الغاية ، وأنقذهم من كابوسها في النهاية. وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطّة المثلى أبعد نظرا ، وأهدى سبيلا ، وأنجح تشريعا ، وأنجع سياسة ، من تلكم الأمم المتمدنية المتحضرة التى أفلست في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس ، وفشلت أمرّ فشل. وما عهد أمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد.!

أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب ، وتهذيب الجماعات ، وتربية الأمم؟ بلى ، والتاريخ على ذلك من الشاهدين!!.

خامسها : تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ، بسبب ما كان بقصّة القرآن عليهم الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين ، من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين ، وما وعد الله به عباده الصالحين ، من النصر والأجر والتأييد والتمكين. والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلىّ الكبير في سورة النور : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). وقد صدق الله وعده ، ونصر عبده وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثانية بما انضوى تحتها في قول الله تعالى في سورة لإسراء (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في سورة الفرقان في بيان أسرار التنجيم (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعانى المنطوية تحت هذا الترتيل.

٥٠

الحكمة الثالثة

مسايرة الحوادث والطوارئ في تجدّدها وتفرقها ، فكلما جدّ منهم جديد ، نزل من القرآن ما يناسبه ، وفصّل الله لهم من أحكامه ما يوافقه. وتنتظم هذه الحكمة أمورا أربعة :

أولها : إجابة السائلين على أسئلتهم عند ما يوجهونها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته. كما قال الله تعالى في جواب سؤال أعدائه إياه. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فى سورة الإسراء. وقوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) الخ الآيات في هذا الموضوع من سورة الكهف. أم كانت لغرض التنوّر ومعرفة حكم الله كقوله تعالى في سورة البقرة : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ الْعَفْوَ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى؟ قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ).

ولا ريب أن تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوقات مختلفة ، وعلى نوبات متعدّدة ، حاكية أنهم سألوا ولا يزالون يسألون. فلا بدع أن ينزل الجواب عليها كذلك في أوقاتها المختلفة ، ونوباتها المتعدّدة.

ثانيها : مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها. ومعلوم أن تلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة ، بل وقعت تفصيلا وتدريجا ، فلا مناص إذن من فصل الله فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلا وتدريجا. والأمثلة على هذا كثيرة ، منها قوله سبحانه في سورة النور : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) إلى قوله سبحانه (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهنّ عشر آيات نزلن في حادث من أروع الحوادث : هو اتهام السيدة الجليلة

٥١

أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بالإفك. وفيها دروس اجتماعية لا تزال تقرأ على الناس ، كما لا تزال تسجّل براءة هذه الحصان الطاهرة من فوق سبع سماوات.

ومن الأمثلة قوله تعالى في مفتتح سورة المجادلة : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) إلى قوله تعالى (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ). وهنّ ثلاث آيات نزلن عند ما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن زوجها أوس بن الصّامت ظاهر منها ، وجادلت الرسول بأن معها صبية صغارا إن ضمّتهم إلى زوجها ضاعوا ، وإن ضمّتهم إليها جاعوا.

ثالثها : لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التى يخطئون فيها ، وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه. ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة ، فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها ، متكافئا معها في زمانها.

اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة آل عمران : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) إلى آيات كثيرة بعدها ، وكلها نزلت في غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرهيب والمأزق العصيب. وكذلك اقرأ قوله سبحانه في سورة التوبة : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهى آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاب والاغترار فى يوم من أيام الله ، وتلفت نظرهم إلى مقدار تدارك الله لهم في شدّتهم ، وإلى وجوب أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويتوبوا إلى ربهم.

٥٢

رابعها : كشف حال أعداء الله المنافقين ، وهتك أستارهم وسرائرهم للنبى والمسلمين ، كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم. وحتى يتوب من شاء منهم. اقرأ ـ إن شئت ـ قوله تعالى في سورة البقرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إلى قوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهنّ ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين ، كما فضحتهم سورة التوبة في كثير من الآيات ، وكما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثالثة بمضامينها الأربعة في قول الله تعالى في تلك الآية من سورة الفرقان : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)

الحكمة الرابعة

الإرشاد إلى مصدر القرآن ، وأنه كلام الله وحده ، وأنه لا يمكن أن يكون كلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كلام مخلوق سواه.

وبيان ذلك. أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره ، فإذا هو محكم السرد ، دقيق السبك ، متين الأسلوب ، قوىّ الاتصال ، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله ، يجرى دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنّه سبيكة واحدة ، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكّك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة! أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار : نظّمت حروفه وكلماته ، ونسّقت جمله وآياته ، وجاء آخره مساوقا لأوله ، وبدا أوّله مواتيا لآخره!!.

وهنا نتساءل : كيف اتّسق للقرآن هذا التألف المعجز؟ وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؟ على حين أنه يتنزّل جملة واحدة ، بل تنزّل آحادا مفرّقة تفرّق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما!!.

الجواب : أنّنا نلمح هنا سرّا جديدا من أسرار الإعجاز ، ويشهد سمة فذّة من

٥٣

سمات الربوبيّة ، ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن ، وأنه كلام الواحد الديان (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وإلا فحدثنى ـ بربك ـ كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط ، متين النّسج والسرد ، متآلف البدايات والنهايات ، مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر ، وهى وقائع الزمن وأحداثه التى يجيء كلّ جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ، ومتحدثا عنها : سببا بعد سبب ، وداعية إثر داعية ، مع اختلاف ما بين هذه الدواعى ، وتغاير ما بين تلك الأسباب ، ومع تراخى زمان هذا التأليف ، وتطاول آماد هذه النجوم ، إلى أكثر من عشرين عاما.

لا ريب أن هذا الانفصال الزمانى ، وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعى ، يستلزمان في مجرى العادة التفكّك والانحلال ، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام.

أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا : نزل مفرّقا منجما ، ولكنه تمّ مترابطا محكما. وتفرّقت نجومه تفرّق الأسباب ، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب. ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما ، ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما!!.

أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر ، وما لك الأسباب والمسبّبات ، ومدبّر الخلق والكائنات ، وقيّوم الأرض والسموات ، العليم بما كان وما سيكون ، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون؟؟.

لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات ، قال : «ضعوها في مكان كذا من سورة كذا». وهو بشر لا يدرى (طبعا) ما ستجىء به الأيام ، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ، ولا يدرك ما سيحدث

٥٤

من الدواعى والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها. وهكذا يمضى العمر الطويل والرسول على هذا العهد ، يأتيه الوحى بالقرآن نجما بعد نجم ، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتمّ ، وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم ، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت ، بل يعجز الخلق طرّا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)!!.

وإنه ليستبين لك سرّ هذا الاعجاز ، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتّساق والانسجام ، لن يمكن أن يأتى على هذا النمط الذى نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط ، لا في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كلام غيره من البلغاء وغير البلغاء.

خذ مثلا حديث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ما هو في روعته وبلاغته ، وطهره وسمّوه : لقد قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مناسبات مختلفة ، لدواع متباينة ، فى أزمان متطاولة فهل في مكنتك ومكنة البشر معك ، أن ينظموا من هذا السرد الشتيت وحده. كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة ، من غير أن ينقصوا منه أو يتزيّدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟؟.

ذلك ما لن يكون ، ولا يمكن أن يكون ، ومن حاول ذلك فإنما يحاول العبث ويخرج للناس بثوب مرقّع ، وكلام ملفّق ينقصه الترابط والانسجام ، وتعوزه الوحدة والاسترسال ، وتمجّه الأسماع والأفهام.

إذن : فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده. وتلك حكمة جليلة الشأن ، تدلّ الخلق على الحق في مصدر القرآن!. (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

٥٥

٣ ـ المعركة الطاحنة

أو الوحى بين معتقديه ومنكريه

كل ما قدمناه إليك في نزول القرآن لا يسلّمه ولا يقبله إلا من آمن بالوحى وأساليبه ، والاتصالات الروحية بالملإ الأعلى ، واستمداد الانسان لمعارفه عن الله تعالى بوساطة الملك ، على غير الطريقة المعتادة بين البشر. ولكن العقليّة العصريّة أصابها مسّ من الماديّة والإلحاد والإباحة ، فأصبح كثير من المتعلمين تعليما مدرسيّا ناقصا ، لا يهضمون هذه الحقائق العليا ، ولا يستسيغون فهمها ، بل يلقون حبالا وعصيا في سبيل المؤمنين بها ، ولا شبهة لهم فيما ذهبوا إليه إلا شكوك تلقّفوها من هنا وهناك ، يروّجونها باسم العقل مرة ؛ وباسم العلم مرة أخرى.

لهذا نرى لزاما علينا أن نقف هنا بجانب الوحى وقفة نرفع فيها النقاب عن حقيقته وأنواعه وكيفيّاته ، ثم نتبع ذلك بالأدلة العلمية على الوحى وإمكانه ، ثم نردفها بالأدلة العقلية على تحقّقه ووقوعه. ثم نختم هذا المبحث بعلاج الشبهات التى تعترضهم ويعترضون بها في هذا الموقف الجلل. والموضوع الخطير.

تلك نقاط أربع إذا وفّقنا في بحثها ، قطعنا الطريق على عصابات مجرمة ، اتخذت مبحث الوحى أداة للفتنة ، وستارا يقضون من ورائه وطرا للغواية ، ومأربا للاباحة ، وسبيلا إلى هدم الأديان ، وضلال الإنسانية والإنسان.

ا ـ حقيقة الوحى وأنواعه وكيفياته

أما الوحى فمعناه في لسان الشرع ؛ أن يعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ، ولكن بطريقة سريّة خفية ، غير معتادة للبشر.

٥٦

ويكون على أنواع شتى : منه ما يكون مكالمة بين العبد وربه ، كما كلّم الله موسى تكليما. ومنه ما يكون إلهاما يقذفه الله في قلب مصطفاه على وجه من العلم الضرورى لا يستطيع له دفعا ، ولا يجد فيه شكّا. ومنه ما يكون مناما صادقا يجيء في تحقّقه ووقوعه ، كما يجيء فلق الصبح في تبلّجه وسطوعه. ومنه ما يكون بوساطة أمين الوحى جبريل عليه‌السلام : وهو ملك كريم ذو قوّة عند ذى العرش مكين ، مطاع ثمّ أمين. وذلك النوع هو أشهر الأنواع وأكثرها. ووحى القرآن كله من هذا القبيل ، وهو المصطلح عليه بالوحى الجلىّ. قال الله تعالى في سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).

ثم إن ملك الوحى يهبط هو الآخر على أساليب شتّى : فتارة يظهر الرسول في صورته الحقيقيّة الملكية. وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه. وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يرى ، ولكن يظهر أثر التغيّر والانفعال على صاحب الرسالة فيغطّ غطيط النائم ، ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء ، وما هى فى شىء من الغشية والاغماء ، إن هى إلا استغراق في لقاء الملك الروحانى ، وانخلاع عن حالته البشرية العادية ، فيؤثّر ذلك على الجسم ، فيغطّ ويثقل ثقلا شديدا ، قد يتصبّب منه الجبين عرقا في اليوم الشديد البرد. وقد يكون وقع الوحى على الرسول كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه ، وذلك أشدّ أنواعه. وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه الرسول كأنه دوىّ النحل ، لكنهم لا يفهمون كلاما ، ولا يفقهون حديثا. أما هو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنه يسمع ويعى ما يوحى إليه ، ويعلم علما ضروريّا أنّ هذا هو وحى الله دون لبس ولا خفاء ، ومن غير شك ولا ارتياب ، فإذا انجلى عنه الوحى وجد ما أوحى إليه حاضرا في ذاكرته ، منتقشا في حافظته ، كأنما كتب في قلبه كتابة.

٥٧

والأدلة الشرعية على ما ذكره كثيرة في الكتاب والسنّة ، منها ما قصصنا عليك في تنزّلات القرآن ، ومنها قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

ومنها الحديث الذى يرويه البخارىّ في صحيحه عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها : أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشدّه على ـ فيفصم عنّى وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثّل لى الملك رجلا فيكلّمنى فأعي ما يقول» قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا

. ب ـ الوحى من ناحية العلم

اعلم أن أعداء الوحى ومنكريه لا يؤمنون بالشرع وأدلة الشرع. إنما يؤمنون بالعقل على الطريقة التى يستسيغونها ، وبالعلم الذى تواضعوا عليه في اصطلاحهم الحديث ، وهو جملة المعارف اليقينية التى أنتجها دستور البحث الجديد في الوجود وكائناته ، من جعل الشك أساسا للبحث ، والاستناد إلى القاطع الذى يؤيده الحسّ دون سواه ، فهم يقدّمون الشكّ ويمنعون فيه ، ثم لا يعترفون إلا بالحسيّات ، ولا يحفلون بمجرد العقليات. ومن هنا سجنوا أنفسهم في سجن المادّة ، ومكثوا حينا من الدهر ينكرون ما وراء المادّة ، ويسرفون في الشكوك إلى أبعد الحدود ، ويستخفّون بأمر الإلهيات والنبوّات والوحى إلى مدى بعيد لم تصل إليه أظلم عهود الجاهلية ، لو لا أن صدمهم العلم نفسه صدمة عنيفة غيّرت رأيهم في إنكار ما وراء المادة كما يأتى إن شاء الله. وإنما نبدأ هنا بأدلة الوحى العلمية ، لأنها في الواقع أدلة لإمكان الوحى وتقريبه إلى المعقول. وإمكان الوحى هو الخطوة الأولى في الموضوع ،

٥٨

وهو ملحوظ في المقدمة الأساسية من مقدمات الدليل العقلى الآتى ، فلا غرو أن يكون لتلك الأدلة العلمية مكان الصدارة والتقديم.

«الدليل الأول» التنويم الصناعى ، أو التنويم المغناطيسى ، وهو من المقرّرات العلمية الثابتة. كشفه الدكتور «مسمر» الألمانى في القرن الثامن عشر ، وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمان في سبيل إثباته وحمل العلماء على الاعتراف به وقد نجحوا في ذلك ، فاعترف العلماء به علميا ؛ بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلّفة من الخلق واطمأنّوا إلى تجاربه. وأخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتى :

١ ـ أن للإنسان عقلا باطنا أرقى من عقله المعتاد كثيرا.

٢ ـ أنه وهو في حالة التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع ، ويقرأ من وراء حجب ، ويخبر عما سيحدث ، مما لا يوجد في عالم الحسّ أقلّ علامة لحدوثه.

٣ ـ أن للتنويم درجات بعضها فوق بعض يزداد العقل الباطن سموا بتنقله فيها.

٤ ـ أنه قد يصل إلى درجة تخرج فيها روح الوسيط من جده ؛ وتمثل إلى جانبه غير مرئية ، بينما يكون الجسم في حالة تشبه الموت ، لو لا علاقة خفية بين الروح والجسم.

٥ ـ أثبتوا من وراء ذلك أن هناك روحا.

٦ ـ أن الروح مستقلة عن الجسم كل الاستقلال.

٧ ـ أن الروح لا تنحلّ بانحلاله.

٨ ـ أنها تتصل بالأرواح التى سبقتها إذا تجرّدت عن المادّة ، إلى غير ذلك مما لا نسلّم جميع تفاصيله تقليدا ، وإن كنا نسلّم هذا العلم وتجاربه. ومقرراته فى الجملة ، لثبوت الدليل بها في الجملة أيضا بواسطة التجارب العديدة

٥٩

والمشاهدات الكثيرة. وله في الغرب أنصار من علماء وطلاب ؛ وله دور وكتب ، وله مستشفيات يؤمّها الناس للتداوى به.

وليس من موضوعنا أن نتوسّع لك في هذا العلم وتاريخه وتجاربه وفوائده ، ولكنا نريد أن نتقدّم إليك بفكرة مجملة عنه ، تريك إلى أىّ حد أظهر الله في هذا العصر آيات باهرات ، على أيدى الطبيعيين الذين ينكرون ما وراء المادة ويسرفون في الإنكار ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل يثبتون ما وراء المادة ويسرفون في الإثبات. تحقيقا لقوله سبحانه (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ا ه من خاتمة سورة فصلت.

وإننا نضع بين يديك هنا تجربة واحدة من تجارب التنويم ، تقرّب إليك الوحى كل التقريب ، وهذه التجربة رأيتها بعينى ، وسمعتها بأذنى ، بنادى جمعية الشبان المسلمين ، على مرأى ومسمع من جمهور مثقّف كبير ، حضر ليشهد محاضرة مهمة في التنويم المغناطيسى وإثبات أنه يمكن أن يتخذ سلاحا مسموما لتغيير عقيدة الشخص ودينه ، كما تسفّل إلى ذلك بعض المبشرين ، إذ فتن بهذا العدوان الخبيث شابّا من خيرة الشبان المسلمين حول سنة ١٣٥١ ه‍ في حادثة مشهورة مروّعة ، وما هى منكم ببعيد.

قام المحاضر ، وهو أستاذ في التنويم المغناطيسى ، وأحضر الوسيط وهو فتى فيه استعداد خاص للتأثّر بالأستاذ ، والأستاذ فيه استعداد خاص للتأثير على الوسيط ، فالأول ضعيف النفس ، والثانى قويّها. وللضعف والقوة وجوه ليس هذا موضع بيانها.

نظر الأستاذ في عين الوسيط نظرات عميقة نافذة ، وأجرى عليه حركات يسمونها سحبات ، فما هى إلا لحظة حتى رأينا الوسيط يغطّ غطيط النائم ، وقد امتقع لونه ، وهمد جسمه ، وفقد إحساسه المعتاد ، حتى لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدة ، ويخزه كذلك ثان وثالث ، فلا يبدى الوسيط حراكا ، ولا يظهر أىّ عرض لشعوره وإحساسه بها. وحينئذ تأكّدنا أنه قد نام ذلك النوم الصناعىّ أو المغناطيسى.

٦٠