مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

وأصحاب المذاهب المتطرفة ، والنحل الضالة ، يقصدون إلى تأويل الآيات على ما يروّج مذاهبهم في التطرف والضلال.

والأخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص والأخبار عمن سلف ، صحيحة كانت أو باطلة.

والإشاريون وأرباب التصوف تهمهم ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا.

فيفسرون القرآن بما يوافق مشاربهم وأذواقهم. وعلى الإجمال نرى كل نابغة في فن.

أو داعية إلى مذهب أو فكرة ، يجتهد في تفسير الآيات بما يوافق فنه ، ويلائم مشربه ، ويناصر مذهبه ، ولو كان بعيدا كل البعد عن المقصد الذى نزل من أجله القرآن.

ولقد غالى بعضهم فجعل القرآن مشتملا على العلوم الكونية ، كالطبيعة ، والكيمياء ، والحساب ، والجبر. وما إلى ذلك. وقد سبق أن حققنا ذلك في المبحث الأول فارجع إليه إن شئت. وربما نعود إلى القول في هذا الموضوع مرة أخرى.

والخلاصة هنا : أنه يجب على المفسر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز ، وأن يجعل هدفه الأعلى ، ومقصده الأسمى ، إظهار هدايات الله من كلامه ، وبيان وجوه إعجازه في كتابه : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).

التفسير المحمود والتفسير المذموم

تفسير الصحابة والتابعين ، وتفسير الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة ، وتفسير أهل الرأى الموفّق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف

٥٠١

أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة ، كل هذه الثلاثة من التفسير المحمود. ويغلب هذا النوع الثالث في عصرنا الحاضر ؛ إذ تجمع التفاسير لدينا بين معان مأثورة ، ومعان توسّعوا فى ذكرها عن طريق الرأى والاجتهاد المعتمد على العلم والاعتدال.

وهناك نوع رابع ، هو تفسير أهل الأهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا : وأشهر الغارقين في هذا الضلال الرمانى والجبّائى والقاضى عبد الجبار. ثم اختلفوا في الزمخشرى ، فمنهم من عدّ تفسيره من هذا النوع لما فيه من مناحى الاعتزال. ومنهم من قال : إن فيه فوائد مهمة. يريد بذلك أن يلتمس له المعاذير وأن يغلّب جانب الفوائد التى فيه على جانب الاعتزال الذى يحتويه. ولكن عدالة الأحكام تقضى بأن نسوى بين جميع التفاسير وأن نحاكمها إلى مبدأ واحد ، فما وافق منها وجه الصواب وكان بمنأى عن البدع والأهواء فهو محمود. وما تورّط منها في الخطأ وتخبّط في الهوى والبدعة فهو مذموم ، لا فرق بين الزمخشرى وغير الزمخشرى ، ولا بين معتزلى وغير معتزلى.

ميزان المدح والذم

ثم إن هناك ميزانا لما يحمد من التفسير وما يذمّ ، وهو الفيصل الذى يجب أن نحكّمه ونزن كل تفسير به ، فما رجح في هذا الميزان قبلناه وحمدناه ، وما طاش رفضناه وذممناه.

والمدح والذم درجات بعضها فوق بعض ، على حسب استيفاء التفسير لوجوه المدح والذم أو نقصها قليلا أو كثيرا. وسنضع هذا الميزان بين يديك تحت عنوان «منهج المفسرين بالرأى». فانتظره رويدا.

غير أنا نسترعى نظرك هنا إلى كلمة أهل البدع والأهواء ، ونريد أن تكون موفقا في حكمك على أية طائفة أو أى شخص ببدعة أو هوى ، وإلا خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة والهوى في حكمك. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ

٥٠٢

سَبِيلِ اللهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ).

غلطة التعصّب الرأى

واعلم أن هناك أفرادا بل أقواما تعصّبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب كان مبتدعا متّبعا لهواه ، ولو كان متأوّلا تأويلا سائغا يتسع له الدليل والبرهان. كأن رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام. وهكذا استزلّهم الشيطان وأعماهم الغرور.

ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرّق كثير من المسلمين شيعا وأحزابا ، وكانوا حربا على بعضهم وأعداء. وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآراءهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة متسعا لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصما بحبل من الله. ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) ويقول جلّ ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ويقول تقدّست أسماؤه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).

لمثل هذا أربأ بنفسى وبك أن نتّهم مسلما بالكفر أو البدعة والهوى لمجرد أنه خالفنا في رأى إسلامى نظرى ، فإن الترامى بالكفر والبدعة من أشنع الأمور. ولقد قرّر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجها ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل وهو الإيمان. وهذا موضوع

٥٠٣

مفروغ منه ومن التدليل عليه. لكن يفتّ في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين عن هذا الأدب الإسلامى العظيم ، الذى يحفظ الوحدة ، ويحمى الأخوّة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية والمنازع المذهبية ، والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة التى يحتملها النظر السديد والتأويل الرشيد.

ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كلّ برأيه وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ولم يعب أحدا منهم ، على رغم أنه يترتّب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهادا منه ، إذ قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لفئة من أصحابه «لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بنى قريظة»

فافروا وجدّوا ، ولكن الغزالة تدلّت للغروب وهم لا يزالون ضاربين في الأرض. ولمّا يصلوا. هنا لك اجتهدوا ، فمنهم من وقف عند ظاهر النص فترك العصر حتى خرج وقته ما دام لم يصل إلى بنى قريظة. ومنهم من تأوّل النصّ وحمله على الكناية في الإسراع فصلّى حين خاف على الوقت من قبل أن يصل إلى بنى قريظة.

نقول : إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقرّه ، تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة ، يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال. وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا ، ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا.

وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعى ، واحترام الشافعى لأحمد بن حنبل حتى ورد أنه كان يتبرّك بغسالة قميصه ، أى يتبرك الأستاذ الإمام

٥٠٤

بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأى والاجتهاد! ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبى حنيفة للشافعى ، ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة! ولا تنس إباء مالك على الرشيد أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطّئه ومذهبه ، ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه ، وأن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفرّقوا في البلاد ولكلّ وجهة».

أرأيت هذا النّبل والطّهر : أجل أجل!!. ولكنك ستقضى الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر ، وتراموا بالشرك ، وتقاذفوا بالتبدّع والهوى ، لمجرد تأويل يستسيغه النظر ، ويتّسع له صدر الاستدلال. ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلّها مسلمة ، وأريقت دماء زكية كلها إسلامية! ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها ، وما كان أحرانا بالحذر منها ، خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات ، وبعد أن أقر الرسول أمثال هذه الخلافيات ، وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات : «هلك المتنطّعون». وهى كلمة صغيرة ولكنها كبيرة ، تحذّر وتنذر ، وتمثّل الهلاك جاثما فى التنطّع بأشكاله وألوانه ، فى الأنفس والأعراض والأموال ، وفي الجماعات والأفراد على سواء.

لا أريد أن أطيل في هذا ، ولكنى أريد أن أقرّوا كرّر ، أن الحكم على فرد أو جماعة بالبدعة والهوى ، لا يجوز أن يكون مبنيّا على غير بدعة أو هوى.

ونرى أن من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى ، أن يرمى بعض المغالين في الاعتزال إخوانهم من أهل السنة بأنهم حمير في جهالتهم ، وبأنهم على هوى في عقيدتهم ، ولم يكفهم أن يقولوا ذلك نثرا ، بل ردّدوه شعرا : وأنشدوا ـ سامحهم الله ـ :

«لجماعة سمّوا هواهم سنّة

وجماعة حمر ـ لعمرى ـ موكفه» الخ

٥٠٥

وكذلك نرى من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمى بعض المغالين من أهل السنة إخوانهم المعتزلة بالشرك والوثنية ، لاعتقادهم أن العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية.

ونعتقد أن كلتا الطائفتين لو أنصتت إلى وجهة نظر صاحبتها في هدوء ونصفة ، لاجتمعتا على الإنسانية التى تجمع الجميع ، وعلى الإسلام الذى يؤلف بين الجميع ، وعلى الاحترام الذى يجب أن يسود الجميع ، فإن لكلّ شرعة ومنهاجا في حدود الإسلام وأدلة الاسلام.

ولنقف برهة بجانب هذا المثال ، مثال خلق الأفعال ، ليتّضح الحال ، ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ، ولنعلم أن المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم إخوانا مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ، ويضمهم لواء الإسلام.

فى القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثيرة على أن الله تعالى خالق كل شىء ، وأن مرجع كل شىء إليه وحده ، وأن هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه. مثل قوله عزوجل : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ. إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ. فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ

٥٠٦

يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)

وكذلك يقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أصابك شىء فلا تقل لو أنّى فعلت كذا كان كذا وكذا. ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل» ويقول : «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» ويقول : «يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبى على دينك». إلى غير ذلك.

هذه النصوص وأمثالها ، إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يردّ الأمور كلها إلى الله معتقدا أنه الواحد الأحد ، لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه ، وهى أفعال التكليف من عباده ، وكأن نسبة الأفعال إلى العباد هى الأخرى محض فضل من الله ، على حدّ ما قال ابن عطاء الله : «من فضله وكرمه عليك ، أن خلق العمل ونسبه إليك».

ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة أخرى عقلية ، ناطقة بوحدانية الله في كل شىء ، وبأن العبد لا يعقل أن يكون خالقا لما اختاره من أفعاله ، لأنه لو كان خالقا لها لكان عالما بتفاصيلها ، ولكنه يشعر من نفسه بأنه تصدر عنه أشياء كثيرة جدا من عمله الاختيارى دون أن يعرف تفاصيلها ، كخطوات المشى وحركات المضغ في الأكل ونحوها. وإذا فليس العبد هو الخالق لها. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟).

بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضا من الكتاب والسنة ، تنسب أعمال العباد إليهم ، وتعلن رضوان الله وحبّه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم. من ذلك قوله سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ

٥٠٧

يَسْبِقُونا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ. إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

كذلك نقرأ في السنة النبوية : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له* بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت* يا عباس بن عبد المطلب اعمل لا أغنى عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد اعملى لا أغنى عنك من الله شيئا» إلى غير ذلك.

وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يردّ أعمال العباد الاختيارية إليهم ، معتقدا أنهم يستحقون ثوابها إن أحسنوا وعقابها إن أساءوا. ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة عقلية أيضا شاهدة بعدالة الله وحكمته ، لأن العبد لو لم يكن موجدا لما اختار من أعماله لما كان ثمّة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة. وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.

غيرى جنى وأنا المعذّب فيكم

فكأنّنى سبّابة المتندّم

٥٠٨

أهل السنة بهرتهم النصوص الأولى والأدلة العقلية التى بجانبها ، فرجّحوها وقالوا : إن العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية ، إنما هى خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتّفق هذا وما هو مقرّر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إن العباد ـ وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. وبه بتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلفين.

وهكذا حملوا النصوص الأولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب ، جمعا بين الأدلّة. ثم إذا قيل لهم : ما هذا الكسب اختلف الأشعرى والماتريدى في تحديده : أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمّم؟ ولكلّ وجهة نظر يطول شرحها وتوجيهها.

أما المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان العقل ، فرجّحوها وقالوا : إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كل شىء ومنها أعمال العباد؟ قالوا : بلى إنه خالق كل شىء حتى أعمال عباده الاختيارية بيد أنه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثانى. خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هى القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أننا استعملناها على أحد وجهيها إما بحسن الاختيار وإما بسوء الاختيار. ثم لا مانع عندنا من القول بأنه سبحانه خالق لأفعال عباده ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنه خالق أسبابها ووسائلها.

وإذا قيل لهم : إن مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله ، وهم عباده المكلفون. وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية. قالوا : لا نسلم هذا

٥٠٩

ولا نقول به ، فإن الوحدانية ليس معناها نفى وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره. إنما معناها نفى أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته ، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما يقول به في خلق العباد لأعمالهم ، فإنها لا تشبه أفعال الله بحال.

هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلا سائغا فيما تؤوّله من النصوص المقابلة للنصوص التى بهرتها فرجحتها. ونجد أيضا أن كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التى تحاول الأخرى أن تلزمها إياه في مقام الحجاج والجدال ، بل توجّه رأيها توجيها ينّأى بها عن الوقوع في المحظور. ثم نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيرا بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقاد السديد بوحدانية الله وحكمة الله ، ولكن على الوجه الذى استبان لها وراج عندها.

فكيف يرضى منصف إذا بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى؟ وما ذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ما ذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة ، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أن الرحمن الرحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.

ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله. ويؤمنون بقدره وأمره. ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص. ويؤمنون بأن العبد يعمل ما يعمل وأن الله خالق كل شىء. ويؤمنون بأنه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوبا أو عاجزا وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالما أو عابثا. ثم بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختيارى من قدرة الله ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ

٥١٠

فعل العبد في أمثال أمره. ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنهم لم يكلفوه. وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلفهم إياه لأنه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشرى محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

«لم يمتحنّا بما تعيا العقول به

حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم»

واجبنا إزاء الخلافيات

ليس من شأنى هنا أن أفصل القول في هذه المسألة ولا في أشباهها ، فلهذا التفصيل علم آخر. إنما هو ضرب من التمثيل ، نجتزئ فيه بالقليل ، لنخلص منه بعظة مهمة :

هى أن المسلمين لا يجوز لهم أن ينقسموا شيعا وأحزابا لأمر ليس من الدين ، فضلا عن أن يكون من أصول الدين ، وإذا التمسنا المعاذير لخوض من خاضوا أو يخوضون فيه دفعا لشبهات المشتهين أو ضلال المضلين ، فلن نستطيع التماس عذر واحد لمن شنوها حربا شعواء بينهم وبين إخوانهم في الدين. وما كان لهم أن يخرجوا من مثل هذا البحث أعداء متخاذلين ، وقد كانوا بالأمس إخوانا متفاهمين متعاونين.

وإذا فلنستمسك بالعروة الوثقى ، ولنفسح صدورنا للخلافيات ما دام صدر الإسلام قد وسعها. ولنعلم أنّ الإسلام أوسع من المذاهب والآراء. ولئن ضقت ذرعا برأى أخيك اليوم فقد ترى أنت رأيه غدا عند ما تقتنع بوجهة نظره. فقد رجع كثير من أعلام الأئمة عن آراء رأوها ، بل عن مذاهب كانوا قد ذهبوا إليها. ولعلك لا تجهل أن للشافعى مذهبا قديما ومذهبا جديدا ، وأن الخلاف في لواحق العقائد والأصول ، كثير الشبه بالخلاف في الأحكام والفروع.

لهذا كله ترانى لا أذهب مع الذاهبين في تضليل المعتزلة وتسفيه أحلامهم ونبزهم

٥١١

بألقاب الكفر والفسوق ، كما لا أذهب مع الذاهبين في تجهيل أهل السنة وتحقيرهم ونبزهم بالجهالة والجمود والهوى. (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

تحذير :

وأحبّ ألّا يفهم القارئ الكريم أننى أريدها فوضى لكل متأوّل في القرآن ، متلاعب بالنصوص ، عابث بتعاليم الدين. بل الذى أريده وأرجوه هو أن نفرق بين متأوّل ومتأوّل ، ثم ننظر أهذا التأويل سائغ أم غير سائغ؟ أى تساعد عليه قوانين اللغة العربية ، ومقررات الإسلام المقطوع بها ، المعلومة من الدين بالضرورة ، وبراهين العقل والمنطق أم لا؟

فالسائغ نقبله ونرحب به وإن خالف رأينا ، وغير السائغ نردّه في غير تردّد ، ونحاربه في غير هوادة ، لأن تاريخ الإسلام لم يشهد أعداء كانوا أخطر عليه من أولئك العابثين الذين تلاعبوا بنصوصه ، وعبثوا بمقرّراته. سواء منهم من ذهب به الماضى كالباطنية ، ومن برم به الحاضر كالبهائية. وقد تسمع قريبا شيئا عن أمثالهم.

سماحة الإسلام ويسر تعاليمه

بان لك مما ذكرنا أن الإسلام دين سمح ، وأن الله تعالى لم يكلف الخلق من تعاليم دينه إلا ما جاء به كتابه الكريم ، وشرحه نبيه العظيم ، على تلك الطريقة السهلة الواضحة ، البعيدة عن التدقيقات الفلسفية ، والتعقيدات الفنية.

ولعل من تمام الفائدة في هذا الموضوع الخطير أن نقتطف لك كلمة قالها حجّة

٥١٢

الإسلام الغزالى في الإحياء ، عند بيانه لما بدّل الناس من ألفاظ العلوم إذ قال تغمّده الله برحمته :

«اللفظ الثالث ـ أى من الأسماء المحمودة التى نقلت بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول ـ التوحيد. وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ، ومعرفة طريق المجادلة ، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم ، والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة ، وإثارة الشبهات ، وتأليف الإلزامات ، حتى لقّب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد ، وسمى المتكلمون بعلماء التوحيد. مع أن جميع ما هو خاصّة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شىء في العصر الأول. بل كان يشتدّ منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة. فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التى تستبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع ، فلقد كان ذلك معلوما للكل ، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله ، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين. وإن فهموه لم يتصفوا به ، وهو أن يرى الأمور كلها من الله عزوجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط ، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جلّ جلاله ، إلى أن قال :

والتوحيد جوهر نفيس ، وله قشران ، أحدهما أبعد عن اللّب من الآخر ، فخصّص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر ، وأهملوا اللّبّ بالكلية. فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك : لا إله إلا الله. وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذى صرّح به النصارى ، ولكنه قد يصدر من المنافق الذى يخالف سرّه جهره. والقشر الثانى ألّا يكون فى القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول ، بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده والتصديق به ، وهو توحيد عوام الخلق. والمتكلمون كما سبق حرّاس هذا القشر عن

(٣٤ ـ مناهل العرفان)

٥١٣

تشويش المبتدعة. والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط ، وأن يعبده عبادة يفرده بها ، فلا يعبد غيره. ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى ، فكل متّبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده. قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى». وعلى التحقيق من تأمّل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه ، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل ، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعانى التى يعبر عنها بالهوى. ويخرج من هذا التوحيد التسخّط على الخلق والالتفات إليهم ، فإن من يرى الكلّ من الله عزوجل كيف يتسخّط على غيره؟ فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام ، وهو مقام الصدّيقين. فانظر إلى ما ذا حوّل؟ وبأىّ قشر قنع منه؟ وكيف اتخذوا هذا معتصما في التمدّح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذى يستحق الحمد الحقيقى؟ وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجّه إلى القبلة ويقول : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن توجه قلبه توجها إلى الله تعالى على الخصوص. فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة ، وما صرفه إلا عن سائر الجهات. والكعبة ليست جهة للذى فطر السموات والأرض حتى يكون المتوجّه إليها متوجّها إليه تعالى عن أن تحدّه الجهات والأقطار. وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب التعبّد به فكيف يصدق في قوله؟ وقوله متردّد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ، ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب ومتوجّه بالكلية إليها ، فمتى وجّه وجهه للذى فطر السموات والأرض؟ وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد ، فالموحّد

__________________

(١) قال العراقى في تخريج هذا الحديث : رواه الطبرانى من حديث أبى أمامة بإسناد ضعيف.

٥١٤

هو الذى لا يرى إلا الواحد ، ولا يوجه وجهه إلا إليه. وهو امتثال قوله تعالى : (قُلِ اللهُ ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). وليس المراد به القول باللسان ، فإنما اللسان ، ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى. وإنما موقع نظر الله المترجم عنه وهو القلب. وهو معدن التوحيد ومنبعه» ا ه

إياك أن تفهم منه الغضّ من علم التوحيد ، خصوصا بعد أن صرّح هنا بأنه يحمى قشرة العقيدة عن تشويش المبتدعة. ولكن نقده ينصبّ على الإسراف في القشور وإهمال اللباب ، كما سمعت.

تحقيق للأستاذ الإمام

وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام في هذه المسألة ، بحاشيته على العقائد العضدية ، توسع فيه كثيرا مع الفرق المخالفة ، حين عرض لحديث الترمذى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستفترق أمتى ثلاثا وسبعين فرقة ، كلها في النار إلّا واحدة. قيل : ومن هم؟ قال : «الذين هم على ما أنا عليه وأصحابى». ثم ختم الشيخ بحثه فقال :

«والحق الذى يرشد إليه الشرع والعقل ، أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على إثبات صانع واجب الوجود ، ثم منه إلى إثبات النبوات. ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ ، إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة. ثم يأخذ طريق التحقيق في تأسيس جميع عقائده بالبراهين الصحيحة ، كان ما أدت إليه ما كان ، لكن بغاية التحرى والاجتهاد.

ثم إذا فاء من فكره إلى ما جاء من عند ربه ، فوجده بظاهره ملائما لما حققه. فليحمد الله على ذلك. وإلا فليطرق عن التأويل ويقول : «آمنّا به كلّ من عند ربّنا

٥١٥

فإنه لا يعلم مراد الله ونبيه إلا الله ونبيه. على هذا المنوال يكون نسجه فيبوء من الله برضوان ؛ حيث أسس عقائده على السديد من البراهين ، واستقبل الأخبار الإلهية بالقبول والتسليم. وتناولها بقلب سليم.

وإن أراد التأويل لغرض. كدفع معاند أو إقناع جاحد ، فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التقليد والتشويش. وهذا هو دأب مشايخنا كالشيخ الأشعر والشيخ أبى منصور ومن ماثلهم ، لا يأخذون قولا حتى يسدّدوه ببراهينهم القوية على حسب طاقتهم. وهذا ما يعنى باسم السنى والصوفى والحكيم. وكلّ متحزّب مجادل فإنما يبغى العنت وتشتيت الكلمة ، فهو في النار. وكل مقصر فعليه العار والشنار. فاسلك سبيل السلف. واحذر فقد خلف من بعدهم خلف.

ولا بدّ في كمال النجاة ونيل العادة الأبدية ، من أن ينضمّ إلى ذلك التخلى عن الرذائل ، والتحلى بالأخلاق الكاملة والأعمال الفاضلة. ومن تلك الأخلاق والأعمال تكميل قوة النظر وارتكاب طريق العدل في كل شىء ، إذ لا ريب أن كل من خالف ما كان عليه النبى وأصحابه من الهمة والسداد والعدل والإنصاف ، وسلوك طريق الاستقامة فى جميع الأخلاق والأعمال ، ونور البصيرة فيما يأخذ ويعطى ، فهو في النار. ومن كان على ما كانوا عليه فهو في أعلى غرف الجنان.

وسالك هذا الطريق إما أن يكون سلوكه من قبل الالتفات إلى ما جاء في الكتاب والسنة وكلام أولى الفضل من الراشدين قديما وحديثا ، فذلك هو الحكيم العلىّ والمؤمن المتوسط. وإما أن يكون مع ذلك قد سلك بنفسه مدارج الأنوار ، ووقف على ما في ذلك من دقائق الأسرار ، حتى جلس في حياته هذه في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فهو الصوفى ، وهو صاحب المقصد الأسنى والمطلوب الأعلى. وفي هذا مراتب لا تحصى ، ومراق لا تستقصى. وهذا وما قبله يشملهما اسم المؤمن الصادق

٥١٦

فمن تحقّق بهذا النور ، فله النجاة والحبور ، كان ما كان ، فإن هذا هو المتحقّق فيه ما كان النبى عليه وأصحابه.

ولنمسك القلم حيث إن المقصود هو الإيجاز. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآل فاسلك بنفسك طريق السداد ، وانظر فيما يكون لك بعين الرشاد» ا ه.

وهنا أمسك أنا القلم أيضا مؤمّلا أن أكون قد وفّيت هذا المقام المهمّ حقّه ، وأن أكون قد نجحت في تجلية مبدأ من المبادئ الإسلامية الرشيدة ، عند اختلاف وجهات الأنظار ، وتباين منازع الأفكار. كفانا الله شرّ العناد والغرور والفتنة ، وجمع صفوف الأمة على حقائق الكتاب والسنة ، آمين.

ى ـ التفسير بالرأى

الجائز منه وغير الجائز

المراد بالرأى هنا الاجتهاد. فإن كان الاجتهاد موفّقا أى مستندا إلى ما يجب الاستناد. إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة ، فالتفسير به محمود وإلا فمذموم. والأمور التى يجب استناد الرأى إليها في التفسير نقلها السيوطى في الإتقان عن الزركشى فقال ما ملخصه : للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة : ـ

الأولى : النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التحرّز عن الضعيف والموضوع.

الثانية : الأخذ بقول الصحابى ، فقد قيل إنه في حكم المرفوع مطلقا. وخصّه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأى فيه.

الثالثة : الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلا ما لا يدلّ عليه الكثير من كلام العرب.

٥١٧

الرابعة : الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذى دعا به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس في قوله : «اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التّأويل».

فمن فسر القرآن برأيه أى باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معانى كتاب الله ، كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود. ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها ، كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم.

فالتفسير بالرأى الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه. وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها. وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزّل كلام الله على المعروف من تشريعه.

أما الأمور التى يجب البعد عنها في التفسير بالرأى فمن أهمها التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة. ومنها حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة. ومنها الخوض فيما استأثر الله بعلمه. ومنها القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل. ومنها السير مع الهوى والاستحسان.

ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين ، هما الجهالة والضلالة.

وينبغى أن يعلم أن في القرآن علوما تتنوع إلى ثلاثة :

الأول : علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه بل استأثر به وحده كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التى لا يعلمها إلا هو. وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعا.

الثانى : ما أطلع الله عليه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختصّ به. وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام ولمن أذن له الرسول. قيل : ومنه أوائل السور.

٥١٨

الثالث : العلوم التى علمها الله تعالى لنبيه مما أمر بتبليغه. وهذا النوع قسمان : (قسم) لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع كالكلام في الناسخ والمنسوخ والقراءات ، وقصص الأمم الماضية ، وأسباب النزول ، وأخبار الحشر والنشر والمعاد. (وقسم) يعرف بطريق النظر والاستدلال ، وهذا منه المختلف في جوازه ، وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات. ومنه المتفق على جوازه وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد.

العلوم التى يحتاجها المفسر

وقد بيّن العلماء أنواع العلوم التى يجب توافرها في المفسر فقالوا : هى اللغة والنحو ؛ والصرف ، وعلوم البلاغة ، وعلم أصول الفقه ، وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول ، والقصص ، والناسخ ، والمنسوخ ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم ، وعلم الموهبة ، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حبّ دنيا أو ميل إلى المعاصى. قال الله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وقال الإمام الشافعى :

«شكوت إلى وكيع سوء حفظى

فأرشدنى إلى ترك المعاصى

وأخبرنى بأنّ العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصى»

ملاحظة :

هذه الشروط التى ذكرناها ، وهذه العلوم كلها ، إنما هى لتحقيق أعلى مراتب التفسير. مع إضافة تلك الاعتبارات المهمة المسطورة في الكلمات القيمة الآتية. أما المعانى العامة التى يستشعر منها المرء عظمة مولاه ، والتى يفهمها الإنسان عند إطلاق اللفظ الكريم ، فهى ، هى قدر يكاد يكون مشتركا بين عامّة الناس ، وهو المأمور به للتدبّر والتذكر ، لأنه سبحانه سهّله ويسره. وذلك أدنى مراتب التفسير.

٥١٩

قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده ما خلاصته : ـ للتفسير مراتب : أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ويصرف النفس عن الشر ، ويجذبها إلى الخير. وهذه هى التى قلنا إنها متيسّرة لكل أحد (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟).

وأما المرتبة العليا فهى لا تتم إلا بأمور :

(أحدها) : فهم حقائق الألفاظ المفردة التى أودعها القرآن ، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة ، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان ، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد. ومن ذلك لفظ التأويل. اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص ، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ : قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ). فإن المراد به العاقبة ، وما يعد به القرآن من المثوبة والعقوبة ، أى ما يؤدى إليه الأمر في وعده ووعيده ، فعلى المحقّق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعانى التى كانت مستعملة في عصر نزوله. والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه ، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه ، وينظر فيه ، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره. ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية؟ فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه. وقد قالوا : إن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول ، واتفاقه مع جملة المعنى ، وائتلافه مع القصد الذى جاء له الكتاب بجملته.

(ثانيها) الأساليب. فينبغى أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة. وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته ، مع التفطّن لنكته ومحاسنه ، والوقوف على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال

٥٢٠