مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

كل أولئك كان يغنيهم عن الشكل. ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة ؛ منهم العجم الذين لا يعرفون العربية ، بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل إن أبا الأسود الدؤلى سمع قارئا يقرأ قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). فقرأها بحر اللام من كلمة «رسوله». فأفزع هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال : عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله. ثم ذهب إلى زياد وإلى البصرة وقال له وقد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله ، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث وهنا جدّ جدّه ، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف ، وجعل علامة الكسر نقطة أسفله ، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف ، وجعل علامة السكون نقطتين.

طفق الناس ينهجون منهجه ، ثم امتدّ الزمان بهم فبدءوا يزيدون ويبتكرون ، حتى جعلوا للحرف المشدّد علامة كالقوس ، ولألف الوصل جرّة فوقها أو تحتها أو وسطها ، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة. ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك ابن مروان ، فرأى بنافذ بصيرته أن يميز ذوات الحروف من بعضها ، وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط ، على نحو ما تقدم تحت العنوان السابق. وهنا لك اضطرّ أن يستبدل بالشكل الأول الذى هو النقط ، شكلا جديدا هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون. والذى اضطره إلى هذا الاستبدال ، أنه لو أبقى العلامات الأولى على ما هى عليه نقطا ، ثم جاءت هذه الأخرى نقطا كذلك لتشابها واشتبه الأمر. فميز بين الطائفتين بهذه الطريقة. ونعمّا فعل!.

حكم نقط المصحف وشكله

كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله ، مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف ، وخوفا من أن يؤدى ذلك إلى التغيير فيه.

(٢٦ ـ مناهل العرفان)

٤٠١

ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود أنه قال : جرّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وما روى عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم إلى غير ذلك.

ولكن الزمان تغيّر ـ كما علمت ـ فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب أى للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف ، وخوفا من أن يؤدى تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه.

فمعقول حينئذ أن يزول القول بكراهة ذينك الإعجام والشكل ، ويحلّ محلّه القول بوجوب أو باستحباب الإعجام والشكل. لما هو مقرر من أن الحكم يدور مع علّته وجودا وعدما. قال النووى في كتابه التبيان ما نصه : قال العلماء : ويستحب نقط المصحف وشكله ، فإنه صيانة من اللحن فيه. وأما كراهة الشعبى والنخعى النقط ، فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه. وقد أمن ذلك اليوم فلا يمنع من ذلك لكونه محدثا ، فإنه من المحدثات الحسنة ، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك. والله أعلم ا ه.

تجزئة القرآن :

كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التى نذكرها ، كما كانت مجردة من النقط والشكل. ولما امتدّ الزمان بالناس جعلوا يفتنّون في المصاحف وتجزئتها عدّة تجزئات ، مختلفة الاعتبارات. فمنهم من قسم القرآن ثلاثين قسما ، وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره ، حتى إذا قال قائل : قرأت جزءا من القرآن ؛ تبادر إلى الذهن أنه قرأ جزءا من الثلاثين جزءا التى قسموا المصحف إليها. وجرى على ذلك أصحاب الربعات ، إذ طبعوا كل جزء في نسخة مستقلة ، ومجموع النسخ الجامعة للقرآن كله يسمونه (ربعة). ويوجد من هذا القبيل أجزاء مستقلة بالطبع بأيدى صغار التلاميذ فى المدارس وغيرهم.

٤٠٢

ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين ، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء سموا كل واحد منها ربعا.

ومن الناس من وضعوا كلمة خمس ، عند نهاية كل خمس آيات من السورة ، وكلمة عشر عند نهاية كل عشر آيات منها ، فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس ، فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر وهكذا دواليك إلى آخر السورة.

وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس ، ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلا من كلمة عشر. وبعض الناس يرمز إلى رءوس الآى برقم عددها من السورة أو من غير رقم. وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان ينوّه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية إلى غير ذلك.

وللعلماء في ذلك كلام طويل ، بين الجواز بكراهة والجواز بلا كراهة ، ولكن الخطب سهل على كل حال ، ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل ، وما دام الأمر بعيدا عن اللبس والتزيّد والدخيل. «وعلى الله قصد السّبيل».

احترام المصحف :

ليس فيما نرى ونسمع ، كتاب أحيط بهالة من الإجلال والتقديس ، كالقرآن الكريم. حتى لقد وصفه الحق جل شأنه بأنه كتاب مكنون ، وحكم بأنه لا يمسّه إلا المطهرون ، وأقسم على ذلك إذ يقول : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وحتى نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السفر به إلى أرض العدو ، إذا خيف وقوع المصحف فى أيديهم. والحديث مروىّ في الصحيحين.

٤٠٣

وحتى أفتى العلماء بكفر من رمى به في قاذورة ، وبحرمة من باعه لكافر ولو ذمّيّا ، قالوا بوجوب الطهارة لمسه وحمله ، وكذلك ما يتصل به من خريطة وغلاف وصندوق على الصحيح.

واستحبوا تحسين كتابته ، وإيضاحها ، وتحقيق حروفها.

قال النووى : ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه ، لأن القيام يستحب لعلماء والأخيار ، فالمصحف أولى ا ه.

رزقنا الله الأدب معه ومع كتابه ، ومع كافّة من اصطفاهم من عباده ، آمين.

٤٠٤

المبحث الحادى عشر

فى القراءات ، والقرّاء ، والشبهات التى أثيرت في هذا المقام

ا ـ القراءات

القراءات جمع قراءة ، وهى في اللغة مصدر سماعى لقرأ. وفي الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم ، مع اتفاق الروايات والطرق عنه ، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها. قال السيوطى عند كلامه على تقسيم الإسناد إلى عال ونازل ما نصه : ومما يشبه هذا التقسيم الذى لأهل الحديث ، تقسيم القراء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وطريق ووجه. فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم ؛ واتفقت عليه الروايات والطرق عنه ، فهو قراءة. وإن كان للراوى عنه ، فرواية. أو لمن بعده فنازلا ، فطريق. أولا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه ، فوجه. ا ه.

وفي منجد المقرئين لابن الجزرى ما نصّه : «القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو النّاقلة (١) ... والمقرئ : العالم بها رواها مشافهة ، فلو حفظ التيسير مثلا ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا ، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. والقارئ المبتدئ من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثا من القراءات. والمنتهى من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها» ا ه.

نشأة علم القراءات

قلنا غير مرة : إن المعوّل عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقى والأخذ ، ثقة

__________________

(١) قال في القاموس : «الناقلة : ضد القاطنين».

٤٠٥

عن ثقة ، وإماما عن إمام إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن المصاحف لم تكن ولن تكون هى العمدة فى هذا الباب. إنما هى مرجع جامع للمسلمين ، على كتاب ربهم ، ولكن في حدود ما تدلّ عليه وتعيّنه ، دون ما لا تدل عليه ولا تعيّنه. وقد عرفت أن المصاحف لم تكن منقوطة ولا مشكولة ، وأن صورة الكلمة فيها كانت محتملة لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة ، وإذا لم تحتملها كتبت الكلمة بأحد الوجوه في مصحف ، ثم كتبت فى مصحف آخر بوجه آخر وهلم جرا. فلا غرو أن كان التعويل على الرواية والتلقى هو العمدة في باب القراءة والقرآن.

وقلنا : إن عثمان رضى الله عنه حين بعث المصاحف إلى الآفاق أرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته في الأكثر الاغلب ، وهذه القراءة قد تخالف الذائع الشائع فى القطر الآخر عن طريق المبعوث الآخر بالمصحف الآخر.

ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد ، ومنهم من أخذه عنه بحرفين ، ومنهم من زاد. ثم تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال ، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم ، وأخذ تابع التابعين عن التابعين ، وهلم جرا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القرّاء المشهورين الذين تخصّصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويعنون بها وينشرونها كما يأتى.

هذا منشأ علم القراءات واختلافها ، وإن كان الاختلاف يرجع في الواقع إلى أمور يسيرة بالنسبة إلى مواضع الاتفاق الكثيرة كما هو معلوم. لكنه ـ على كل حال ـ اختلاف فى حدود السبعة الأحرف التى نزل عليها القرآن كلّها من عند الله ، لا من عند الرسول ولا أخذ من القراء أو غيرهم.

وللنويرى كتاب مخطوط بدار الكتب في مصر ، وضعه شرحا للطيّبة في القراءات العشر ، يجمل بى أن أنقل إليك منه هنا الكلمة الآتية :

٤٠٦

«والاعتماد في نقل القرآن على الحفّاظ. ولذلك أرسل (أى عثمان رضى الله عنه) كل مصحف مع من يوافق قراءته في الأكثر وليس بلازم. وقرأ كل مصر بما في مصحفهم ، وتلقوا ما فيه من الصحابة الذين تلقوه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم تجرّد للأخذ عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها ، وأتعبوا نهارهم في نقلها ، حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء ، وأنجما للاهتداء ، وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم ، ولم يختلف عليهم اثنان فى صحة روايتهم ودرايتهم. ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم ، وكان المعوّل فيها عليهم.

«ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا ، وفي البلاد انتشروا ، وخلفهم أمم بعد أمم ، وعرفت طبقاتهم ، واختلفت صفاتهم ، فكان منهم المتقن للتلاوة المشهورة بالرواية والدراية ، ومنهم المحصّل لوصف واحد. ومنهم المحصل لأكثر من واحد ، فكثر بينهم لذلك الاختلاف ، وقلّ منهم الائتلاف.

فقام عند ذلك جهابذة الأمة ، وصناديد الأئمة ، فبالغوا في الاجتهاد بقدر الحاصل ، وميّزوا بين الصحيح والباطل ، وجمعوا الحروف والقراءات ، وعزوا الأوجه والروايات ، وبيّنوا الصحيح والشاذّ ، والكثير والفاذّ ، بأصول أصّلوها ، وأركان فضّلوها ، الخ» ا ه.

طبقات الحفّاظ المقرئين الأوائل.

ولقد اشتهر في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظ القرآن وإقرائه.

فالمشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن عثمان ، وعلى ، وأبىّ بن كعب ، وزيد بن ثابت وابن مسعود ، وأبو الدرداء ، وأبو موسى الأشعرى ، وسائر أولئك الذين أرسلهم عثمان بالمصاحف إلى الآفاق الإسلامية.

والمشتهرون من التابعين : ابن المسيب ، وعروة ، وسالم ، وعمر بن عبد العزيز وسليمان ابن يسار ، وأخوه عطاء ، وزيد بن أسلم ، ومسلم بن جندب ، وابن شهاب الزهرى ،

٤٠٧

وعبد الرحمن بن هرمز ، ومعاذ بن الحارث المشهور بمعاذ القارئ. (وكل هؤلاء كانوا بالمدينة).

وعطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وابن أبى مليكة ، وعبيد بن عمير ، وغيرهم. (وهؤلاء كانوا بمكة).

وعامر بن عبد القيس ، وأبو العالية ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر (١) وجابر بن زيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وغيرهم. (وهؤلاء كانوا بالبصرة). وعلقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة ، والربيع بن خيثم ، والحارث بن قيس وعمر بن شرحبيل ، وعمرو بن ميمون ، وأبو عبد الرحمن السلمى ، وزرّ بن حبيش ، وعبيد ابن فضلة ، وأبو زرعة بن عمرو ، وسعيد بن جبير ، والنخعى ، والشعبى. (وهؤلاء كانوا بالكوفة).

والمغيرة بن أبى شهاب المخزومى صاحب مصحف عثمان ، وخليد بن سعيد صاحب أبى الدرداء ، وغيرهما. (وهؤلاء كانوا بالشام).

ثم تفرغ قوم للقراءات يضبطونها ويعنون بها. فكان بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، ثم شيبة بن نصاح (٢) ، ثم نافع بن أبى نعيم.

وكان بمكة عبد الله بن كثير ، وحميد بن قيس الأعرج ، ومحمد بن محيصن.

وكان بالكوفة يحيى بن وثاب ، وعاصم بن أبى النجود ، وسليمان الأعمش ، ثم حمزة ، ثم الكسائى.

__________________

(١) قال في القاموس : «يعمر كيفعل أسماء».

(٢) قال في القاموس : ونصاحة والد شيبة القارى» هكذا بالتاء المربوطة. ولكن الذى في كتب القراء كالنشر وطبقات القراء «نصاح» من غير تاء مربوطة.

٤٠٨

وكان بالبصرة عبد الله بن أبى إسحاق ، وعيسى بن عمرو ، وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدرى ، ثم يعقوب الحضرمى.

وكان بالشام عبد الله بن عامر ، وعطية بن قيس الكلاعي ، وإسماعيل بن عبد الله ابن المهاجر. ثم يحيى بن الحارث الذّمارى ، ثم شريح بن يزيد الحضرمى.

وقد لمع في سماء هؤلاء القراء نجوم عدّة مهروا في القراءة والضبط حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ، ويؤخذ عنهم.

أعداد القراءات :

ثم اشتهرت عبارات تحمل أعداد القراءات فقيل : القراءات السبع ، والقراءات العشر ، والقراءات الأربع عشرة.

وأحظى الجميع بالشهرة ونباهة الشأن ، القراءات السبع.

وهى القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة المعروفين وهم : نافع ، وعاصم ، وحمزة ، وعبد الله بن عامر ؛ وعبد الله بن كثير ؛ وأبو عمرو بن العلاء ، وعلى الكسائى. والقراءات العشر هى هذه السبع وزيادة قراءات هؤلاء الثلاثة : أبى جعفر ، ويعقوب ، وخلف.

وعلم القراءات أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا. ثم أهلّ عهد التدوين للقراءات ولم يكن لهذه السبعة بهذا العنوان وجود أيضا ، بل كان أول من صنّف فى القراءات أمثال أبى عبيد القاسم بن سلّام ، وأبى حاتم السجستانى ، وأبى جعفر الطبرى ، وإسماعيل القاضى. وقد ذكروا في القراءات شيئا كثيرا ، وعرضوا روايات تربى على أضعاف قراءة هؤلاء السبعة.

ثم اشتهرت قراءات هؤلاء السبعة بعد ذلك على رأس المائتين في الأمصار الإسلامية.

فكان الناس في البصرة على قراءة أبى عمرو ويعقوب ، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم ، وبالشام على قراءة ابن عامر ، وبمكة على قراءة ابن كثير ، وبالمدينة على قراءة نافع.

٤٠٩

ومكثت القراءات السبع على هذه الحال دون أن تأخذ مكانها من التدوين حتى خاتمة القرن الثالث ، إذ نهض ببغداد الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بن عباس فجمع قراءات هؤلاء الأئمة السبعة غير أنه أثبت اسم الكسائى وحذف يعقوب.

وجاء اقتصاره على هؤلاء السبعة مصادفة واتفاقا ، من غير قصد ولا عمد. ذلك أنه أخذ على نفسه ألا يروى إلا عمن اشتهر بالضبط والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة ، واتفاق الآراء على الأخذ عنه والتلقى منه فلم يتم له ما أراده هذا إلا عن هؤلاء السبعة وحدهم. وإلا فأئمة القراء لا يحصون كثرة ، وفيهم من هو أجلّ من هؤلاء قدرا ، وأعظم شأنا.

وإذن فليس اقتصار ابن مجاهد على هؤلاء السبعة بحاصر للقراء فيهم ، ولا بملزم أحدا أن يقف عند حدود قراءاتهم. بل كل قراءة توافرت فيها الأركان الثلاثة للضابط المشهور وجب قبولها (١)

ومن هنا كانت القراءات العشر. بزيادة قراءات يعقوب ، وأبى جعفر ، وخلف. على قراءات أولئك السبعة.

وكانت القراءات الأربع عشرة ، بزيادة أربع على قراءات هؤلاء العشرة ، وهى قراءات الحسن البصرى ، وابن محيصن ، ويحيى اليزيدى ، والشنبوذى.

__________________

(١) أى إن وجدت الآن. ولكن هيهات أن توجد ، بعد أن استقر الأمر في الواقع وعرف أنه ليس بعد القراءات العشر التى بين أيدينا قراءة أخرى متواترة. وسيستقبلك تحقيقه فيما بعد فانتظره.

٤١٠

فوائد اختلاف القراءات

استوفينا هذه النقطة بيانا في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف (من ص ١٣٨ ـ ص ١٤٢).

أنواع اختلاف القراءات

تكلمنا على هذا الموضوع في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف أيضا (من ص ـ ص ١٨٠).

ضابط قبول القراءات

لعلماء القراءات ضابط مشهور ، يرنون به الروايات الواردة في القراءات فيقول : كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا ، ووافقت العربية ولو بوجه ، وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء ، فهى القراءة الصحيحة التى لا يجوز ردّها ، ولا يحل إنكارها ، بل هى من الأحرف السبعة التى نزل عليها القرآن.

وهذا الضابط نظمه صاحب الطيّبة فقال :

«وكلّ ما وافق وجه النحو

وكان للرسم احتمالا يحوى

وصحّ إسنادا ، هو القرآن

فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختلّ ركن أثبت

شذوذه لو أنه في السبعة»

والمراد بقولهم : «ما وافق أحد المصاحف العثمانية» أن يكون ثابتا ولو في بعضها دون بعض. كقراءة ابن عامر : «قالوا اتخذ الله ولدا» من سورة البقرة ، بغير واو. وكقراءته : «وبالزبر وبالكتاب المنير» بزيادة الباء في الاسمين ، فإن ذلك ثابت في

٤١١

المصحف الشامى. وكقراءة ابن كثير : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فى الموضع الأخير من سورة التوبة ، بزيادة كلمة «من» فإن ذلك ثابت في المصحف المكى.

والمراد بقولهم : «ولو تقديرا» أنه يكفى في الرواية أن توافق رسم المصحف ، ولو موافقة غير صريحة ، نحو : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فإنه رسم في جميع المصاحف بحذف الألف من كلمة «مالك». فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب «ملك النّاس» ، وقراءة الألف تحتمله تقديرا كما كتب : (مالِكَ الْمُلْكِ) ، فتكون الألف حذفت اختصارا ، كما حذفت في حالات كثيرة ألمعنا إليها سابقا في قواعد رسم المصحف. أما الموافقة الصريحة فكثيرة نحو قوله سبحانه : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) فإنها كتبت في المصحف بدون نقط. وهنا وافقت قراءة «ننشزها» بالزاى وقراءة «ننشرها» بالراء.

ومن بعد نظر الصحابة في رسم المصحف أن الكلمة التى رويت على الأصل وعلى خلاف الأصل كانوا يكتبونها بالحرف الذى يخالف الأصل ، ليتعادل مع الأصل الذى لم يكتب في دلالة الصورة الواحدة على القراءتين ، إذ يدل على إحداهما بالحرف وعلى الثانية بالأصل. نحو كلمتى (الصراط ، والمصيطرون) بالصاد المبدلة بالسين ، فإنهم كتبوهما بالصاد وعدلوا عن السين التى هى الأصل ، لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم قد أتت على الأصل فيعتدلان ، وتكون قراءة الإشمام أيضا محتملة. ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات هذا الاحتمال وعدّت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل كليهما. ولذلك كان الخلاف المشهور في بصطة الأعراف دون بسطة البقرة ؛ لكون حرف البقرة كتب بالسين وحرف الأعراف كتب بالصاد.

وللعلامة النويرى على الطيبة كلمة نفيسة في هذا الموضوع إذ يقول ما نصه :

٤١٢

«اعلم أن الرسم هو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها. والعثمانى هو الذى رسم في المصاحف العثمانية. وينقسم إلى قياسيّ ، وهو ما وافق اللفظ ، وهو معنى قولهم : تحقيقا. وإلى سماعىّ وهو ما خالف اللفظ ، وهو معنى قولهم : تقديرا وإلى احتمالى وسيأتى.

ومخالفة الرسم اللفظ محصورة في خمسة أقسام ، وهى الدلالة على البدل نحو : «الصراط» وعلى الزيادة نحو : «ملك» ، وعلى الحذف هو : «لكنا هو» ، وعلى الفصل نحو :

«فمال هؤلاء» ، وعلى أن الأصل الوصل نحو : «ألّا يسجدوا» فقراءة الصاد والحذف والإثبات والفصل والوصل خمستها وافقها الرسم تحقيقا ، وغيرها تقديرا ، لأن السين تبدل صادا قبل أربعة أحرف منها الطاء كما سيأتى ، وألف مالك عند المثبت زائدة ، وأصل «لكنّا» الإثبات ، وأصل «فمال» الفصل ، وأصل «ألّا يسجدوا» الوصل. فالبدل فى حكم المبدل منه ، وكذا الباقى. وذلك ليتحقق الوفاق التقديرى ، لأن اختلاف القراءتين إذا كان يتغاير دون تضادّ ولا تناقض فهو في حكم الموافق ، وإذا كان بتضادّ أو تناقض ففي حكم المخالف. والواقع الأول فقط ، وهو الذى لا يلزم من صحة أحد الوجهين فيه بطلان الآخر.

وتحقيقه : أن اللفظ تارة يكون له جهة واحدة ، فيرسم على وفقها ، فالرسم هنا حصر جهة اللفظ ، فمخالفه مناقض. وتارة يكون له جهات فيرسم على إحداها ، فلا يحصر جهة اللفظ ، فاللافظ به موافق تحقيقا ، وبغيره تقديرا ، لأن البدل في حكم المبدل منه. وكذا بقية الخمسة.

والقسم الثالث ما وافق الرسم احتمالا. ويندرج فيه ما وقع الاختلاف فيه بالحركة والسكون نحو «القدس» ، وبالتخفيف والتشديد نحو «ينشركم» بيونس ، وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل نحو «ادخلوا» بغافر ، وباختلاف الإعجام نحو «يعلمون» و «يفتح» ، وبالإعجام والإهمال نحو «ننشزها» وكذا المختلف في كيفية لفظها

٤١٣

كالمدغم والمسهّل والممال والمرقّق والمدوّر ، فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها ، لتجردها عن أوصافها.

فقول الناظم : «وكان للرسم احتمالا» دخل فيه ما وافق الرسم تحقيقا بطريق الأولى ، وسواء وافق كل المصاحف أو بعضها ، كقراءة ابن عامر «قالوا اتّخذ الله ولدا» «وبالزّبر وبالكتاب» فإنه ثابت بالشامى. وكابن كثير في «جنّات تجرى من تحتها الأنهار» بالتوجه ، فإنه ثابت في الكوفى ، إلى غير ذلك.

وقوله «احتمالا» يحتمل أن يكون جعله مقابلا للتحقيقى. فتكون القسمة عنده ثنائية ، وهو التحقيقى والاحتمالى ، ويكون قد أدخل التقديرىّ في الاحتمالىّ ، وهو الذى فعله في نشره. ويحتمل أن يكون ثلّث القسمة ، ويكون حكم الأوّلين ثابتا بالأولويّة. ولو لا تقدير موافقة الرسم للزم الكل مخالفة الكل في نحو «السّماوات والصّالحات واللّيل»

ثم إن بعض الألفاظ يقع فيه موافقة إحدى القراءتين أو القراءات تحقيقا والأخرى تقديرا ، نحو «ملك» ، وبعضها يقع فيه موافقة القراءتين أو القراءات تحقيقا ، نحو «أنصارا لله ، فنادته الملائكة ، ويغفر لكم ، وهيت لك».

واعلم أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك ، لا يعدّ مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة. ألا ترى أنهم يعدّون إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء «تسألنى» بالكهف ، وقراءة «وأكون من الصّالحين» ونحو ذلك من مخالف الرسم غير مردود ، لرجوعه لمعنى واحد ، وتمشيه مع صحة القراءة وشهرتها. بخلاف زيادة كلمة ونقصانها ، وتقديمها وتأخيرها ، حتى ولو كانت حرف معنى ، فإن له حكم الكلمة ، ولا نسوغ مخالفة الرسم فيه. وهذا هو الحدّ الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته» ا ه

٤١٤

وقولهم في الضابط المذكور : «وافق العربية ولو بوجه» يريدون وجها من وجوه قواعد اللغة سواءً كان أفصح أم فصيحا ، مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله ، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية.

هاك الحافظ أبا عمر والدانى في كتابه جامع البيان بعد ذكره إسكان كلمة «بارئكم» و «يأمركم» فى قراءة أبى عمرو ، وبعد حكاية إنكار سيبويه لذلك ، يقول ما نصه :

«والإسكان أصحّ في النقل وأكثر في الأداء. وهو الذى أختاره وآخذ به ، إلى أن قال : وأئمة القراء لا تعتمد في شىء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة لأن القراءة سنّة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها» ا ه

(قلت) وهذا كلام وجيه فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب ، فإذا ثبتت قرآنية بالقرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعّدوا من قواعد ، ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه ، لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكّمها فيه ، وإلا كان ذلك عكسا للآية ، وإهمالا للأصل في وجوب الرعاية!

وقولهم في ذلك الضابط : «وصحّ إسناده» يريدون به أن يروى تلك القراءة عدل ضابط عن مثله وهكذا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير شذوذ ولا علة قادحة بل شرطوا فوق هذا أن تكون الرواية مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له ، غير معدودة عندهم من الغلط ، ولا مما شذّ به بعضهم. والمحقق ابن الجزرى يشترط التواتر ويصرح به فى هذا الضابط ، ويعتبر أن ما اشتهر واستفاض موافقا الرسم والعربية في قوة المتواتر في القطع بقرآنيته ، وإن كان غير متواتر.

٤١٥

منطوق هذا الضابط ومفهومه :

يدل هذا الضابط بمنطوقه ، على أن كل قراءة اجتمع فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها ، بل لقد حكموا بكفر من جحدها (١). سواءً كانت تلك القراءة مروية عن الأئمة السبعة ، أم عن العشرة ؛ أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ويدل هذا الضابط بمفهومه على أن كل قراءة لم تتوافر فيها هذه الأركان الثلاثة. يحكم بعدم قبولها. وبعدم كفر من يجحدها. سواءً كانت هذه القراءة مروية عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم ، ولو كان أكبر منهم مقاما ، وأعظم شأنا. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف ، كما صرح به الدانى ، ومكى ، والمهدوى ، وأبو شامة. وناهيك بهؤلاء الأربعة أنهم أئمة في قراءات القرآن وعلوم القرآن.

قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز ما نصه : «فلا ينبغى أن يغترّ بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة ، وأنها كذلك أنزلت ، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط. وحينئذ فلا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ، ولا يختصّ ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة ؛ فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه. والقراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم ، منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ. غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءاتهم ، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم» ا ه. لكن رأى أبى شامة وأضرابه في القراءات السبع غير سديد كما سيجىء.

__________________

(١) قد يقال : لا يسلم لهم ذلك إلا إن كانت القراءة متواترة معلومة من الدين بالضرورة ، ويمكن أن يجاب بأن هذه الأركان الثلاثة أمارة التواتر والعلم من الدين بالضرورة. كما يأتى تفصيله. وإذن يكون الحكم صحيحا.

٤١٦

ثم إن مفهوم هذا الضابط المحكوم عليه بما ترى تنضوى تحته بضع صور يخالف بعضها حكم بعض تفصيلا ، وإن اشتركت كلها في الحكم عليها إجمالا بعدم قبولها كما علمت.

ذلك أن الضابط المذكور يصدق مفهومه بنفى الأركان الثلاثة ، ويصدق بنفى واحد واثنين منها. ولكل حالة حكم خاصّ تعلمه من عبارة الإمام مكى التى نسوقها إليك ونصها : ـ «فإن سأل سائل : ما الذى يقبل من القراءات الآن فيقرأ به؟ وما الذى يقبل ولا يقرأ به؟ وما الذى لا يقبل ولا يقرأ به؟ فالجواب أن جميع ما روى من القراءات على أقسام : قسم يقرأ به اليوم : وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال ، وهن أن ينقل عن الثقات عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون وجهه في العربية التى نزل بها القرآن سائغا ، ويكون موافقا لخط المصحف.

فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على تعينه وصحته وصدقه ، لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف وكفر من جحده. قال : والقسم الثانى : ما صحّ نقله عن الآحاد وصحّ وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف. فهذا يقبل ولا يقرأ به (١) لعلتين : إحداهما أنه لم يؤخذ عن إجماع ، إنما أخذ أخبار الآحاد ، ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد والعلة الثانية أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على تعينه وصحته ، وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا يكفر من جحده ،

__________________

(١) ومعنى هذا أنه يقبل على اعتبار أنه خبر شرعى يصح الاحتجاج به عند من يرى ذلك وهم الحنفية دون الشافعية ، ولا يقرأ به على أنه قرآن ، ولا ليوهم القارئ أحدا أنه قرآن. قال النويرى : «اعلم الذى استقرّت عليه المذاهب وآراء العلماء أن من قرأ بها (أى الشواذ) غير معتقد أنها قرآن ولا موهم أحدا ذلك بل لما فيها من الأحكام

(٢٧ ـ مناهل العرفان)

٤١٧

ولبئس ما صنع إذا جحده. قال : والقسم الثالث : هو ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف. قال : ولكل صنف من هذه الأقسام تمثيل تركنا ذكره اختصارا» ا ه.

ثم انبرى المحقق ابن الجزرى لذاك التمثيل الذى تركه مكىّ اختصارا فقال : ـ (مثال القسم الأول) : ملك ومالك ، ويخدعون ، ويخادعون ، وأوصى ووصى ، ويطوّع ، وتطوّع ونحو ذلك من القراءات المشهورة.

(ومثال الثانى) قراءة ابن مسعود وأبى الدرداء : «والذكر والأنثى» فى قوله تعالى :

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) بحذف لفظ «ما خلق». وقراءة ابن عباس : «وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا» ، بإبدال كلمة أمام من كلمة وراء ، وبزيادة كلمة صالحة «وأما الغلام فكان كافرا» بزيادة كلمة «كافرا» ونحو ذلك مما ثبت برواية الثقات إلى أن قال :

(ومثال القسم الثالث) مما نقله غير ثقة كثير كما في كتب الشواذ مما غالب إسناده ضعيف كقراءة ابن السميفع وأبى السّمّال وغيرهما في «ننجّيك (١) ببدنك» بالجحيم المعجمة «ولمن خلفك آية» بفتح اللام أى من قوله «خلفك» بسكونها.

وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه والتى جمعها أبو الفضل محمد ابن جعفر الخزاعى ونقلها عنه أبو القاسم الهذلى وغيره (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ

__________________

الشرعية عند من يحتجّ بها أو الأحكام الأدبية ؛ فلا كلام في جواز قراءتها. وعلى هذا يحمل حال من قرأ بها من المتقدمين. وكذلك أيضا يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها. وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو لإيهام قرآنيتها حرم ذلك. ونقل ابن عبد البر فى تمهيده إجماع المسلمين عليه» ا ه.

(١) هنا سقط. والصواب «ننجيك» بالحاء المهملة في «ننجّيك ببدنك» الخ.

٤١٨

الْعُلَماءُ) برفع الهاء ونصب الهمزة ، يعنى برفع لفظ الجلالة ونصب لفظ العلماء.

وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه فتكلف توجيهها ، فإنها لا أصل لها ، وإن أبا حنيفة لبرىء منها.

ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية ـ ولا يصدر هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط ، يعرفه الأئمة المحقّقون والحفّاظ الضابطون ، وهو قليل جدا بل لا يكاد يوجد.

وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع «معايش» بالهمز ثم قال. ويدخل فى هذين القسمين ما يذكره بعض المتأخرين من شراح الشاطبية في وقف حمزة نحو : «أسمائهم ، وأولئك» بياء خالصة ، ونحو «شركاؤهم ، وأحبّاؤهم» بواو خالصة. ونحو «بدأكم ، وأخاه» بألف خالصة ، ونحو «رافي رأى ، وترى في تراءى ، واشمزّت فى اشمأزّت ، وفادّارتم في فادّارأتم» بحذف الهمزة في ذلك كله مما يسمونه التخفيف الرسمى ولا يجوز في وجه من وجوه العربية ، فإنه إما أن يكون منقولا عن ثقة ـ ولا سبيل إلى ذلك ـ فهو مما لا يقبل ، إذ لا وجه له. وإما أن يكون منقولا عن غير ثقة ، فمنعه أحرى وردّه أولى. مع أنى تتبعت ذلك فلم أجده منصوصا لحمزة لا بطريق صحيحة ولا ضعيفة.

ثم قال : ويبقى قسم مردود أيضا ، وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة. فهذا ردّه أحق ، ومنعه أشد ؛ ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر. وقد ذكر جواز ذلك عن محمد بن الحسن بن مقسم البغدادى المقرى النحوى وكان بعد الثلاثمائة.

قال الإمام أبو طاهر بن أبى هاشم في كتابه البيان : وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها. فابتدع بدعة ضلّ بها قصد السبيل (قلت) : وقد عقد له بسبب ذلك

٤١٩

مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقرّاء ، وأجمعوا على منعه ، وأوقف للضرب ، ورجع ، وكتب عليه محضر بذلك. كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ، وأشرنا إليه في الطبقات» ا ه.

ملاحظة :

إنما اكتفى القرّاء في ضابط القراءة المشهورة بصحة الإسناد مع الركنين الآخرين ولم يشترطوا التواتر : مع أنه لا بدّ منه في تحقّق القرآنيّة لأسباب ثلاثة : ـ أحدها : أن هذا ضابط لا تعريف ، والتواتر قد لوحظ في تعريف القرآن على أنه شطر أو شرط على الأقل. ولم يلحظ في الضابط لأنه يغتفر في الضوابط ما لا يغتفر في التعاريف.

فالضوابط ليست لبيان الماهية والحقيقة.

ثانيها : التيسير على الطالب في تمييز القراءات المقبولة من غيرها ، فإنه يسهل عليه بمجرد رعايته لهذا الضابط أن يميز القراءات المقبولة من غير المقبولة. أما إذا اشترط التواتر فإنه يصعب عليه ذلك التمييز ، لأنه يضطر في تحصيله إلى أن يصل إلى جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الرواية. وهيهات أن يتيسر له ذلك.

ثالثها : أن هذه الأركان الثلاثة تكاد تكون مساوية للتواتر في إفادة العلم القاطع بالقراءات المقبولة. بيان هذه المساواة أن ما بين دفتى المصحف متواتر ومجمع عليه من الأمة فى أفضل عهودها وهو عهد الصحابة ، فإذا صحّ سند القراءة ووافقت قواعد اللغة ثم جاءت موافقة لخط هذا المصحف المتواتر ، كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم القاطع وإن كانت آحادا.

ولا تنس ما هو مقرر في علم الأثر من أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفّت به قرينة توجب ذلك.

٤٢٠