مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

الْإِنْسانِ) فى صبح يوم الجمعة ، وقراءته سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة ، وقراءته سورة ق في الخطبة وسورة اقتربت وق في صلاة العيد ، كان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذى في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة.

ومنها ما أخرجه البخارى عن ابن الزبير قال قلت لعثمان بن عفان : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها (والمعنى لما ذا تكتبها؟ أو قال لما ذا تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة) قال يا ابن أخى لا أغيّر شيئا من مكانه.

فهذا حديث أبلج من الصبح في أن إثبات هذه الآية في مكانها مع نسخها توقيفى لا يستطيع عثمان باعترافه أن يتصرف فيه ، لأنه لا مجال للرأى في مثله.

ومنها. ما رواه مسلم عن عمر قال : ما سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شىء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدرى ، وقال : «تكفيك آية الصّيف التى في آخر سورة النّساء».

فأنت ترى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلّه على موضع تلك الآية من سورة النساء ، وهى قوله سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ؟ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الخ.

ملاحظة :

ذكر بعضهم أن كلمات القرآن ٧٧٩٣٤ أربع وثلاثون وتسعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة ، وذكر بعضهم غير ذلك. قيل : وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ، ولفظ ورسم ، واعتبار كل منها جائز ، وكلّ من العلماء اعتبر أحد ما هو جائز قال السخاوى : «لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة ، لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان. والقرآن لا يمكن فيه ذلك» ا ه ولكن

٣٤١

ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذى عن ابن مسعود مرفوعا : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : «ألم» حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» وأخرج الطبرانى عن عمر ابن الخطاب مرفوعا «القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف ، فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكلّ حرف زوجة من الحور العين». قال السيوطى بعد أن أورده : رجاله ثقات إلا شيخ الطبرانى محمد بن عبيد بن آدم بن أبى إياس تكلم فيه الذهبى ثم قال : وقد حمل ذلك (أى العدد المذكور في هذا الحديث) على ما نسخ رسمه من القرآن ، إذ الموجود الآن لا يبلغ هذا العدد ، وهو يريد أن هذا الرقم الكبير الذى روى فى هذا الحديث ملحوظ فيه جميع الحروف النازلة من القرآن ما نسخ منها وما لم ينسخ. والله تعالى أعلم.

شبهة وتفنيدها

يقولون : إن ابن أبى داود أخرج بسنده ، عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : «أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال : أشهد أنّى سمعتهما من رسول الله ووعيتهما. فقال عمر : «أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال : لو كانتا ثلاث آيات لجعلتها على حدة ، فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها» يقولون :

هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات لم يكن في القرآن كله بتوقيف ، إنما كان عن هوى من الصحابة وعن تصرف منهم ولو في البعض.

ونجيب : (أولا) بأن هذا الخبر معارض للقاطع ، وهو ما أجمعت عليه الأمة.

ومعارض القاطع ساقط عن درجة الاعتبار ، فهذا خبر ساقط مردود على قائله.

(ثانيا) أنه معارض لما لا يحصى من الأخبار الدالة على خلافه ، وقد تقدم كثير منها. بل لابن أبى داود مخرجه خبر يعارضه ، ذلك أنه أخرج أيضا عن أبىّ أنهم

٣٤٢

جمعوا القرآن ، فلما انتهوا إلى الآية التى في سورة براءة : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ظنوا أن هذه آخر ما نزل ، فقال أبىّ : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنى بعدها آيتين : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر السورة.

ترتيب السور

معنى السورة :

السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله : «والسورة : المنزلة ، ومن القرآن معروفة ، لأنها منزلة بعد منزلة : مقطوعة عن الأخرى ، والشرف ، وما طال من البناء وحسن ، والعلامة ، وعرق من عروق الحائط» ا ه.

ويمكن تعريفها اصطلاحا ، بأنها طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. قالوا : وهى مأخوذة من سور المدينة. وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة ، وآية بجانب آية ، كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة ، ويقام كل صف منه على صف.

وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية ، وإما لأنها حصن وحماية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من كتاب الله القرآن ، ودين الحق الإسلام ، باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر ، ويحقّ الله بها الحقّ ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون. أشبه بسور المدينة ، يحصّنها ويحميها غارة الأعداء ، وسطوة الأشقياء. وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا. فأقصر سورة فيه سورة الكوثر ، وهى ثلاث آيات قصار.

وأطول سورة فيه سورة البقرة ، وهى خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا آية. وأكثر آياتها من الآيات الطوال. بل فيها آية الدّين التى هى أطول آية في القرآن كما سبق. وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسّطا وقصرا. ومرجع الطول

٣٤٣

والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع ، إلى الله وحده ، لحكم سامية ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها.

حكمة تسوير السور.

لتجزئة القرآن إلى سور فوائد وحكم :

«منها : التيسير على الناس وتشويقهم إلى مدارسة القرآن وتحفّظه ، لأنه لو كان سبيكة واحدة لا حلقات بها لصعب عليهم حفظه وفهمه ، وأعياهم أن يخوضوا عباب هذا البحر الخضمّ الذى لا يشاهدون فيه عن كثب مرافئ ولا شواطئ.

ومنها : الدلالة على موضوع الحديث ومحور الكلام ، فإن في كل سورة موضوعا بازرا تتحدث عنه ، كسورة البقرة ، وسورة يوسف ، وسورة النمل ، وسورة الجن.

ومنها : الإشارة إلى أن طول السورة ليس شرطا في إعجازها ، بل هى معجزة وإن بلغت الغاية في القصر كسورة الكوثر.

قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ما نصه : منها (أى الفوائد) أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف ، كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا.

ومنها : أن القارئ إذا أتم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمرّ على للكتاب بطوله ، ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفّس ذلك عنه ونشط للسير ، ومن ثمّ جزّأ القرآن أجزاء وأخماسا.

ومنها : أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها ، فيعظم عنده ما حفظه ، ومنه حديث أنس : «كان الرّجل

٣٤٤

إذ قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا». ومن ثمّ كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل

ومنها : أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض ، وبذلك تتلاحق المعانى والنظم ، إلى غير ذلك من الفوائد» ا ه.

أقسام السور :

قسم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام ، خصّوا كلا منها باسم معين ، وهى :

الطوال ، والمئين ، والمثانى ، والمفصّل. فالطوال سبع سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف. فهذه ستة ، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة أم هى سورة يونس؟؟.

والمئون : هى السور التى تزيد آياتها على مائة أو تقاربها.

والمثانى : هى التى تلا المئين في عدد الآيات. وقال الفرّاء : هى السور التى آيها أقل من مائة آية لأنها تثنى (أى تكرر) أكثر مما تثنى الطوال والمئون.

والمفصل : هو أواخر القرآن ، واختلفوا في تعيين أوله على اثنى عشر قولا ، فقيل أوله «ق» ، وقيل غير ذلك ، وصحح النووى أن أوله الحجرات. وسمى بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة ، وقيل لقلة المنسوخ منه ، ولهذا يسمى المحكم أيضا ، كما روى البخارى عن سعيد بن جبير قال : «إنّ الذى تدعونه المفصل هو المحكم».

والمفصل ثلاثة أقسام : طوال ، وأوساط ، وقصار. فطواله من «أول الحجرات» إلى سورة «البروج». وأوساطه من سورة «الطارق» إلى سورة «لم يكن». وقصاره من سورة «إذا زلزلت» إلى آخر القرآن.

٣٤٥

المذاهب في ترتيب السور :

اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال : (الأول) أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء ، منهم مالك والقاضى أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب المسائل الخمس بقوله : «جمع القرآن على ضربين :

أحدهما تأليف السور ، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ، فهذا هو الذى تولته الصحابة رضى الله عنهم. وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور ، فذلك شىء تولاه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عزوجل».

وقد استدلوا على رأيهما هذا بأمرين : (أحدهما) أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة فى ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان ، فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذى تصوّره لنا الروايات. فهذا مصحف أبى بن كعب ، روى أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران ، ثم الأنعام. وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران الخ على اختلاف شديد. وهذا مصحف علىّ كان مرتبا على النزول ، فأوله «اقرأ» ثم المدثر ثم «ق» ، ثم المزمل ، ثم «تبت» ثم التكوير ، وهكذا إلى آخر المكى والمدنى.

(الدليل الثانى) : ما أخرجه ابن أشتة في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبى محمد القرشى قال : «أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ، ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم» ا ه ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : «قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى ، وإلى براءة وهى من

٣٤٦

المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ووضعتموها فى السبع الطوال؟ فقال عثمان رضى الله عنه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا أنزل عليه شىء دعا بعض من يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التى يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمل أجل ذلك قرنت بينهما. ولم أكتب بينهما سطر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ووضعتهما في السبع الطوال» ا ه.

ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وستأتيك في الاحتجاج للقول الثانى. ويمكن أيضا مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة فى الترتيب ، إنما كان قبل علمهم بالتوقيف ، أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. ويمكن مناقشة دليلهم الثانى بأنه خاص بمحل وروده ، وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس ، فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله.

القول الثانى :

أن ترتيب السور كلها توقيفى بتعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستدلّ أصحاب هذا الرأى بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذى كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذى أجمعوا عليه عن توقيف ، لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم ، وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع.

٣٤٧

منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفى قال : «كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف : إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه :

فقال لنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طرأ علىّ حزب من القرآن فأردت ألّا أخرج حتى أقضية فسألنا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : كيف تحزبون القرآن؟ قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة سورة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من «ق» حتى نختم. قالوا : فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم ، اللهم إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه.

واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء ، ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما ، لكن ذلك لم يكن ، بدليل أن سور المسبحات لم ترتب على التوالى بينما هى متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسورة «قد سمع» والممتحنة والمنافقين ، وبدليل أن (طسم الشعراء وطسم القصص) لم يتعاقبا مع تماثلهما ، بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهى «طس».

وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال : «المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحديث وائلة : أعطيت مكان التوراة السبع الطوال».

وكذلك انتصر أبو بكر الأنبارى لهذا المذهب فقال : أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرّقه في بضع وعشرين سنة ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ، ويقف جبريل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موضع السورة والآيات والحروف. كله من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن».

وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال : سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون

٣٤٨

سورة بمكة ، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال : قدمتا وألّف القرآن على علم ممن ألّفه به. إلى أن قال : فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه ا ه.

ويمكن مناقشة هذا المذهب (أولا) : بأن الرواية التى ساقوها وأمثالها خاصّة بمحالها ، فلا ينسحب حكم التوقيف على الكل. ثم هى ظنية في إفادة كون الترتيب عن توقيف.

(ثانيا) : أن حديث ابن عباس السابق في القول الأول صريح في أن عثمان كان قد اجتهد في ترتيب الأنفال والتوبة ويونس.

(ثالثا) : أن الإجماع الذى استندوا إليه لا يدل على توقيف في ترتيب جميع السور ؛ لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص في ترتيب جميع السور ، فحسب الصحابة أن يحملهم الاجتهاد الموفّق على أن يجمعوا على ترتيب عثمان للسور ويتركوا ترتيب مصاحفهم ، توحيدا لكلمة الأمة ، وقطعا لعرق النزاع والفتنة ، إذا ترك كلّ ورأيه فى هذا الترتيب.

القول الثالث :

أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة وقد ذهب إلى هذا الرأى فطاحل من العلماء. ولعله أمثل الآراء ، لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض كما مرّ بك من الرأى الثانى القائل بالتوقيف ، وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف. بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروى عن ابن عباس.

بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التى جاء ترتيبها عن توقيف والسور التى جاء ترتيبها عن اجتهاد. فقال القاضى أبو محمد بن عطية : «إن كثيرا من السور

٣٤٩

قد علم ترتيبها في حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصّل. وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده».

وقال أبو جعفر بن الزبير : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ، ويبقى فيها قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقرءوا الزّهراوين : البقرة وآل عمران» رواه مسلم.

وكحديث سعيد بن خالد : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسّبع الطّوال في ركعة» رواه ابن أبى شيبة في مصنفه. وفيه «أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصّل فى ركعة» وروى البخارى عن ابن مسعود أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : «إنّهنّ من العتاق الأول ، وهنّ من تلادى» (١)

__________________

(١) العتاق : جمع عتيق ، وهو القديم من كل شىء ، والمراد بالعتاق هنا ما نزل أولا.

والتّلاد ـ بكسر التاء وفتحها ـ ضدّ الطارف وهو المستحدث من المال ونحوه. والمراد بالتلاد هنا. ما نزل أولا أيضا. قال في المختار : وفي الحديث «هنّ من تلادى» يعنى السور ، أى من الذى أخذته من القرآن قديما.

فذكرها نسقا كما استقرّ ترتيبها. وفي صحيح البخارى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما فقرأ : قل هو الله أحد ، والمعوّذتين.

وقال السيوطى ما نصه : الذى ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقى ، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفى إلا براءة والأنفال. ولا ينبغى أن يستدل بقراءة سور أوّلا على أن ترتيبها كذلك. وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء

٣٥٠

قبل آل عمران ، لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب. ولعله فعل ذلك لبيان الجواز» ا ه.

والأمر على كل حال سهل ، حتى لقد حاول الزركشى في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا فقال : والخلاف بين الفريقين ـ أى القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد ، والقائلين بأنه عن توقيف ـ لفظى ، لأن القائل بالثانى يقول : إنه رمز إليهم ذلك ، لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ، ولهذا قال مالك : إنما ألّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قوله بأن ترتيب السور كان باجتهاد منهم ، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولى ، أو بمجرد إسناد فعلى ، بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر ، وسبقه فى ذلك جعفر بن الزبير» ا ه.

احترام هذا الترتيب

وسواءً كان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغى احترامه ، خصوصا في كتابة المصاحف ، لأنه عن إجماع الصحابة ، والإجماع حجة. ولأن خلافه يجرّ إلى الفتنة ، ودرء الفتنة وسدّ ذرائع الفساد واجب.

أما ترتيب السور في التلاوة ، فليس بواجب ، إنما هو مندوب. وإليك ما قاله الإمام النووى في كتابه التبيان إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه : «قال العلماء : الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة. ثم البقرة ، ثم آل عمران ، ثم ما بعدها على الترتيب ، سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها ، حتى قال بعض أصحابنا : إذا قرأ في الركعة الأولى سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.

٣٥١

قال بعض أصحابنا : ويستحبّ إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التى تليها. ودليل هذا أنّ ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة ، فينبغى أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه ، كصلاة الصبح يوم الجمعة ، يقرأ في الأولى سورة السجدة ، وفي الثانية (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ). وصلاة العيد في الأولى «ق» ، وفي الثانية «اقتربت السّاعة». وركعتى الفجر في الأولى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثانية (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). وركعات الوتر في الأولى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وفي الثانية (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثالثة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والمعوذّتين.

ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلى الأولى ، أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها ، جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف ، وفي الثانية بيوسف.

وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف. وروى ابن أبى داود عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف. وبإسناده الصحيح عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه أنه قيل له : إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال : «ذلك منكوس القلب».

وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا ، لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ، ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وقد روى ابن أبى داود عن إبراهيم النخعى الإمام التابعى الجليل وعن الإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك ، وأن مالكا كان يعيبه ويقول : هذا عظيم .. وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن ، وليس هذا من الباب ، فإن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة ، على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم ، والله أعلم» ا ه رحمه‌الله.

٣٥٢

شبهتان خفيفتان

(الشبهة الأولى) ، يقولون : كيف كان ترتيب القرآن توقيفيّا مع أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة؟.

والجواب أن هذه الشبهة لا ترد على القائلين بأن ترتيب السور كلها اجتهادى أما القائلون بأن منه اجتهاديّا ومنه توقيفيّا ، فمن السهل الجواب عنهم بأن الاختلاف بين الصحابة وقع في القسم الاجتهادى لا التوقيفى. وأما القائلون بأن ترتيب السور كله توقيفى ، فيمكن الجواب عنهم بأنهم اختلفوا فيما اختلفوا قبل أن يعلموا التوقيف فيه. ولما جمع عثمان القرآن على هذا الترتيب علموا ما لم يكونوا يعلمونه ، ولذلك تركوا ترتيب مصاحفهم ، وأخذوا بترتيب عثمان. ويهوّن الأمر في اختلاف مصاحفهم أنها كانت مصاحف فردية ، لم يكونوا يكتبونها للناس إنما كانوا يكتبونها لأنفسهم ، فبدهىّ أن الواحد منهم لم يثبت فيها إلا ما وصل إليه بمجهوده الفردى ، وقد يفوته ما لم يفت سواه من تحقيق أدقّ أو علم أوسع. ولهذا كان يوجد بتلك المصاحف الفردية بعض آيات قد تكون منسوخة ، وربما لم يبلغ صاحب ذاك المصحف نسخها. وقد يهمل صاحب المصحف إثبات سورة لشهزتها وغناها بهذه الشهرة عن الإثبات ، كما ورد أن مصحف ابن مسعود لم تكن به الفاتحة. وقد يكتب صاحب المصحف ما يرى أنه بحاجة إليه من غير القرآن في نفس المصحف كما تقدّم ذلك في قنوت الحنفية الذى روى أن بعض الصحابة كان قد كتبه بمصحفه وسماه سورة الخلع والحفد.

(الشبهة الثانية) يقولون : كيف يكون ترتيب القرآن توقيفيّا على حين أن رواية ابن عباس السابقة تصرح بأن عثمان لم يسمع في شأن ترتيب الأنفال مع براءة شيئا إنما هو اجتهاد ونظر منه؟.

(٢٣ ـ مناهل العرفان)

٣٥٣

والجواب أن هذه الشبهة لا ترد على القول بأن الترتيب اجتهادى ، ولا على القول بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا. أما الأول فظاهر ، وأما الثانى فلأن اجتهاد عثمان كان فيما لم يرد فيه توقيف من الشارع.

أما القول بأن ترتيب السور كله توقيفى ، فقد أجابوا على هذه الشبهة بجوابين :

(أولهما) : أن حديث ابن عباس هذا غير صحيح لأن الترمذى ـ وهو راويه ـ قال في تخريجه إنه حسن غريب لا يعرف إلا من طريق يزيد الفارسى عن ابن عباس. ويزيد هذا مجهول الحال فلا يصح الاعتماد على حديثه الذى انفرد به في ترتيب القرآن.

(ثانيهما) : أنه على فرض صحّته يجوز أن جواب عثمان لابن عباس كان قبل أن يعلم بالتوقيف ثم علمه بعد ذلك. لكن يرد على هذا الجواب أن الرواية تفيد أن جواب عثمان هذا كان بعد جمع القرآن وترتيب سوره ، فكيف كان توقيفيّا وعثمان هو الجامع والمرتّب ولا يعلم دليل التوقيف؟.

المبحث العاشر

فى كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك

ا ـ الكتابة

معروف أن الأمة العربية كانت موسومة بالأمية مشهورة بها لا تدرى ما الكتابة ولا الخط. وجاء القرآن يتحدّث عن أميتها هذه فقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

ولم يشذّ عن هذه القاعدة إلا أفراد قلائل في قريش ، تعلّموا الخط ودرسوه قبيل الإسلام ،

٣٥٤

وكأن ذلك كان إرهاصا من الله وتمهيدا لمبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير دين الإسلام ؛ وتسجيل الوحى المنزل عليه بالقرآن ، لأن الكتابة أدعى إلى حفظ التنزيل وضبطه ، وأبعد عن ضياعه ونسيانه.

وكادت تتفق كلمة المؤرخين على أن قريشا في مكة لم تأخذ الخط إلا عن طريق حرب بن أمية بن عبد شمس. لكنهم اختلفوا فيمن أخذ عنه حرب. فرواية أبى عمرو الدانى تذكر أنه تعلم الخط من عبد الله بن جدعان ، وفيها يقول زياد بن أنعم : «قلت لابن عباس : معاشر قريش هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربى تجمعون فيه ما اجتمع ، وتفرقون فيه ما افترق ، هجاء بالألف واللام والميم ، والشكل والقطع ، وما يكتب به اليوم؟ قال ابن عباس نعم. قلت : فمن علمكم الكتابة؟ قال حرب بن أمية ، قلت : فمن علم حرب بن أمية؟ قال عبد الله بن جدعان ، قلت : فمن علم عبد الله بن جدعان؟ قال : أهل الأنبار ، قلت : فمن علم أهل الأنبار؟ قال طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن من كندة ، قلت : فمن علم ذلك الطارئ؟ قال الخلجان بن الموهم كان كاتب هود نبى الله عزوجل».

أما رواية الكلبى فتقص علينا أن حربا تعلم الكتابة من بشر بن عبد الملك ؛ وفيها يقول عوانة : «أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم ، مرامر بن مرة ، وأسلم ابن سدرة ، وكذا عامر بن جدره ، وهم من عرب طيئ تعلموه من كاتب الوحى لسيدنا هود عليه‌السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرهما. فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق ، فتعلم حرب منه الكتابة ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبى سفيان فتعلم منه جمع من أهل مكة» ا ه.

٣٥٥

ومن هنا وجد عدد يحذق الخط والكتابة قبيل الإسلام ، ولكنهم نزر يسير بجانب تلك الكثرة الغامرة من الأميين. وفي ذلك يمتنّ رجل من أهل دومة الجندل على قريش فيقول :

«لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو

فقد كان ميمون النقيبة أزهرا

أتاكم بخط الجزم (١) حتى حفظتموا

من المال ما قد كان شتى مبعثرا

فأجريتم الأقلام عودا وبدأة

وضاهيتموا كتّاب كسرى وقيصرا

وأغنيتموا عن مسند الحىّ حمير

وما زبرت في الصحف أقلام حميرا»

أولئك أهل مكة. أما أهل المدينة فكان بينهم أهل الكتاب من اليهود ، وقد دخل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وفيها يهودى يعلم الصبيان الكتابة ، وكان فيها بضعة عشر رجلا يحذقون الكتابة ، منهم المنذر بن عمرو ، وأبى بن وهب ، وعمرو بن سعيد ، وزيد بن ثابت الذى تعلم كتابة اليهود بأمر من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

شأن الكتابة في الإسلام :

ثم جاء الإسلام ، فحارب فيما حارب أمّية العرب ، وعمل على محوها ، وطفق يرفع من شأن الكتابة ويعلى من مقامها. وإن كنت في شك ، فهذه أوائل آيات نزلن من القرآن الكريم ، يشيد الحق فيها بالقلم ، وما يعلم الله عباده بوساطة القلم ، إذ يقول جلت حكمته : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى أن قال : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

وهذه سورة «ن» يحلف العلى الأعلى فيها بالقلم وما يسطرون ، إذ يقول. (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). وهذا من أروع ألوان التنبيه إلى جلال الخط والكتابة ومزاياهما.

__________________

(١) سمى بالجزم لأنه جزم ـ أى قطع ـ من الخط المسمى بالمسند ، وهو خط حمير.

٣٥٦

وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفع أصحابه دفعا إلى أن يتعلموا الخطّ ويحذقوا الكتابة ، ويهيئ لهم السبل بكل ما يستطيع من وسيلة مشروعة.

حتى لقد ورد أن المسلمين في غزوة بدر أسروا ستين مشركا فكان مما يقبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء الواحد منهم أن يعلم عشرة من أصحابه الكتابة والخط.

وهكذا أعلن الرسول بعمله هذا أن القراءة والكتابة عديلان للحرية ، وهذا منتهى ما تصل إليه الهمم في تحرير شعب أمى من رقّ الأمية.

وبمثل هذه الطريقة أخذت ظلمات الأمية تتبدّد بأنوار الإسلام شيئا فشيئا ، وحلّ محلها العلم والكتابة والقراءة. وهذا من أدل الأدلة على أن الإسلام دين العلم والحضارة والمدنية.

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ويكتب

حتى لقد قيل : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرف القراءة والكتابة في آخر أمره بعد أن قامت حجته. وعلت كلمته ، وعجز العرب في مقام التحدّى عن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الذى جاء به ، وكأن الحكمة في ذلك هى الإشارة إلى شرف الخط والكتابة. وأن أمّية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول أمره إنما كانت حالا وقتية اقتضاها إقامة الدليل والإعجاز واضحا على صدق محمد في نبوته ورسالته ، وأنه مبعوث الحق إلى خليقته ، ولو كان وقتئذ كاتبا قارئا وهم أميون ، لراجت شبهتهم في أن ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس ، وأثر نظر في الكتب وبحث.

وفي هذا المعنى يقول سبحانه :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ

٣٥٧

بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

قال العلامة الألوسي بعد تفسيره لهذه الآية ما نصه : واختلف في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة ، واختاره البغوى في التهذيب ، وقال : إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها ، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية ، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب (١) تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبى شيبة وغيره : «ما مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كتب وقرأ» ونقل هذا للشعبى فصدّقه وقال : سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجة عن أنس قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسرى بى مكتوبا على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر».

ثم قال : ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخارى وغيره ، كما ورد في صلح الحديبية : «فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» الحديث.

وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروى ، وأبو الفتح النيسابورى ، وأبو الوليد الباجى من المغاربة ، وحكاه عن السمنانى. وصنف فيه كتابا ، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمى بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه ، وكتب به إلى علماء الأطراف ، فأجابوا بما يوافقه ، ومعرفة الكتاب بعد أميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنافى المعجزة ، بل هى معجزة أخرى لكونها من غير تعليم

__________________

(١) لعل مراده بهذه الكلمة ، ظهور فساد الارتياب وأنه لا قيمة له

٣٥٨

وقد ردّ بعض الأجلّة كتاب الباجى لما في الحديث الصحيح : «إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب». وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله «كتب» فمعناه أمر الكتابة ، كما يقال : كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) على قوله سبحانه : (وَلا تَخُطُّهُ) كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا. وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطّرد. وظنّ بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده ، فقال : يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ، ولو لا هذا الاعتبار ، لكان الكلام خلوا عن الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سلّم ما ذكره من الرجوع ، لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجّيّة المفهوم ، والظانّ ممن لا يقول بحجيته».

ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه :

«ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»

ليس نصّا في استمرار نفى الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام. ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون ، لا يكتبون ولا يحسبون ، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة ، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووى عليه الرحمة نقلا عن القاضى عياض ، إن قوله في الرواية التى ذكرناها : «ولا يحسن يكتب فكتب» كالنصّ في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب بنفسه ، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال : «وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة ، وشنّعت كل فرقة على الأخرى في هذا. فالله تعالى أعلم» ا ه.

وأقول إن التشنيع ليس من دأب العلماء ولا من أدب الباحثين. والمسألة التى نحن بصددها مسألة نظرية. والحكم في أمثالها يجب أن يكون لما رجح من الأدلة لا للهوى

٣٥٩

والشهوة. ونحن إذا استعرضنا حجج هؤلاء وهؤلاء نلاحظ أن أدلة أمّيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعية يقينية. وأن أدلة كونه كتب وخطّ بيمينه ظنية غير يقينية ، ولم يدع أحد أنها قطعية يقينية. ثم إن التعارض ظاهر فيما بين هذه وتلك. غير أنه تعارض ظاهرىّ يمكن دفعه بأن نحمل أدلة الأمية على أولى حالاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن نحمل أدلة كتابته على أخريات حالاته ؛ وذلك جمعا بين الأدلة. ولا ريب أن الجمع بينها أهدى سبيلا من إعمال البعض وإهمال البعض ، ما دام في كلّ منها قوة الاستدلال ، وما دام الجمع ممكنا على أية حال. أما لو لم يمكن الجمع فلا مشاحة حينئذ في قبول القطعى ورد الظنى ؛ لأن الأول أقوى من الثانى (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ... هذا هو الميزان الصحيح ، لدفع التعارض والترجيح ، فاحكم به عند الاختلاف والاشتباه ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

كتابة القرآن

بعد ما قصصنا عليك من تلك الفذلكة التاريخية ، فى الخطوط والكتابة العربية ، نلفت نظرك إلى أن كتابة القرآن ، وفيناها بحثها في مبحث جمع القرآن (من ص ٢٣٢ الى ص ٢٥٦) وذكرنا هناك كيف كتب القرآن؟ وفيم كتب؟ على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم على عهد أبى بكر ، ثم على عهد عثمان (رضى الله عنهما).

ومنه تعلم أن عناية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بكتابة القرآن ، كانت عناية فائقة. يدلك على هذه العناية أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحى ، منهم الأربعة الخلفاء ، ومعاوية ، وأبان بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وأبىّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وثابت ابن قيس ، وأرقم بن أبى ، وحنظلة بن الربيع ، وغيرهم. فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل عليه شىء يدعو أحد كتّابه هؤلاء ، ويأمره بكتابة ما نزل عليه ، ولو كان كلمة ، كما روى أنه

٣٦٠