مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

العامل الحادى عشر

الترغيب والترهيب اللذان يفيض بهما بحر الكتاب والسنة. ولا ريب أن غريزة حب الإنسان لنفسه تدفعه إلى أن يحقق لها كل خير ، وأن يحميها كل شر ، سواء ما كان فيهما من عاجل وما كان من آجل ، ومن هنا تحرص النفوس الموفّقة على وعى هداية القرآن وهدى الرسول ، وتعمل جاهدة على أن تحفظ منهما ما وسعها الإمكان.

أما النفوس الضالة المخذولة ، فإنها مصروفة عن هذه السعادة بصوارف الهوى والشهوة ، أو محجوبة عن هذا المقام بحجاب التعصب والجمود على الفتنة ، أو مرتطمة بظلام الجهل في أو حال الضلال والنكال.

ولسنا بحاجة أن نلتمس شواهد الترغيب والترهب من الكتاب والسنة ، فمددهما فيّاض بأوفى ما عرف العلم من ضروب الترعيب والترهيب ، وفنون الوعد والوعيد ، وأساليب التبشير والإنذار على وجوه مختلفة ، واعتبارات متنوعة ، فى العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق على سواء.

وهاك نموذجا من ترغيبات القرآن وترهيباته على سبيل التذكير ، والذكرى تنفع المؤمنين ـ.

يقول تبارك اسمه في سورة واحدة هى سورة السجدة : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ* وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ* وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي

٣٠١

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ* أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ* وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).

فانظر بعين بصيرتك في أساليب هذه الترغيبات ، وفنون تلك الترهيبات ، التى احتوتها هذه الآيات ، والقرآن ملىء كله من هذه الأنوار على هذا الغرار!.

ولا تحسبن السنة النبوية إلا بحرا متلاطم الأمواج في هذا الباب. وهاك نموذجا بل نماذج منها تدلك على مدى ما تتأثّر به النفوس البشرية عند ما يمرّ بها الوعد والوعيد ، وما يتركه هذا التأثّر من ثبات الأوامر والنواهى واستقرارها في الذهن ، وانتقاشها في صحيفة الفكر ، ثم اندفاع الإنسان من ورائها إلى العمل والاتباع.

ها هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبشر واصل رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر فيقول : «من سرّه أن يبسط له رزقه ، وأن ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه» أخرجه البخارى والترمذى.

وها هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدث بالوعد لمن جعل الآخرة همّه ، وبالوعيد لمن جعل الدنيا همّه

٣٠٢

فيقول : «من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدّنيا وهى راغمة. ومن كانت الدنيا همّه جعل الله الفقر بين عينيه ، وفرق الله عليه شمله ، ولم يأته من الدّنيا إلا ما قدّر له» رواه الترمذى.

وها هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرّض المؤمنين على القتال ويحثهم على الدفاع والنضال ، فيقول : ـ «تضمّن الله لمن خرج في سبيل الله ، لا يخرجه إلّا جهاد في سبيلى ، وإيمان بى ، وتصديق برسلى ، فهو علىّ ضامن أن أدخله الجنّة ؛ أو أرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذى نفس محمد بيده ما من كلم يكلم فى سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ؛ لونه لون دم ، وريحه ريح مسك. والذى نفس محمّد بيده لو لا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله عزوجل أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة فيتبعونى ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنى والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثمّ أغزو فأقتل» أخرجه الثلاثة والنسائى.

فأنت ترى في هذه الكلمات النبوية قوة هائلة محولة ؛ تجعلها ماثلة في الأذهان ، كما تجعل النفوس رخيصة هينة في سبيل الدفاع عن الدين والأوطان. حتى لقد كان الرجل يستمع إلى هذه المرغبات والمشوّقات وهو يأكل ، فما يصبر حتى يتم طعامه ، بل يرمى بما في يده ، ويقوم فيجاهد متشوقا إلى الموت ، متلهفا على أن يستشهد في سبيل الله. كذلك أخرج مالك عن يحيى بن سعيد : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغّب في الجهاد وذكر الجنة ورجل من الأنصار يأكل تمرات ، فقال : إنى لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ، فرمى ما في يده ، وحمل بسيفه ، فقاتل حتى قتل».

٣٠٣

العامل الثانى عشر

اهتداء الصحابة رضوان الله عليهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحلّون ما فيهما من حلال ، ويحرّمون ما فيهما من حرام ، ويتبعون ما جاء فيهما من نصح ورشد ، ويتعهّدون ظواهرهم وبواطنهم بالتربية والآداب الإسلامية ، دستورهم القرآن ، وإمامهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

وما من شك أن العمل بالعلم يقرّره في النفس أبلغ تقرير ، وينقشه في صحيفة الفكر أثبت نقش ، على نحو ما هو معروف في فن التربية وعلم النفس ، من أن التطبيق يؤيد المعارف ، والأمثلة تقيّد القواعد ، ولا تطبيق أبلغ من العمل ، ولا مثال أمثل من الاتباع ، خصوصا المعارف الدينية ، فإنها تزكو بتنفيذها ، وتزيد باتباعها. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أى هداية ونورا تفرقون به بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغىّ ، كما جاء في بعض وجوه التفاسير. وذلك أن المجاهدة تؤدى إلى المشاهدة ، والعناية بطهارة القلوب وتزكية النفوس تفجر الحكمة في قلب العبد. قال الغزالى رحمه‌الله : «أما الكتب والتعليم فلا تفى بذلك (أى بالحكمة تتفجر في القلب) بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد ، إنما تتفتح بالمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة ، والجلوس مع الله عزوجل في الخلوة ، مع حضور القلب بصافى الفكرة ، والانقطاع إلى الله عزوجل عما سواه ، فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف! فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة. وكم من مقتصر على المهم في التعليم ، ومتوفر على العمل ومراقبة القلب ، فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوى الألباب. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم»(١).

__________________

(١) قال الحافظ العراقى في هذا الحديث : رواه أبو نعيم في الحلية لكن بسند ضعيف

٣٠٤

العامل الثالث عشر

وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم ، يحفّظهم من الكتاب والسنة ما لم يحفظوه ، ويعلمهم ما جهلوه ، ويجيبهم إذا سألوه ، ويريهم شاكلة الصواب فيما أخطئوه ، ويقفهم على حقيقة الأمر إذا تشكّكوه ، فى صبر وأناة وسعة صدر وكرم نفس وطيب قلب. ولا ريب أن هذا عامل مهمّ ييسر لهم الحفظ ويهوّن عليهم الاستظهار ، ضرورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجع واضح ، ومنهل عذب ، لا سيما إذا لاحظنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان دائم البشير ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عياب ، وأن من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس علم وحياء وأمانة وصبر ، يدرس فيه القرآن ، وتذاع فيه السنة ، ويعبق منه أريج الهداية.

عوامل خاصة بالقرآن الكريم

تلك العوامل التى ذكرناها عوامل مشتركة بين الكتاب والسنة ، طوّعت للصحابة حفظهما واستظهارهما ، والإحاطة بهما وحذقهما.

بيد أن هناك عوامل خاصّة توافرت في حفظ الصحابة للقرآن دون السنة.

أولها : أن الله تعالى تحدّى بالقرآن أمة العرب ، بل كافّة الخلق فقال سبحانه :

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) ولما عجزوا قال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) ولما عجزوا أيضا قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولما عجزوا الثالثة سجّل عليهم

(٢٠ ـ مناهل العرفان ١)

٣٠٥

هزيمتهم وأعلن فلج القرآن بالإعجاز في هذا الميدان ، إذ قال عزّ اسمه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) هذا التحدّى الذى امتاز به القرآن ؛ فتح عيون الناس جميعا ، ولفتهم بقوة إليه ، لا فرق بين أوليائه وأعدائه. أما أولياؤه ومتّبعوه ؛ فقرءوه من هذه الناحية ؛ ليفحموا به أعداءهم ، ويؤيّدوا بإعجازه دينهم ونبيهم. وأما أعداؤه ومخالفوه ، فاقتفوا أثره وتتبعوه ، أملا في أن يجدوا فيه مغمزا ، ويأخذوا عليه مطعنا. فلا جرم كان هذا التحدى من الدواعى التى توافرت على نقل القرآن وتواتره وجريانه على كل لسان!.

ثانيها : عنايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابة القرآن فيما تيّسر من أدوات الكتابة ، إذ اتخذ كتّابا للوحى من أصحابه. وأقرّ كل من يكتب القرآن لنفسه في الوقت الذى نهى فيه عن كتابة السنة في الحديث الذى أسلفناه من رواية مسلم «لا تكتبوا عنّى ومن كتب عنى شيئا غير القرآن فليمحه».

وغنىّ عن البيان ، أن الكتابة من عوامل تيسير الحفظ والاستظهار.

ثالثها : تشريع قراءة القرآن في الصلاة ، فرضا كانت أو نفلا ، سرّا أو جهرا ، ليلية أو نهارية ؛ حتى صلاة الجنازة. ومثل الصلاة في ذلك خطبة الجمعة. وتلك وسيلة فعالة ؛ جعلت الصحابة يقرءونه ويسمعونه ؛ ثم جعلتهم عن هذا الطريق يتحفّظونه ويستظهرونه ، لا فرق بين رجل وامرأة ، وصغير وكبير ؛ وغنى وفقير ، على قدر ما سمح به استعداد كل منهم.

رابعها : الترغيب في تلاوة القرآن ولو في غير صلاة ومن غير وضوء. اقرأ إن شئت قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ

٣٠٦

سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.).

ويقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السّفرة الكرام البررة. والذى يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران» رواه البخارى ومسلم. ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن وهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» رواه الشيخان أيضا.

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول : الم حرف. ولكن ألف حرف ؛ ولام حرف ؛ وميم حرف» رواه الترمذى وقال : حسن صحيح.

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا ؛ فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبو داود والترمذى والنسائى. ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» رواه البخارى.

فهل يعقل أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين سمعوا ذلك وأمثال ذلك ؛ يتوانون لحظة عن قراءة القرآن؟ ثم ألا تكون تلك التلاوة سبيلا إلى أن يحذقوه ويحرزوه؟.

خامسها : عناية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعليم القرآن وإذاعته ونشره ، إذ كان يقرؤه على الناس على مكث كما أمره الله. وكان يسمعهم إياه في الخطبة والصلاة ؛ وفي الدروس والعظات ؛ وفي الدعوة والإرشاد ، وفي الفتوى والقضاء ؛ وكان يرغّب في تعليمه ونشره كما سمعت. وكان يرسل بعثات القرّاء إلى كل بلد يعلّمون أهلها كتاب الله ، كما

٣٠٧

أرسل مصعب بن عمير وابن أمّ مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد الفتح للإقراء. قال عبادة بن الصامت : كان الرجل إذا هاجر دفعه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن.

سادسها : القداسة التى امتاز بها كتاب الله عن كل ما سواه ، حيث اجتمع فيه من المزايا ما قصصنا عليك وما لم نقصص عليك. كنسبته إلى الله تعالى ، وكحرمة قراءته على الجنب والحائض والنفساء ، وكحرمة مسّ مصحفه وحمله على أولئك جميعا وعلى المحدث حدثا أصغر أيضا ، إلى غير ذلك.

ولا شك أن هذه القداسة تلفت الأنظار إليه ، وتخلع همم المؤمنين به عليه ، فيحيطون به علما ، ويخضعون لتعاليمه عملا. وذلك ما حدا المسلمين في كل عصر ومصر أن يعنوا بحفظ كتاب الله حتى عصرنا الذى نعيش فيه ، فما بالك بعصر الصحابة وهو عصر العلم والنور ، والتقوى والهداية ، والنشر والدعوة؟!.

أما بعد :

فهذه بضعة عشر عاملا توافرت في أصحاب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حفظوا الكتاب والسنة ، وقد جمعناها لك هذا الجمع ، معتقدين أن من ورائها عوامل شخصية توافرت في بعض القراء وبعض المحدثين منهم دون بعض. والسبيل إلى تلك العوامل الشخصية دراسة تراجم أولئك القرّاء والمتصدّرين لرواية الحديث من الصحابة ، فارجع إليها إن شئت ، واحرص على ما ذكرنا لك ، وصغ منها أسلحة علمية مرهفة تشهرها في وجه أولئك الخونة الذين يخوضون في الصحابة بغير علم ، ويطعنون في الكتاب والسنة عن طريق الطعن فيهم بعدم الحفظ والضبط.

ونحن نتحدّى أمم العالم بهذه الدواعى التى توافرت في الصحابة حتى نقلوا الكتاب والسنة ، وتواتر عنهم ذلك خصوصا القرآن الكريم.

«أولئك آبائى فجئنى بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع!»

غمرهم الله برحمته ورضوانه ، وصبّ عليهم شآبيب جوده وإحسانه. آمين.

٣٠٨

ب ـ الجبهة الثانية

أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة

الآن وقد فرغنا من عوامل حفظ الصحابة للكتاب والسنة ، نعرج على عوامل نثبتهم ـ رضوان الله عليهم ـ فيهما. فنذكر أنّ الناظر في تاريخ الصحابة ، يروعه ما يعرفه عنهم في تثبتهم ، أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم ؛ لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية ، ثم هو في الصحابة بلغ القمة من ناحية أخرى ، إذ كان تثبتا بالغا ، وحذرا دقيقا ، وحيطة نادرة ، وتحريا عميقا لكتاب الله تعالى وهدى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما يتصل بهما عن قرب أو بعد.

ولهذا التثبت النادر في دقته واستقصائه ، بواعث ودواع ، أو أسباب وعوامل ، يجمل بنا أن نقدّمها إليك ، كأسلحة ماضية تنافح بها عن الكتاب والسنة ، وعن الصحابة في أدائهم للكتاب والسنة.

العامل الأول

أن الله تعالى أمر في محكم كتابه بالتثبت والتحرى ، وحذّر من الطيش والتسرّع ، فى الأنباء والأخبار ، بله القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.).

وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن ، أو ترى العين ، أو يعتقد القلب عن برهان ، فقال عزّ من قائل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً.).

٣٠٩

وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفى فيه الظن ، فقال الله جلّ شأنه : «إن يتّبعون إلّا الظنّ ، وإنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئا» إلى غير ذلك من أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تأمر بالنظر ، وكان الصحابة هم المخاطبين بهذه التعاليم والمشافهين بها ، فلا ريب أن تكون تلك الآداب الإسلامية من أهمّ العوامل فى تثبتهم وحذرهم خصوصا فيما يتصل بكتاب ربهم وسنة نبيهم. وبعيد كل البعد ، بل محال كل الاستحالة ، أن يكونوا قد أهملوا هذا النصح السامى ، وهم خير طبقة أخرجت للناس.

العامل الثانى

ما سمعوه من الترهيب الشديد ، ومن التهديد والوعيد ، لمن يكذب على الله أو يفترى على رسوله ومصطفاه. قال الله سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ؟) فانظر كيف سلك الله من افترى الكذب عليه في سلك من قال أوحى إلىّ ولم يوح إليه شىء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله؟ ثم انظر كيف قدّمه عليهما في الذّكر وصدره في الوعيد ، ونعته أول من نعت بالإغراق في الظلم.

وقال سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) وقال سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ؟).

ونقرأ في السنة النبوية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». وهو حديث مشهور ، بل متواتر ، ورد أنه قد رواه اثنان وستون صحابيّا منهم العشرة المبشرون بالجنة ، ولا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة المبشرون بالجنة إلا

٣١٠

هذا ، ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيّا إلا هذا.

ولقد سمع الصحابة هذه الترهيبات وأمثالها. وما أمثالها في القرآن والسنة بقليل ، بل لقد سمع الأصحاب نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما دون الكذب وما كان أقل من التزيد ، إذ حذرهم رواية الضعفاء والمدخولين

فقال : «سيكون في آخر أمتى أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم» رواه مسلم. بل حذرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواية المجهولين فقال : «إنّ الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتى القوم فيحدثهم الكذب ، فيتفرقون فيقول الرجل منهم : سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أعرف اسمه يحدث كذا وكذا» رواه مسلم.

فهل يستبيح عاقل منصف لنفسه أن يقول : إن الصحابة الذين سمعوا هذه النصائح وتلك الزواجر عن التزيد والافتراء ، يقدمون على كذب في القرآن والسنة ، أو يقصرون في التثبت والتحرى والاحتياط في نقل الذكر الحكيم ، والهدى النبوى الكريم؟!.

العامل الثالث

أن الإسلام أمرهم بالصدق ونهاهم عن الكذب إطلاقا ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.) وأنت خبير بأن هذا الخطاب بهذه الصيغة في هذا المقام مع تقديم الأمر بالتقوى ، فيه إشارة إلى أن الصدق المأمور به من مقتضيات الإيمان ومن دعائم التقوى ، ويفهم من هذا أن من كذب وافترى ، فسبيله سبيل من كفر وطغى. كما صرّح سبحانه بذلك في قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ).

٣١١

ويقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالصدق فإنه مع البرّ وهما في الجنة. وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار» رواه ابن ماجة.

وعن صفوان بن سليم رضى الله عنه قال : قلنا يا رسول الله : أيكون المؤمن جبانا؟

قال : «نعم». قلنا : أفيكون بخيلا؟ قال : «نعم». قلنا : أفيكون كذابا؟ قال : «لا» أخرجه مالك. فانظر إلى الحديث الأول كيف جعل الصدق هاديا إلى البر وإلى الجنة ، وجعل الكذب هاديا إلى الفجور وإلى النار. ثم انظر إلى الحديث الثانى كيف اعتبر الكذب أفحش من الجبن والبخل ، وأخرجه في هذه الصورة الشنيعة التى لا تجتمع هى والإيمان في نفس واحدة أبدا.!

وستقضى العجب حين تعلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ في تقبيح الكذب حتى في توافه الأشياء ومحقرات الأمور! استمع إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ينهى عن الكذب في المزاح بهذه الطريقة الرادعة فيقول : «ويل للذى يحدث ليضحك منه القوم فيكذب ، ويل له ، ويل له» رواه أبو داود والترمذى. ثم استمع إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتوعد من يكذب فى منامه ويقول : «من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ، وليس بعاقد بينهما أبدا».

قل لى بربك : هل تلك الطبقة الأولى الممتازة التى سمعت ذلك وأضعاف ذلك بآذانها من فم رسولها ، والتى اعتنقت الإيمان بعد البحث والنظر ، واعتقدته طريقا إلى سعادتها وعزّها ، والتى باعت أنفسها وأموالها لله بأن لها الجنة في نعيمها وخلودها. نقول : هل تلك الطبقة الكريمة ترضى بعد ذلك كله أن تركب رأسها وتنكص على أعقابها؟ فتكذب على الله ورسوله ، أولا تتحرّى الصدق في كتاب الله وسنة رسوله! ذلك شطط بعيد لا يجوز إلا على عقول المغفلين!.

٣١٢

العامل الرابع

أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا مغرمين بالتفقّه والتعلم ، مولعين بالبحث والتنقيب ، مشغوفين بكلام الله وكلام رسول الله ، يعقدون المجالس لمدارسة القرآن وفهمه ، ويركبون ظهور المطايا لطلب العلم وأخذه. وكانت عناية الرسول بتعليمهم القرآن تفوق كل عناية ، يقرؤه عليهم ، ويخطبهم به ، ويزيّن إمامته لهم بقراءته فى صلاته ، وفي دروسه وعظاته. وكان فوق ذلك يحب أن يسمعه منهم كما يحب أن يقرأه عليهم. روى البخارى ومسلم أن ابن مسعود قال : قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقرأ علىّ القرآن. قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : إنى أحبّ أن أسمعه من غيرى. فقرأت عليه سورة النّساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية : «فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا» قال : حسبك الآن. فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان.

وكذلك كان الصحابة ، همتهم أن يقرأ والقرآن ويستمعوه. روى الشيخان عن أبى موسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى لأعرف أصوات رفقة الأشعريّين بالليل حين يدخلون ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنّهار».

وروى الدارميّ وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول لأبى موسى الأشعرى : ذكّرنا ربّنا فيقرأ عنده القرآن. قال النووى : وقد مات جماعات من الصالحين بسبب قراءة من سألوه القراءة.

وقد سبق في عوامل حفظ الصحابة للسنة مدى عنايتهم بالإقبال عليها والاهتمام بلقاء

٣١٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتعلّم منه والأخذ عنه. وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال : حدّثنى عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : كنّا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تعلّموا ما شئتم أن تعلّموا ، فلن يأجركم الله حتى تعملوا». رواه الدارمى موقوفا على معاذ بسند صحيح. وكلمة العلم في هذا الحديث شاملة لعلم الكتاب وعلم السنة.

أليس هذا الولوع بالكتاب والسنة من دواعى تثبّتهم فيهما ، كما هو من دواعى حفظهم لهما ، لأن اشتهار الشيء وذيوعه ، ولين الألسنة به ، يجعله من الوضوح والظهور ، بحيث لا يشوبه لبس ، ولا يخالطه زيف ، ولا يقبل فيه دخيل.

العامل الخامس

يسر الوسائل لدى الصحابة إلى أن يتثبّتوا ، وسهولة الوصول عليهم إلى أن يقفوا على جليّة الأمر ، فيما استغلق عليهم معرفته من الكتاب والسنة. وذلك لمعاصرتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصلون به في حياته ، فيشفى صدورهم من الريبة والشك ، ويريح قلوبهم بما يشعّ عليهم من أنوار العلم وحقائق اليقين.

أما بعد غروب شمس النبوة ، وانتقاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوار ربه. فقد كان من السهل عليهم أيضا أن يتصلوا بمن سمعوا بآذانهم من رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسامعون يومئذ عدد كثير وجم غفير ، يساكنونهم في بلدهم ، ويجالسونهم في نواديهم ، فإن شك أحدهم في آية من كتاب الله ، أو خبر عن رسول الله أمكنه التثبّت من عشرات سواه ، دون عنت ولا عسر!.

٣١٤

العامل السادس

شجاعة الأصحاب شجاعة فطرية ، وصراحتهم صراحة طبيعية ، نشئوا عليهما منذ حداثتهم ، وطبعوا عليهما بفطرتهم وبيئتهم ، كأمة متبدّية لا تعرف ختل الحضارة الملوّثة ، ولا تألف نفاق المدنية المذبذبة. ثم جاء الإسلام فعزّز فيهم هذا الخلق الفاضل ، وزادهم منه ، وبنى حضارته الصحيحة ومدنيّته الطاهرة عليه ، بمثل ما سمعت فى أصدق الحديث وحير الهدى. حتى لقد كان الرجل منهم يقف في وسط الجمهور يردّ على أمير المؤمنين وهو يلقى خطاب عرشه ردّا قويا صريحا خشنا. بل كانت المرأة تقف في بهرة المسجد الجامع فتقاطع خليفة المسلمين وهو يخطب ، وتعارض رأيه برأيها ، وتقرع حجّته بحجتها فيما تعتقد أنه أخطأ فيه شاكلة الصواب ، وأمير المؤمنين فى الحالين يغتبط بهاتيك الصراحة ويسرّ بتلك الشجاعة ، ويعلن اغتباطه بموقف ذلك العربى الخشن الذى ردّ عليه ، كما يعلن رجوعه عن رأيه إلى رأى هذه السيدة التى حجّته بين يديه ، وما أمر عمر ببعيد عنكم ، ولا مجهول لكم ، لا عند ولايته الخلافة وهو قائم يلقى خطاب عرشه ، ولا عند ما وقف على منبره ينهى عن التغالى في مهور النساء!!.

فهل يرضى العقل والمنطق أن تجرح هذه الأمة الصريحة القوية وتتهم بالكذب أو بالسكوت على الكذب في كلام الله ، وفي سنّة رسول الله؟!.

ثم ألا يحملهم هذا الخلق المشرق فيهم على كمال التثبّت ودقّة التحرى في كتاب الله وسنة رسول الله؟ «لقد أسفر الصّبح لذى عينين»!.

٣١٥

العامل السابع

تكافل الصحابة تكافلا اجتماعيا فرضه الإسلام عليهم ، فجعل عيونهم مفتّحة لكل من يكذب على الله ، أو يفترى على رسول الله ، أو يخوض في الشريعة بغير علم ، أو يفتى في الدين بغير حجة.

أجل : لقد كان كل واحد منهم يعتقد أنه عضو في جسم الأمة ، عليه أن يتعاون هو والمجموع في المحافظة على الملّة ، ويعتقد أنه لبنة في بناء الجماعة ، عليه أن يعمل على سلامتها من الدغل والزغل ، والافتراء والكذب ، خصوصا في أصل التشريع الأول وهو القرآن. وأصله الثانى وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وبين يديك الكتاب والسنة ، فاقرأ فيهما إن شئت أدلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، تجدها كثيرة متآخذة ، تقرّر ذاك التكافل الاجتماعى الإسلامى بين آحاد الأمة ، بما لا يدع مجالا لمفتر على الله ، ولا يترك حيلة لحاطب ليل في حديث رسول الله.

استمع إلى كلام الحق وهو يحضّ على دعوة الخير وفضيلة النصح إذ يقول سبحانه وتعالى فى سورة آل عمران : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) إلى أن قال جلّ ذكره : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ). وهكذا قدم الله الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان به ، تنويها بجلالتهما. وحثّا على التمسك بحبلهما ، وإشارة إلى أن الإيمان بالله لا يصان ولا يكون إلا بهما.

٣١٦

وتدبّر قول الله تعالى في سورة المائدة : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

ثم تأمل حكم الله على بنى الإنسان جميعا بأنهم غريقون في الخسران ، إلا من جمع عناصر السعادة الأربعة ، وهى الإيمان ، والعمل الصالح ، والتوصية بالحق ، والتوصية بالصبر في قوله سبحانه : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

سمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، وشوفهوا بخطابه من فم رسول الله عن جبريل عن الله ، ثم سمعوا بعد ذلك من كلام رسول الله أمثال ما يأتى : ـ

(١) يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذى نفسى بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم». رواه الترمذى بسند حسن عن حذيفة رضى الله عنه.

(٢) وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السّمع والطاعة في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى ألا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا (أى ظاهرا) ، عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن تقول الحقّ أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم» رواه الشيخان.

فهل بعد هذا كله يعقل أن يعبث الصحابة ، أو يقرّوا من يعبث بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!.

٣١٧

العامل الثامن

تعويدهم الصدق وترويضهم عليه عملا ، كما أرشدوا إليه وأدبوا به فيما سمعت علما. وأنت خبير بأن التربية غير التعليم ، وأن العلم غير العمل ، وأن نجاح الفرد والأمة مرهون بمقدار ما ينهلان من رحيق التربية ، وما يقطفان من ثمرات الرياضة النفسية والقوانين الخلقية.

أما العلم وحده فقد يكون سلاح شقاء ونذير فناء ؛ كما نرى ونسمع ، ويا لهول ما نرى وما نسمع!!.

ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الجليلة في بناء الأمم ، فأعارها كل اهتمام وعنى بالتّنفيذ والعمل أكثر مما عنى بالعلم والكلام. ولعلك لم تنس

أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن يدرسون العلم في مسجد قباء تلك النصيحة الذهبية الحكيمة «تعلّموا ما شئتم أن تعلّموا ، فلن يأجركم الله حتى تعملوا»!.

ولعلك لم تنس أيضا أن الإسلام شرع عقوبة من أشنع العقوبات ، لمن اقترف نوعا من الكذب وهو نوع الخوض في الأعراض ، تلك العقوبة هى حدّ القذف الذى يقول الحق جل شأنه فيه من سورة النور : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

فتأمل كيف عاقب هذا القاذف الكاذب بالجلد ثمانين ، وردّ شهادته وحكم بأنه من الفاسقين ، بل قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أى لا فاسق سواهم ولا خارج عن حدود الدين والأدب إلا هم!

ثم شنّف مسمعيك بما يرويه أبو داود في سننه من أن عبد الله بن عامر قال :

٣١٨

«جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيتنا وأنا صبىّ صغير ، فذهبت لألعب ، فقالت أمّى : تعال حتى أعطيك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما أردت أن تعطيه؟ قالت : تمرا. فقال : أما إنّك لو لم تفعلى لكتبت عليك كذبة»! تصوّر في هذه التربية السامية كيف لم يسمح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمّ أن تعد طفلها الصغير وعدا غير صادق ، بل يسائلها : ما الذى كانت تعطيه لو جاء؟ ثم يقرر أنها لو خاست بعهدها هذا لكتبها الله عليها كذبة! وهكذا يكتفى بذكر كلمة «كذبة» فى هذا المقام ردعا لها وزجرا ومنه تعلم أن لفظ الكذب كان سوط عذاب يخيف الصحابة رجالا ونساء. وذلك لما يسمعون عنه من شناعة ، ولما يعرفون فيه من بشاعة! ولما تأصّل في نفوسهم من فضيلة الصدق وشرف الحق! أفبعد هذه التربية العالية يصحّ أن يقال : إن الصحابة يكذبون على الله ورسوله ولا يتثبّتون! ألا إن هؤلاء من إفكهم ليهرفون بما لا يعرفون ، ويسرفون في تجريح الفضلاء واتهام الأبرياء ولا يستحون ، فويل لهم من يومهم الذى يوعدون!.

العامل التاسع

القدوة الصالحة ، والأسوة الحسنة ؛ التى كانوا يجدونها في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماثلة كاملة ، جذّابة أخّاذة. ولا يعزبنّ عن بالك أن القدوة الصالحة خير عامل من عوامل التعليم والتربية ، والتأديب والتهذيب ، خصوصا بين نبىّ ومتّبعيه ، وأستاذ ومتعلّميه ، ورئيس ومرءوسيه ، وراع ورعيته.

وها نحن أولاء نرى علماء النفس والاجتماع ، وأقطاب التربية والتعليم ، وبناة الأخلاق والأمم : نراهم لا يزالون يتحدّثون في القدوة الصالحة ، ويوصّون بالقدوة الصالحة ، ويبحثون عن القدوة الصالحة وذلك لمكانتها من التأثير والإصلاح ، والتقويم والنجاح ، فى الأفراد والأمم على سواء!!.

٣١٩

ولم يعرف التاريخ ولن يعرف قدوة أسمى ، ولا أسوة أعلى ، ولا إمامة أسنى ، من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى كافّة مناحى الكمال البشرى ، خصوصا خلقه الرضىّ ، وأدبه السنىّ ، ولا سيما صدقه وأمانته ، وتحرّيه ودقّته!.

أجل : فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهورا بالصدق ، معروفا بالأمانة ، حتى من قبل بعثته ورسالته ، فكان إذا سار أشاروا إليه بالبنان ؛ وقالوا : هذا هو الصادق ، وإذا حكم رضوا حكومته وقالوا : هذا هو الأمين!

وكانت هذه الفضائل المشرقة فيه ، من بواعث إيمان المنصفين من أهل الجاهلية به. ولقد اضطرّ أن يشهد له بها أعداؤه الألدّاء ، كما آمن بها أتباعه الأوفياء! فهذا أبو سفيان بن حرب زعيم حزب المعارضة له يقرّ بين يدى قيصر الرّوم بصدق محمد وأنهم لم يحفظوا عليه كذبة واحدة قبل رسالته ، ويكاد يؤمن القيصر متأثّرا في جملة ما تأثّر ، بهذه الشهادة التى انطلق بها لسان ألدّ خصوم محمد يومئذ ، ثم يقول في التعليق على كلام أبى سفيان والتنويه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام : «بما كان (أى محمد) ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله»! والحديث طويل مشهور يرويه البخارى في صحيحه. فراجعه إن شئت.

وهذا قائل قريش يقول للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معرض من المعارض : إنا لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به. وبسبب ذلك أنزل الله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

ومما يذكر بالإعجاب والفخر لنبى الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه عرض الإسلام على بنى عامر بن صعصعة ، وذلك قبل الهجرة ، وقبل أن تقوم للدين شوكة ، فقال كبيرهم : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الكلمة الحكيمة الخالدة :

٣٢٠