مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

جريا على عادة العرب في حفظ أنسابها ، واستظهار مفاخرها وأشعارها من غير كتابة.

صفوة المقال :

وصفوة المقال أن القرآن كان مكتوبا كله على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت كتابته ملحوظا فيها أن تشمل الأحرف السبعة التى نزل عليها ، غير أن بعض الصحابة كان قد كتب بعض منسوخ التلاوة ، وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد ، وربما كتبه غير مرتّب. ولم يكن القرآن على ذلك العهد مجموعا في صحف ولا مصاحف عامة.

لما ذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف؟

وإنما لم يجمع القرآن في صحف ولا مصاحف لاعتبارات كثيرة :

أولها أنه لم يوجد من دواعى كتابته في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبى بكر حتى كتبه في صحف. ولا مثل ما وجد على عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف.

فالمسلمون وقتئذ بخير ، والقراء كثيرون ، والإسلام لم يستبحر عمرانه بعد ، والفتنة مأمونة ، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة ، وأدوات الكتابة غير ميسورة ، وعناية الرسول باستظهار القرآن تفوق الوصف وتوفى على الغاية ، حتى في طريقة أدائه على حروفه السبعة التى نزل عليها.

ثانيها : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بصدد أن ينزل عليه الوحى بنسخ ما شاء الله من آية أو آيات.

ثالثها : أن القرآن لم ينزل مرة واحدة ، بل نزل منجّما في مدى عشرين سنة أو أكثر رابعها : أن ترتيب آياته وسوره ليس على ترتيب نزوله ، فقد علمت أن نزوله ، كان على حسب الأسباب ، أما ترتيبه فكان لغير ذلك من الاعتبارات.

وأنت خبير بأن القرآن لو جمع في صحف أو مصاحف والحال على ما شرحنا

(١٦ ـ مناهل العرفان ١)

٢٤١

لكان عرضة لتغيير الصحف أو المصاحف كلما وقع نسخ ، أو حدث سبب. مع أن الظروف لا تساعد ، وأدوات الكتابة ليست ميسورة ، والتعويل كان على الحفظ قبل كل شىء. ولكن لما استقرّ الأمر بختام التنزيل ووفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمن النسخ ، وتقرّر الترتيب ، ووجد من الدواعى ما يقتضى نسخه في صحف أو مصاحف ، وفّق الله الخلفاء الراشدين فقاموا بهذا الواجب حفظا للقرآن ، وحياطة لأصل التشريع الأول ، مصداقا لقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

جمع القرآن على عهد أبى بكر رضى الله عنه

ألقت الخلافة قيادها إلى أبى بكر رضى الله عنه بعد غروب شمس النبوة ، وواجهت أبا بكر في خلافته هذه أحداث شداد ومشاكل صعاب. منها موقعة اليمامة سنة ١٢ اثنتى عشرة للهجرة. وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردّة من أتباع مسيلمة الكذاب ، وكانت معركة حامية الوطيس ، استشهد فيها كثير من قرّاء الصحابة وحفظتهم للقرآن ، ينتهى عددهم إلى السبعين ، وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة ، من أجلّهم سالم مولى أبى حذيفة. ولقد هال ذلك المسلمين ، وعزّ الأمر على عمر ، فدخل على أبى بكر وأخبره الخبر واقترح عليه أن يجمع القرآن ، خشية الضياع بموت الحفّاظ وقيل القرّاء. فتردد أبو بكر أول الأمر لأنه كان وقّافا عند حدود ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاف أن يجرّه التجديد إلى التبديل ، أو يسوقه الإنشاء والاختراع ، إلى الوقوع في مهاوى الخروج والابتداع.

ولكنه بعد مفاوضة بينه وبين عمر تجلّى له وجه المصلحة ، فاقتنع بصواب الفكرة وشرح الله لها صدره ، وعلم أن ذلك الجمع الذى يشير به عمر ما هو إلا وسيلة من أعظم الوسائل النافعة إلى حفظ الكتاب الشريف ، والمحافظة عليه من الضياع والتحريف ، وأنه ليس من محدثات الأمور الخارجة ، ولا من البدع

٢٤٢

والإضافات الفاسقة. بل هو مستمدّ من القواعد التى وضعها الرسول بتشريع كتابة القرآن ، واتخاذ كتّاب للوحى ، وجمع ما كتبوه عنده حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. قال الإمام أبو عبد الله المحاسبى في كتاب فهم السنن ما نصّه : «كتابة القرآن ليست بمحدثة ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر بكتابته ، ولكنه كان مفرّقا في الرقاع ، والأكتاف ، والعسب ، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها القرآن منتشرا ، فجمعها جامع وربطها بخيط ، حتى لا يضيع منها شىء» ا ه

تنفيذ أبى بكر للفكرة :

اهتمّ أبو بكر بتحقيق هذه الرغبة ، ورأى بنور الله أن يندب لتحقيقها رجلا من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت رضى الله عنه ، لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن ، ما لم يجتمع في غيره من الرجال ، إذ كان من حفّاظ القرآن ، ومن كتاب الوحى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان فوق ذلك معروفا بخصوبة عقله ، وشدة ورعه ، وعظم أمانته ، وكمال خلقه ، واستقامة دينه. فاستشار أبو بكر عمر في هذا فوافقه. وجاء زيد فعرض أبو بكر عليه الفكرة ورغب إليه أن يقوم بتنفيذها ، فتردّد زيد أول الأمر ، ولكن أبا بكر ما زال به يعالج شكوكه ، ويبيّن له وجه المصلحة ، حتى اطمأنّ واقتنع بصواب ما ندب إليه ، وشرع يجمع ، وأبو بكر وعمر وكبار الصحابة يشرفون عليه ، ويعاونونه في هذا المشروع الجلل ، حتى تمّ لهم ما أرادوا (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

وفي ذلك يروى البخارى في صحيحه أنّ زيد بن ثابت رضى الله عنه قال :

«أرسل إلىّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (أى عقب استشهاد القراء السبعين

٢٤٣

فى واقعة اليمامة) فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضى الله عنه : «إن عمر أتانى فقال : إنّ القتل قد استحرّ (أى اشتدّ) يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر : كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك ورأيت في ذلك الذى رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر : إنّك رجل شابّ عاقل لانتهمك ، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتتبّع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ، ما كان أثقل على ممّا أمرنى به من جمع القرآن! قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعنى ، حتى شرح الله صدرى للّذى شرح له صدر أبى بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرّجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارىّ لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفّاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر» ا ه.

فهذا الحديث ـ كما ترى ـ يدلّ على مبلغ اهتمام كبار الصحابة بالمحافظة على القرآن وعلى مبلغ ثقة أبى بكر وعمر بزيد بن ثابت ، وعلى جدارة زيد بهذه الثقة لتوافر تلك المناقب التى ذكرها فيه أبو بكر. ويؤيد ورعه ودينه وأمانته قوله : «فو الله لو كلّفونى نقل جبل من الجبال ، ما كان أثقل علىّ ممّا أمرنى به من جمع القرآن». ويشهد بوفرة عقله تردّده وتوقفه أول الأمر ومناقشته لأبى بكر حتى راجعه أبو بكر وأقنعه بوجه الصواب. وينطق بدقّة تحرّيه قوله : «فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرّجال» ا ه. رضى الله عنه وأرضاه ، ورضى عنهم وعنا أجمعين.

٢٤٤

دستور أبى بكر في كتابة الصّحف :

وانتهج زيد في القرآن طريقة دقيقة محكمة وضعها له أبو بكر وعمر ، فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبّت بالغ وحذر دقيق ، وتحريات شاملة ، فلم يكتف بما حفظ قلبه ، ولا بما كتب بيده ، ولا بما سمع بأذنه. بل جعل يتتبّع ويستقصى آخذا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين : أحدهما. ما كتب بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثانى : ما كان محفوظا في صدور الرجال. وبلغ من مبالغته فى الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب. بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يدلّ على ذلك ما أخرجه ابن أبى داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : «قدم عمر ، فقال : من كان تلقّى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من القرآن فليأت به ، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان».

ويدلّ عليه ما أخرجه أبو داود أيضا ، ولكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ، ولزيد : «اقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه» ا ه وهو حديث رجاله ثقات وإن كان منقطعا. قال ابن حجر : «المراد بالشاهدين : الحفظ والكتابة».

وقال السخاوى في جمال القراء ما يفيد أن المراد بهما رجلان عدلان إذ يقول ما نصّه : «المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده ، ولذلك قال في الحديث الذى رواه البخارى سابقا ، إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبى خزيمة. أى لم يجدها مكتوبة إلا مع أبى خزيمة الأنصارى ، مع أن زيدا كان يحفظها ، وكان كثير من الصحابة يحفظونها. ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة ، زيادة في التوثّق ، ومبالغة في الاحتياط. وعلى هذا

٢٤٥

الدستور الرشيد تمّ جمع القرآن بإشراف أبى بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير. وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ بذكرها بالجميل لأبى بكر في الإشراف ، ولعمر في الاقتراح ، ولزيد في التنفيذ ، وللصحابة في المعاونة والإقرار!.

قال علىّ كرم الله وجهه : «أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر ، رحمة الله على أبى بكر ، هو أوّل من جمع كتاب الله» أخرجه ابن أبى داود في المصاحف بسند حسن.

وقد قوبلت تلك الصحف التى جمعها زيد بما تستحقّ من عناية فائقة ، فحفظها أبو بكر عنده. ثم حفظها عمر بعده. ثم حفظتها أمّ المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر. حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان رضى الله عنه ، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن. ثم ردّها إليها كما يأتيك بيانه إن شاء الله.

مزايا هذه الصّحف :

وامتازت هذه الصحف أولا بأنها جمعت القرآن على أدقّ وجوه البحث والتحرّى ، وأسلم أصول التثبّت العلمى ، كما سبق شرحه لك في الدستور السابق.

ثانيا : أنه اقتصر فيها على ما لم تنسخ تلاوته.

ثالثا : أنها ظفرت بإجماع الأمة عليها ، وتواتر ما فيها. ولا يطعن في ذلك التواتر ما مرّ عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبى خزيمة ، فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبا إلا عنده ، وذلك لا ينافى أنه وجد محفوظا عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حدّ التواتر ، وقد قلنا غير مرة : إن المعوّل عليه وقتئذ كان هو الحفظ والاستظهار. وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر ، زيادة في الاحتياط ؛ ومبالغة في الدقّة والحذر. ولا يعزبنّ عن بالك أن هذا الجمع كان شاملا للأحرف

٢٤٦

السبعة التى نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة الإسلامية كما كانت الأحرف السبعة في الرقاع كذلك.

ملاحظة :

جمع القرآن في صحف أو مصحف على ذلك النمط الآنف بمزاياه السابقة التى ذكرناها بين يديك ، لم يعرف لأحد قبل أبى بكر رضى الله عنه. وذلك لا ينافى أن الصحابة كانت لهم صحف أو مصاحف كتبوا فيها القرآن من قبل. لكنها لم تظفر بما ظفرت به الصحف المجموعة على عهد أبى بكر ، من دقة البحث والتحرّى ، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته ، ومن بلوغها حدّ التواتر ، ومن إجماع الأمة عليها ، ومن شمولها للأحرف السبعة كما تقدّم. وإذن لا يضيرنا في هذا البحث أن يقال إن عليا رضى الله عنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعكر صفو موضوعنا أن يستدلّوا على ذلك بما نقله السيوطى عن ابن الغرس من حديث محمد بن سيرين عن عكرمة قال : «لمّا كان بدء خلافة أبى بكر ، قعد علىّ بن أبى طالب في بيته ، فقيل لأبى بكر : قد كره بيعتك. فأرسل إليه ، فقال : أكرهت بيعتى؟ فقال : رأيت كتاب الله يزاد فيه ، فحدثت نفسى ألا ألبس ردائى إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر : فإنك نعم ما رأيت!. قال محمد : فقلت لعكرمة : ألّفوه كما أنزل الأوّل فالأوّل؟ قال : لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه هذا التأليف ما استطاعوا!» ا ه وأخرج ابن أشتة من وجه آخر عن ابن سيرين هذا الأثر ، وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ، وأن ابن سيرين قال : فطلبت ذلك الكتاب ، وكتبت فيه إلى المدينة ، فلم أقدر عليه. ا ه.

نقول إن هذه الرواية وأشباهها لا تضير بحثنا ، ولا تعكر صفو موضوعنا ، فقصاراها

٢٤٧

أنها تثبت أن عليّا أو بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف. لكنها لا تعطى هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية ، ولا تخلع عليه تلك المزايا التى للصحف أو المصحف المجموع في عهد أبى بكر. بل هى مصاحف فردية ، ليست لها تلك الثقة ولا هذه المزايا.

وإذا كانت قد سبقت في الوجود وتقدّم بها الزمان فإن جمع أبى بكر هو الأول من نوعه على كل حال. وقد اعترف على بن أبى طالب نفسه بهذه الحقيقة في الحديث الذى أخرجه ابن أبى داود في المصاحف سند حسن آنفا إذ قال : «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ، رحمة الله على أبى بكر ، هو أول من جمع كتاب الله».

فهذا اعتراف صريح من أبى الحسن بالأولية لجمع أبى بكر على النحو الآنف. رضوان الله عليهم أجمعين.

جمع القرآن على عهد عثمان رضى الله عنه

اتسعت الفتوحات في زمن عثمان ، واستبحر العمران ، وتفرّق المسلمون في الأمصار والأقطار ، ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن. وطال عهد الناس بالرسول والوحى والتنزيل. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام ، يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة ، فأهل الشام يقرءون بقراءة أبىّ بن كعب ، وأهل الكوفة يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود ، وغيرهم يقرأ بقراءة أبى موسى الأشعرى. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة ، بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن ، اشتبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد ؛ لبعد عهد هؤلاء بالنبوّة ، وعدم وجود الرسول بينهم ، يطمئنون إلى حكمه ، ويصدرون جميعا عن رأيه. واستفحل الداء حتى كفّر بعضهم بعضا ، وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير. ولم يقف هذا الطغيان عند حدّ ،

٢٤٨

بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية حتى الحجاز والمدينة ، وأصاب الصغار والكبار على سواء.

أخرج ابن أبى داود في المصاحف من طريق أبى قلابة أنه قال : «لما كانت خلافة عثمان ، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل ، والمعلّم يعلم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلّمين ، حتى كفّر بعضهم بعضا ، فبلغ ذلك عثمان ، فخطب فقال : «أنتم عندى تختلفون ، فمن نأى عنى من الأمصار أشدّ اختلافا».

وصدق عثمان ، فقد كانت الأمصار النائية أشدّ اختلافا ونزاعا من المدينة والحجاز. وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع ، أو التقوا على جهاد أعدائهم ، يعجبون من ذلك. وكانوا يمنعون في التعجب والإنكار ، كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن. وتأدى بهم التعجب إلى الشكّ والمداجاة ، ثم إلى التأثيم والملاحاة. وتيقظت الفتنة التى كادت تطيح فيها الرءوس ، وتسفك الدماء ، وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في كتابهم. كما قال حذيفة لعثمان في الحديث الآتى قريبا.

أضف إلى ذلك أن الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن لم تكن معروفة لأهل تلك الأمصار ، ولم يكن من السهل عليهم أن يعرفوها كلها ، حتى يتحاكموا إليها فيما يختلفون. إنما كان كل صحابى في إقليم ، يقرئهم بما يعرف فقط من الحروف التى نزل عليها القرآن. ولم يكن بين أيديهم مصحف جامع يرجعون إليه فيما شجر بينهم من هذا الخلاف والشقاق البعيد.

لهذه الأسباب والأحداث ، رأى عثمان بثاقب رأيه ، وصادق نظره ، أن يتدارك الخرق قبل أن يتسع على الرافع ، وأن يستأصل الداء ، قبل أن يعزّ الدواء ، فجمع أعلام

٢٤٩

الصحابة وذوى البصر منهم ، وأجال الرأى بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ، ووضع حدّ لذلك الاختلاف ، وحسم مادة هذا النزاع. فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار ، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها ، وألّا يعتمدوا سواها. وبذلك يرأب الصدع ، ويجبر الكسر ، وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية نورهم الهادى في ظلام هذا الاختلاف ، ومصباحهم الكشاف في ليل تلك الفتنة ، وحكمهم العدل في ذاك النزاع والمراء ، وشفاءهم الناجع من مصيبة ذلك الداء.

تنفيذ عثمان لقرار الجمع.

وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار الحكيم ، حول أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة ، فعهد في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ ، وهم زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام. وهؤلاء الثلاثة الأخيرون من قريش.

وأرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر ، فبعثت إليه بالصحف التى عندها ، وهى الصحف التى جمع القرآن فيها على عهد أبى بكر رضى الله عنه. وأخذت لجنة الأربعة هؤلاء فى نسخها ، وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثنى عشر رجلا. وما كانوا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة ، ويقرّوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ على هذا النحو الذى نجده الآن في المصاحف.

دستور عثمان في كتابة المصاحف :

ومما تواضع عليه هؤلاء الصحابة أنهم كانوا لا يكتبون في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن ، وعلموا أنه قد استقرّ في العرضة الأخيرة ، وما أيقنوا صحته عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لم ينسخ. وتركوا ما سوى ذلك نحو قراءة «فامضوا إلى ذكر الله» بدل كلمة «فاسعوا» ونحو «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا»

٢٥٠

بزيادة كلمة «صالحة» ، إلى غير ذلك. وإنما كتبوا مصاحف متعدّدة ، لأن عثمان رضى الله عنه قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين ، وهى الأخرى متعددة ، وكتبوها متفاوتة في إثبات وحذف وبدل وغيرها ، لأنه رضى الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة. وجعلوها خالية من النقط والشكل ، تحقيقا لهذا الاحتمال أيضا. فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجرّدها من النقط والشكل نحو «فتبيّنوا» من قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فإنها تصلح أن تقرأ «فتثبّتوا» عند خلوّها من النقط والشكل وهى قراءة أخرى ، وكذلك كلمة «ننشرها» من قوله تعالى «وانظر إلى العظام كيف ننشرها» فإن تجردها من النقط والشكل كما ترى يجعلها صالحة عندهم أن يقرءوها «ننشزها» بالزاى ، وهى قراءة واردة أيضا ، وكذلك كلمة «أفّ» التى ورد أنها تقرأ بسبعة وثلاثين وجها.

أما الكلمات التى لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضا ، فإنهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم يدلّ على قراءة ، وفي بعض آخر برسم آخر يدلّ على القراءة الثانية ، كقراءة «وصّى» بالتضعيف و (أوصى) بالهمز ، وهما قراءتان في قوله سبحانه : «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب» وكذلك قراءة «تحتها الأنهار» وقراءة «من تحتها الأنهار» بزيادة لفظ «من» فى قوله تعالى في سورة التوبة : «لهم جنّات تجرى من تحتها الأنهار» وهما قراءتان أيضا.

وصفوة القول : أن اللفظ الذى لا تختلف فيه وجوه القراءات ، كانوا يرسمونه بصورة واحدة لا محالة. أما الذى تختلف فيه وجوه القراءات ، فإن كان لا يمكن رسمه في الخط محتملا لتلك الوجوه كلها ، فإنهم يكتبونه برسم يوافق بعض الوجوه في مصحف ، ثم يكتبونه برسم آخر يوافق بعض الوجوه الأخرى في مصحف آخر : وكانوا يتحاشون أن

٢٥١

يكتبوه بالرسمين في مصحف واحد خشية أن يتوهّم أن اللفظ نزل مكررا بالوجهين في قراءة واحدة ، وليس كذلك. بل هما قراءتان نزل اللفظ في إحداهما بوجه واحد ، وفي الثانية بوجه آخر من غير تكرار في واحدة منهما.

وكذلك كانوا يتحاشون أن يكتبوا هذا اللفظ في مصحف واحد برسمين : أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية ، لئلا يتوهم أن الثانى تصحيح للأول. أضف إلى ذلك أن كتابة أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية دون العكس تحكّم ، أو ترجيح بلا مرجّح وذلك نحو كلمة (وصّى) بالتضعيف و (أوصى) بالهمز كما سبق.

أما اللفظ الذى تختلف فيه القراءات ، ويدلّ عليه الرسم بصورة واحدة تحتمل هذا الاختلاف ويساعدهم عليه ترك الإعجام والشكل نحو «فتبيّنوا» «وننشرها» كما سلف بيانه ، فتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين ، شبيهة بدلالة المشترك اللفظى على كلا المعنيين المعقولين. والذى دعا الصحابة إلى انتهاج هذه الخطّة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع وجوه قراءاته ، وبكافة حروفه التى نزل عليها ، فكانت هذه الطريقة أدبى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها ، حتى لا يقال : إنهم أسقطوا شيئا من قراءاته ، أو منعوا أحدا من القراءة بأىّ حرف شاء ؛ على حين أنها كلها منقولة نقلا متواترا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «فأىّ ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا» وكان من الدستور الذى وضعه عثمان رضى الله عنه لهم في هذا الجمع أيضا أنه قال لهؤلاء القرشيين «إذا اختلفتم أنتم وزيد ابن ثابت في شىء من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم» ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ؛ وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

٢٥٢

وفي ذلك يروى البخارى في صحيحه بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه ، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازى أهل الشام في فتح أرمينيّة وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد ابن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام ، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق» ا ه.

تحريق عثمان للمصاحف والصحف المخالفة :

بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف بالصورة السابقة ، عمل على إرسالها وإنفاذها إلى الأقطار ، وأمر أن يحرق كلّ ما عداها مما يخالفها ، سواءً كانت صحفا أم مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية ، وليحمل المسلمين على الجادّة في كتاب الله من ناحية أخرى ، فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التى توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر فى غيرها.

وهذه المزايا هى :

(١) الاقتصار على ما ثبت بالتواتر ، دون ما كانت روايته آحادا.

(٢) وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقرّ في العرضة الأخيرة.

٢٥٣

(٣) وترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبى بكر رضى الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور.

(٤) وكتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التى نزل عليها القرآن ، على ما مرّ بك من عدم إعجامها وشكلها ، ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد.

(٥) وتجريدها من كل ما ليس قرآنا كالذى كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحا لمعنى ، أو بيانا لناسخ ومنسوخ ، أو نحو ذلك.

وقد استجاب الصحابة لعثمان ، فحرقوا مصاحفهم ، واجتمعوا جميعا على المصاحف العثمانية. حتى عبد الله بن مسعود الذى نقل عنه أنه أنكر أولا مصاحف عثمان ، وأنه أبى أن يحرق مصحفه ، رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة ، حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية ، واجتماع الأمة عليها ، وتوحيد الكلمة بها.

وبعدئذ طهر الجوّ الإسلامى من أوبئة الشقاق والنزاع ، وأصبح مصحف ابن مسعود ، ومصحف أبى بن كعب ، ومصحف عائشة ، ومصحف على ، ومصحف سالم مولى أبى حذيفة.

أصبحت كلها وأمثالها في خبر كان ، مغسولة بالماء أو محروقة بالنيران. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).

ورضى الله عن عثمان ، فقد أرضى بذلك العمل الجليل ربه ، وحافظ على القرآن ، وجمع كلمة الأمة ، وأغلق باب الفتنة ، ولا يبرح المسلمون يقطفون من ثمار صنيعه هذا إلى اليوم وما بعد اليوم.

ولن يقدح في عمله هذا أنه أحرق المصاحف والصحف المخالفة للمصاحف العثمانية ، فقد علمت وجهة نظره في ذلك. على أنه لم يفعل ما فعل من هذا الأمر الجلل ، إلا بعد أن استشار الصحابة ، واكتسب موافقتهم ، بل وظفر بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم.

٢٥٤

روى أبو بكر الأنبارى عن سويد بن غفلة قال : «سمعت على بن أبى طالب كرم الله وجهه يقول : يا معشر الناس : اتقوا الله وإياكم والغلوّ في عثمان ، وقولكم : حرّاق مصاحف ، فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وعن عمر بن سعيد قال : قال على بن أبى طالب رضى الله عنه : «لو كنت الوالى وقت عثمان ، لفعلت في المصاحف مثل الذى فعل عثمان» رضى الله عن الجميع ، وجزاهم أحسن الجزاء على هذا الصنيع.

فذلكة :

تستطيع مما سبق أن تفرق بين مرّات جمع القرآن في عهوده الثلاثة : عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهد أبى بكر ، وعهد عثمان (رضى الله عنهما) فالجمع في عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاصّ من سورها ، ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرّقها بين عسب وعظام ، وحجارة ورقاع ، ونحو ذلك حسبما تتيسّر أدوات الكتابة ، وكان الغرض من هذا الجمع زيادة التوثق للقرآن ، وإن كان التعويل أيامئذ كان على الحفظ والاستظهار.

أما الجمع في عهد أبى بكر رضى الله عنه فقد كان عبارة عن نقل القرآن وكتابته في صحف مرتّب الآيات أيضا ، مقتصرا فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقا له بالتواتر والإجماع. وكان الغرض منه تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعا مرتّبا ، خشية ذهاب شىء منه بموت حملته وحفاظه.

وأما الجمع في عهد عثمان رضى الله عنه فقد كان عبارة عن نقل ما في تلك الصحف في مصحف واحد إمام ، واستنساخ مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية ملاحظا فيها تلك المزايا السالف ذكرها مع ترتيب سوره وآياته جميعا. وكان الغرض منه إطفاء الفتنة

٢٥٥

التى اشتعلت بين المسلمين حين اختلفوا في قراءة القرآن ، وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم ، والمحافظة على كتاب الله من التغيير والتبديل. (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

الردّ على ما يثار حول جمع القرآن من شبه

كان القرآن ولا يزال هدفا لأعداء الإسلام ، يسدّدون إليه سهام المطاعن ، ويتّخذون من علومه مثارا للشبهات يلفّقونها زورا وكذبا ، ويروّجونها ظلما وعدوانا. من ذلك ما نقصّه عليك في موضوعنا هذا مشفوعا بالتفنيد فيما يأتى :

الشبهة الأولى وهى تعتمد على سبع شبه

يقولون : إن في طريقة كتابة القرآن وجمعه ، دليلا على أنه قد سقط منه شىء وأنه ليس اليوم بأيدينا على ما زعم محمد أنه أنزل عليه. واعتمدوا في هذه الشبهة على المزاعم الآتية :

(أولا) أن محمدا قال : رحم الله فلانا لقد أذكرنى كذا وكذا آية. كنت أسقطتهنّ ، ويرى أنسيتهنّ. فهذا الحديث فيه اعتراف من النبى نفسه بأنه أسقط عمدا بعض آيات القرآن أو أنسيها.

(ثانيا) أن ما جاء في سورة الأعلى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يدلّ بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمدا قد أسقط عمدا أو أنسى آيات لم يتّفق له من يذكّره إياها.

(ثالثا) أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه ، فمن ذلك

٢٥٦

آية المتعة أسقطها على بن أبى طالب بتّة ، وكان يضرب من يقرؤها.

وهذا مما شنّعت عائشة به عليه فقالت : إنه يجلد على القرآن ، وينهى عنه ، وقد بدّله وحرّفه.

(رابعا) أن أبى بن كعب حذف من القرآن ما كان يرويه ولا نجده اليوم في المصحف وهو. «اللهمّ إنّا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكّل عليك ونثنى عليك الخير كلّه. نشكرك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّى ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخاف عذابك ، إنّ عذابك الجدّ بالكفّار ملحق».

(خامسا) أن كثيرا من آياته لم يكن لها قيد سوى تحفّظ الصحابة ، وكان بعضهم قد قتلوا في مغازى محمد وحروب خلفائه الأولين ، وذهب معهم ما كانوا يتخطفونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه ، فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفّظه الأحياء.

(سادسا) أن ما كان مكتوبا منه على العظام وغيرها ، فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام ولا ضبط ، وقد ضاع بعضها. وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت حرفا لا حكما. وهو من غريب المزاعم. وحقيقة الأمر فيها أنها قد سقطت بتّة بضياع العظم الذى كانت مكتوبة عليه ، ولم يبق منها سوى المعنى محفوظا في صدورهم.

(سابعا) لما قام الحجّاج بنصرة بنى أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه أشياء ليست منه ، وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده ووجّه بها إلى مصر والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة

(١٧ ـ مناهل العرفان ١)

٢٥٧

وهى القرآن المتداول اليوم. وعمد إلى المصاحف المتقدمة ، فلم يبق منها نسخة إلا أغلى لها الخلّ وطرحها فيه حتى تقطّعت. وإنما رام بما فعله أن يتزلّف إلى بنى أمية ، فلم يبق في القرآن ما يسوؤهم.

نقض هذه المزاعم الباطلة

ملخّص هذه الشبهة أن القرآن الذى بأيدينا ناقص سقط منه ما سقط ، بدليل المزاعم السبعة التى سقناها أمامك. وإذن فلنمحص بين يديك هذه المزاعم ، لنأتى بنيان هذه الشبهة من القواعد.

(١) أما احتجاجهم الأول ـ وهو الحديث الذى أوردوه ـ فإنه لا ينهض حجة لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذى قامت عليه كتابة القرآن وجمعه. بل الأصل سليم قويم وهو وجود هذه الآيات مكتوبة في الوثائق التى استكتبها الرسول ، ووجودها محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقّوها عنه ، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر ، وأجمعوا جميعا على صحّته. كما عرف ذلك في دستور جمع القرآنى.

إنما قصارى هذا الخبر أنه يدلّ على أن قراءة ذلك الرجل ذكّرت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيّاها ، وكان قد أنسيها أو أسقطها (أى نسيانا).

وهذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ، ولا يشكّك في دقّة جمع القرآن ونسخه ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد حفظ هذه الآيات من قبل أن يحفظها ذلك الرجل ، ثم استكتبها كتّاب الوحى ، وبلغها الناس فحفظوها عنه ، ومنهم رجل الرواية عبّاد بن بشّار رضى الله عنه على ما روى.

وليس في ذلك الخبر الذى ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التى كتبها كتّاب الوحى ، وليس فيه ما يدلّ على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوها جميعا ، حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ، ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام ،

٢٥٨

كما يفترى أولئك الخرّاصون. بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها الرسول منه.

ثم إن دستور جمع القرآن ـ وقد مرّ آنفا ـ يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته. ومنه هذه الآيات التى يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك ولا يفوتنّك في هذا المقام أمران : (أحدهما) أن كلمة «أسقطتهنّ» فى بعض روايات هذا الحديث ، معناها أسقطتهن نسيانا ، كما تدلّ على ذلك كلمة «أنسيتهنّ» فى الرواية الأخرى ... ومحال أن يراد بها الإسقاط عمدا ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغى له ولا يعقل منه أن يبدّل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه ، وإلّا لكان خائنا أعظم الخيانة. والخائن لا يمكن أن يكون رسولا.

هذا هو حكم العقل المجرّد من الهوى ، وهو أيضا حكم النقل في كتاب الله ؛ إذ يقول سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، وإذ يقول جلّ ذكره : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ).

(الأمر الثانى) أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات التى سمعها الرسول من عبّاد بن بشّار قد امّحت من ذهنه الشريف جملة. غاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة عبّاد. وغيبة الشّيء عن الذهن أو غفلة الذهن عن الشيء ، غير محوه منه ، بدليل أن الحافظ منا لأىّ نصّ من النصوص يغيب عنه هذا النصّ إذا اشتغل ذهنه بغيره ، وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره ثم قرأه. أما النسيان التامّ المرادف لامّحاء الشيء من الحافظة ، فإن الدليل قام على استحالته على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخلّ بوظيفة الرسالة والتبليغ. وإذا عرض له نسيان فإنه سحابة صيف لا تجىء إلا لتزول. ولا ريب أن نسيان الرسول هنا كان بعد

٢٥٩

أن أدّى وظيفته وبلغ الناس وحفظوا عنه. فهو نسيان لم يخلّ بالرسالة والتبليغ ... قال البدر العينى في باب نسيان القرآن من شرحه لصحيح البخارى ما نصّه :

وقال الجمهور : جاز النسيان عليه (أى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم ، بشرط ألّا يقرّ عليه ، بل لا بدّ أن يذكره. وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ ، وأما نسيان ما بلّغه كما في هذا الحديث فهو جائز بلا خلاف» ا ه.

هذا. ولقد كنت في الطبعة الأولى تابعت بعض الكاتبين هنا في اتهام هذه الرواية بالدسّ والوضع ، ولكن تبين لى بعد إعادة النظر ، وتنبيه بعض ذى الفطن ، أن الخير صحيح رواه الشيخان ؛ ففي صحيح البخارى عن هشام عن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت : «سمع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقرأ في المسجد. فقال : يرحمه‌الله. لقد أذكرنى كذا وكذا آية من سورة كذا». زاد في رواية أخرى : «وقال : أسقطتهنّ من سورة كذا وكذا».

وفي صحيح مسلم عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقرأ من اللّيل ، فقال : «يرحمه‌الله لقد أذكرنى كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا».

وقال النوويّ في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن ما نصّه : وثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقرأ ، فقال : «رحمه‌الله. لقد أذكرنى آية كنت أسقطتها». وفي رواية في الصحيح «كنت أنسيتها» ا ه. سبحان ربى! (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى).

(٢) وأما احتجاجهم الثانى وهو الاستثناء الذى في قوله سبحانه (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فلا يدلّ على ما زعموا ؛ لأنه استثناء صورىّ لا حقيقىّ. والحكمة فيه أن يعلن الله عباده أن عدم نسيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى وعده الله إياه في قوله : (فَلا تَنْسى) إنما هو محض فضل من الله وإحسان ، ولو شاء سبحانه أن ينسيه لأنساه. وفي ذلك

٢٦٠