مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

باللين والصفح ، ودعوى خلوّ المكى من ذلك اللين والصفح. وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا ودليل ذلك أن بين السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا ، وتقطر سماحة وعفوا ، بل تنادى أن تقابل السيئة بالحسنة ، كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وكما في قوله سبحانه من سورة الشورى المكية : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) : إلى آخر السورة. ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

٢٠١

(٢) وأما زعمهم أن في القسم المكى سبابا ، ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القحة والبذاءة ، والخروج عن حدود الأدب واللّياقة ، فقد (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً). ونحن نتحدّاهم أن يأتوا بمثال واحد فى القرآن كله ، مكيّة ومدنيه ، يكون من هذا اللون القدر الرخيص. وهل يعقل أن القرآن الذى جاء يعلم الناس أصول الآداب ، يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكى وحده تسفيها لأحلام المتنطعين ، الذين يصمّون آذانهم ، ويغمضون أعينهم عن الحق ، ويهملون الحجج والبراهين ، وهو في ذلك شديد عنيف ، بيد أنه في شدّته وعنفه ، لم يخرج عن جادّة الأدب ، ولم يعدل عن سنن الحق ، ولم يصدف عن سبيل الحكمة. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتدّ مع هؤلاء ، لأنهم يستحقون الشدّة ، ومن مصلحتهم هم ، ومن الرحمة بهم ، والخير لهم ، أن يشتدّ عليهم ليرعووا عن باطلهم ، ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ، ويسيروا على هدى الدليل والحجة ، على حد قول القائل :

«فقسا ليزدجروا. ومن يك حازما

فليقـس أحيانا على من يـرحم»

أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية ، كما تجده في السور المكية. وإن كان في المكى أكثر من المدنى ، لأن أهل مكة كانوا أشدّاء العارضة ، صعاب المراس ، مسرفين في العناد والإباء ، لم يتركوا بابا من الشرّ إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ، ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل ، بل وجهوا إليه الأذى فى مهاجره.

٢٠٢

والشاهد على أن في السور المدنية تقريعا عنيفا أيضا عند المناسبات قوله سبحانه من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقوله من سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لتلك الحشرات الآدمية ، الذين ينفثون سمومهم ، ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذى حدّين هو سلاح النفاق والذبذبة. وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز ، تنقدهم وتنعى جرائمهم ، وتحمل عليهم حملة شعواء ، تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم. مثل قوله سبحانه : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ومثل قوله (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

ومثل قوله تعالى في شأن النصارى من سورة آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الخ. وقوله فيهم أيضا من هذه السورة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الخ.

٢٠٣

أما السور والآيات التى اعتمدت عليها الشبهة ، فلا تدلّ على ذلك السباب الذى زعموه ووصموا به القرآن الكريم ، لأن سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبى لهب وامرأته ، جزاء ما أساء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، كما يدلّ على ذلك سبب نزولها :

أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذى عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا فجعل ينادى : يا بنى فهر يا بنى عدىّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقىّ؟ قالوا : نعم ما جرّ بنا عليك إلا صدقا ، قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك ، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت.

وأخرج ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبى لهب كانت تأتى بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى عن مجاهد أنها كانت تمشى بالنميمة.

فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبى لهب بما يستحقّ من إنذاره بالهلاك والقطيعة ، وأن ماله لا ينفعه ولا كسبه ، وأنه خاسر هو وامرأته ، وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار.

ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله ، وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية ، والتربية الحكيمة الربانية.

«ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضرّ كوضع السيف في موضع الندى»

وأما سورة «والعصر» فليس فيها سباب ولا ما يشبه السباب. وكل ما عرضت له

٢٠٤

أنها جعلت الناس قسمين : قسما غريقا في الخسران ، وقسما فاز ونجا من هذا الخسران ، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة. اقرأ قوله سبحانه : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) فهل ترى فيها ظلّا للسباب والإقذاع؟ ولكن القوم لا يستحون!.

وأما سورة (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) : فمبلغ ما تشير إليه ، أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين ، وألهتهم الأموال عن رب الأموال ، حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال. وغدا يسألون عن هذا النعيم ، ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.

وأما قوله سبحانه : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) ، فهو حكاية لما حلّ بالأمم السابقة كثمود وعاد ، حين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، ليكون من هذا القصص والخبر ، عبرة لأولئك الكفار ومزدجر ، فلا يقعوا فيما وقع فيه أسلافهم ، لأن سنّة الله واحدة في الأمم ، وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل. (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ).

الخلاصة

والخلاصة أن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين ، فتارة يشتدّ وتارة يلين ، تبعا لما يقتضيه حالهم ، سواء منهم مكيّهم ومدنيّهم ، بدليل أنك تجد بين ثنايا السور المكّية والمدنية ، ما هو وعد ووعيد وتسامح وتشديد ، وأخذ وردّ ، وجذب وشدّ ، كما سبق لك في الأمثلة والشواهد الكثيرة. وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدّة والعنف ، فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول وأصحابه والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم. ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى فى مهاجرهم.

٢٠٥

وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول ، بعيدا عن كل معانى السباب والإقذاع ، متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع ، حاثّا على الصبر والعفو والإحسان ، حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكيّة بقوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

ظاهرة مسكتة

على أننا نلاحظ في آفاق الآيات والسور المكية ، ظاهرة باهرة ، تسكت كل معاند ، وتفحم كل مكابر في هذا الموضوع. وهى أن القسم المكى خلا خلوّا تاما من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة ، كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة ؛ فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف ، ولا قعقعة لسلاح ، ولا زحف على عدو. إنما هو الصبر والعفو والمجاملة والمحاسنة ، بالرغم من إيغال الأعداء في أذاهم ، ولجاجهم في عتوّهم وأساهم ، سبّا وطعنا ، وقتلا ونهبا ، ومقاطعة ومهاترة ، ومصاولة ومكابرة.

(٣) ـ وأما زعمهم أن القسم المكى يمتاز بكل مميّزات الأوساط المنحطّة فهو مردود عليهم ، باطل من كل باب دخلوه ، وعلى أى وجه أرادوه ؛ لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه من انفراده بالشدة والعنف ، أو السباب والإقذاع ، فقد علمت مبلغ

٢٠٦

ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب ، فى شطريه المكى والمدنى على سواء.

وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته ، أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدلّ على الانحطاط ، بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية.

وإن أرادوا مما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية ، فتلك ثالثة الأثافي ، لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب ، يصدرون عن رأيها ، ويرجعون إلى حكمها ، ويأخذون عنها ، ويركبون ظهور الإبل إليها ، وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ، ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة ، والذكاء والألمعيّة ، والشرف والنبل.

وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام. ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام. واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام.! ثم إن وصف القسم المكى بميزات الأوساط المنحطة ، تهمة جريئة وطعنة طائشة ، وأكذوبة مكشوفة ، ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب ، وعرب وعجم ، وأميين ومثقّفين ، على حين أن أولئك العرب كانوا على أمّيتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيّه ، وعلوّه ونزوله. كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ، ودحض حجته ، ونقض دينه ، والقضاء على الإسلام فى مهده. ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذى يهرف به الملاحدة في القسم المكى من القرآن. بل نعلم بجانب بهذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حدّ خارق مدهش ، يقودهم بقوته إلى الإسلام ، ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ، ويهتزّ لفصاحته ، وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثّره بسماعه!.

٢٠٧

وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكى والمدنى والتعارض بين أسلوبيهما ، فهو زعم ساقط مبنىّ على الاعتبارات الخاطئة الماضية التى أثبتنا بطلانها. ثم هو دعوى ماجنة ، يكذبها الواقع ، ويفنّدها الذوق البلاغىّ المنصف. وأدلّ دليل على ذلك ، أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتّهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا ، لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم ، يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا. بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملإ من قريش : «والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى».

ولما قالت قريش عندئذ : صبأ والله الوليد ، واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن ، لم يجد حيلة إلا أن يقول : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ). ولم يستطع أن يرمى القرآن بالتهافت والتخاذل ، وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شىء من أساليبه ، على نحو ما يرجف أولئك الخرّاصون. «والله اعلم بما يبيّتون».

٤ ـ وإذا بطل هذا وما سبقه ، بطل ما زعموه من تأثّر القرآن بالوسط والبيئة ، وما رتّبوه عليه من أنه كلام محمد لا كلام رب العزة. ثم إنها اتهامات سخيفة لا تستحقّ الرّد ، ما دام إعجاز القرآن قائما ، يتحدّى كل جيل وقبيل ، ويفحم كل معارض ومكابر. ولمبحث إعجاز القرآن مجال آخر عسى أن يكون قريبا.

ولو لا أن الشبيبة الحاضرة من أنصاف المتعلمين وأشباههم ، ينخدعون بمثل هذه الترّهات ، ما أتعبنا أنفسنا في علاجها ولا أتعبناك ، فاصبر معنا على دفع هذا المصاب ، والله يتولّى هدانا وهداك.

٢٠٨

الشبهة الثانية

يقولون : إن قصر السور والآيات المكية مع طول السور والآيات المدنية ، يدلّ على انقطاع الصلة بين القسم المكى والقسم المدنى ، ويدل على أن القسم المكى يمتاز بمميزات الأوساط المنحطة ، ويدلّ على أن القرآن في نمطه هذا نتيجة لتأثر محمد بالوسط والبيئة ، فلما كان في مكة أميّا بين الأميين جاءت سور المكى وآياته قصيرة ، ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين ، جاءت سور المدنى وآياته طويلة ، وغرضهم من إلقاء هذه الشبهة التشكيك في أن القرآن من عند الله (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

وننقض شبهتهم هذه بما يأتى :

أولا ـ أن في القسم المكى سورا طويلة مثل سورة الأنعام ، وفي القسم المدنى سورا قصيرة مثل سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فكلامهم لا يسلم على عمومه.

ثانيا ـ إذا أرادوا الكثرة الغالبة لا الكلية الشاملة فهذا نسلمه لهم ، بيد أنه لا يدل على ما افتروه ورتبوه عليه ، لأن قصر معظم السور المكية وآياتها ، وطول معظم السور المدنية وآياتها ، لا يقطع الصلة بين قسمى القرآن : مكية ومدنية ، ولا بين سور القرآن وآياته جميعا. بل الصلة كما يحسها كل صاحب ذوق في البلاغة ، محكمة وشائعة بين كافّة أجزاء التنزيل. وقد تفنن العلماء وأشبعوا الحديث عن هذه المناسبات في غضون تفسيرهم لكتاب الله. وتقدم تقرير هذا التناسب البارع في صفحة ٧٣ على أنك تلاحظ آيات مكية منبثة بين آيات سور مدنية ، وتلاحظ آيات مدنية منبثة بين آيات سور مكية. وبرغم ذلك لا يكاد أحد يحسّ التفاوت أو التفكك

٢٠٩

والانقطاع ، بل يروعك ما بين الجميع من جلال الوحدة ، وكمال الاتصال ، وجمال التناسق والانسجام ، مما يجعل القرآن كله على طوله ، سلسلة واحدة محكمة متصلة الحلقات ، أو عقدا رائعا أخاذا منتظم الحبات ، أو قانونا رصينا مترابط المبادئ والغايات.

ثالثا ـ أن قصر السور والآيات المكية ، لا يدل على ما زعموه من امتياز القسم المكى بمميزات الأوساط المنحطة ، بل القصر مظهر الإيجاز ، والإيجاز مظهر رقّى المخاطب ، وآية فهمه وذكائه ، بحيث يكفيه من الكلام موجزه ، ومن الخطاب أقصره. أما من كان دونه ذكاء وفهما ، فلا سبيل إلى إفادته إلا بالإسهاب والبسط ، إن لم يكن بالمساواة والتوسط.

ولهذا المعنى جاء قسم القرآن المكى قصيرا موجزا في معظمه ، وجاء قسم المدنى طويلا مسهبا في أكثره. ويرجع ذلك إلى ما أشرنا إليه قبلا من أن القرشيين في مكة كانوا فى الذؤابة من قبائل العرب ، ذكاء وألمعية ، وفصاحة وبلاغة ، وشرفا وشجاعة فلا بدع أن يخاطبهم القرآن بالقصير من سوره وآياته ، رعاية لحق قانون البلاغة والبيان ، فى خطاب الذكى النابه ، بغير ما يخاطب به من كان دونه. ولا يقدح في مزايا المكيين هذه أنهم كانوا أميين لم يستنيروا بثقافة المدنيين ، فللثقافة والاستنارة ميدان ، وللذكاء والتمهر فى البيان ميدان وأهل المدينة لم يكونوا على استنارتهم ليبلغوا شأن قريش في تلك الخصائص والمزايا ، وكان منهم أهل كتاب درجوا على ألا يستفيدوا إلا بالتطويل ، ولا يقنعوا إلا ببسط الكلام.

ومن هنا تعرف مبلغ ما في هذه الشبهة من زيف وكذب فيما رتبوه على هذا من أن القرآن كان نتيجة لتأثر محمد بانحطاط أهل مكة في القسم المكى ، وباستنارة أهل المدينة في القسم المدنى ، حتى جاء قرآنه قصيرا في الأول ، طويلا في الثانى.

٢١٠

رابعا ـ أن القرآن قد تحدّى الناس جميعا مكيّهم ومدنيّهم ، وعربيّهم وعجميّهم ، أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من تلك السور القصيرة ، فعجزوا أجمعين ، وأسلم المنصفون منهم لله رب العالمين. فلو كان القصر أثرا للانحطاط كما يقول أولئك المرجفون ، لكان في مقدور الممتاز غير المنحطّ أن يأتى بمثل ذلك المنحط ، بل بأرقى منه (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

وإذا أراد أولئك المتقولون ، أن يعللوا القصر والطول بأن المكى لم يتعرض لتفاصيل التشريع بخلاف المدنى ، فإليك هذه الشبهة وتمحيصها فيما يليك.

الشبهة الثالثة

يقولون : إن القسم المكى خلا من التشريع والأحكام ، بينما القسم المدنى مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام. وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد وتأليفه تبعا لتأثره بالوسط الذى يعيش فيه ، فهو حين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكى خاليا من العلوم والمعارف العالية ، ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدنى مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية.

وننقض هذه الشبهة : (أولا) ـ بأن القسم المكى لم يخل جملة من التشريع والأحكام ، بل عرض لها وجاء عليها ، ولكن بطريقة إجمالية ، فإن مقاصد الدين خمسة : (١) الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره (٢) وحفظ النفس (٣) وحفظ العقل (٤) وحفظ النسل (٥) وحفظ المال. وقد تحدّث القسم المكى عنها إجمالا. اقرأ إن شئت قوله تعالى من سورة الأنعام المكية (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى تمام ثلاث آيات بعدها ، جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة.

ولا يخفى عليك أن آيات العقائد في القسم المكى ظاهرة واضحة ، وكثيرة شائعة ،

٢١١

ليست من موضوع الاشتباه ، ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف.

(ثانيا) ـ أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ، ليس نتيجة لما زعموه.

إنما هو أمر لا بدّ منه في سياسة الأمم ، وتربية الشعوب ، وهداية الخلق. ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل ، والتدرّج حليف التوفيق والنجاح ، وتقديم الأهمّ على المهمّ واجب فى نظر الحكمة. لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهمّ : بدأهم بإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية ، وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح ، حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم ، وشعروا بمسئولية البعث والجزاء ، وتقرّرت فيهم هذه العقائد الراشدة ، فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق ، وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات ، ثم كلفهم ما لا بدّ منه من أمهات العبادات. وهذا ما كان فى مكة. ولما مرنوا على ذلك ، وتهيأت نفوسهم للترقى والكمال ، بتطاول الأيام والسنين ، وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة ، جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام ، وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.

ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم ، من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخفّ المسائل وأوجزها ؛ فيما يشبه قصار السور ، ومختصر القصص ، حتى إذا تقدّمت بهم السن وعظم الاستعداد ، تلاطم بحر التعليم وزاد ، على حدّ قولهم. «الإمداد على قدر الاستعداد».

أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد بأهل المدينة المستنيرين ؛ فينقضه أن القرآن جاء يصلح عقائد أهل الكتاب وأخطاءهم في التشريع وفي التحليل والتحريم ، وفي الأخبار والتواريخ ، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ وهل

٢١٢

يستمدّ الحىّ حياته من ميّت؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الخ وقوله جلّ ذكره : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟) الخ وقوله عزّ اسمه : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) الخ وهذه الآيات من سورة آل عمران : وقوله تعالت قدرته من سورة المائدة (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) الخ.

(ثالثا) أن ما زعموه لو كان صحيحا ، لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة ، وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة ، ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوّة والرسالة ، ولسبق محمدا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجّار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيّما اختلاط.

(رابعا) أن القرآن تحدّى الكافّة من مكيين ومدنيين ، بل من جنّ وإنس ، فهلّا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة! يا لها قرية! ثم يا لها صفاقة!.

«هذا كلام له خبيء

معناه : ليست لنا عقول»

الشبهة الرابعة

يقولون : إن القرآن أقسم كثيرا بالضحى والليل ، والتين والزيتون وطور سينين ، وكثير من المخلوقات. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية ، يدلّ على تأثّر القرآن بالبيئة في مكة ، لأن القوم فيها كانوا أميين ، لا تعدو مداركهم حدود الحسيات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة ، وهم قوم مثقّفون مستنيرون ،

٢١٣

فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقى الجديد ، وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة.

وهذه الشبهة مدفوعة «أولا» : بما قدّمنا من أن أهل مكة كانوا أرقى ذوقا ، وأعلى كعبا ، وأعظم ذكاء ، من أهل المدينة ، وأن الخطاب معهم كان ملحوظا فيه اشتماله على أسرار وخصائص لا يدركها إلا المتفوّقون والمتمهّرون في صناعة البيان ، فلا يستقيم إذن ما زعموه من أن مدارك أهل مكة كانت لا تعدو حدود الحسيّات.

والتاريخ خير شاهد ، وأعدل حاكم بامتياز العرب في مكة عن سائر القبائل على عهد نزول القرآن.

(ثانيا) أن القسم بالأمور الحسية في القرآن كالضحى والليل ، ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون ، إنما منشؤه رعاية مقتضى الحال فيما سيق القسم لأجله ، وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم ، وهى عقيدة الشرك. ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة ، وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها ، إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شئون الله وخلق الله ، وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ، ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ، ما دام هو الخالق وحده ، لأنه لا يستحق العبادة عقلا ، إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا. (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟.

فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد ، بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله ، إلزام لهم بطرح الشرك ، وتوحيد الخالق. وهذا مطمح نبيل ، أجاد القرآن فى أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله ، وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية ، واصلا إلى قمة الإعجاز كعادته ، متفننا في ذكر النعم ، منوعا في سردها وبيانها. فمرّة يحدّث عن خلق السماء ، ومرة عن خلق الأرض ، وثالثة عن أنفسهم ، ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد ، وهلم جرّا. وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح ،

٢١٤

وتارة يختار طريقة الحلف والقسم لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التى أودعها الله في هذه النعم دالة على توحيده وعظمته ، حتى صحّ أن يدور القسم عليها ، وأن يجيء الحلف بها.

ومن هنا أقسم الله بما أقسم من الأمور الحسية والمعنوية ، فالأمور الحسية كما ذكرنا ، والمعنوية مثل القرآن الكريم في قوله سبحانه : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لينبّههم إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها ، حسّيها ومعنويّها ، فيرعووا عن شركهم بتلك الآلهة المزيفة التى لا تملك ضرّا ولا نفعا ، وليس لها أىّ شأن في هذا الخلق. على حدّ قوله سبحانه في سورة الأحقاف : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).

وأنت خبير بأن المصاب بداء الشرك لا سبيل إلى إنقاذه منه إلا بمثل هذه الطريقة المثلى ، التى سلكها القرآن بعرض دلائل التوحيد من آيات الله في الآفاق على أنظار المشركين ، وهذا سبيل متعين في خطاب كل مشرك ولو كان واحد الفلاسفة ، ووحيد العباقرة ، وأستاذ المثقفين والمستنيرين. فحلف القرآن بأمثال هاتيك المخلوقات والحسيات ، ليس دالّا على سذاجة المخاطبين وانحطاطهم ، وليس بالتالى سبيلا إلى الطعن في القرآن بأنه كلام محمد المتأثر بانحطاط البيئة المكية كما يرجفون : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ).

(ثالثا) أن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوّقهم في الفهم والذكاء والفصاحة والبيان.

٢١٥

ذلك أن القسم بها كما قلنا ، إشارة إلى الأسرار العظيمة التى وضعها الله في تلك الأمور التى أقسم بها. حتى صحّ أن يكون مقسما بها. وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب ، لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم ، فلا يفهمها إلا من كمل عقله ، وسلّم ذوقه. ولنشرح لك بعض الأسرار ، ليتبين الحال ، ولا يبقى للشبهة مجال.

(المثال الأول) أقسم الله سبحانه بالضحى والليل في قوله : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وسبب نزول هذه الآيات : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتر عنه الوحى مرة لا ينزل بقرآن ، فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه؟ أى تركه وأبغضه ، فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم ، مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحى على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة الضحى ، تقوى به الحياة ، وتنمى به الناميات ، وما عرض بعد ذلك من فترة الوحى فهو بمنزلة الليل إذا سجى ، لتستريح فيه القوى وتستعدّ فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاقى من الوحى شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضى الله عنها ترجف بوادره ، كما هو معروف في حديث الصحيحين. فكانت فترة الوحى لتثبيته عليه الصلاة والسلام ، وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتمّ به حكمة الله في إرساله إلى الخلق. ولهذا قال له. (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أى إن كرّة الوحى ثانيا سيكمل بها الدين ، وتتمّ بها نعمة الله على أهله ، وأين بداية الوحى من نهايته؟ وأين إجمال الدين الذى جاء في قوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) الخ من تفصيل العقائد والأحكام الذى جاء في مثانى القرآن؟ ثم زاد الآمر تأكيدا بقوله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ، ليس مجرد تذكير

٢١٦

بآياته ونعمه فحسب. بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزّل الوحى أشبه بضحوة النهار ، وأن فترة الوحى أشبه بهدأة الليل ، فاذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم ، لما فيهما من نفع الإنسان بالسعى والحركة والحياة بالنهار ، والنوم والاستحمام بالليل ، يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجرى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نزول الوحى وفترته للمعنى الذى سلف

(المثال الثانى) أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون في قوله جل ذكره : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصّه :

وقد يرجح أنهما (أى التين والزيتون) النوعان من الشجر ، ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا ، بل لما يذكّران به من الحوادث العظيمة التى لها الآثار الباقية في أحوال البشر. قال صاحب هذا القول : إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل ، فإنه كان يستظلّ في تلك الجنة التى كان فيها بورق التين ، وعند ما بدت له ولزوجته سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. (والزيتون) إشارة إلى عهد نوح عليه‌السلام وذريته ، وذلك أنه بعد أن فسد البشر وأهلك من أهلك منه بالطوفان ، ونجى نوح في سفينته ، واستقرت السفينة ، نظر نوح إلى ما حوله ، فرأى المياه لا تزال تغطى وجه الأرض ، فأرسل بعض الطيور لعله يأتى إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض ، فغاب ولم يأت بخبر ، فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون ، فاستبشر وسرّ ، وعرف أن غضب الله قد سكن ، وقد أذن للأرض أن تعمر ، ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التى امّحى عمرانها ، فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة وهى من أكبر ما يذكر من الحوادث.

(وَطُورِ سِينِينَ) إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية ، وظهور نور التوحيد في العالم ،

٢١٧

بعد ما تدنّست جوانب الأرض بالوثنية ، وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال الأمد على قومه فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين ، وحجب نوره بالبدع ، وإخطاء معناه بالتأويل ، وإحداث ما ليس منه بسبيل ، فمنّ الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ، ويفصل بين ما سبق من أطوار الانسانية وبين ما يلحق ، وهو عهد ظهور النور المحمدى من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذى فصلنا بيانه ، يتناسب القسم والمقسم عليه. ا ه ما أردنا نقله.

الشبهة الخامسة

يقولون : إن القسم المكى من القرآن قد اشتمل على لغو من الكلام في كثير من فواتح السور مثل «الم وكهيعص». وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى ، وأنه كلام الله. وأىّ بيان وأى هدى في قوله (الم) وقوله (كهيعص)؟ بل هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى ، بدليل أنه لم يهتد أحد منهم ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها. فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل ، وإنما هذه الألفاظ من وضع كتبة محمد من اليهود تنبيها على انقطاع كلام واستئناف آخر ، ومعناها (أوعز إلىّ محمد) أو (أمرنى محمد) يشيرون بذلك إلى براءتهم من الإيمان بما يأمرهم بكتابته. وقريب من هذا قول بعضهم : إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور ، إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف ، أو هى رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا.

٢١٨

وننقض هذه الشبهة بأمور : (أولها) أنه لم يكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتبة من اليهود أبدا. وها هو التاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابى ، فليسألوه إن كانوا صادقين. (ثانيا) أنه لا دليل لهم أيضا على أن فواتح هذه السور تستعمل في تلك المعانى التى زعموها وهى (أوعز إلىّ محمد) أو (أمرنى محمد) ، لا عند اليهود ولا عند غيرهم في أية لغة من لغات البشر. (ثالثها) أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا. ولو كان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به ، وتوجيها له ، لأنهم كانوا أشد الناس عداوة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، يتمنّون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أى نوع يكون ، ليهدموا به دعوة الإسلام. كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق؟ (رابعها) : أن اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافى وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة ، فإن هذه الأوصاف يكفى في تحقّقها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعه لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ، ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجواب مبنىّ على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور ، وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا ، بل هو من الأسرار التى استأثر الله بعلمها ، ولم يطلع عليها أحدا من خلقه. وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهى ابتلاؤه سبحانه ، وتمحيصه لعباده ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، وصادق الإيمان من المنافق ، بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ، ودلائل هدايته ، وشواهد رحمته ، فى غير تلك الفواتح من كتابه ، بين آيات وسور كثيرة ، لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر ، أو غيضا من فيض.

٢١٩

فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ، ولو لم يفهموا معناها ، ولم يدركوا مغزاها. ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم ، عمّت حكمته ما خفى وما ظهر من معانى كتابه ، ووسع علمه كل شىء عرفه الخلق أولم يعرفوه من أسرار تنزيله. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)

ونظير ذلك أن يكون لك أصدقاء تريد أن تعرفهم أو تعرف منهم مدى صداقتهم لك ، فتبتليهم بأمور يزلّ عندها المزيّفون ، ويظهر الصادقون.

على حد قول القائل : ـ وعلى حدّ المثل القائل : «إنّ أخاك من واساك».

ابل الرّجال إذا أردت إخاءهم

وتوسّمنّ فعالهم وتفقّد

فإذا ظفرت بذى اللّبانة والتّقى

فيه اليدين قرير عين فاشدد

ونظير ذلك أيضا أن تكون أستاذا معلما ، وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك ، ومبلغ ثقتهم فيك وفي علمك ، بعد أن زوّدتهم منك بدراسات واسعة وتعاليم واضحة فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شىء من الإلغاز والخفاء ، ليظهر الذكىّ من الغبىّ ، والواثق بك الوامق لك ، من المتشكك فيك المتردّد في علمك وفضلك. فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعمّيات ، صدرت عن علم منك بها وإن لم يعلم هو تفسيرها ، ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخفاء ، وهى الاختبار والابتلاء. وأما المتشكك فيك فيقول : ما ذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذى فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التى زوّدته بها من قبل ذلك ، وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل.

٢٢٠