مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

تفيد هذه المبالغة. ومجموع القراءتين يحكم بأمرين : أحدهما أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر. وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما أنها لا يقربها زوجها أيضا إلا إن بالغت في الطهر وذلك بالاغتسال ، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء. وهو مذهب الشافعى ومن وافقه أيضا.

ومنها الدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين : كقوله تعالى في بيان الوضوء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرئ بنصب لفظ «أرجلكم» ويجرها ، فالنصب يفيد طلب غسلها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ «وجوهكم» المنصوب ، وهو مغسول. والجرّ يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ «رءوسكم» المجرور ، وهو ممسوح. وقد بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المسح يكون للابس الخف وأنّ الغسل يجب على من لم يلبس الخف.

ومنها دفع توهم ما ليس مرادا كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وقرئ «فامضوا إلى ذكر الله».

فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشى إلى صلاة الجمعة ، ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضىّ ليس من مدلوله السرعة.

ومنها بيان لفظ مبهم على البعض نحو قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) وقرئ «كالصوف المنفوش» فبينت القراءة الثانية أنّ العهن هو الصوف.

ومنها تجلية عقيدة ضلّ فيها بعض الناس : نحو قوله تعالى في وصف الجنة وأهلها : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) جاءت القراءة بضم الميم

١٤١

وسكون اللام في لفظ (وَمُلْكاً كَبِيراً) وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة ، لأنه سبحانه هو الملك وحده في تلك الدار (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

والخلاصة : أن تنوّع القراءات ، يقوم مقام تعدّد الآيات. وذلك ضرب من ضروب البلاغة ، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهى إلى كمال الإعجاز.

أضف إلى ذلك ما في تنوّع القراءات من البراهين الساطعة ، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله ، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن هذه الاختلافات فى القراءة على كثرتها لا تؤدى إلى تناقض في المقروء وتضاد ، ولا إلى تهافت وتخاذل ، بل القرآن كله على تنوّع قراءته ، يصدّق بعضه بعضا ، ويبين بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض ، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير ، وهدف واحد من سموّ الهداية والتعليم. وذلك ـ من غير شك ـ يفيد تعدّد لإعجاز بتعدّد القراءات والحروف.

ومعنى هذا أن القرآن يعجز إذا قرئ بهذه القراءة ، ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية ، ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة ، وهلمّ جرا. ومن هنا تتعدّد المعجزات بتعدّد تلك الوجوه والحروف!.

ولا ريب أن ذلك أدلّ على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان ، على كل حرف ووجه ، وبكل لهجة ولسان. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(الشاهد الثانى) أن مرّات استزادة الرسول للتيسير على أمته ، كانت ستا غير الحرف الذى أقرأه أمين الوحى عليه أول مرة فتلك سبعة كاملة بمنطوقها ومفهومها

١٤٢

تأمل حديث ابن عباس السابق وقول الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «أقرأنى جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى بلغ سبعة أحرف» وكذلك جاء في حديث لأبى بكرة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة» ، يضاف إلى ذلك المراجعات الثابتة في الأحاديث الأخرى ، وإن كانت لم تبلغ ستّا صراحة ، غير أن الحديث جاء بلفظ السبعة ، فيعلم من مجموع تلك الروايات ، أنّ المراد بلفظ سبعة حقيقة العدد المعروف في الآحاد بين الستة والثمانية.

(الشاهد الثالث) أن من قرأ حرفا من هذه الحروف ، فقد أصاب شاكلة الصواب أيا كان ذلك الحرف ، كما يدلّ عليه فيما مضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل من المختلفين في القراءة : (أصبت) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما في رواية ابن مسعود : (كلا كما محسن) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عمرو ابن العاص : (فأىّ ذلك قرأتم أصبتم) وعدم موافقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر ، وأبىّ ، وابن مسعود ، وعمرو بن العاص ، على معارضة مخالفيهم بالطرق الآنفة فى الأحاديث السالفة. ودفعه في صدر أبىّ حين استصعب عليه أن يقرّ هذا الاختلاف فى القراءة. ولا ريب أن ذلك كله فيه معنى النهى البالغ عن منع أى أحد من القراءة بأى حرف من الأحرف السبعة النازلة.

(الشاهد الرابع) : أن القراءات كلها على اختلافها كلام الله ، لا مدخل لبشر فيها. بل كلها نازلة من عنده تعالى ، مأخوذ بالتلقى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يدلّ على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يرجعون فيما يقرءون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأخذون عنه ، ويتلقون منه كل حرف يقرءون عليه. انظر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءة كل من المختلفين : (هكذا أنزلت) وقول المخالف لصاحبه : «أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

١٤٣

ثم أضف إلى ذلك أنه لو صحّ لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفه أو غير مرادفه ، لبطلت قرآنية القرآن وأنه كلام الله ، ولذهب الإعجاز ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). ثم إن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه في سورة يونس : (وقال الّذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. قل ما يكون لى أن أبدّله من تلقاء نفسى ، إن أتّبع إلّا ما يوحى إلىّ إنّى أخاف إن عصيت ربّى عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون).

فإذا كان أفضل الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تحرّج من تبديل القرآن بهذا الأسلوب ، فكيف يسوغ لأحد مهما كان أمره أن يبدّل فيه ويغير ، بمرادف أو غير مرادف؟ (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

(الشاهد الخامس) أنه لا يجوز منع أحد من القراءة بأى حرف من تلك الأحرف السبعة النازلة. يدلّ على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا تماروا فيه ، فإنّ المراء فيه كفر» وعدم موافقته لعمر ، وأبى ، وابن مسعود ، وعمرو بن العاص ، على معارضة مخالفيهم بالطرق الآنفة ، فى الأحاديث السالفة. ويدلّ على ذلك أيضا دفعه في صدر أبىّ حين استصعب عليه أن يقرّ هذا الاختلاف في القراءة. ولا ريب أن ذلك كله فيه معنى النهى البالغ عن منع أىّ أحد من القراءة بأى حرف من الأحرف السبعة النازلة.

(الشاهد السادس) أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا متحمّسين في الدفاع عن القرآن ، مستبسلين في المحافظة على التنزيل ، متيقظين لكل من يحدث فيه حدثا ولو كان عن طريق الأداء واختلاف اللهجات ، مبالغين في هذه اليقظة حتى ليأخذون

١٤٤

فى هذا الباب بالظّنّة ، وينافحون عن القرآن بكل عناية وهمة. وحسبك استدلالا على ذلك ما فعل عمر بصاحبه هشام بن حكيم ، على حين أنّ هشاما كان في واقع الأمر على صواب فيما يقرأ ، وأنه قال لعمر تسويغا لقراءته : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن عمر لم يقنع ، بل لبّبه وساقه إلى المحاكمة ، ولم يتركه حتى قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهشام بأنه أصاب. قل مثل ذلك فيما فعل أبىّ بن كعب بصاحبه ، وما كان من ابن مسعود وعمرو بن العاص وصاحبيهما. والأحاديث بين يديك عن كثب ، فارجع إليها إن أردت.

(الشاهد السابع) أنه لا يجوز أن نجعل اختلاف القراءات معركة جدال ونزاع وشقاق ، ولا مثار تردد وتشكيك وتكذيب ، ولا سلاح عصبيّة وتنطع وجمود على حين أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كانت حكمته من الله التيسير والتخفيف والرحمة والتهوين على الأمة ، فما يكون لنا أن نجعل من هذا اليسر عسرا ، ومن هذه الرحمة نقمة!. يرشد إلى ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما سبق «فلا تماروا فيه فإنّ المراء فيه كفر» وكذلك تغير وجهه الشريف عند اختلافهم مع قوله : «إنما أهلك من قبلكم الاختلاف» وضربه في صدر أبىّ بن كعب حين جال بخاطره حديث السوء في هذا الموضوع الجليل.

(الشاهد الثامن) أن المراد بالأحرف في الأحاديث السابقة وجوه في الألفاظ وحدها لا محالة. بدليل أن الخلاف الذى صوّرته لنا الروايات المذكورة كان دائرا حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعانى ، مثل قول عمر : «إذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ثم حكم الرسول أن يقرأ كلّ منهما ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا أنزلت». وقوله : «أىّ ذلك قرأتم فقد أصبتم» ونحو ذلك ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ ، لا شرح المعانى.

(١٠ ـ مناهل العرفان ١)

١٤٥

٣ ـ معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

يهمنا بعد الذى أسلفنا إليك أن نبين لك معنى الجملة الشريفة : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» فإليك :

أما لفظ القرآن فقد أشبعناه كلاما في المبحث الأول. وأما الإنزال فقد استوفيناه تحقيقا في المبحث الثالث. وأما السبعة فقد علمت في الشاهد الثانى من الشواهد الماضية أن المراد بها حقيقتها وهى العدد المعروف في الآحاد بين الستة والثمانية. وأما الأحرف فجمع حرف ، والحرف يطلق على معان كثيرة ، أتى عليها صاحب القاموس إذ يقول ما نصه : «الحرف من كلّ شىء طرفه ، وشفيره ، وحدّه ، ومن الجبل أعلاه المحدّد ، وواحد حروف التهجّى ، والناقة الضامرة أو المهزولة أو العظيمة ، ومسيل الماء ، وآرام سود ببلاد سليم. وعند النحاة ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. «ومن النّاس من يعبد الله على حرف» أى وجه واحد ، وهو أن يعبده على السراء لا على الضراء. ، أو على شكّ ، أو على غير طمأنينة من أمره ، أى لا يدخل فى الدين متمكّنا. «ونزل القرآن على سبعة أحرف : سبع لغات من لغات العرب. وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه وإن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر. ولكن معناه أنّ هذه اللغات السبع متفرّقة في القرآن» ا ه بتصرف قليل. وهذه الإطلاقات الكثير تدلّ على أنّ لفظ الحرف من قبيل المشترك اللفظى ، والمشترك اللفظىّ يراد به أحد معانيه التى تعينها القرائن وتناسب المقام.

وأنسب المعانى بالمقام هنا في إطلاقات لفظ الحرف أنه الوجه بالمعنى الذى سنقصه عليك ، لا بالمعنى الذى ذهب إليه صاحب القاموس وغيره من أنه اللغة أو غيرها. فسيأتيك تفنيد هذه الآراء بعد.

١٤٦

ثم إن كلمة (على) فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» تشير إلى أن المسألة على هذا الشرط من التوسعة والتيسير ، أى أنزل القرآن موسعا فيه على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه ، يقرأ بأىّ حرف أراد منها على البدل من صاحبه ، كأنه قال : أنزل على هذا الشرط وعلى هذه التوسعة.

وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه ؛ إذا لقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ هذا القرآن أنزل سبعة أحرف» بحذف لفظ (على). بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة ، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه ، مهما كثر ذلك التعدّد والتنوّع في أداء اللفظ الواحد ، ومهما تعدّدت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة. فكلمة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) التى ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة ، وكلمة «وعبد الطّاغوت» التى ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة ، وكلمة «أفّ» التى أوصل الرمانى لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة ، كل أولئك وأشباه أولئك ، لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة.

١٤٧

٤ ـ الوجوه السبعة في المذهب المختار

بقى علينا أن نتساءل : ما هى تلك الوجوه السبعة التى لا تخرج القراءات عنها مهما كثرت وتنوّعت في الكلمة الواحدة؟.

هنا يحتدم الجدال والخلاف ، ويكثر القيل والقال.

والذى نختاره ـ بنور الله وتوفيقه ـ من بين تلك المذاهب والآراء هو ما ذهب إليه الإمام أبو الفضل الرازى في اللوائح إذ يقول :

الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف :

(الأول) : اختلاف الأسماء من إفراد ، وتثنية ، وجمع ، وتذكير ، وتأنيث.

(الثانى) : اختلاف تصريف الأفعال من ماض ، ومضارع ، وأمر.

(الثالث) : اختلاف وجوه الإعراب.

(الرابع). الاختلاف بالنقص والزيادة.

(الخامس) : الاختلاف بالتقديم والتأخير.

(السادس) : الاختلاف بالإبدال (السابع) : اختلاف اللغات «يريد اللهجات» كالفتح والإمالة ، والترقيق والتفخيم ، والإظهار والإدغام ، ونحو ذلك ا ه ، غير أن النقل كما ترى لم يشفع بتمثيل فيما عثرنا.

ويمكن التمثيل للوجه الأول منه وهو اختلاف الأسماء. بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) قرئ هكذا : «لأماناتهم» جمعا وقرئ «لأمانتهم» بالإفراد.

١٤٨

ويمكن التمثيل للوجه الثانى وهو اختلاف تصريف الأفعال بقوله سبحانه : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرئ هكذا بنصب لفظ «ربنا» على أنه منادى وبلفظ «باعد» فعل أمر ، وبعبارة أنسب بالمقام «فعل دعاء». وقرئ هكذا : «ربّنا بعّد» برفع «رب» على أنه مبتدأ وبلفظ «بعد» فعلا ماضيا مضعف العين جملته خبر.

ويمكن التمثيل للوجه الثالث ، وهو اختلاف وجوه الإعراب ، بقوله سبحانه : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) قرئ بفتح الراء وضمها ، فالفتح على أن «لا» ناهية ، فالفعل مجزوم بعدها ، والفتحة الملحوظة في الراء هى فتحة إدغام المثلين. أما الضمّ فعلى. أنّ «لا» نافية ، فالفعل مرفوع بعدها.

ومثل هذا المثال ، قوله سبحانه : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قرئ برفع لفظ «المجيد» وجره. فالرفع على أنه نعت لكلمة «ذو» ، والجرّ على أنه نعت لكلمة «العرش».

فلا فرق في هذا الوجه بين أن يكون اختلاف وجوه الإعراب في اسم أو فعل كما رأيت.

ويمكن التمثيل للوجه الرابع : وهو الاختلاف بالنقص والزيادة. بقوله سبحانه.(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضا «والذكر والأنثى» بنقص كلمة «ما خلق».

ويمكن التمثيل للوجه الخامس ـ وهو الاختلاف بالتقديم والتأخير ـ بقوله سبحانه : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) وقرئ «وجاءت سكرة الحقّ بالموت».

ويمكن التمثيل للوجه السادس ـ وهو الاختلاف بالإبدال ـ بقوله سبحانه : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاى وقرئ «ننشرها» بالراء ، وكذلك قوله سبحانه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) بالحاء ، وقرئ «وطلع» بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضا بين الاسم والفعل.

ويمكن التمثيل للوجه السابع ـ وهو اختلاف اللهجات ـ بقوله سبحانه : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) تقرأ بالفتح والإمالة في «أتى» ولفظ «موسى» فلا فرق في هذا

١٤٩

الوجه أيضا بين الاسم والفعل. والحرف مثلهما نحو (بَلى قادِرِينَ) قرئ بالفتح والإمالة في لفظ «بلى».

٥ ـ لما ذا اخترنا هذا المذهب

وإنما اخترنا هذا المذهب لأربعة أمور :

(أحدها) : أنه هو الذى تؤيده الأدلة في الأحاديث العشرة الماضية وما شابهها.

(ثانيها) : أنه هو الراجح في تلك الموازين التى أقمناها شواهد بارزة من تلك الأحاديث الواردة. فارجع النظر إليها ، ولا داعى لإعادتها. أما المذاهب الأخرى فسترى أن التوفيق أخطأها في رعاية تلك الأدلة أو بعضها ، وستطيش بين يديك في موازين هذه الشواهد قليلا أو كثيرا.

(ثالثها) : أن هذا المذهب يعتمد على الاستقراء التام لاختلاف القراءات وما ترجع إليه من الوجوه السبعة ، بخلاف غيره فإن استقراءه ناقص أو في حكم الناقص. فكلمة «أف» التى أوصلها الرمانى إلى سبع وثلاثين لغة يمكن ردّ لغاتها جميعا إلى هذه الوجوه السبعة ولا تخرج عنها. وكذلك الاختلاف في اللهجات ـ وهو اختلاف شكلىّ ـ يردّ إليها ولا يخرج عنها. بخلاف الآراء الأخرى فإنه يتعذر أو يتعسر الرجوع بالقراءات كلها إليها. وليس من صواب الرأى أن يحصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأحرف التى نزل عليها القرآن فى سبعة ثم نترك نحن طرقا في القراءات المروية عنه دون أن نردّها إلى السبعة ؛ لأن ذلك يلزمه أحد خطرين : فإما أن تكون تلك الطرق المقروء بها غير نازلة ، وإما أن يكون هنا حرف نازل وراء السبعة الأحرف التى نزل عليها القرآن ، ويكون الحصر في كلاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير صحيح. وكلا هذين خطأ عظيم وإثم كبير.

(رابعها) أن هذا الرأى لا يلزمه محذور من المحذورات الآتية التى يستهدف لها الأقوال الأخرى ، وسنزجيها إليك قريبا ، فاصبر وما صبرك إلا بالله.

١٥٠

الذين قالوا بهذا المذهب

ولا يعزبن عن بالك أن هذا المذهب قد اختاره في جملته فحول من العلماء ، وقاربه كلّ القرب مذهب الإمام ابن قتيبة ، والمحقق ابن الجزرى ، والقاضى ابن الطيب كما يأتى :

ولا فرق بين آرائهم وبين هذا الرأى إلا اختلاف في طرق التتبع والاستقصاء ، والتعبير والأداء. وسيظهر لك أن الرازى كان أهدى منهم سبيلا ، وأكثر توفيقا حتى لقد ذهب العلامة ابن حجر إلى أن مذهب الرازى هو مذهب ابن قتيبة بعد تنقيحه وتهذيبه ، فقال ما نصه : «وقد أخذ (أى الرازى) كلام ابن قتيبة ونقحه» ا ه.

وقد اختار هذا المذهب أيضا من المتأخرين بعض أعلام المحققين ، كالعلامة المرحوم الشيخ الخضرى الدمياطى والعلامة المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعى. لكن منهم من تغاضى عن الفروق الدقيقة التى بين الرازى ومذاهب أولئك الثلاثة الذين تشاركت آراؤهم فى الجملة ، ومنهم من صرّح بالاتّحاد بين هذه المذاهب جميعا وما شابهها ، واعتبر الخلاف بينها لفظيّا فحسب.

لهذا نرى أن نسوق إليك في هذا المقام تلك المذاهب الثلاثة أيضا ، جمعا بين المتشابهات من ناحية ، وتمهيدا لتحقيق الفرق بينها وبين مذهب الرازى من ناحية أخرى ، وزيادة في تنوير المذهب المختار وغيره من ناحية ثالثة.

أما ابن قتيبة فيقول :

إن المراد بالأحرف السبعة ، الأوجه التى يقع بها التّغاير :

(فأولها) ما تتغيّر حركته ، ولا يزول معناه ولا صورته ، مثل (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) بفتح الراء وضمها.

١٥١

(وثانيها) ما يتغيّر بالفعل مثل «بعّد وباعد» بلفظ الطلب والماضى.

(وثالثها) ما يتغيّر باللفظ مثل «ننشرها وننشزها» بالراء المهملة والزاى المعجمة.

(ورابعها) ما يتغيّر بإبدال حرف قريب المخرج مثل «طلح منضود وطلع منضود».

(وخامسها) ما يتغيّر بالتقديم والتأخير مثل : «وجاءت سكرة الموت بالحقّ وجاءت سكرة الحقّ بالموت».

(وسادسها) ما يتغيّر بالزيادة والنقصان مثل : «وما خلق الذّكر والأنثى.

والذكر والأنثى» بنقص لفظ «ما خلق».

(وسابعها) ما يتغيّر بإبدال كلمة بأخرى مثل : «كالعهن المنفوش. وكالصّوف المنفوش».

وأما ابن الجزرى فيقول :

قد تتبعت صحيح القراءات وشاذّها وضعيفها ومنكرها ، فإذا هى يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها.

١ ـ وذلك إما في الحركات بلا تغيّر في المعنى والصورة نحو «البخل» بأربعة أوجه «ويحسب» بوجهين.

٢ ـ أو بتغيّر في المعنى فقط نحو (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). برفع لفظ آدم ونصب لفظ كلمات ، وبالعكس.

٣ ـ وإما في الحروف بتغيّر المعنى لا الصورة نحو «تبلو وتتلو» ٤ ـ وعكس ذلك نحو «بصطة وبسطة» ونحو «الصّراط والسّراط».

٥ ـ أو بتغيّرهما نحو «فامضوا ، فاسعوا».

١٥٢

٦ ـ وإما في التقديم والتأخير نحو «فيقتلون ، ويقتلون» بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتين ، وبضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.

٧ ـ أو في الزيادة والنقصان نحو «أوصى ، ووصّى»

فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.

وأما القاضى ابن الطيب فيقول فيما يحكيه القرطبى عنه :

تدبّرت وجوه الاختلافات في القراءة فوجدتها سبعا :

١ ـ منها ما تتغيّر حركته ولا يزول معناه ولا صورته. مثل «هنّ أطهر لكم ، وأطهر» أى بإسكان الراء وضمها «ويضيق صدرى ، ويضيق صدرى» أى بإسكان القاف وضمها.

٢ ـ ومنها ما لا تتغيّر صورته ، ويتغيّر معناه بالإعراب مثل «ربّنا باعد بين أسفارنا ، وباعد» أى بصيغة الماضى والطلب :

٣ ـ ومنها ما تبقى صورته ، ويتغيّر معناه باختلاف الحروف ، مثل قوله «ننشرها ، وننشزها» أى بالراء وبالزاى.

٤ ـ ومنها ما تتغيّر صورته ويبقى معناه ، مثل «كالعهن المنفوش ، وكالصّوف المنفوش».

٥ ـ ومنها ما يتغيّر صورته ومعناه مثل : «وطلح منضود ، وطلع منضود».

٦ ـ ومنها التقديم والتأخير مثل : «وجاءت سكرة الموت بالحقّ ، وجاءت سكرة الحقّ بالموت».

٧ ـ ومنها الزيادة والنقصان نحو : «له تسع وتسعون نعجة. وله تسع وتسعون نعجة أنثى» أى بزيادة لفظ أنثى.

١٥٣

٦ ـ النسبة بين هذه المذاهب

ومذهب الرازى

ويذهب بعض الجهابذة إلى القول بالاتحاد بين هذه المذاهب الثلاثة ومذهب الرازى ، بل بينها جميعا وبين ما يشابهها ، ويجعل الخلاف بينها كلها لفظيا لا حقيقيا. وذلك تكلّف بعيد فيما أرى ، لأننا نلاحظ وجها كاملا في كلام الرازىّ ، لم ينوّه به واحد من أولئك الثلاثة. فهو فضلا عن أنه أدمج وجوههم السبعة في وجوه ستة بطريقته الدقيقة ، نجده قد عقد الوجه السابع لاختلاف اللهجات ، كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم ونحو ذلك.

على حين أننا ما رأينا واحدا من أولئك الأعلام الثلاثة عرض لهذا النوع من الاختلاف. بل وجدنا في كلامهم ما جعلهم يهملون هذا الوجه عن قصد وعمد.

فهذا ابن قتيبة يقول :

«وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام. والروم والإشمام ، والتخفيف والتسهيل ونحو ذلك ، فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوّع في اللفظ والمعنى ، لأن هذه الصفات المتنوعة فى أدائه ، لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا» ا ه.

ولكنى أرى أن هذا العذر الذى قدّمه ابن قتيبة لإهمال هذا الوجه ، لا يسوّغ ذلك الإهمال. فإن المسألة ليست مسألة أسماء وعناوين يترتّب عليها أن اختلاف اللهجات في اللفظ الواحد تخرجه عن أن يكون واحدا أو لا تخرجه ، بل المسألة مسألة رعاية أمر واقع تختلف به القراءات فعلا ويمكن أن يكون مثار النزاع السابق الذى دبّ بين الصحابة في اختلاف القراءات ، كما يمكن أن يكون أيضا مثارا للنزاع في كل عصر ومصر بين القراء ، إذا لم يعلموا أن الجميع من عداد الحروف السبعة التى نزل عليها القرآن. وذلك لأن تحريف القرآن

١٥٤

يحرم بما يمسّ صورته وطريق أدائه وكيفية لهجاته ، كما يحرم بما يمسّ جرهره وتغيير حروفه وكلماته وحركاته وترتيبه.

أمر آخر : هو أن التيسير على الأمّة ـ وهى الحكمة البارزة في نزول القرآن على سبعة أحرف ـ لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بحسبان هذا الوجه الذى نوّه به الرازى ؛ وهو اختلاف اللهجات. بل هذا قد يكون أولى بالحسبان وأحرى بالرعاية في باب التخفيف والتيسير ؛ لأنه قد يسهل على المرء أن ينطق بكلمة من غير لغته في جوهرها ، ولا يسهل عليه أن ينطق بكلمة من غير لغته نفسها بلهجة غير لهجته ، وطريقة في الأداء غير طريقته.

ذلك لأن الترقيق والتفخيم ، والهمز والتسهيل ، والإظهار والإدغام ؛ والفتح والإمالة ، ونحوها ، ما هى إلا أمور دقيقة ، وكيفيات مكتنفة بشيء من الغموض والعسر في النطق على من لم يتعوّدها ولم ينشأ عليها.

واختلاف القبائل العربية فيما مضى ، كان يدور على اللهجات في كثير من الحالات.

وكذلك اختلاف الشعوب الإسلامية وأقاليم الشعب الواحد منها الآن ، يدور في كثير من الحالات أيضا على اختلاف اللهجات.

وإذن فتخفيف الله على الأمة بنزول القرآن على سبعة أحرف ، لا يتحقق إلا بملاحظة الاختلاف في هذه اللهجات. حتى إن بعض العلماء جعل الوجوه السبعة منحصرة في اللهجات لا غير ، كما يأتى.

قال الإمام ابن قتيبة نفسه في كتاب المشكل ما نصّه : ـ «فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرئ كل أمة (لعله يريد بالأمّة القبيلة) بلغتهم ، وما جرت به عادتهم ، فالهذلىّ يقرأ «عتّى حين» يريد (حتّى حين» هكذا يلفظ بها ويستعملها (أى يقلب الحاء عينا في النطق). والأسدي يقرأ «يعلمون ، ونعلم ، وتسودّ وجوه ، ألم أعهد» بكسر حروف المضارعة في ذلك كله ، والتميمى يهمز ، والقرشى لا يهمز. والآخر يقرأ «قيل لهم ، وغيض الماء» بإشمام الضم مع الكسر

١٥٥

و «بضاعتنا ردّت إلينا» بإشمام الكسر مع الضم. و «مالك لا تأمنّا» بإشمام الضم مع الإدغام.

ثم قال ابن قتيبة أيضا : «ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده ، طفلا ويافعا وكهلا ، لاشتدّ ذلك عليه ، وعظمت المحنة فيه ، ولا يمكن إلا بعد رياضة للنفس طويلة ، وتذليل للسان ، وقطع للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه ، أن يجعل لهم متّسعا في اللغات ، ومتصرّفا في الحركات ، كتيسيره عليهم في الدين» ا ه.

فأنت تراه قد اعتبر اللهجات وطرق الأداء صراحة في هذه الكلمات.

وكذلك نجد العلامة ابن الجزرى ، يعترف بهذا الاختلاف في اللهجات ، ويقول ما نصّه : ـ وهذا يقرأ «عليهم ، وفيهم» بضم الهاء ، والآخر يقرأ «عليهمو ، ومنهمو» بالصلة. وهذا يقرأ «قد أفلح ، وقل اوحى ، وإذا خلوا إلى شياطينهم» بالنقل ، والآخر يقرأ «موسى ، وعيسى» بالإمالة. وغيره يلطّف. وهذا يقرأ «خبيرا بصيرا» بترقيق الراء ، والآخر يقرأ «الصّلاة ، والطّلاق» بالتفخيم ، إلى غير ذلك» ا ه.

ولكن من العجب العاجب أن هذين الإمامين الجليلين ، اللّذين اعترفا صراحة باختلاف اللهجات وطرق الأداء على هذا الوجه ، فاتهما أن ينظماه في سلك الوجوه السبعة التى نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة. والعصمة لله وحده.

فالأحقّ والأدقّ ما ذهب إليه الرازى!.

ولعل هذه الدقة ، وهذا الشمول الذى وفّق إليه الرازى في الوجوه السبعة هو التنقيح الذى نوّه به ابن حجر ، إذ قال. «وقد أخذ (أى الرازى) كلام ابن قتيبة ونقّحه».

وليس معناه الاتحاد بينهما ، لما علمت من وضوح الفرق ؛ وأن كلام الرازى أعمّ من كلام أولئك الثلاثة عموما مطلقا.

١٥٦

٧ ـ دفع الاعتراضات الواردة على هذا المذهب

اعترض على هذا المذهب وما قاربه من مذهب ابن قتيبة وابن الجزرى وابن الطيب بجملة اعتراضات نقدّمها إليك ، ثم نفنّدها بين يديك ، فيما يأتى :

«الاعتراض الأول» يقولون : إن هذا القول مع اختلاف قائليه في بيانه ، لم يذكر واحد منهم دليلا إلا أنه تتّبع وجوه الاختلاف في القراءة ، فوجدها لا تخرج عن سبعة. وهذا لا ينهض دليلا لأىّ واحد منهم على أنّ المراد بالأحرف السبعة الأوجه التى تختلف فيها القراءة.

ونجيب أولا : بأن هذا المذهب الذى اخترناه لم نختلف ولم نتردّد في بيانه. ثانيا : أنا أيّدناه بعدّة أدلّة لا بدليل واحد. ثالثا : أنا لا نسلم كون تتّبع وجوه الاختلاف فى القراءة لا يصلح دليلا لبيان الأحرف السبعة بهذه الوجوه السبعة. كيف؟ والاستقراء التام دليل من جملة الأدلة التى يحترمها المنطق القديم والمنطق الحديث ، ما دام مستوفيا لشروطه الثلاثة التى أولها أن تكون القضية الاستقرائية متضمنة حكما حقيقيا ، وثانيها أن تكون كلية حقيقية أى موضوعها كليّا حقيقيّا صادقا على ما وجد من أفراده فيما مضى ، وما هو موجود في الحال ، وما يمكن أن يوجد في المستقبل. وثالثها أن يكون الوصول إلى القضية الاستقرائية بواسطة الملاحظة والتجربة.

ولا ريب أن الوجوه السبعة التى ذكرها أبو الفضل الرازى تحقق في استقرائها الشروط الثلاثة ، لأن الرازى لاحظ كل وجوه الاختلاف فوجدها لا تخرج عن هذه السبعة ، ثم أصدر بعد هذا الاستقراء التام حكما حقيقيّا بأنه لا معنى لهذه الأحرف السبعة في الحديث الشريف سوى تلك الأوجه السبعة. وهو حكم يقوم على قضية كليّة سالبة كما ترى.

١٥٧

«الاعتراض الثانى» يقولون : إن طريق تتبّع أبى الفضل الرازى ، وابن قتيبة ، وابن الجزرىّ ، وابن الطيب ، يخالف بعضها بعضا. وهذا يدلّ على أنه يمكن الزيادة على سبعة وجوه.

ونجيب : بأن مجرد الاختلاف في طرق استقراء هؤلاء الأئمة لا يلزم منه إمكان الزيادة على سبعة في مذهب كل منهم. إنما يلزم ذلك من كان استقراؤه ناقصا دون من كان استقراؤه تاما. وقد أثبتنا أمامك أن استقراء الرازى تامّ مستوف لجميع شروط الإنتاج. ولا يضيره أن يسلك في طريقة استقرائه سبيلا لم يسلكها مخالفوه ، فلكل إنسان أن يختار في استقرائه ما شاء من الطرق التى يراها أصوب وأقرب ، ما دام ملتزما لشرائط إنتاجه. وإذا كان غيره قد وقع في نقص من تتبّعه واستقصائه ، فلا يضير ذلك مذهب الرازى القائم على الاستقراء التام في قليل ولا كثير. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

«الاعتراض الثالث» يقولون : إنك قد علمت أن الزيادة إلى سبعة أحرف كان الغرض منها الرخصة ، وأكثر الأمة يومئذ أمّىّ لا يكتب ولا يعرف الرسم ، وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها فحسب ، والرخصة ليست ظاهرة في قراءة الفعل المبنى للمجهول أو للمعلوم ، أو في إبدال حركة بأخرى ؛ أو حرف بآخر ، أو تقديم وتأخير ، فإن القراءة بأحدها لا توجب مشقة ، يسأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعافاة منها ويقول : «إن الأمّة لا تطيق ذلك» ، ويطلب التيسير على الأمة بإبدال حرف أو تغيير فعل من المضىّ إلى الأمر ، أو من البناء للمعلوم إلى البناء للمجهول هذا لا تفيده الروايات السابقة ولا تدلّ عليه.

ونجيب : بأنا لا نسلم خفاء الرخصة في قراءة الفعل المبنى للمجهول أو للمعلوم أو في إبدال حركة بأخرى ، أو حرف بآخر ، أو تقديم وتأخير. كيف؟ والرخصة في ذلك ظاهرة أيضا. بل هى ظاهرة فيما كان دونها وهو اختلاف اللهجات مع بقاء الكلمة ، والحرف ،

١٥٨

والحركة ، والترتيب بين الكلمات والحروف. وهذا نشاهده نحن ونحسّه في تيسّر أو تعسّر بعض صفات الحروف على بعض الناس في النطق ، دون صفات أخرى. فالبعض يسهل عليه التفخيم دون الترقيق ، أو الفتحة دون الإمالة ، أو الإظهار دون الإدغام ، والبعض يصعب عليه ذلك ويسهل عكسه. فكيف إذا تغيّرت الكلمات أو الحروف أو الحركات أو الترتيب؟.

«الاعتراض الرابع» يقولون : إنه لا يتصوّر وجود أوجه الخلاف في القراءات المذكورة في كلمة واحدة ، حتى يكون ذلك تيسيرا وتخييرا كما تقدم. وإن أرادوا أن ذلك متفرق في القرآن جميعه كالقائل باللغات السبع المتفرقة في القرآن لم يكن ثمّة رخصة ولا اختلاف بين الصحابة.

ونجيب : بأن هذا الاعتراض مبنىّ من أساسه على غفلة عن حقيقة هذا المذهب المختار وأشباهه ، لأنه عبارة عن وجود سبعة إليها ترجع جميع الاختلافات في القراءة دون أن تلتزم هذه الوجوه السبعة في الكلمة الواحدة ، ودون أن يقال إنها موزّعة أشتاتا على أبعاض القرآن. وإذا فالرخصة متحقّقة ، بل لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا بهذا القول. وما ذا عسى أن يبقى من التيسير والتخفيف وقد جمعت هذه الوجوه كلّ اختلاف في القراءات متواترها وصحيحها وضعيفها وشاذّها بكل طريق من طرق الاختلاف حتى ولو كان في اللهجات ، ولو وصلت لغات الكلمة إلى سبع وثلاثين ، كما أسلفنا في كلمة «أف» حكاية عن الرمانى.

«الاعتراض الخامس» يقولون : إن الرخصة قد وقعت ، وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم ، وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها.

وأجيب باحتمال أن يكون الانحصار المذكور وقع اتفاقا ، وإنما اطّلع عليه بالاستقراء.

١٥٩

والأقعد من هذا في الجواب أن يقال : إن الانحصار المذكور عرف بطريق الاستقراء التام ، وهو دليل من الأدلة القاطعة كما تقدّم الكلام عليه جوابا عن اعتراض سابق. وكون الرخصة وقعت واكثرهم أميون ، لا يقدح في بيان الحروف السبعة المذكورة ، لأن الحاجة لم تكن ماسّة إلى تحديد معنى الأحرف السبعة بهذا الوصف العنوانى التى اعتبرت به تلك الوجوه سبعة فحسبهم أن يعلموا أن وجوه الاختلاف بينهم سبعة وجوه ، ولا يضيرهم ألّا يستطيعوا العنونة عنها بما نعنون نحن ، ما داموا يعرفون السبعة تطبيقا في جميع مفردات القرآن ، وما داموا يعوّلون في القراءة على تلقّيهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى يؤمنون بأنه لا يغادر في إبلاغ القرآن وجها من وجوهه السبعة.

ونظير ذلك أنهم كانوا لا يعرفون تلك العناوين والأسماء والقوانين التى تتّصل بالإعراب والبناء ، ولكنهم كانوا يعرفون أكثر منّا كيف ينطقون نطقا صحيحا فصيحا منطبقا عليه ما عرفنا نحن بعد من تلك الأسماء والقواعد المتصلة بالإعراب والبناء.

١٦٠