مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

وسواء أكان ذلك السؤال المرفوع إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتّصل بأمر مضى نحو قوله سبحانه فى سورة الكهف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الخ. أم يتصل بحاضر نحو قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أم يتصل بمستقبل نحو قوله جل ذكره في سورة النازعات : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) الخ.

والمراد بقولنا (أيام وقوعه) الظروف التى ينزل القرآن فيها متحدثا عن ذلك السبب ، سواء أوقع هذا النزول عقب سببه مباشرة ، أم تأخر عنه مدة لحكمة من الحكم ، كما حدث ذلك حين سألت قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غدا أخبركم) ولم يستثن (أى لم يقل إلا أن يشاء الله) فأبطأ عليه الوحى خمسة عشر يوما على ما رواه ابن إسحاق ، وقيل ثلاثة أيام ، وقيل أربعين يوما ، حتى شقّ عليه ذلك. ثم نزلت أجوبة تلك المقترحات ، وفي طيّها يرشد الله تعالى رسوله إلى أدب الاستثناء بالمشيئة ويقول له في سورة الكهف : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ، وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

ثم إن كلمة «أيام وقوعه» فى تعريف سبب النزول ، قيد لا بدّ منه للاحتراز عن الآية أو الآيات التى تنزل ابتداء من غير سبب ، بينما هى تتحدّث عن بعض الوقائع والأحوال الماضية أو المستقبلة ، كبعض قصص الأنبياء السابقين وأممهم وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها.

وهو كثير في القرآن الكريم.

١٠١

٢ ـ فوائد معرفة أسباب النزول

زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول ، وأنها لا تعدو أن تكون تاريخا للنزول أو جارية مجرى التاريخ ، وقد أخطأ فيما زعم ؛ فإن لأسباب النزول فوائد متعددة ، لا فائدة واحدة : (الأولى) معرفة حكمة الله تعالى على التعيين ، فيما شرعه بالتنزيل ، وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيمانا على إيمانه ، ويحرص كلّ الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه ، لما يتجلى له من المصالح والمزايا التى نيطت بهذه الأحكام ، ومن أجلها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفا ، حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامى قام على رعاية مصالح الإنسان ، لا على الاستبداد والتحكم والطغيان ، خصوصا إذا لاحظ سير ذلك التشريع وتدرّجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه ، وقد مرّ بك في البحث السابق ، فلا نعيده ، ولا تغفل.

(الفائدة الثانية) الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. حتى لقد قال الواحدى : لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ا ه.

ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة : (الأول) قال الله تعالى في سورة البقرة : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ، إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) فهذا اللفظ الكريم يدلّ بظاهره على أن للإنسان أن يصلى إلى أيّة جهة شاء ، ولا يجب عليه أن يولى وجهه شطر البيت الحرام ، لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة ، أو فيمن صلّى باجتهاده ثم بان له خطؤه ، تبين له أن الظاهر غير مراد ، إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة

١٠٢

أو على المجتهد في القبلة إذا صلّى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضى الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل في الآية غير ذلك ، ولكن ما ذكرناه يكفيك.

(المثال الثانى) روى في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) من سورة آل عمران.

وقال : لئن كان كلّ امرئ فرح بما أوتى وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. وبقى في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شىء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه أى طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا. وهنا لك زال الإشكال عنه ، وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده.

(المثال الثالث) أشكل على عروة بن الزبير رضى الله عنه أن يفهم فرضيّة السعى بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

وإشكاله نشأ من أنّ الآية الكريمة نفت الجناح ، ونفى الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه ، وبقى في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ، فأفهمته أن نفى الجناح هنا ليس نفيا للفرضية ، إنما هو نفى لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من أن السعى بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظرا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له (إساف) وكان على المروة صنم يقال له (نائلة). وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسحوا بهما. فلما ظهر الإسلام وكسّر

١٠٣

الأصنام ، تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك ، فنزلت الآية. كذلك جاءت بعض الروايات.

لكن جاء في رواية صحيح البخارى ما نصه : فقال (أى عروة) لها (أى لعائشة) أرأيت قول الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) : فو الله ما على أحد جناح ألا يطّوّف بالصفا والمروة. قالت : بئسما قلت يا ابن أختى ، إن هذه لو كانت كما أوّلتها عليه ، كانت «لا جناح عليه ألا يطّوّف بهما» ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية التى كانوا يعبدونها عند المشلّل ، فكان من أهلّ يتحرّج أن يطوف بالصفا والمروة : فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، قالوا : يا رسول الله إنا كنّا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. قالت عائشة «وقد سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطوّاف بينهما» انتهى ما أردنا نقله. ومعنى يهلّون : يحجّون. ومناة الطاغية : اسم صنم ، وكان صخرة نصبها عمرو بن لحى بجهة البحر فكانوا يعبدونها. والمشلّل بضم الميم ، واللام الأولى مشدّدة مفتوحة : اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر. وقديد بضم القاف قرية بين مكة والمدينة. وكلمة «سنّ» معناها في هذا الحديث شرع ، أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب.

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ تدلّ على أنّ عروة فهم من جملة (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أنّ الجناح منفىّ أيضا عن عدم الطواف بهما ، وعلى ذلك تنتفى الفرضية ، وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفى الجناح ، أكثر ما يستعمل فى الأمر المباح. أما عائشة رضى الله عنها فقد فهمت. أن فرضية السعى بين الصفا والمروة مستفادة من السنة ، وأن جملة (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

١٠٤

لا تنافى تلك الفرضيّة كما فهم عروة إنّما الذى ينفيها أن يقال : «فلا جناح عليه ألّا يطوف بهما وإنما توجّه نفى الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة ، لأن هذا الحرج هو الذى كان واقرا في أذهان الأنصار ، كما يدلّ عليه سبب نزول الآية الذى ذكرته السيدة عائشة فتدبر.

(الفائدة الثالثة) دفع توهم الحصر ، عمّا يفيد بظاهره الحصر : نحو قوله سبحانه فى سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ). ذهب الشافعى إلى أن الحصر في هذه الآية غير مقصود ، واستعان على دفع توهّمه ، بأنها نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إلا أن يحرّموا ما أحل الله ويحلّوا ما حرّم الله ، عنادا منهم ومحادة لله ورسوله ، فنزلت الآية بهذا الحصر الصورى مشادّة لهم ومحادة من الله ورسوله ، لا قصدا إلى حقيقة الحصر.

نقل السبكى عن الشافعى انه قال ما معناه : «إن الكفار لما حرّموا ما أحلّ الله ، وأحلّوا ما حرّم الله ، وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال : لا حلال إلّا ما حرّمتموه ، ولا حرام إلا ما أحللتموه. نازلا منزلة من يقول لك : لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم إلا حلاوة ، والغرض المضادة لا النفى والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال : «لا حرام إلّا ما أحللتموه من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به» ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم ، لا إثبات الحلّ ا ه.

قال إمام الحرمين : وهذا في غاية الحسن ، ولو لا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية ا ه.

(الفائدة الرابعة) تخصيص الحكم بالسبب ، عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. فآيات الظهار في مفتتح سوة المجادلة ـ وقد تقدمت ـ

١٠٥

سببها أن اوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة ، والحكم الذى تضمّنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما (على هذا الرأى) ، أما غيرهما فيعلم بدليل آخر قياسا أو سواه. وبدهى أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا الحكم ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب. وبدون معرفة السبب تصير الآية معطّلة خالية من الفائدة.

(الفائدة الخامسة) معرفة أن سبب النزل غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصّص لها. وذلك لقيام الإجماع على أن حكم السبب باق قطعا. فيكون التخصيص قاصرا على ما سواه. فلو لم يعرف سبب النزول لجاز أن يفهم أنه مما خرج بالتخصيص ، مع أنه لا يجوز إخراجه قطعا للإجماع المذكور. ولهذا يقول الغزالى في المستصفى : (ولذلك يشير إلى امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد) غلط أبو حنيفة رحمه‌الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الولد للفراش). والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة : هو أخى وابن وليدة أبى ، ولد على فراشه. فقال عليه الصلاة والسلام ، (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب ؛ فأخرج الأمة من العموم» ا ه.

(الفائدة السادسة) معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين ؛ حتى لا يشتبه بغيره ، فيتهم البرىء ويبرّأ المريب (مثلا). ولهذا ردّت عائشة على مروان حين اتّهم أخاها عبد الرحمن ابن أبى بكر بأنه الذى نزلت فيه آية (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الخ من سورة الأحقاف. وقالت : (والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمّيه سمّيته» إلى آخر تلك القصة.

(الفائدة السابعة) تيسير الحفظ ، وتسهيل الفهم ، وتثبيت الوحى ، فى ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها. وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات ، والأحكام بالحوادث ، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعى

١٠٦

تقرّر الأشياء وانتقاشها في الذهن ، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر ، وذلك هو قانون تداعى المعانى ، المقرّر في علم النفس.

٣ ـ طريق معرفة سبب النزول

لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح ، روى الواحدى بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا الحديث إلّا ما علمتم فإنّه من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار. ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوّأ مقعده من النّار»

. ومن هنا لا يحلّ القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها ا ه.

وعلى هذا فإن روى سبب النزول عن صحابيّ فهو مقبول ، وإن لم يعتضد أى لم يعزّز برواية أخرى تقوّيه. وذلك لأن قول الصحابى فيما لا مجال للاجتهاد فيه ، حكمه حكم المرفوع إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه يبعد كل البعد أن يكون الصحابى قد قال ذلك من تلقاء نفسه ، على حين أنه خبر لا مردّ له إلا السماع والنقل ، أو المشاهدة والرؤية.

أما إذا روى سبب النزول بحديث مرسل ، أى سقط من سنده الصحابىّ وانتهى إلى التابعى ، فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا صحّ واعتضد بمرسل آخر وكان الراوى له من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة ، كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.

٤ ـ التعبير عن سبب النزول

تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرّح فيها بلفظ السبب فيقال : (سبب نزول الآية كذا) وهذه العبارة نصّ في السببية لا تحتمل

١٠٧

غيرها. وتارة لا يصرّح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادّة نزول الآية عقب سرد حادثة ، وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضا. ومثاله رواية جابر الآتية قريبا ومرة يسأل الرسول ، فيوحى إليه ويجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ، ولا تعبير بتلك الفاء ، ولكن السببية تفهم قطعا من المقام ، كرواية ابن مسعود الآتية عند ما سئل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح. وحكم هذه أيضا حكم ما هو نصّ في السببية. ومرة أخرى لا يصرّح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء ، ولا بذلك الجواب المبنى على السؤال ، بل يقال : نزلت هذه الآية في كذا (مثلا). وهذه العبارة ليست نصّا في السببية ، بل تحتملها وتحتمل أمرا آخر ، هو بيان ما تضمّنته الآية من الأحكام. والقرائن وحدها هى التى تعيّن أحد هذين الاحتمالين أو ترجّحه.

ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد : إحداهما نصّ في السببية لنزول آية أو آيات ، والثانية ليست نصا في السببية لنزول تلك الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نصّ ، ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية ، لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل.

مثال ذلك : ما أخرجه مسلم عن جابر قال : كانت اليهود تقول «من اتى امرأة من دبرها (فى قبلها) جاء الولد أحول» ، فأنزل الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) من سورة البقرة ... وما أخرجه البخارى عن ابن عمر قال : (أنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فى إتيان النساء في أدبارهنّ).

فالمعول عليه في بيان السبب هى رواية جابر الأولى ، لأنها صريحة في الدلالة على السبب وأما رواية ابن عمر فتحمل على أنها بيان لحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم. استنباطا منه.

١٠٨

أما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات ليس شىء منها نصّا ، كان يقول بعض المفسرين : نزلت هذه الآية في كذا. ويقول الآخر : نزلت في كذا «ثم يذكر شيئا آخر غير ما ذكره الأول» ، وكان اللفظ يتناولهما ، ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية ، فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله اللفظ من المدلولات.

ولا وجه لحملهما على السبب.

وأما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات كلها نصّ في السببية ، فهنا يتشعّب الكلام. ولنفرده بعنوان :

٥ ـ تعدّد الأسباب والنازل واحد

إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن ، وذكرت كلّ من الروايتين سببا صريحا غير ما تذكره الأخرى ، نظر فيهما. فإما أن تكون إحداهما صحيحة ، والأخرى غير صحيحة. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولكن لإحدهما مرجّح دون الأخرى. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، ولكن يمكن الأخذ بهما معا. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ، ولا مرجّح ، ولا يمكن الأخذ بهما معا. فتلك صور أربع ، لكلّ منها حكم خاصّ نسوقه إليك :

«أما الصورة الأولى» ـ وهى ما صحّت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى ـ فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب. وردّ الأخرى غير الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال : «اشتكى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتته امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلّا قد تركك» فأنزل الله : (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). وأخرج الطبرانىّ وابن أبى شيبة ، عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وكانت

١٠٩

خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ جروا دخل بيت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحى فقال : يا خولة ما حدث فى بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ جبريل لا يأتينى. فقلت في نفسى : لو هيّأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فأخرجت الجرو ، فجاء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد (١) لحيته ، وكان إذا نزل عليه أخذته الرّعدة» فأنزل الله : (وَالضُّحى) إلى قوله (فَتَرْضى). فنحن بين هاتين الروايتين نقدّم الرواية الأولى في بيان السبب لصحتها ، دون الثانية لأن في إسنادها من لا يعرف. قال ابن حجر : قصّة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يعرف ، فالمعتمد ما في الصحيح ا ه.

«وأما الصورة الثانية» ـ وهى صحّة الروايتين كلتيهما ولإحداهما مرجّح ـ فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة. والمرجّح أن تكون إحداهما أصحّ من الأخرى ، أو أن يكون راوى إحداهما مشاهدا للقصة دون راوى الأخرى. مثال ذلك : ما

أخرجه البخارى عن ابن مسعود قال : «كنت أمشى مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة. وهو يتوكّأ على عسيب. فمرّ بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : لو سألتموه. فقالوا : حدّثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه ، حتى صعد الوحى ، ثم قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). وما أخرجه الترمذى وصحّحه عن ابن عباس قال : «قالت قريش لليهود ، أعطونا شيئا نسأل هذا الرّجل. فقالوا اسألوه ، عن الرّوح فسألوه ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية.

__________________

(١) قال في القاموس : «وقد رعد كنصر ومنع وقال هامش القاموس : وقد استعمل رعد ثلاثيا أيضا مجهولا دائما ، كجنّ. قالوا : ترعد أى أصابته رعدة. قاله الخفاجىّ في شرح الشفاء» ا ه.

١١٠

فهذا الخبر الثانى يدلّ على أنها بمكة ، وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه. أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه ، وهو أرجح من وجهين : أحدهما أنه رواية البخارى ، أما الثانى فإنه رواية الترمذى ، ومن المقرّر أن ما رواه البخارىّ أصحّ مما رواه غيره. ثانيهما أن راوى الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدلّ على ذلك الرواية الأولى ، بخلاف الخبر الثانى فإن راويه ابن عباس لا تدلّ الرواية على أنه كان حاضر القصة ، ولا ريب أن للمشاهدة قوّة في التحمل وفي الأداء ، وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة ، ومن هنا أعملنا الرواية الأولى ، وأهملنا الثانية.

«وأما الصورة الثالثة» ـ وهى ما استوت فيه الروايتان في الصحّة ، ولا مرجّح لإحداهما ، لكن يمكن الجمع بينهما ، بأنّ كلّا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا ، لتقارب زمنيهما ـ فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدّد السبب لأنه الظاهر ، ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر : «لا مانع من تعدّد الأسباب».

مثال ذلك : ما أخرجه البخارى من طريق عكرمة عن ابن عباس أنّ هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيّنة أو حدّ فى ظهرك». فقال يا رسول الله ، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة

. وفي رواية أنه قال : والذى بعثك بالحقّ إنى لصادق ، ولينزلنّ الله تعالى ما يبرّئ ظهرى من الحدّ. فنزل جبريل عليه‌السلام وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ا ه وهذه الآيات من سورة النور.

وأخرج الشيخان «واللفظ للبخارى» عن سهل بن سعد «أنّ عويمرا أتى عاصم بن عدىّ ، وكان سيد بنى عجلان ، فقال : كيف تقولون في رجل

١١١

وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يصنع؟ سل لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فأتى عاصم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله «وفي رواية مسلم» فسأل عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر والله لا أنتهى حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فجاءه عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك. فأمرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالملاعنة بما سمّى الله في كتابه فلا عنها» ا ه فهاتان الروايتان صحيحتان ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، ومن السهل أن نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما ، على اعتبار أن أول من سأل هو هلال ابن أمية ، ثم قفاه عويمر قبل إجابته ، فسأل بواسطة عاصم مرة وبنفسه مرة أخرى ، فأنزل الله الآية إجابة للحادثتين معا. ولا ريب أن إعمال الروايتين بهذا الجمع ، أولى من إعمال احداهما وإهمال الأخرى ، إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه. ثم لا جائز أن نردّهما معا ، لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما. ولا جائز أيضا أن نأخذ بواحدة ونردّ الأخرى ، لأن ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير إلى أن نأخذ بهما معا. وإليه جنح النوويّ وسبقه إليه الخطيب فقال : «لعلّهما اتّفق لهما ذلك في وقت واحد» ا ه.

ويمكن أن يفهم من الرواية الثانية أن آيات الملاعنة نزلت في هلال أولا ، ثم جاء عويمر فأفتاه الرسول بالآيات التى نزلت في هلال. قال ابن الصباغ : قصة هلال تبيّن أن الآية نزلت فيه أولا* أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعويمر «إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك» نزل في قصة هلال ؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.

«وأما الصورة الرابعة» ـ وهى استواء الروايتين في الصحة ، دون مرجّح

١١٢

لإحداهما ، ودون إمكان للأخذ بهما معا لبعد الزمان بين الأسباب ـ فحكمها أن نحمل الأمر على تكرار نزول الآية بعدد أسباب النزول التى تحدثت عنها هاتان الروايتان ، أو تلك الروايات ـ لأنه إعمال لكل رواية ، ولا مانع منه. قال الزركشى فى البرهان : «وقد ينزل الشيء تعظيما لشأنه ، وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه» ا ه.

(مثال ذلك) ما أخرجه البيهقى والبزّار عن أبى هريرة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثّل به ، فقال : «لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل ـ والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف ـ بخواتيم سورة النّحل (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر السورة ، وهن ثلاث آيات.

وأخرج الترمذى والحاكم عن أبىّ بن كعب قال : (لمّا كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة ، فمثّلوا به ، فقالت الأنصار :

لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ (أى لنزيدنّ) عليهم. فلمّا كان يوم فتح مكة أنزل الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآية.

فالرواية الأولى تفيد أن الآية نزلت في غزوة أحد ، والثانية تفيد أنها نزلت يوم فتح مكة ، على حين أن بين غزوة أحد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين ، فبعد أن يكون نزول الآية كان مرة واحدة عقيبهما معا. وإذن لا مناص لنا من القول بتعدّد نزولها ، مرة في أحد ومرة يوم الفتح. وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية. وعليه فتكون خواتيمها المذكورة نزلت مرة بمكة قبل هاتين المرتين اللتين في المدينة ، وتكون عدّة مرات نزولها ثلاثا. وبعضهم يقول إن سورة النحل مكية ما عدا خواتيمها تلك فإنها مدنية ، وعليه فعدّة مرات نزولها ثنتان فقط.

(٨ ـ مناهل العرفان ١)

١١٣

شبهة وجوابها

وإذا استشكل على تكرار النزول بأنه عبث ما دامت الآية قد نزلت قبل ذلك السبب الجديد ، وحفظها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستظهرها الحفاظ من الصحابة ، ويمكن الرجوع إليها من غير حاجة إلى نزولها مرة أخرى.

(فالجواب) أن هناك حكمة عالية في هذا التكرار ، وهى تنبيه الله لعباده ، ولفت نظرهم إلى ما في طىّ تلك الآيات المكررة من الوصايا النافعة ، والفوائد الجمة ، التى هم في أشدّ الحاجة إليها. فخواتيم سورة النحل التى معنا مثلا ، نلاحظ أن الحكمة في تكرارها هى تنبيه الله لعباده أن يحرصوا على العمل بما احتوته من الإرشادات السامية في تحرّى العدالة ، وضبط النفس عند الغضب ، ومراقبة الخالق حتى في القصاص من الخلق ، والتدرّع بالصبر والثبات. والاعتماد على الله والثقة بتأييده ونصره ، لكل من اتقاه وأحسن في عمله ، جعلنا الله منهم أجمعين آمين.

أضف إلى هذه الحكمة ما ذكره الزركشى آنفا من أن تكرار النزول تعظيم لشأن المكرر ، وتذكير به خوف نسيانه.

٦ ـ تعدّد النازل والسبب واحد

قد يكون أمر واحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة «على عكس ما سبق» ولا مانع من ذلك ، لأنه لا ينافى الحكمة في إقناع الناس ، وهداية الخلق ، وبيان الحق عند الحاجة ، بل إنه قد يكون أبلغ في الإقناع وأظهر في البيان.

مثال السبب الواحد تنزل فيه آيتان ، ما أخرجه ابن جرير الطبرىّ والطبرانىّ وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظلّ شجرة فقال : «إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعينى شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموه. فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : علام

١١٤

تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرّجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم. فأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ، وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) من سورة التوبة.

وأخرج الحاكم وأحمد هذا الحديث بهذا اللفظ وقالا : فأنزل الله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ. أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) اه من سورة المجادلة.

ومثال السبب الواحد ينزل فيه أكثر من آيتين ما أخرجه الحاكم والترمذى عن أمّ سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) ا ه من سورة آل عمران.

وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت : قلت يا رسول : تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (١) وأنزلت (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (٢)

__________________

(١) من سورة الأحزاب وتمامها : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ، وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

(٢) وهى من آية آل عمران السابقة.

١١٥

وأخرج الحاكم أيضا أنها قالت تغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث.

فأنزل الله (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)(١) وأنزل : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (٢)

٧ ـ العموم والخصوص

بين لفظ الشارع وسببه

هذا مبحث أفرده الأصوليون بالكلام لأن مهمّتهم الاستدلال بألفاظ الشارع على الأحكام ، ونحن نلخص لك هنا ما يسمح به المقام لمناسبة أسباب النزول وما ينزل فيها مما يوافقها أو لا يوافقها في العموم والخصوص فنقول : اعلم أن لفظ الشارع الوارد جوابا لسؤال أو سبب قد يكون مستقلا أو مفيدا وحده بقطع النظر عن السبب أو السؤال الوارد فيه. وقد يكون غير مستقل ، بمعنى أنه لا يفيد إلا إذا لوحظ معه السبب أو السؤال.

ولكل من هذين النوعين حكمة :

فأما الجواب الذى ليس بمستقل : فحكمه أنه يساوى السؤال في عمومه باتفاق الأصوليين ويساويه أيضا في خصوصه على الرأى السائد عندهم.

فلو قال سائل هل يجوز الوضوء بماء البحر ، فأجيب بلفظ (نعم) ، أو لفظ (يجوز) ، كان المعنى : يجوز الوضوء بماء البحر لكل من أراد من الناس لا لخصوص هذا السائل ، وذلك لأن السؤال استفهام عن الجواز مطلقا من غير اعتبار خصوص المتكلم ، فكذلك جوابه ، لأنه غير مستقل.

ولو قال السائل : توضأت بماء البحر ، فأجيب بلفظ (يجزئك) ، كان معناه :

__________________

(١) من سورة النساء وتمامها قد تقدم.

(٢) من سورة الأحزاب ، وتمامها قد تقدم أيضا قريبا

١١٦

أن الوضوء بماء البحر يجزى السائل وحده ، لأن السؤال خاص بالمتكلم ، فكذلك جوابه غير المستقل. أما غير المتكلم فلا يعلم حكمه من هذا الجواب ، بل يعلم من دليل آخر كالقياس ، أو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حكمى على الواحد حكمى على الجماعة». ذلك كله فى الجواب غير المستقل.

وأما الجواب المستقل : فتارة يكون مثل السبب ، فى أنّ كلّا منهما عامّ أو خاصّ. وحكمه إذن أنه يساويه. فاللفظ العامّ يتناول كلّ أفراد سببه العام في الحكم ، واللفظ الخاصّ مقصور على شخص سببه الخاصّ في الحكم. وهذا محل اتفاق بين العلماء ، لمكان التكافؤ والتساوى بين السبب وما نزل فيه. وأمثلة الأول ـ وهو العامّ فيهما ـ كثيرة. منها الآيات النازلة في غزوة بدر ، والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران. ومثال الثانى ـ وهو الخاص فيهما ـ قوله سبحانه في سورة الليل : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى).

قال الجلال المحلى : هذا نزل في الصديق رضى الله عنه ، لما اشترى بلالا المعذّب على إيمانه وأعتقه. فقال الكفار : إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى. وَلَسَوْفَ يَرْضى).

واعلم أن هذا التمثيل لا يستقيم إلا على اعتبار أن أل في لفظ «الأتقى» للعهد ، والمعهود هو الصدّيق رضى الله عنه.

وتارة يأتى الجواب المستقلّ غير متكافئ مع السبب في عمومه وخصوصه.

وتحت ذلك صورتان : (إحداهما) عقلية محضة غير واقعة ، وهى أن يكون السبب عاما واللفظ خاصّا. وإنما كانت عقلية محضة وفرضيّة غير واقعة ، لأن حكمة الشارع تجلّ عن أن تأتى بجواب قاصر ، لا يتناول جميع أفراد السبب. أضف إلى ذلك أنه يخلّ ببلاغة القرآن ، القائمة على رعاية مقتضيات الأحوال. وهل يعقل أن يسأل.

١١٧

سائل فيقول مثلا؟ هل يجوز لجماعة المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم ويقاتلوا من قاتلهم ، فيأتى الجواب قائلا : لك أنت أن تدافع عن نفسك وتقاتل من قاتلك.

(الصورة الثانية» هى عموم اللفظ وخصوص سببه ..

٨ ـ عموم اللفظ وخصوص سببه

ومعناه أن يأتى الجواب أعمّ من السبب ، ويكون السبب أخصّ من لفظ الجواب.

وذلك جائز عقلا ، وواقع فعلا ، لأنه لا محظور فيه ولا قصور ، بل إن عمومه مع خصوص سببه موف بالغاية ، مؤدّ للمقصود وزيادة.

بيد أن العلماء اختلفوا في حكمه : أعموم اللفظ هو المعتبر أم خصوص السبب؟.

ذهب الجمهور إلى أن الحكم يتناول كلّ أفراد اللفظ ، سواء منها أفراد السبب ، وغير أفراد السبب ولنضرب لك مثلا : حادثة قذف هلال بن أمية لزوجته ، وقد نزل فيها قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الخ ، نلاحظ فيها أن السبب خاصّ ، وهو قذف هلال هذا ، لكن جاءت الآية النازلة فيه بلفظ عام ـ كما ترى ـ وهو لفظ (الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ). وهو اسم موصول ، والموصول من صيغ العموم وقد جاء الحكم بالملاعنة في الآية محمولا عليه من غير تخصيص. فيتناول بعمومه أفراد القاذفين في أزواجهم ، ولم يجدوا شهداء إلا أنفسهم ، سواء منهم هلال بن أمية صاحب السبب وغيره ، ولا نحتاج في سحب هذا الحكم على غير هلال إلى دليل آخر من قياس أو سواه بل هو ثابت بعموم هذا النص. ومعلوم أنه لا قياس ولا اجتهاد مع النّص. ذلك مذهب الجمهور.

وقال غير الجمهور : إن العبرة مخصوص السبب. ومعنى هذا أن لفظ الآية يكون مقصورا على الحادثة التى نزل هو لأجلها ، أما أشباهها فلا يعلم حكمها من نصّ الآية ، إنما يعلم بدليل مستأنف آخر ، هو القياس إذا استوفى شروطه ، أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١١٨

«حكمى على الواحد حكمى على الجماعة» فآية القذف السابقة النازلة بسبب حادثة هلال مع زوجته خاصة بهذه الحادثة وحدها ، «على هذا الرأى». أما حكم غيرها مما يشبهها ، فإنما يعرف قياسا عليها أو عملا بالحديث المذكور.

ويجب أن نلاحظ ، أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم ، محلّه إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العامّ بسبب نزوله ، أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة ، بإجماع العلماء.

كما يجب أن نلاحظ أيضا أن حكم النّص العام الوارد على سبب يتعدّى عند هؤلاء وهؤلاء إلى أفراد غير السبب. بيد أن الجمهور يقولون إنه يتناولهم بهذا النصّ نفسه ، وغير الجمهور يقولون إنه لا يتناولهم إلا قياسا أو بنص آخر كالحديث المعروف : «حكمى على الواحد حكمى على الجماعة»

وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية بقوله : «قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم. هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا ، كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة قيس بن ثابت ، وإن آية الكلالة نزلة في جابر بن عبد الله ، وإن آية قوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) نزلت في بنى قريظة والنضير ، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة ، أو في قوم من اليهود والنصارى ، أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب : هل يختصّ بسببه؟ لم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنّة تختصّ بالشخص المعين. وإنما غاية ما يقال إنها تختصّ بنوع ذلك الشخص ، فتعمّ ما يشهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التى لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهى متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته» ا ه.

١١٩

ولعل ثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين : «أحدهما» أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنصّ النازل فيه عند الجمهور. وذلك النص قطعىّ المتن اتفاقا ، وقد يكون مع ذلك قطعى الدلالة. أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدلّلا عليه بذلك النص ، بل بالقياس أو الحديث المعروف ، وكلاهما غير قطعى.

«الثانى» أن أفراد غير السبب كلّها يتناولها الحكم عند الجمهور ، ما دام اللفظ قد تناولها. أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس منها دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس.

٩ ـ أدلة الجمهور

استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة ثلاثة : «الأول» أننا نعلم أن لفظ الشارع وحده هو الحجة والدليل دون ما احتفّ به من سؤال أو سبب ؛ فلا وجه إذن لأن نخصّص اللفظ بالسبب. وكيف يسوغ أن نجعل ما ليس حجة في الشرع متحكّما بالتخصيص على ما هو الحجة في الشرع؟

والدليل على أن لفظ الشارع وحده هو الحجة أن الشارع قد يصرف النظر عن السؤال ، ويعدل بالجواب عن سنن السؤال لحكمة ، نحو قوله تعالى في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فإن ظاهر هذه الآية أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن بيان ما ينفقونه ؛ فجاء الجواب ببيان من ينفقون عليهم. وذلك من أسلوب الحكيم ؛ لأن معرفة مصارف النفقة والصدقة أهم من معرفة المصروف فيهما ، فإن إصلاح الجماعة البشرية لا يكون إلا عن طريق تنظيم النفقة والإحسان ، على؟؟؟ توجيههما إلى المستحقين دون سواهم. وهذا وجه في الآية نراه وجيها ،

١٢٠