فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

الحاصل من جهتها بالخصوص ، ولذا اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق وثاقته ؛ لأنّ صفة الصدق ليست إلّا المطابقة للواقع ، فمعنى الأصدق هو الأقرب إلى الواقع ، فالترجيح بها يدلّ على أنّ العبرة بالأقربيّة من أيّ سبب حصلت. ومنها : ما دلّ على ترجيح أوثق المخبرين (*) ، فإنّ معنى الأوثقيّة شدّة الاعتماد عليه ، وليس إلّا لكون خبره أوثق ، فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجّح خارجي اتّبع.

وممّا يستفاد منه المطلب (١٠٧٨) على وجه الظهور : ما دلّ على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث يعرفه كلّهم وكون الآخر

______________________________________________________

بخلاف صفة الصدق على ما قرّبه المصنّف رحمه‌الله. وكذلك في الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة.

١٠٧٨. المطلوب هو جواز الترجيح بكلّ ظنّ بل بكلّ مزيّة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر ، كما سيصرّح به. وإثبات هذا المطلب بما تضمّن الترجيح بالشهرة موقوف على مقدّمات ، أشار المصنّف رحمه‌الله إلى جميعها :

إحداها : كون طرح الشاذّ النادر لأجل ثبوت ريب فيه ، لا لأجل عدم الريب في بطلانه. ووجه التوقّف على هذه المقدّمة واضح ، إذ مع بطلان أحد الخبرين يخرج الخبران من فرض التعارض ، كما هو واضح.

الثانية : أنّ المراد بانتفاء الريب في المشهور ليس انتفائه على جميع الوجوه ، بل انتفاء الريب الموجود في الشاذ النادر خاصّة. ووجه التوقّف على هذه المقدّمة أنّه لولاها لانحصر مورد الترجيح بصورة عدم وجود ريب في المشهور مطلقا ، سواء كان هو الريب الموجود في الشاذّ النادر أم غيره ، والمقصود أعمّ منه.

الثالثة : أنّ المراد بثبوت الريب في الشاذ النادر ليس ثبوته على وجه يكون موهوما ، حتّى يكون انتفائه في المشهور بانتفاء احتماله من رأس. ووجه التوقّف

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المخبرين» ، الخبرين.

٦٤١

غير مشهور الرواية بينهم بل ينفرد بروايته بعضهم دون بعض معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ؛ فيدلّ على أنّ طرح الآخر لأجل ثبوت الريب فيه ، لا لأنّه لا ريب في بطلانه كما قد يتوهّم ؛ وإلّا لم يكن معنى للتعارض وتحيّر السائل ، ولا لتقديمه على الخبر المجمع عليه إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه صدر الخبر (١٠٧٩) ، ولا لقول السائل بعد ذلك : «هما معا مشهوران».

فحاصل المرجّح هو ثبوت الريب في الخبر الغير المشهور وانتفائه في المشهور ، فيكون المشهور من الأمر البيّن الرشد ، وغيره من الأمر المشكل ، لا بيّن الغيّ كما توهّم. وليس المراد به نفي الريب من جميع الجهات ؛ لأنّ الإجماع على الرواية لا يوجب ذلك ضرورة ، بل المراد وجود ريب في غير المشهور يكون منتفيا في الخبر المشهور ، وهو احتمال وروده على بعض الوجوه أو عدم صدوره رأسا. وليس المراد بالريب مجرّد الاحتمال ولو موهوما ؛ لأنّ الخبر المجمع عليه يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعض الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ، غاية الأمر كونه في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحا وفي غير المشهور احتمالا مساويا يصدق عليه الريب عرفا.

وحينئذ فيدلّ على رجحان كلّ خبر يكون نسبته إلى معارضه مثل نسبة الخبر المجمع على روايته إلى الخبر الذي اختصّ بروايته بعض دون بعض مع كونه بحيث لو سلم عن المعارض أو كان راويه أعدل وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لاخذ به ، ومن المعلوم أنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبته إلى معارضه تلك النسبة. ولعلّه لذا علّل (١٠٨٠) تقديم الخبر المخالف

______________________________________________________

عليها أنّه لولاها لما ثبت الترجيح بوجود ريب مشكوك في أحد المتعارضين موهوم في الآخر. واستفادة المطلب ممّا تضمّن الترجيح بالشهرة بعد تمهيد هذه المقدّمات واضحة.

١٠٧٩. لأنّه قد تضمّن الترجيح بالأعدليّة أوّلا وبالشهرة ثانيا ، ومقتضى الأوّل جواز الترجيح بالأعدليّة وإن كان خبر العادل مشهورا.

١٠٨٠. يعني : كلمات العلماء سوى ما ورد في الأخبار.

٦٤٢

للعامّة على الموافق بأنّ ذاك لا يحتمل إلّا الفتوى وهذا يحتمل التقيّة ؛ لأنّ الريب الموجود في الثاني منتف في الأوّل ، وكذا كثير من المرجّحات الراجعة إلى وجود احتمال في أحدهما مفقود ـ علما أو ظنّا ـ في الآخر ، فتدبّر. فكلّ خبر من المتعارضين يكون فيه ريب لا يوجد في الآخر أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريبا ، فذاك الآخر مقدّم عليه.

وأظهر من ذلك كلّه في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ ما دلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، بناء على أنّ الوجه في الترجيح (١٠٨١) بها أحد وجهين : أحدهما : كون الخبر المخالف أبعد من التقيّة ، كما علّل به الشيخ والمحقّق ، فيستفاد منه اعتبار كلّ قرينة خارجيّة توجب أبعديّة أحدهما عن خلاف الحقّ ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء ، بل يستفاد منه عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق احتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ، كما هو مفاد الخبر المتقدّم الدالّ على ترجيح ما لا ريب فيه على ما فيه الريب بالإضافة إلى معارضه.

لكنّ هذا الوجه لم ينصّ عليه في الأخبار وإنّما هو شيء مستنبط منها ، ذكره

______________________________________________________

١٠٨١. إنّما قيّد بذلك لأنّ هنا وجوها أخر لا يصحّ الاستدلال على هذه الوجوه بما تضمّن الترجيح بمخالفة العامّة للمقام. أحدها : كون الترجيح بها تعبّدا محضا. وثانيها : كونه لأجل حسن ذاتي في مخالفة العامّة من حيث هي ، مع قطع النظر عن كون مخالفة الخبر لهم أمارة لصدقه بحسب المضمون أو الصدور. وثالثها : كون موافقة العامّة دليلا على صدور الخبر الموافق لهم تقيّة. ولا ريب أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يصلح لإثبات جواز الترجيح بمطلق الظنّ أو بكلّ مزيّة وفضيلة موجودة في أحد المتعارضين مفقودة في الآخر. وقد تعرّض المصنّف رحمه‌الله في باب التعادل والترجيح لجميع هذه الوجوه ، وما يشهد بها من الأخبار وكلمات علمائنا الأخيار ، وما يرد عليها ، وما يدفعه عنها ، فلا حاجة لإطالة الكلام في ذلك في المقام.

٦٤٣

الشيخ ومن تأخّر عنه. نعم في رواية عبيد بن زرارة : «ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التّقية ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه» دلالة على ذلك. (٤)

الثاني : كون الخبر المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع. والفرق بين الوجهين أنّ الأوّل كاشف عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع. وهذا الوجه لما نحن فيه منصوص في الأخبار ، مثل : تعليل الحكم المذكور فيها بقولهم عليهم‌السلام : «فإنّ الرشد في خلافهم» ، و «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» ؛ فإنّه هذه القضيّة قضيّة غالبيّة لا دائميّة ، فيدلّ على أنّه يكفي في الترجيح الظنّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين. ويدلّ على هذا التعليل أيضا ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد من قوله : «ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ؛ فإنّ الحقّ فيه».

وأصرح من الكلّ في التعليل بالوجه المذكور مرفوعة أبي إسحاق الأرجائيّ إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال عليه‌السلام : «أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلّا خالف عليه الامّة إلى غيره ؛ إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم ليلبسوا على الناس» (٥). ويصدّق هذا الخبر سيرة أهل الباطل مع الأئمّة عليهم‌السلام على هذا النحو تبعا لسلفهم ، حتّى أنّ أبا حنيفة حكي عنه أنّه قال : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يغمض عينيه في السجود أو يفتحهما.

والحاصل : أنّ تعليل الأخذ بخلاف العامّة في هذه الروايات بكونه أقرب إلى الواقع ـ حتّى أنّه يجعل دليلا مستقلّا عند فقد من يرجع إليه في البلد ـ ظاهر في وجوب الترجيح بكلّ ما هو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّة الرشد ، فإذا انضمّ هذا الظهور إلى الظهور الذي ادّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ، فالظاهر أنّه يحصل من المجموع دلالة لفظيّة تامّة.

ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة هو الذي دعا أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ، بل يوجب في أحدهما

٦٤٤

مزيّة مفقودة في الآخر ولو بمجرّد كون خلاف الحقّ في أحدهما أبعد منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات. فما ظنّه بعض المتأخّرين من أصحابنا (٦) على العلّامة وغيره قدس سرّهم : من متابعتهم في ذلك طريقة العامّة ظنّ في غير المحلّ.

ثمّ إنّ الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظيّة ، فلا إشكال في الاعتماد عليها ، وإن لم يبلغ هذا الحدّ ـ بل لم يكن إلّا مجرّد الإشعار ـ كان مؤيّدا لما ذكرناه من ظهور الاتّفاق ، فإن لم يبلغ المجموع حدّ الحجّية فلا أقلّ من كونها أمارة مفيدة للظنّ بالمدّعى ولا بدّ من العمل به (١٠٨٢) ؛ لأنّ التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت ؛ لأنّ التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجّحات يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ؛ لأنّا نعلم بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها معيّنا ، والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية ، مع أنّ تلك الأخبار معارض بعضها بعضا بل بعضها غير معمول به بظاهره كمقبولة ابن حنظلة المتضمّنة لتقديم الأعدليّة على الشهرة ومخالفة العامّة وموافقة الكتاب.

وحاصل هذه المقدّمات (١٠٨٣):

______________________________________________________

١٠٨٢. هذا دليل رابع في المقام ، قد استدلّ به جماعة منهم المحقّق الخونساري على ما حكي عنهم. وهو قد يقرّر بوجه آخر ، وهو أنّا نعلم إجمالا بوجود أخبار مطابقة للواقع في جملة الأخبار المتعارضة ، والفرض عدم إمكان العمل بكلّ من المتعارضين ، وحينئذ إن قلنا بطرحهما والعمل بالاصول الجارية في موردهما لزمت مخالفة العلم الإجمالي ، بل هو مخالف للأدلّة الدالّة على اعتبار المتعارضين ، فتدبّر. وإن قلنا بالتخيير تلزم التسوية بين الراجح والمرجوح. وإن قلنا بتعيّن العمل بالموهوم وطرح المظنون ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، مع أنّه مخالف للعلم الإجمالي بمطابقة بعض الأخبار المظنونة من المتعارضين للواقع. فتعيّن العمل بالمظنون. والفرق بين هذا الوجه وما ذكره المصنّف رحمه‌الله واضح. وما أجاب به عنه مشترك بينهما.

١٠٨٣. لا يخفى أنّ المقدّمات المذكورة إنّما تنتج جواز الترجيح بمطلق الظنّ

٦٤٥

ثبوت التكليف بالترجيح وانتفاء المرجّح اليقيني وانتفاء ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فينحصر العمل في الظنّ بالمرجّح (*) ؛ فكلّ ما ظنّ أنّه مرجّح في نظر الشارع وجب الترجيح به ؛ وإلّا لوجب ترك الترجيح أو العمل بما ظنّ من المتعارضين أنّ الشارع رجّح غيره عليه ، والأوّل مستلزم للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم (**) بوجوب الترجيح ، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح في مقام وجوب البناء لأجل تعذّر العلم على أحدهما ، وقبحه بديهي ؛ وحينئذ : فإذا ظنّنا من الأمارات السابقة أنّ مجرّد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع تعيّن الأخذ به. هذا ، ولكن لمانع أن يمنع وجوب الترجيح بين المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي دلّ العرف على وجوب الترجيح بها كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر.

بيان ذلك أنّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ـ كالعامّ والخاصّ وشبههما ممّا لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد ـ فالمرجّح فيه معلوم من العرف. وما كان من قبيل تعارض الظاهرين كالعامّين من وجه وشبههما ممّا يحتاج

______________________________________________________

إن لم يمكن الاحتياط في المقام أو ثبت عدم وجوبه.

لا يقال : لا ثمرة بين القول بوجوب الاحتياط في المقام وجواز الترجيح بمطلق الظنّ ، إذ مقتضى الاحتياط ـ كما سيصرّح به ـ هو الأخذ بالخبر المظنون.

لأنّا نقول : إنّ الفرق بين العمل بالمظنون من باب الاحتياط ومن باب حجّية المرجّح ـ أعني : مطلق الظنّ ـ واضح. مع أنّ الثمرة ربّما تظهر في الأخذ بالمظنون من باب الالتزام والتديّن بالطريق الشرعيّ ، بأن أخذ بالمظنون من حيث إنّه الطريق المتعيّن الأخذ عليه ، لأنّه حرام من باب التشريع على الثاني ، لفرض عدم ثبوت الترجيح بمطلق الظنّ ، بخلافه على الأوّل.

__________________

(*) العبارة في بعض النسخ هكذا : فينحصر الأمر فى العمل بظنّ بالترجيح.

(**) في بعض النسخ زيادة : التكليف.

٦٤٦

الجمع بينهما إلى شاهد واحد ، فالوجه فيه كما عرفت (١٠٨٤) سابقا : عدم الترجيح إلّا بقوّة الدلالة ، لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجي غير معتبر ؛ ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظنّ ، بل يرجع فيه إلى الاصول والقواعد ؛ فهذا كاشف عن أنّ الحكم فيهما ذلك من أوّل الأمر ؛ للتساقط ؛ لإجمال الدلالة.

وما كان من قبيل المتباينين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلّا بشاهدين ، فهذا هو المتيقّن من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة. ومن المعلوم أنّ موارد هذا التعارض على قسمين : أحدهما : ما يمكن الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتاب أو سنّة مطابق لأحدهما ، وهذا القسم يرجع فيه إلى ذلك العموم أو الأصل وإن كان الخبر المخالف لأحدهما مطابقا لأمارة خارجيّة ؛ وذلك لأنّ العمل بالعموم والأصل يقيني لا يرفع اليد عنه إلّا بوارد يقيني ، والخبر المخالف له لا ينهض لذلك لمعارضته بمثله ـ ، والمفروض أنّ وجوب الترجيح بذلك الظنّ لم يثبت ، فلا وارد على العموم والأصل.

______________________________________________________

١٠٨٤. لا يخفى أنّ المصنّف رحمه‌الله قد ذكر في باب التعادل والترجيح في المتعارضين وجوها ، الأوّل : الرجوع فيهما إلى المرجّحات السنديّة ، ومع فقدها فالتخيير. الثاني : الحكم بالإجمال في مادّة الاجتماع من أوّل الأمر ، والرجوع إلى الاصول. الثالث : التفصيل بين ما لم يكن للمتعارضين مورد سليم عن المعارض ـ كقوله : اغتسل للجمعة الظاهر في الوجوب ، وقوله : ينبغي الغسل للجمعة الظاهر في الاستحباب ـ فالأوّل ، وبين ما كان لهما مورد سليم عن المعارض ـ كالعامّين من وجه ـ فالثاني. وهو قد اختار الأوّل ، وإن استشكل فيه أخيرا. وقد صرّح هناك بكون المتعارضين مطلقا ـ سواء كان تعارضهما من وجه (*) التباين ـ متّفقين على نفي الثالث ، وهو ينافي قوله هنا : «والخبر المخالف له لا ينهض لذلك ...». مع أنّ ما ذكره هنا من تساقط الخبرين لأجل المعارضة ينافي ما تقدّم منه عند التمسّك بقاعدة الاشتغال من دعوى عدم الدليل على حجّية الخبر المرجوح ، وأنّ

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والعبارة ناقصة ، ولعلّ الصحيح هكذا : سواء كان تعارضهما من قبيل العموم من وجه أو التباين.

٦٤٧

القسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهذا أقلّ قليل بين المتعارضات ، فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظنّ خارجي على طبق أحدهما لم يلزم محذور. نعم الاحتياط يقتضي الأخذ بما يطابق الظنّ خصوصا مع أنّ مبنى (١٠٨٥) المسألة على حجّية الخبر من باب الظنّ غير مقيّد بعدم الظنّ الفعلي على خلافه ، والدليل على هذا الاطلاق مشكل خصوصا لو كان الظنّ المقابل من الشهرة المحقّقة أو نقل الإجماع الكاشف عن تحقّق الشهرة ؛ فإنّ إثبات حجّية الخبر المخالف للمشهور في غاية الإشكال وإن لم نقل بحجّية الشهرة ؛ ولذا قال صاحب المدارك : إنّ العمل بالخبر المخالف للمشهور مشكل ، وموافقة الأصحاب من غير دليل أشكل.

وبالجملة : فلا ينبغي ترك الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير (١٠٨٦) ، وأمّا في مقابل العمل بالأصل (*) : فإن كان الأصل مثبتا للاحتياط ـ كالاحتياط اللازم.

______________________________________________________

المتيقّن جواز العمل به من المتعارضين هو الخبر المظنون ، إذ لا متيقّن على تقدير التعارض.

١٠٨٥. يعني : أنّ مقتضى الاحتياط هو ما ذكرناه ، خصوصا مع ملاحظة أنّ مبنى ما نحن فيه من الحكم بالتخيير أو الأخذ بما طابق الظنّ غير المعتبر على اعتبار الخبر من باب الظنّ النوعي المطلق ، والحال أنّ إثبات ذلك المبنى بوصف الإطلاق مشكل ، خصوصا إذا كان الظنّ المقابل للخبر هي الشهرة ، فإنّ القول بحجّية الخبر المخالف لها أشكل. فإذا احتمل كون حجّية الخبر مقيّدا بعدم الظنّ بخلافه مطلقا أو خصوص الظنّ الحاصل من الشهرة ، فالاحتياط يقضي بالأخذ بالمظنون خاصّة من المتعارضين دون الموهوم ، لاحتمال عدم حجيّته لأجل الشكّ في وجود مناط الاعتبار فيه.

١٠٨٦. حاصله : أنّه إذا تعارض خبران ، وكان أحدهما موافقا لظنّ غير معتبر ، فإن فرض دوران الأمر بين التخيير والترجيح بالظنّ ، فمقتضى الاحتياط هو الأخذ بالمظنون. وإن دار الأمر بين الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل الجاري

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالأصل» ، بالاصول.

٦٤٨

في بعض الموارد ـ فالأحوط العمل بالأصل ، وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة والاستصحاب النافي للتكليف أو مثبتا له مع عدم التمكّن من الاحتياط كأصالة الفساد في باب المعاملات ونحو ذلك ، ففيه الإشكال. وفي باب التراجيح تتمّة المقال ، والله العالم بحقيقة الحال. والحمد لله أوّلا وآخرا وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

______________________________________________________

في موردهما وبين الترجيح بالظنّ ، وحينئذ إن كان الأصل الجاري في موردهما مثبتا للتكليف ، كالاستصحاب المثبت له مع إمكان الاحتياط في مورده ، أو قاعدة الاحتياط ، بأن كان أحدهما موافقا للاحتياط اللازم في المسألة والآخر مخالفا لها ، بأن دلّ أحدهما على وجوب السورة والآخر على استحبابها ، وقلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، فالأحوط حينئذ هو العمل بقاعدة الاحتياط دون الخبر المظنون المخالف لها ، وإن كان العمل به أيضا موافقا للاحتياط الجاري في الاصول ، لأنّ الاحتياط في الفروع لأجل كونه محرزا لمطابقة العمل للواقع أولى من الاحتياط في الاصول ، وإن كان هو أيضا محرزا لمطابقة العمل بطريق شرعيّ.

وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة أو الاستصحاب النافي له ، أو مثبتا له مع عدم التمكّن من الاحتياط لأجل المعارضة بمثله كما ستعرفه ، ففي جواز العمل بالأصل أو تعيّن الأخذ بالخبر المظنون إشكال ، ينشأ من كون المرجع بعد تعارض الخبرين وتساقطهما هو الاصول ، إذ الفرض عدم الدليل على الترجيح بالظنّ ، وعدم نهوض المتعارضين للورود على الأصل ، ومن كون الترجيح بالظنّ موافقا للاحتياط في الاصول مع فرض كون الاحتياط في الفروع غير ممكن في نفس الواقعة ، فلا يتأتّى فيه ما تقدّم من كون الاحتياط في الفروع مقدّما عليه في الاصول.

وأمّا ما مثّل به المصنّف رحمه‌الله للاستصحاب المثبت مع عدم إمكان الاحتياط في مورده من أصالة الفساد في المعاملات ، فتوضيحه : أنّ شخصين إذا تبايعا ببيع

٦٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المعاطاة فأصالة الفساد تقتضي ردّ الثمن إلى المشتري والمثمن إلى البائع. ولا يمكن الاحتياط في هذه الواقعة ، لأنّه بعد وقوع العقد فاحتمال الصحّة المقتضية لانتقال الثمن إلى البائع والمثمن إلى المشتري ، معارضة باحتمال الفساد المقتضي لبقاء الأوّل على ملك المشتري والثاني على ملك البائع. فإذا ورد خبر مشهور بصحّة بيع المعاطاة وآخر غير مشهور بفساده ، ففي الترجيح بالظنّ أو الحكم بالتساقط والرجوع إلى أصالة الفساد إشكال قد عرفت وجهه.

تتميم : اعلم أنّ الكلام في اعتبار الظنّ في الموضوعات تارة في المستنبطة منها ، واخرى في الصرفة. والمراد بالأولى ما له دخل في استنباط الأحكام الكلّية من الكتاب والسنّة ، وهو ما يتعلّق بظواهر الألفاظ ، سواء تعلّق بتعيين الأوضاع أو بتعيين المرادات منها. وبالثانية هي الجزئيّات الشخصيّة الخارجة التي وقعت مصاديق للأحكام الكلّية أو موضوعاتها.

والكلام في اعتبار الظنّ في الاولى على مذهب القائلين بالظنون الخاصّة أو المطلقة قد أسلفه المصنّف رحمه‌الله عند الكلام على حجّية الظواهر ، وعلّقنا على كلامه هناك ما ينبغي أن يتلقّى بالقبول.

وأمّا الكلام في اعتباره في الثانية ، مثل الظنّ بكون العين الموجودة في الخارج كلبا بعد العلم بنجاسة الكلب شرعا ، أو كونها دما بعد العلم بحكمه الكلّي ، فالمشهور ـ بل المدّعى عليه الإجماع ـ هو عدم اعتبار الظنّ فيها. وهذه هي مسألة تعارض الأصل والظاهر التي ذهب المشهور فيها إلى تقديم الأصل على الظاهر الذي هو عبارة عن المظنون.

وربّما يظهر من المحقّق القمّي اعتبار الظنّ فيها ، بل ادّعى عليه الإجماع ، لأنّه في طيّ الدليل الثالث من الأدلّة الثلاثة التي أقامها على حجّية ظنّ المجتهد في مبحث الأخبار قال : «والحاصل : أنّ المقصود بالذات من الخطاب وإن كان حصول نفس الحكم النفس الأمري ، لكن يظهر من جعل الشارع مناط تفهيمه النطق

٦٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بالألفاظ التي جرت عادة الله بأنّها لا تفيد اليقين في الأغلب أنّه راض بهذا الظنّ ، ويكتفي به عمّا أراده في نفس الأمر ، لأنّه غير فاقد للمصلحة أيضا كما عرفت. فهذا الظنّ ممّا علم حجّيته. وهذا هو الذي اتّفق العلماء على حجّيته من دون خلاف بينهم ، قائلين : إنّ الظنّ في موضوعات الأحكام من مباحث الألفاظ وغيرها حجّة إجماعا» انتهى.

وفي مبحث الاجتهاد والتقليد في مقام بيان كون مدار العلماء على العمل بمطلق الظنّ قال : «فمنها تداول بينهم ترجيح الظاهر على الأصل ، وترجيح أحد الأصلين بسبب اعتضاده بالظاهر ، والعمل على الظاهر في كلماتهم في الجملة إجماعي» انتهى.

والحقّ عدم حجّية الظنّ ، وعدم الدليل عليها يكفينا مئونة الاستدلال عليه. ومستند القائل بحجّيته وجهان :

أحدهما : دليل الانسداد المعروف الجاري في الأحكام ، لأنّه إذا فرض انسداد باب العلم فيها ، وجاز العمل فيها بمطلق الظنّ بحكم الدليل المذكور ، فلا بدّ من الاكتفاء به فيها وفي متعلّقاتها من موضوعاتها ، ومصاديق موضوعاتها ، لعدم إجداء القطع بمصاديقها بعد عدم إمكان تحصيل القطع بنفس الأحكام وموضوعاتها.

قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : إنّه بعد العمل بالظنّ في نفس الحكم لم يبق داع إلى العمل بالقطع في متعلّقاته ، لأنّ ما بعضه ظنّي لا يكون كلّيه قطعيّا.

وفيه أنّ اللازم أوّلا بحكم العقل والعقلاء هو تحصيل القطع بامتثال الأحكام الشرعيّة ، ولا ينتقل عنه إلى الامتثال الظنّي إلّا مع تعذّره أو إقامة الشارع ظنّا مقام القطع مطلقا. ولا ريب أنّ العقل لا يعذّر العاجز عن تحصيل القطع إلّا في الجهة التي عجز عن تحصيله فيها ، ولذا لو تعذّر القطع بجهة القبلة فالعقل لا يقنع بالظنّ في الوقت أو غيره من شرائط الصلاة أيضا. فإذا كانت للامتثال جهات مختلفة ، كمعرفة نفس الحكم وموضوعه ومصاديق موضوعه الكلّي ، فتعذّر تحصيل القطع

٦٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

ببعض الجهات لا يوجب الاكتفاء بالظنّ في الجهة التي يمكن تحصيل القطع فيها ، لدوران الأمر حينئذ بين الاكتفاء بظنّين فصاعدا وبين الالتزام بتحصيل ظنّ وقطع ، ولا ريب أنّ الثاني هو المتعيّن كما عرفت. وليس ما نحن فيه من قبيل الموضوعات المستنبطة حتّى يستلزم الظنّ بها الظنّ بنفس الحكم الكلّي حتّى تثبت حجّية هذا الظنّ بالملازمة.

وثانيهما : جريان دليل الانسداد في نفس الموضوعات الصرفة ، لانسداد باب العلم فيها ، وعدم إمكان العمل بالاحتياط كما هو واضح ، وكون العمل بأصالة البراءة مستلزما للمخالفة القطعيّة ، فلا بدّ من الاقتناع بالظنّ في مقام الامتثال كنفس الأحكام.

وفيه : أنّ من مقدّمات هذا الدليل بقاء التكليف بالواقع ، وهو في الموضوعات ممنوع ، فإذا شكّ في نجاسة شيء يبني على طهارته ، وفي حرمته يبني على إباحته. وبالجملة ، إنّ ثبوت التكليف بالواقع في الموضوعات في غير ما ثبت بدليل قطعي أو بدليل منته إلى القطع غير مسلّم ، فلا يتمّ تمام مقدّمات الدليل المذكور فيها حتّى تفيد حجّية مطلق الظنّ فيها كنفس الأحكام.

نعم ، يستثنى من ذلك موارد يعتبر الظنّ فيها ، وإن كانت من قبيل الموضوعات الصرفة. منها : ما استلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الكلّي ، كالظنون الرجاليّة ، لأنّ الظنّ بكون زرارة الواقع في سند رواية هو ابن أعين يستلزم الظنّ بكون ما تضمّنه الخبر هو حكم الله سبحانه. وكالظنّ بمضمون ما ورد من تحليل الأئمّة عليهم‌السلام لخمسهم أو أنفالهم ـ على اختلاف الرواية ـ لشيعتهم في زمان الغيبة ، لأنّ الظنّ بإذن المالك وإن كان من قبيل الظنّ بالموضوع الصرف ، إلّا أنّه مستلزم للظنّ بالحكم الكلّي ، وهو جواز التصرّف للشيعة في زمان الغيبة في سهم الإمام عليه‌السلام أو الأنفال. وكالظنّ في تشخيص الحائر الشريف في الخارج ، لأنّ مفهوم الحائر وإن كان معلوما ، وهو ما حار فيه الماء ولم يعله حيث أرادوا انطماس أثر

٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

القبر الشريف ، إلّا أنّ الظنّ بموضوع هذا الكلّي في الخارج يستلزم الظنّ بالحكم الكلّي ، وهو تخيّر المسافر في القصر والإتمام فيه.

ومنها : كون المورد بحيث يجري دليل الانسداد فيه بنفسه ، كالأنساب والعدالة مثل كون شخص من آل هاشم أو عدلا ، وكالأملاك مثل كون هذا المال لزيد دون عمرو ، إلّا أنّ العلماء رضوان الله عليهم استراحوا فيها على اليد ، ولولاها لجرى فيها أيضا دليل الانسداد. وربّما أجري هذا الدليل في الأعيان التي يظنّ كونها من الموقوفات ، سواء حصل الظنّ من مثل الكتابة ، كالكتب المكتوب فيها ذلك ، أم من العلائم كما في المدارس والمساجد ونحوها ، أو بإخبار من لم تثبت عدالته ، نظرا إلى حصول العلم الإجمالي بوجود موقوفات كثيرة في جملة الأعيان ، بحيث لا تجري معه أصالة البراءة. أعطانا الله البراءة من النار يوم يقوم الأشهاد ، ووفّقنا قبله على سبيل الرشاد ، فإنّه وليّ التوفيق.

٦٥٣

المصادر

(١) مسالك الإفهام ج ٦ : ص ١٥٦.

(٢) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٦ ـ ٦٨٨.

(٣) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٨.

(٤) الوسائل ج ١٥ : ص ٤٩٢ ، الباب ٣ من أبواب الخلع والمباراة ، الحديث ٧.

(٥) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٤.

(٦) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٨٩ ـ ٩٠.

٦٥٤