فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

«إذا جاءكم ما لا تعلمون فها».

نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّي إلى الباطل ، فلا يبعد وجوب إلزامه (١٠٢٩) بالتحصيل ؛ لأنّ انكشاف الحقّ ولو ظنّا أولى من البقاء على الشكّ فيه.

وأمّا الثالث ، فإن لم يقرّ في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر كفره ، وإن أقرّ به مع العلم بأنّه شاكّ باطنا فالظاهر عدم إسلامه ، بناء على أنّ الإقرار الظاهري مشروط باحتمال اعتقاده لما يقرّ به.

______________________________________________________

أحدهما : أنّ موضوع الاصول الاعتقاديّة هو العلم دون الواقع على وجه يكون العلم طريقا إليه ، فمع انتفاء العلم ينتفي التكليف ، لانتفاء موضوعه ، ولا دليل على قيام الظنّ مقامه مطلقا ولو مع انسداد باب العلم إليه. وقد تقدّم توضيحه عند شرح قوله : «ولعلّ الوجه في ذلك أنّ وجوب التديّن المذكور ...».

وثانيهما : أنّه على تقدير تسليم تعلّق التكليف بالواقع في الاصول أيضا كالفروع ، بأن كان التديّن باصول الإسلام مطلوبا في نفس الأمر والعلم طريقا إليه ، فلا ريب أنّ قيام الظنّ مقام العلم حينئذ على تقدير الانسداد إنّما هو على فرض عدم جواز التوقّف هنا ، كعدم وجوب الاحتياط في الفروع لأجل لزوم اختلال النظم أو العسر ، وعدم جوازه في المقام ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ غير ثابت ، لاحتمال اختصاص التكليف بالواقع بصورة التمكّن من تحصيل العلم بالواقع. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله قد خلط بين الوجهين ، لأنّ قوله : «ولا دليل آخر على عدم جواز التوقّف» ربّما يومي إلى الوجه الثاني ، وقوله : «فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ» ربّما يومي إلى الأوّل ، فتدبّر.

١٠٢٩. لا يخفى أنّ الحكم بالوجوب لا يناسب حكمه بعدم وجوب تحصيل الظنّ على من لم يتمكّن من العلم. ولو تمّ ما ذكره من الأولويّة لثبت وجوب تحصيل الظنّ على نفسه أيضا.

٦٠١

وفي جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاكّ ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود ، مثل رواية محمّد بن مسلم ، قال : «سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما تقول فيمن شكّ في الله؟ قال : كافر ، يا أبا محمّد. قال : فشكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : كافر. ثمّ التفت إلى زرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جحد» ، وفي رواية اخرى : «لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا». (١٩)

ثمّ إنّ جحود الشاكّ ، يحتمل أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التديّن به لأجل عدم الثبوت ، ويحتمل أن يراد به الإنكار الصوري على سبيل الجزم ، وعلى التقديرين فظاهرها أنّ المقرّ ظاهرا الشاكّ باطنا الغير المظهر لشكّه غير كافر. ويؤيّد هذا رواية زرارة الواردة في تفسير قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحالة إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم» (٢٠) وقريب منها غيرها.

ولنختم الكلام بذكر كلام السيّد الصدر الشارح للوافية في أقسام المقلّد في اصول الدين بناء على القول بجواز التقليد ، وأقسامه بناء على عدم جوازه ، قال : إنّ أقسام المقلّد على القول بجواز التقليد ستّة ، لأنّه إمّا أن يكون مقلّدا في مسألة حقّة أو في باطلة ، وعلى التقديرين : إمّا أن يكون جازما بها أو ظانّا ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : إمّا أن يكون إصراره (١٠٣٠) على التقليد مبتنيا على عناد وتعصّب بأن حصل له طريق على إلى الحقّ فما سلكه ، وإمّا لا ، فهذه أقسام ستّة.

فالأوّل : وهو من قلّد في مسألة حقّة جازما بها ـ مثلا : قلّد في وجود الصانع وصفاته وعدله ـ فهذا مؤمن ؛ واستدلّ عليه بما تقدّم حاصله : من أنّ التصديق معتبر

______________________________________________________

١٠٣٠. أي : بقائه على التقليد وعدم رجوعه إلى النظر والاستدلال.

٦٠٢

من أيّ طريق حصل إلى أن قال ، الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّا بها من دون جزم ، فالظاهر إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر إذا أقر (*) ؛ إذ ليس حاله بأدون من حال المنافق ، سيّما إذا كان طالبا للجزم مشغولا بتحصيله فمات قبل ذلك. أقول : هذا مبنيّ على أنّ الإسلام مجرّد الإقرار الصوري وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد. وفيه ما عرفت من الإشكال وإن دلّ عليه غير واحد من الأخبار.

الثالث : من قلّد في باطل مثل إنكار الصانع أو شيء ممّا يعتبر في الإيمان وجزم به من غير ظهور حقّ ولا عناد. الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به كذلك. والظاهر في هذين إلحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة ، وأمّا في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقدا ما يوجبه ، وبالإسلام إن لم يكونا كذلك. فالأوّل كمن أنكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلا ، والثاني كمن أنكر إماما. الخامس : من قلّد في باطل جازما مع العناد. السادس : من قلّد في باطل ظانّا كذلك. وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحقّ والإصرار ، ثمّ ذكر أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ، قال : إنّه إمّا أن يكون مقلّدا في حقّ أو في باطل ، وعلى التقديرين : مع الجزم أو الظنّ ، وعلى تقديري التقليد في الباطل : بلا عناد أو به ، وعلى التقادير كلّها : دلّ عقله على الوجوب (١٠٣١) أو بيّن له غيره ، وعلى تقدير الدلالة : أصرّ على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد أو لا (١٠٣٢).

فهذه أقسام أربعة عشر (١٠٣٣) : الأوّل : التقليد في الحقّ جازما مع العلم

______________________________________________________

١٠٣١. أي : وجوب النظر.

١٠٣٢. بأن لم يحكم عقله بوجوب النظر ، ولا بيّن له غيره.

١٠٣٣. ثلاثة أقسام للمقلّد الجازم في الحقّ ، لأنّه إمّا عالم بوجوب النظر بدلالة عقله أو ببيان الغير ، أو جاهل به. وعلى تقدير العلم : إمّا مصرّ ، أو غير مصرّ. وثلاثة أقسام للمقلّد الظانّ في الحقّ ، لأنّه أيضا إمّا عالم بوجوب النظر ، أو

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : باللسان.

٦٠٣

بوجوب النظر والإصرار ، فهذا مؤمن فاسق ؛ لإصراره على ترك الواجب. الثاني : هذه الصورة مع ترك الإصرار والرجوع ، فهذا مؤمن غير فاسق. الثالث : المقلّد في الحقّ ظانا مع العلم بوجوب النظر والإصرار ، والظاهر أنّه مؤمن مرجى في الآخرة ، وفاسق للإصرار. الرابع : هذه الصورة مع عدم الإصرار ، فهذا مسلم ظاهرا غير فاسق. الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازما أو ظانّا مع عدم العلم بوجوب الرجوع ، فهذان كالسابق بلا فسق.

أقول : الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع فرض القول بعدم جواز التقليد ، إلّا أن يريد بهذا القول قول الشيخ قدس‌سره : من وجوب النظر مستقلا ، لكنّ ظاهره إرادة قول المشهور ، فالأولى الحكم بعدم إيمانهم على المشهور ، كما يقتضيه إطلاق معقد إجماع العلّامة في أوّل الباب الحادي عشر ؛ لأنّ الإيمان عندهم المعرفة الحاصلة عن الدليل لا التقليد.

ثمّ قال : السابع : المقلّد في الباطل جازما معاندا مع العلم بوجوب النظر والاصرار عليه ، فهذا أشدّ الكافرين. الثامن : هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار بعد العلم بالوجوب ، فهذا أيضا كافر. ثمّ ذكر الباقي (١٠٣٤) وقال : إنّ حكمها يظهر

______________________________________________________

جاهل به. وعلى تقدير العلم : مصرّ أو غير مصرّ. وأربعة أقسام للمقلّد الجازم في الباطل ، لأنّه إمّا عالم بوجوب النظر ، أو جاهل به. وعلى تقدير العلم : إمّا معاند ومصرّ ، وإمّا معاند غير مصرّ ، وإمّا مصرّ غير معاند. وأربعة أقسام للمقلّد الظانّ في الباطل ، على نحو ما عرفته في سابقه. فهذه أربعة عشر قسما.

١٠٣٤. تتمّة العبارة هكذا : «إن مات ولم يرجع من اعتقاده الباطل. التاسع : هذه الصورة من غير علم بالوجوب. وهذا أيضا كافر. وكذا العاشر ، يعني : هذه الصورة من غير عناد. الحادي عشر : المقلّد في الباطل الظانّ معاندا مع العلم والإصرار. الثاني عشر : بلا إصرار. الثالث عشر : بلا علم. الرابع عشر : بلا عناد. والحكم في الجميع يظهر ممّا سبق» انتهى.

٦٠٤

ممّا سبق. أقول : مقتضى هذا القول (١٠٣٥) الحكم بكفرهم ؛ لأنّهم أولى به من السابقين.

بقي الكلام فيما نسب إلى الشيخ في العدّة من القول بوجوب النظر مستقلا (١٠٣٦) مع العفو ، فلا بدّ من نقل عبارة العدّة ، فنقول : قال في باب التقليد ـ بعد ما ذكر استمرار السيرة على التقليد في الفروع والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول مستدلّا بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العامّي معرفة الصلاة وأعدادها ـ : وإذا كان لا يتمّ ذلك إلّا بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة ، وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك.

ثمّ اعترض : بأنّ السيرة كما جرت له على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاصول وعدم الإنكار عليهم. فأجاب : بأنّ على بطلان التقليد في الاصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك ، وهذا كاف في النكير. ثمّ قال : على أنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه ؛ وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدّمناها ؛ لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمّة عليهم‌السلام قطع موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند ذلك إلى حجّة من عقل أو شرع. ثمّ اعترض على ذلك : بأنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنّه يؤدّي إلى الإغراء (١٠٣٧) بما لا يأمن أن يكون جهلا.

______________________________________________________

١٠٣٥. يعني : أنّ الحكم بكفر المقلّدين في الباطل على القول بعدم جواز التقليد أولى من الحكم بكفر المقلّدين في الحقّ على هذا القول. وقد تقدّم أنّ مقتضى قول المشهور من عدم جواز التقليد هو الحكم بكفر المقلّد في الحقّ ، فالمقلّد في الباطل أولى.

١٠٣٦. اختاره المحقّق أيضا في المعارج.

١٠٣٧. لأنّ الحكم بسقوط العقاب يؤدّي إلى بقائه على التقليد وجهله بوجوب النظر.

٦٠٥

وأجاب بمنع ذلك (١٠٣٨) ، لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ؛ لأنّه إنّما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول ، وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه ، فكيف يكون إسقاط العقاب مغريا؟ وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالاصول وسبروا أحوالهم وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ، ولا يسوغ ذلك لهم إلّا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ، وذلك يخرجه من باب الإغراء ، وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله.

وأقوى ممّا ذكرنا (١٠٣٩) أنّه لا يجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلّفة بحال (٢١) ، انتهى.

وذكر عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد ما هو قريب من ذلك ، قال : وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه (٢٢) ، انتهى.

أقول : ظاهر كلامه قدس‌سره (١٠٤٠) في الاستدلال على منع التقليد بتوقّف معرفة

______________________________________________________

١٠٣٨. عبارة الشيخ المحكيّة هكذا : «وذلك لا يؤدّي إلى شيء من ذلك ، لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم أنّ ذلك سائغ له ، فهو خائف عن الإقدام على ذلك ، ولا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه ، فيستديم الاعتقاد ...» إلى آخر ما ذكره. وفيما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه رحمه‌الله من العبارة تغيير وتبديل غير مخلّ بالمقصود.

١٠٣٩. يعني : أنّ الأقوى ممّا ذكرناه من إطلاق عدم جواز التقليد هو تخصيص عدم الجواز بصورة وجود طريق علمي إجمالي أو تفصيلي يمكن للمقلّد التوصّل إليه ، لأنّ من ليس له طريق علمي أصلا ، فهو كالبهائم.

١٠٤٠. في كلام الشيخ مواقع للنظر ، لا بأس بالإشارة إليها مع توضيح لما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه :

أحدها : أنّ ظاهره ـ بل صريحه ـ دعوى إجماع العلماء على كفاية التقليد في الاصول ، حيث لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم. وهو موهون بذهاب

٦٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المشهور إلى اشتراط الاستدلال القطعي في حصول الإيمان ، كما هو المحكيّ عنهم. وإليه أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «بعد تسليمه». بل يمكن دعوى الإجماع عليه إن عمّمنا الاستدلال للتفصيلي منه والإجمالي ، لأنّ ما ذكره من عدم قطعهم موالاتهم وعدم نكيرهم عليهم ، إنّما هو لأجل ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم ، لعدم العلم بأحوالهم ، فيجوز أن يحصل لهم العلم من أوائل الأدلّة وإجماليّاتها ، لما قدّمناه عند شرح قوله : «بقي الكلام في أنّه إذا لم يكتف بالظنّ ...» ، من أنّ كلّ علم لا بدّ أن يستفاد من دليل تفصيلي أو إجمالي ، فاتّفاقهم على عدم قطعهم موالاتهم إنّما هو لأجل اتّفاقهم على كفاية الدليل الإجمالي ، لا لأجل تجويزهم التقليد الذي هو الأخذ بقول الغير من غير دليل ، كما صرّح به المحقّق في المقام ، لبعد كون عدم قطعهم موالاتهم لأجل تجويزهم التقليد بالمعنى المذكور ، مع اشتراط المشهور الاستدلال القطعي في حصول الإيمان ، فلا بدّ أن يصرف التأويل إلى كلماتهم بتعميم الاستدلال في كلماتهم للتفصيلي والإجمالي.

ومن هنا يندفع ما يمكن أن يورد على المصنّف رحمه‌الله ، من كون عدم قطع العلماء لموالاتهم من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لا يجتمع مع اشتراط المشهور للاستدلال في حصول الإيمان ، لعدم تمكّن العامي منه وإن كان جازما بعقيدته. ووجه الاندفاع هو ما ذكرناه من كون مرادهم من الاستدلال أعمّ من الاستدلال التفصيلي والإجمالي.

وثانيها : ما أورده المصنّف رحمه‌الله أيضا من أنّ عدم قطع الموالاة كما يحتمل أن يكون للعفو عن ترك النظر والاستدلال ، كذلك يحتمل أن يكون لكون التقليد وترك النظر جائزا ، لأنّ عدم قطع الموالاة إذا لم يدلّ على جواز التقليد ، لكفاية وجود الحكم في الأدلّة في الإنكار ، لم يدلّ على العفو أيضا ، لأنّ الأدلّة كما دلّت على وجود الحكم كذلك دلّت على المؤاخذة على مخالفته ، بل لو ثبت عدم قطعهم

٦٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للموالاة فلا بدّ أن يكون ذلك لأجل جواز التقليد ، إذ لو كان للعفو لزم عدم نهيهم لهم عن المنكر ، لأنّ ترك الواجب ممّا يجب النهي عنه للأئمّة عليهم‌السلام والعلماء رحمه‌الله ، وإن كان الفاعل جاهلا فضلا عن العالم بالحكم ، إذ فائدة الإمامة والعلم تكميل نفوس العامّة بالهداية إلى ما فيه الرشاد. ومجرّد كون الحكم مذكورا في الكتاب والسنّة غير كاف في ذلك ، وإلّا لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إلى فاعل المنكر وتارك المعروف مع علمه بالحرمة والوجوب ، وهو كما ترى. وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ السيرة لو تمّت لعارضت الأدلّة الدالّة على وجوب النظر والاستدلال ، ولذا التجأ المصنّف رحمه‌الله إلى منع السيرة بقوله : «لكنّ الكلام في ثبوت التقرير ...».

وممّا ذكرناه قد ظهر أيضا أنّ مراد المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يشمل أمر الجاهل بحكم المعروف ونهي الجاهل بحكم المنكر ، بأن يبيّن له الحكم أوّلا ثمّ يأمر بالفعل أو الترك. وكذا مراده بكفاية وجود الحكم في الأدلّة من حيث الإرشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، كفايته بالنسبة إلى المجتهدين ، لوضوح عدم كفايته بالنسبة إلى المقلّدين.

وثالثها : منع قيام دليل على وجوب الاستدلال تفصيلا إذا فرض حصول العلم من تقليد الآباء والأمّهات ، كما تقدّم سابقا. نعم ، يمكن دفعه بما استظهره المصنّف رحمه‌الله من كلامه من اختصاص محلّ كلامه بالتقليد غير المفيد للقطع.

ورابعها : أنّ دفع إشكال الإغراء بالنسبة إلى المقلّد الذي اطّلع على سيرة المسلمين ، وعلى كون مقتضاها العفو عن التقليد وترك الاستدلال ، بمنع الاطّلاع رأسا ـ كما هو صريح كلامه في الجواب عمّا اعترض به على نفسه ـ ممّا لا وجه له.

وخامسها : أنّ وضع العقاب عن المقلّد في الحقّ دون الباطل مع تساوي المقلّدين في جميع الأفعال الاختياريّة مناف لقواعد العدل ، فتدبّر.

ثمّ إنّ على الشيخ إشكالا آخر ، وهو أنّ القول بالعفو الحتمي عن المعصية

٦٠٨

الصلاة وأعدادها على معرفة اصول الدين : أنّ الكلام في المقلّد الغير الجازم ، وحينئذ فلا دليل على العفو. وما ذكره : من عدم قطع العلماء والأئمّة عليه‌السلام موالاتهم مع المقلّدين ـ بعد تسليمه والغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم ـ لا يدلّ على العفو وإنّما يدلّ على كفاية التقليد.

وإمساك النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدلّ على عدم وجوبه عليهم ـ لما اعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الأدلّة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول ـ لم يدلّ على العفو عن هذا الواجب المستفاد من الأدلّة ، فلا دليل على العفو عن هذا الواجب المعلوم وجوبه.

والتحقيق أنّ إمساك النكير لو ثبت ولم يحتمل كونه لحمل أمرهم على الصحّة وعلمهم بالاصول ، دليل على عدم الوجوب ؛ لأنّ وجود الأدلّة لا يكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى فيه من حيث الإرشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، لكنّ الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين.

فالإنصاف : أنّ المقلّد الغير الجازم المتفطّن لوجوب النظر عليه فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزميّة بعقائده ، بل قد عرفت احتمال كفره لعموم أدلّة كفر الشاكّ. وأمّا الغير المتفطّن لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة. وفي جريان حكم الكفر احتمال تقدّم. وأمّا الجازم فلا يجب عليه

______________________________________________________

كيف يجامع ما تقرّر في محلّه من كون الإيعاد على الحرام لطفا واجبا عليه سبحانه ، لكونه مقرّبا إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية ، ففي العفو إخلال باللطف الواجب؟

وهذا الإشكال وارد أيضا على ما ورد في الأخبار المستفيضة من العفو عن المعاصي في التاسع إلى الحادي عشر من شهر ربيع المولود ، وعلى ما دلّ من الأخبار على العفو من نيّة السوء.

وقد حكي عن المصنّف رحمه‌الله الجواب عن الأوّل بأنّ القبيح هو العفو مع إعلام المكلّف بذلك ، والمفروض في كلام الشيخ عدم علم المقلّد بالعفو ، لكون الداعي

٦٠٩

النظر والاستدلال وإن علم من عمومات الآيات والأخبار وجوب النظر والاستدلال ؛ لأنّ وجوب ذلك توصّلي لأجل حصول المعرفة ، فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر ، اللهمّ إلّا أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال واجبا تعبّديا مستقلا أو شرطا شرعيّا للإيمان ، لكنّ الظاهر خلاف ذلك ؛ فإنّ الظاهر كون ذلك من المقدّمات العقليّة.

______________________________________________________

إلى التحرّز مع جهله به باقيا لا محالة. وعن الثاني بأنّه قد يكون في الإعلام بالنسبة إلى من علم من حاله عدم الإقدام الى المخالفة والمعصية في التكاليف مطلقا ، سواء كان ممّا ثبت العفو عنه أم لا ، كسلمان وأضرابه ، مع إيجاب إخفاء ذلك عليه إلّا ممّن علم من حاله عدم الإقدام على المعصية ، مصلحة. نعم ، ربّما يخطئ مثل سلمان في الإعلام بمن اعتقده غير مقدم على المعصية ، فيعلمه مع كونه من العصاة في الواقع ، فيكون هذا العاصي سببا لانتشار هذا الحكم.

وبالجملة ، إنّه مع فرض كون انتشار هذا الحكم عن تقصير المقصّرين لا يلزم خلاف اللطف على الله سبحانه ، نظير أنّ إبلاغ الأحكام لطف على الله سبحانه مع اختفاء جملة منها علينا ، لأجل تقصير المقصّرين في الحفظ والإبلاغ. وبالجملة ، إنّه قد يكون في الإعلام مصلحة وإن لم نعلمها بخصوصها.

٦١٠

المصادر

(١) الباب الحادى عشر : ص ٣ ـ ٥.

(٢) القوانين ج ٢ : ص ١٧٣.

(٣) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٣٢ ، وج ٢ : ص ٧٣١.

(٤) الوسائل ج ١٨ : ص ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٣.

(٥) المقاصد العليّة : ص ٢٥.

(٦) البقرة (٢) : ١٣٦.

(٧) الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٨) الكافى ج ٣ : ص ٢٦٤.

(٩) الكافى ج ٢ : ص ٢٩ ، ضمن الحديث ١.

(١٠) بحار الأنوار ج ٦٩ : ص ١٦ ، الحديث ٣.

(١١) الكافى ج ٢ : ص ٢٢ ، الحديث ١١.

(١٢) الكافى ج ٢ : ص ٢١ الحديث ٩.

(١٣) الكافى ج ٢ : ص ١٩ ـ ٢٠ ، الحديث ٦.

(١٤) الكافى ج ٢ : ص ٤٠٥ ، الحديث ٦.

(١٥) المقاصد العليّة : ص ٢٠ ـ ٢١.

(١٦) الكافى ج ١ ، ص ٣٢ ، الحديث ١.

(١٧) الغيبة للشيخ الطوسى : ص ١٤٩.

(١٨) معارج الاصول : ص ١٩٩.

(١٩) الوسائل ج ١ : ص ٢١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٨.

(٢٠) الكافى ج ٢ : ص ٤٠٧ ، الحديث الأوّل.

(٢١) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٧٣١ ـ ٧٣٢.

(٢٢) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٣٢.

٦١١
٦١٢

الأمر السادس :

إذا بنينا على عدم حجّية ظنّ أو على عدم حجّية الظنّ المطلق ، فهل يترتّب عليه آثار أخر غير الحجّية بالاستقلال ، مثل كونه جابرا لضعف سند أو قصور دلالة أو كونه موهنا لحجّة اخرى أو كونه مرجّحا لأحد المتعارضين على الآخر؟ ومجمل القول في ذلك : أنّه كما يكون الأصل في الظنّ عدم الحجّية ، كذلك الأصل فيه عدم ترتّب الآثار المذكورة من الجبر والوهن والترجيح.

وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة : الأوّل : الجبر بالظنّ الغير المعتبر ، فنقول عدم اعتباره إمّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه وإمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظنّ. أمّا الأوّل ، فلا ينبغي التأمّل (١٠٤١) في عدم كونه مفيدا للجبر ؛ لعموم ما دلّ على عدم جواز الاعتناء به واستعماله في الدين. وأمّا الثاني ، فالأصل فيه وإن كان ذلك ، إلّا أنّ الظاهر أنّه إذا كان المجبور محتاجا إليه من جهة إفادته للظنّ بالصدور ـ كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص بوصف كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارة الغير المعتبرة الظنّ بصدور ذلك الخبر ـ انجبر قصور سنده به. إلّا أن يدّعى أنّ الظاهر اشتراط حجّية ذلك الخبر بإفادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده.

______________________________________________________

١٠٤١. بل نقول : ستعرف في كلام المصنّف رحمه‌الله عدم صلاحيّة مثل القياس لترجيح أحد الدليلين المتعارضين ، فعدم صلاحيّته لجبر ضعف دليل أولى ، لأنّ الترجيح إنّما يكون بين دليلين تامّين بحيث لا يوجد مانع من العمل بهما سوى

٦١٣

وبالجملة : فالمتّبع هو ما يفهم من دليل حجّية المجبور ، ومن هنا لا ينبغي التأمّل (١٠٤٢) في عدم انجبار قصور الدلالة بالظنّ المطلق ؛ لأنّ المعتبر في باب الدلالات (*) هو ظهور الألفاظ نوعا في مدلولاتها ، لا مجرد الظنّ بمطابقة مدلولاتها للواقع ولو من الخارج.

فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة (١٠٤٣) فهو ، وإلّا ـ بأن كان مجملا أو كان دلالته في الأصل ضعيفة كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي ـ فلا يجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ؛ إذ التعويل حينئذ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام. بل ربّما لا تكون تلك الأمارة موجبة للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايته إفادة الظنّ بالحكم الفرعي ، ولا ملازمة بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لا يريده بذلك اللفظ. نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعي ، فالظنّ به يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتّفاق.

______________________________________________________

تمانعهما وتعارضهما ، فالترجيح إنّما هو لرفع المانع عن العمل بأحدهما المعيّن ، والجبر إنّما يفرض بالنسبة إلى الدليل الضعيف ، فلا محالة يكون الجابر جزء حجّة ، فإذا فرض عدم صلاحيّة مثل القياس للترجيح ، فعدم صلاحيّته لصيرورته جزء حجّة بطريق أولى.

١٠٤٢. حاصله : أنّ المعتبر في باب الدلالة هو ظهور الكلام بنفسه أو بالقرائن في المعنى المقصود ، وغاية ما تفيده الظنون الخارجة هو كون المعنى المظنون مرادا من هذا الكلام لا إعطاء الكلام ، ظهورا في الإرادة. مضافا إلى منع إفادتها لما ذكر ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

١٠٤٣. لعلّ المراد منها ما يعدّ جزءا من الكلام ، كالقرائن اللفظيّة المتّصلة ، أو كالجزء منه ، كالقرائن اللفظيّة المنفصلة أو الحاليّة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الدلالات» ، مدلولها.

٦١٤

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما اشتهر من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند ، بل وكذلك دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب (١٠٤٤) لم يعلم لها بيّنة. والفرق : أنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظني عن قرينة على المراد بخلاف عمل الأصحاب ؛ فإنّ غايته الكشف عن الحكم الواقعي الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ ، كما عرفت (١٠٤٥).

______________________________________________________

١٠٤٤. مثل قوله عليه‌السلام : «لا سهو في سهو» حيث فسّره العلّامة في المنتهى بأنّه لا سهو في موجب السهو ونسبه إلى فهم الأصحاب والفرق بين فهم الأصحاب وعملهم واضح.

١٠٤٥. خبر لقوله : «والفرق». وهو إشارة إلى ضعف الفرق المذكور ، وذلك لأنّك قد عرفت في كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ المعتبر في القرائن ما يعطي ظهورا في إرادة المعنى ، والقرينة الظنّية الوجود ليست كذلك ، إذ غايتها الظنّ بالظهور لا القطع به ، ولذا يعتبر في القرائن القطع بوجودها وإن كانت دلالتها ظنّية ، فتدبّر.

فإن قلت : كيف تنكر جبر ضعف الدلالة بالأمارات المشكوكة الاعتبار ، ومن مذهبك عدم جواز العمل بالعمومات التي نالتها يد التخصيص كثيرا ، مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» و «لا ضرر ولا ضرار» ونحوها إلّا بعد عمل أكثر الأصحاب أو طائفة منهم في مورد اريد إجراء حكم هذه العمومات فيه ، وليس هذا إلّا التزاما بانجبار الدلالة بعمل الأصحاب.

قلت : هذا ليس من قبيل ما ذكرت ، لعدم قصور في إفادة العمومات المذكورة للعموم ، واشتراط العمل بها إنّما هو لوجوب الفحص عن المخصّص في العمل بالعمومات ، لما كثر من ورود التخصيص عليها ، وقصرت أيدينا عن الوصول إلى مخصّصاتها بالفحص عن مظانّها. وكان القدماء واقفين على الأدلّة الخاصّة والعامّة ، ومطّلعين على ما لم يصل إلينا كثيرا ، كان عملهم بها في مورد كاشفا ظنّيا عن عدم ورود مخصّص عليها مخرج لهذا المورد عنها ، فاشتراط عمل

٦١٥

بقي الكلام في مستند (١٠٤٦) المشهور في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر : فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر (١٠٤٧) ، ففيه ـ مع أنّه قد لا يوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر ـ : أنّ جلّهم لا يقولون بحجّية الخبر المظنون الصدور مطلقا (١٠٤٨) ؛ فإنّ المحكيّ عن المشهور اعتبار الإيمان في الراوي ، مع أنّه لا يرتاب في إفادة الموثّق للظنّ.

فإن قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الإمامي (١٠٤٩) بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا».

قلنا : إن كان (١٠٥٠) ما خرج بحكم الآية والرواية مختصّا بما لا يفيد الظنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا لما ظنّ بصدوره كان خبر غير الإمامي المنجبر

______________________________________________________

الأصحاب بها في جواز العمل بها إنّما هو لرفع المانع لا لإثبات المقتضي.

١٠٤٦. المخالف هنا هو الشهيد الثاني والمقدّس الأردبيلي وصاحبا المدارك والمعالم على ما حكي عن بعضهم. ثمّ لا يخفى أنّ للشهرة خصوصيّة وامتيازا من بين سائر الأمارات غير المعتبرة ، ولذا قيل باعتبارها من باب الظنّ الخاصّ للمقبولة والمرفوعة. وقد تقدّم الكلام في دلالتهما عند الكلام في الشهرة ، فراجع. فإذا فرض عدم صلوحها للجبر فغيرها أولى بذلك.

١٠٤٧. يعني : من حيث الصدور.

١٠٤٨. وإن لم يكن الراوي مؤمنا.

١٠٤٩. لا لعدم حجّية مظنون الصدور. وحاصله : أنّ مظنون الصدور حجّة عندهم ، إلّا أنّه خرج منه خبر غير الإمامي بالدليل.

١٠٥٠. حاصله : أنّ المستثنى إن كان مختصّا بغير مظنون الصدور فلا بدّ أن يقولوا بحجّية الموثّق لدخوله في المستثنى منه ، ولا يقولون به. وإن كان عامّا له فلا بدّ أن يقولوا بعدم حجّية الضعيف المنجبر بالشهرة ، وهو خلاف المدّعى.

٦١٦

بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج. ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك (١٠٥١). وإن كان لقيام دليل خاصّ عليه ، ففيه : المنع من وجود هذا الدليل.

وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية. وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة (١) (١٠٥٢).

وربّما يدّعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الإجماع على حجّيته ولم يثبت. وأشكل من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه بناء على أنّ التبيّن يعمّ الظنّي (*) الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.

وهو بعيد ؛ إذ لو اريد مطلق الظنّ فلا يخفى بعده ؛ لأنّ المنهيّ عنه (١٠٥٣)

______________________________________________________

١٠٥١. هذا ربّما ينافي مقابلة المنجبر بالشهرة وغيرها من الأمارات للخبر الموثّق في قوله : «وبالجملة فالفرق بين الضعيف ...» ، لأنّ هذا الكلام يومي إلى عمل المشهور بالمنجبر بغير الشهرة أيضا كعملهم بالمنجبر بها. ولعلّ الأوّل مبنيّ على ظاهر كلمات المشهور حيث خصّوا الجواز في ظاهر كلماتهم بالمنجبر بالشهرة ، والثاني على حمل الشهرة في ظاهر كلماتهم على المثال ، لوضوح أنّ وجه الجبر بها إفادتها للظنّ بالصدور ، وهذا المناط حاصل في غيرها من الأمارات أيضا. ولكن يمكن دفعه بمنع كون المناط في الجبر بالشهرة هو مجرّد الظنّ بالصدور ، لاحتمال كونه شيئا آخر مفقودا في غيرها كالإجماع والأولويّة ، كما سيشير إليه.

١٠٥٢. لعلّ هذا مبنيّ على ما زعمه المشهور من صلوح الشهرة للجبر ، لا على مختار الشهيد الثاني.

١٠٥٣. مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر لفظ التبيّن ، وإلى أنّ مقتضاه القول

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الظنّي» ، الظنّ.

٦١٧

ليس إلّا خبر الفاسق المفيد للظنّ ؛ إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه. وإن اريد البالغ حدّ الاطمئنان فله وجه ، غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ـ ولو بضميمة المجبور ـ حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة. فالآية تدلّ على حجّية الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بعد فيه ، وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه من حكايات الإجماع والأخبار. وأبعد من الكلّ دعوى استفادة حجّيته ممّا دلّ من الأخبار ـ كمقبولة ابن حنظلة والمرفوعة إلى زرارة ـ على الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ؛ فإنّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيته في مقام عدم المعارض بالإجماع والأولويّة. وتوضيح فساد ذلك أنّ الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية ؛ كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : «إنّهما معا مشهوران» ، مع أنّ ذكر الشهرة (١٠٥٤) من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهنا والكلام هنا أيضا يقع تارة فيما

______________________________________________________

بالجبر بكلّ ظنّ ، سواء كان حاصلا من الشهرة أو غيرها ، ولا يقول به المشهور ، بل مقتضاه القول بحجّية مطلق الظنّ ، ولذا استدلّ المحقّق القمّي رحمه‌الله بمنطوق الآية عليه ، لأنّه مع التبيّن عن صدق الخبر فمناط اعتباره هو نفس التبيّن من دون مدخليّة للخبر في العمل.

١٠٥٤. من التأمّل فيما ذكره يظهر ضعف كلّ من دعوى الإجماع والأولويّة ، فلا تغفل.

تنبيه : اعلم أنّا إن قلنا بكون الشهرة جابرة لضعف سند الرواية ، فإنّما هو لأجل إفادتها للظنّ بصدق الراوي ، وكون الرواية صادرة عن الإمام عليه‌السلام. وحينئذ إذا كان للخبر جزءان أو أجزاء كان أحد الجزءين موافقا لفتوى المشهور دون الجزء الآخر ، فالمنجبر حينئذ هو ضعف السند بالنسبة إلى إثبات الجزء الموافق لفتواهم ، لأنّ المظنون بسبب الشهرة صدق الرواية أو الراوي بالنسبة إلى الجزء الموافق خاصّة. وربّما يخرّج هنا شقوق لا دليل عليها ، فلا طائل في ذكرها ، فتدبّر.

٦١٨

علم بعدم اعتباره ، واخرى فيما لم يثبت اعتباره. وتفصيل الكلام في الأول : أنّ المقابل له إن كان من الامور المعتبرة لأجل إفادته الظنّ النوعي ـ أي لكون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ـ فلا إشكال في عدم وهنه بمقابلة ما علم عدم اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصّة على هذا الوجه (١٠٥٥). ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الظواهر اللفظيّة ، فإنّه لا عبرة به أصلا بناء على كون اعتبارها من باب الظنّ النوعي. ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح.

نعم ، لو كان حجّيته ـ سواء كان من باب الظنّ النوعي أو كان من باب التعبّد ـ مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقّف مجال (١٠٥٦). ولعلّه الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين عن شيخه أنّه ذكر له مشافهة : أنّه يتوقّف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه. لكنّ هذا القول ـ أعني تقييد حجّية الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ـ بعيد في الغاية.

وبالجملة : فيكفي في المطلب (١٠٥٧) ما دلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس ، مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس ـ معلّلا بما حاصله غلبة مخالفته للواقع ـ يقتضي أن لا يترتّب شرعا على القياس أثر ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر (١٠٥٨) التعليل أنّه كالموهوم ؛ فكما أنّه

______________________________________________________

١٠٥٥. أي : لأجل إفادة الظنّ النوعي.

١٠٥٦. ناش من انتفاء موضوع الحجّية بسبب القياس ، ومن كون الظنّ القياسي كعدمه شرعا.

١٠٥٧. من عدم كون القياس موهنا مطلقا ، وعلى تقديره يلزم ارتكاب تخصيصين ، أحدهما : في أدلّة حجّية الخبر ، والآخر : في أدلّة حرمة العمل بالقياس ، وكلاهما خلاف الأصل.

١٠٥٨. لا يخفى أنّه لو كان المنع من العمل بالقياس لأجل كونه كالموهوم لزم

٦١٩

لا ينجبر به ضعيف لا يضعّف به قويّ. ويؤيّد ما ذكرنا (١٠٥٩) الرواية المتقدّمة عن أبان الدالّة على ردع الإمام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع.

وهذا حسن (١٠٦٠) لكنّ الأحسن منه تخصيص ذلك بما كان اعتباره من قبل الشارع كما لو دلّ الشرع على حجّية الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه ؛ فإنّ نفي الأثر شرعا من الظنّ القياسي يوجب بقاء اعتبار تلك الأمارة على حاله.

وأمّا ما كان اعتباره (١٠٦١) من باب بناء العرف وكان مرجع حجّيته شرعا إلى تقرير ذلك البناء كظواهر الألفاظ ، فإنّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم

______________________________________________________

منه وجوب العمل بما يقابله ، سواء كان هنا أمارة أو أصل معتبر أم لا ، وهو كما ترى.

١٠٥٩. إنّما جعله مؤيّدا لاحتمال كون ردع الإمام عليه‌السلام لأجل عمل أبان بالقياس في مقابل ما بلغه من الخبر ، لا لمجرّد طرح الخبر به من دون عمل به كما هو المدّعى.

١٠٦٠. يعني : القول بعدم حصول الوهن بالقياس مطلقا وإن قيّدنا اعتبار الظواهر بعدم حصول الظنّ بخلافها.

١٠٦١. حاصل الفرق بين الصورتين : أنّ الشرع إذا دلّ على حجّية الخبر ما لم يظنّ خلافه ، فإذا حصل الظنّ من القياس بخلافه فموضوع الحجّية حينئذ وإن كان مرتفعا باعتبار ارتفاع قيده ، إلّا أنّ الحكم بعدم الحجّية حينئذ أيضا بحكم الشرع بذلك ، لأنّ الشرطيّة إذا ثبتت بالشرع فإذا ارتفع الشرط يكون ارتفاع المشروط من جانب الشارع ، فحينئذ يكون عدم حجّية مثل هذا الخبر من الآثار المرتّبة على الظنّ القياسي ، وقد نفاها الشارع عنه رأسا. هذا بخلاف ما إذا كانت حجّية الخبر الذي لم يظنّ خلافه ثابتة ببناء العقلاء لا بجعل الشارع ، فإنّه إذا ارتفع موضوعها بالظنّ القياسي لا يترتّب عليه أثر شرعيّ أصلا ، لأنّ المرتّب عليه حينئذ ارتفاع بنائهم لارتفاع موضوعه بسبب الظنّ القياسي ، وهو أثر عادي لا شرعيّ ، ونفي جميع الآثار الشرعيّة عن القياس لا يدلّ على نفيه أيضا.

٦٢٠