فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا أوّلا : فإنّ الإجماع المذكور منقول في كلام الكشّي ، وهو خبر واحد لا يفيد القطع.

وأمّا ثانيا : فإنّهم قد اختلفوا في بيان المراد بالموصولة في قوله «على تصحيح ما يصحّ عنهم» بأنّ المراد بها الرواية والنقل أو الخبر المنقول. فعلى الأوّل لا يدلّ ذلك إلّا على كون الراوي ثقة مع السكوت عن حال المرويّ عنه.

قال الشيخ محمّد سبط الشهيد الثاني في محكيّ حاشية الاستبصار عند شرح قول الشيخ : «وأمّا ما رواه محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الكرّ من الماء نحو حبّي هذا» قال : السند فيه إرسال ، غير أنّ عبد الله بن المغيرة قد ذكر الكشّي أنّه ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه. وفهم بعض الأصحاب أنّ المراد بهذا الكلام صحّة ما رواه بحيث تصحّ الرواية إليه ، وحينئذ لا يضرّ الإرسال ، ولا ضعف من روى عنه عبد الله بن المغيرة. وتوقّف في هذا بعض قائلا : إنّا لا نفهم منه إلّا كونه ثقة. والذي يقتضيه النظر القاصر أنّ كون الرجل ثقة مشترك ، فلا وجه لاقتصار الإجماع بهؤلاء المذكورين ، وحينئذ لا بدّ من بيان الوجه. ثمّ ما ذكر القائل الأوّل ينافيه ما قاله الشيخ في الرواية الآتية عن عبد الله بن المغيرة من أنّها مرسلة ، فإنّ الشيخ أعلم بمقاصد الكشّي من المتأخّرين. ولا يبعد أن يكون الوجه في ذكر الإجماع على الجماعة المخصوصين أنّ عمل المتقدّمين بالأخبار إنّما هو مع اختصاصها بالقرائن ، فإذا كانت الرواة ممّن اجتمع على تصحيح ما يصحّ عنهم كان الإجماع من جهة القرائن. وبدون هذا يحتاج إلى زيادة بيان القرائن.

وساق الكلام في النقض والإبرام على هذا المرام إلى أن قال : ويؤيّد ما ذكرته أنّ ابن أبي عمير من جملة من اجتمع الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنه ، والكلام في مراسيله كثير ، من أنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، والمناقشة بعدم العلم بهذا ، ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيه القول ، فلو كان المراد بالإجماع على

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

تصحيح ما يصحّ عن الرجل ما قاله القائل لا حاجة إلى التوثيق في مراسيل ابن أبي عمير ، كما لا حاجة إلى قولنا إنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، فإنّه لو روى عن ضعيف لا يضرّ بالحال ، وقد ردّ الشيخ رواية رواها ابن أبي عمير عن بعض أصحابه في آخر باب العتق بالإرسال ، والشيخ أعلم بالحال ، فالعجب من دعوى بعض الأصحاب أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب مطلقا ، فينبغي التأمّل في هذا كلّه» انتهى.

ويا ليت شعري إنّ المدّعي لقطعيّة أخبار الكتب الأربعة لأجل الإجماع المذكور ، بمعنى استناده في ذلك إلى كون تلك الأخبار في اصول الجماعة الذين ادّعى الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم مثلا ، ما يقول لو اطّلع على ردّ الشيخ لبعض أخبار هؤلاء الجماعة بإرسال ونحوه؟! مع أنّ الشيخ أعرف بمقاصد الكشي منه كما عرفت. وسيأتي تحقيق الكلام في قولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم في تضاعيف أدلّة حجّية أخبار الآحاد إن شاء الله تعالى. وممّا ذكره قدس‌سره يظهر فساد ما طعن به على الشهيد الثاني وغيره ، إذ بعد طعن مدّعي الإجماع في مراسيل ابن أبي عمير بالإرسال كيف يعتمد عليها؟

وأمّا ثالثا : فإنّ المراد بالصحّة في كلام الكشّي هو الوثوق بالصدور دون اليقين به ، كما عرفت التصريح بكون المراد بالصحّة ذلك في كلمات القدماء من شيخنا البهائي والمحدّث الجزائري ، وعرفت تحقيق الحال في ملاحظة القدماء لسند الأخبار.

وقال الوحيد البهبهاني في رسالته في الاجتهاد والأخبار : «إنّ كون الصحيح بمعنى قطعي الصدور خلاف ظاهر عبارة الشيخ في أوّل التهذيب وصريحها في أوّل الاستبصار كما أشرنا إليه ، وكذا خلاف ظاهر قولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم على ما أشرنا إليه». ثمّ نقل كلام شيخنا البهائي الذي أشرنا إليه وقال : «والظاهر من عبارات بعضهم أنّ إطلاق الصحيح

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس بمعنى قطعي الصدور ، ومنه أنّ الصدوق ربّما يظهر منه عدم قطعه بصدور الحديث الذي أفتى به في الفقيه ، مع أنّه قال في أوّله : إنّ كلّ ما أفتي به وأحكم بصحّته.

ومن المواضع التي يظهر منها ذلك ما ذكره في باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب : فأمّا الحديث الذي روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «لا بأس أن يصلّي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه» إلى أن قال : فهذا حديث يروى عن ثلاثة من المجهولين بإسناد منقطع ، يرويه الحسن بن علي الكوفي ، وهو معروف ، عن الحسين بن عمرو ، عن أبيه ، عن عمرو بن إبراهيم الهمداني ، وهم مجهولون ، برفع الحديث قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام ذلك. ولكنّها رخصة اقترنت بها علّة صدرت عن ثقات ثمّ اتّصلت بالمجهولين والانقطاع ، فمن أخذ بها لم يكن مخطئا بعد أنّ يعلم أن الأصل هو النهي ، وأنّ الإطلاق هو رخصة ، والرخصة رحمة ... إلى آخر ما ذكره ، فلو كان هذا الحديث قطعي الصدور لما كان يطعن في سنده بالنحو المذكور ثمّ يقبلها من جهة القرائن المذكورة.

ومنها : ما ذكره في الباب المذكور من قوله : مشايخنا يقولون : لا تجوز الصلاة في العمامة الطائفيّة ... ، غير خفيّ على المنصف أنّ الظاهر من هذه العبارة عدم قطع الصدوق بكون هذا صادرا عن المعصوم عليه‌السلام ، وذكر المسائل التي سمعها عن مشايخه من دون اطّلاعه على نصّ فيه في الفقيه متكرّرا.

ومنها : ما ذكره في باب ما يجوز للمحرم الإتيان به : وروى عليّ بن مهزيار قال : سألت ابن أبي عمير عن التفّاح والأترجّ والنبق وما طاب من ريحه؟ فقال : يمسك عن شمّه وأكله ، ولم يرو فيه شيئا. ولعلّك بالتتبّع تجد كثيرا من مثله ، فتدبّر.

ومنها ما ذكره في باب الدين بعد ذكر رواية عن يونس بن عبد الرحمن من قوله : كان شيخنا محمّد بن الحسن رضي الله عنه يروي حديثا في أنّ له الدراهم التي تجوز بين الناس ، والحديثان متّفقان غير مختلفين ... وغير خفيّ أنّ قوله «كان شيخنا ...» في غاية الظهور في عدم قطعه بالصدور ، ومع ذلك أفتى بمضمونه ، مع معارضته لرواية يونس حيث قال : «فمتى كان ...» ، فلاحظ وتدبّر.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : ما ذكره في باب المزارعة والإجارة : وسألت شيخنا احمد بن الحسن عن رجل آجر ضيعته هل له أن يبيعها؟ قال : ليس له بيعها قبل انقضاء مدّة الإجارة ... إلى آخر ما قال. وظهوره في مقصودنا ظاهر.

ومنها : ما ذكره في باب الوصيّ يمنع الوارث ماله بعد البلوغ فيزني لعجزه عن التزويج ، بعد أن أورد الحكم بعنوان رواية واحدة عن الكليني : ما وجدت هذا الحديث إلّا في كتاب محمّد بن يعقوب الكليني ، وما رويته إلّا من طريقه .... ونظير ما ذكر وقع منه متكرّرا منه في باب الصيد والذبائح مكرّرا ، ومنه في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان ، ومنه في باب صوم الشكّ ، ولعلّك لو تتّبعت وجدت أزيد.

ومنها : ما ذكره في باب مسّ الميّت : «وذكر شيخنا محمّد بن الحسن رحمه‌الله في جامعه في الجارية تموت مع الرجال ، قال : إذا كانت ابنة أكثر من خمس سنين أو ستّ دفنت ولم تغسل ـ إلى أن قال ـ وذكر عن عليّ الحلبي حديثا في معناه عن الصادق عليه‌السلام» انتهى. وهذا في غاية الظهور فيما ذكرناه. ومنها : الرواية التي ذكرها بعنوان «رويت» على البناء للمجهول مفتى بها.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا الأخبار التي يقدح في سندها بالإرسال والقطع وأمثالها ومع ذلك يفتي بها. ومنها في باب مقدار للوضوء ، فإنّه روى حديثا ظاهره استحباب تثنية الغسل ، فطعن عليه بانقطاع الإسناد ، ومع ذلك أفتى به بناء على أنّ المراد منه تحديد الوضوء ، فتأمّل.

ويؤيّده أيضا ما ذكره في باب الصلاة في شهر رمضان : وممّن روى الزيادة في التطوّع في شهر رمضان زرعة عن سماعة ، وهما واقفيّان ، قال : سألته عن شهر رمضان ـ إلى أن قال ـ وإنّما أوردت هذا الخبر في هذا الباب مع عدولي عنه وتركي لاستعماله ، ليعلم الناظر في كتابي هذا كيف يروى؟ ومن رواه؟ وليعلم من اعتقادي أنّي لا أرى بأسا باستعماله ، فتدبّر.

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا يؤيّده أنّه كثيرا ما يقول : وأخرجت هذه الأخبار مسندة في كتاب فلان هذا ، ونحو هذا ، فتأمّل. وبالجملة المنصف إذا تتّبع الفقيه وتأمّل لا يبقى له مجال للتأمّل فيما ذكرنا.

وممّا يدلّ على أنّ الصحيح عند القدماء ليس بمعنى قطعي الصدور أنّهم ـ مثل الشيخ وغيره ـ كانوا يعملون بأخبار الآحاد كما أشير إليه في الجملة وسنذكره مبسوطا ، وظاهر أنّ ما عملوا به وجعلوه حجّة صحيح عندهم ، واعترف المحقّقون من المجتهدين والأخباريّين بأنّ الخبر عند القدماء كان على ضربين : صحيح وضعيف ، والظاهر من كلماتهم ونشير إليه أنّهم كثيرا ما كانوا يقدحون في الحديث بما يوجب الضعف وعدم الحجّية وترك العمل به ، ثمّ يقولون : ولو صحّ لكان محمولا على كذا وكذا ، وأوردنا لك بعض ذلك ، وسنشير إلى بعض.

وممّا يدلّ أيضا على ذلك أنّهم كثيرا ما يبنون صحّة حديثهم على الظنون مثل : قول شيخهم أو اعتماده عليه أو عدم منعه من العمل به وروايته إيّاه ، وقد أشرنا إليه وسنشير إليه أيضا.

وممّا يدلّ عليه أنّ الحديث الذي له شاهد من الكتاب أو السنّة مثلا كان عند القدماء صحيحا قطعا ، ولا خفاء فيه ، مع أنّه بمجرّد ذلك لا يقطع بالصدور وبالجملة ، لو تتّبع الإنسان أقوالهم وكتبهم سيّما كتاب الرجال لم يبق له شكّ في فساد ما نسب إليهم من كون الصحيح بمعنى قطعي الصدور» انتهى ما أردنا إيراده في المقام.

ومنها : ما ذكره لأمين الأسترآبادي أيضا «من توافق أخبار الأئمّة الثلاثة قدس سرّهم على صحّة أحاديث كتبهم ، ولا يقدح في ذلك اشتمال طرق كثيرة منها على من تغيّر حاله عن الاستقامة ، إمّا بانتحال المذاهب الفاسدة ، أو بظهور الكذب منه ، وتطرّق الاختلال عليه بعد أن كان ثقة مستقيما. ويؤيّده ما تقدّم نقله عن السيّد

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأجلّ المرتضى رضي الله عنه» انتهى.

وأقول : إن ضعف هذا الكلام وإن لم يحتج إلى بيان بعد جميع ما قدّمناه ، إلّا أنّا نزيد التوضيح هنا في الجملة فنقول : إنّ أقدم هؤلاء الجماعة ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدس‌سره ، وموضع الدلالة من كلامه في ديباجة الكافي قوله : «والشرط من الله جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّي جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ، ليكون المؤدّي له محمودا عند ربّه مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه ، لأنّ الذي يؤدّي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدّي ، ولا يدري إلى من يؤدّي ، وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة ممّا أدّى». وساق الكلام فيما هو بهذا المنوال في الدلالة على المدّعى إلى أن قال : «وإنّك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتعارضه ممّن تثق بعلمه فيها ، وقلت إنّك تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع جميع فنون علم الدين ، ما يكتفي به المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين بالعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام». إلى أن قال : «قد يسّر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ...» إلى آخر ما ذكره. والمستفاد منه بعد ضمّ بعض كلامه إلى بعض هو حصول القطع له بصدور جميع أخبار كتابه عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، وكون مراده بالصحيح ما حصل العلم بصدوره عنهم عليهم‌السلام.

وأقول : إنّ هذا ما يقتضيه التأمّل في كلامه في بادئ النظر ، والذي يقتضيه التدبّر في أطراف كلامه ومجامع كلماته خلافه ، لأنّ الذي يقتضيه التأمّل الصادق في كلامه أحد أمرين :

أحدكما : أن يكون مراده بالعلم واليقين ما يشمل الوثوق ، لا خصوص الاعتقاد الجزمي. ويشهد به ما عرفته من قوله : «لم يكن على ثقة ممّا أدّى» وقوله : «ممّن تثق بعلمه فيها».

وثانيهما : أن يكون مراده بالعلم هو العلم بجواز العمل لا بالصدور. و

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يشهد به قوله : «وقال عليه‌السلام من أخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال» لأنّ في جعل الأخذ من الكتاب والسنّة مقابلا للأخذ من أفواه الرجال دلالة واضحة على ما ذكرناه ، سيّما مع عدم كون دلالة الكتاب والسنّة المتواترة قطعيّة. ونحوه قوله : «فمن أراد الله توفيقه ، وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرّا ، سبّب له الأسباب التي تؤدّيه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلم ويقين وبصيرة ، فذلك أثبت في دينه من الجبال الرواسي. ومن أراد الله خذلانه ، وأن يكون دينه معارا مستودعا نعوذ بالله منه ، سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة».

وفي قوله : «أرجو أن يكون بحيث توخّيت» إشارة إلى عدم القطع بالصدور. وكذا قوله : «فاعلم أخي أرشدك الله أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : اعرضوها على كتاب الله». ثمّ ذكر الترجيح بمخالفة العامّة والشهرة. والدلالة فيه من وجهين :

أحدهما : أنّ ظاهره أنّ الممنوع منه في باب التعارض هو الترجيح بالرأي لا بغير العلم مطلقا ، فكلامه لا يأبى عن الترجيح بالمرجّحات المنصوصة مع فرض عدم العلم بصدورها عن الإمام عليه‌السلام.

وثانيهما : أنّ الترجيح بالشهرة لا يتمّ إلّا مع كون المتعارضين ظنّي الصدور ، إذ لا ترجيح بها مع القطع بصدورهما ، لأنّ الترجيح مع القطع بصدورهما إنّما يتمّ بمخالفة العامّة لا بمثل الشهرة المفيدة لرجحان الصدور. اللهمّ إلّا أن يحمل أخبار الترجيح على التعبّد المحض ، وهو بعيد في الغاية ، وفضيح في النهاية.

وربّما يقال : إنّه قد أفاد شكواه من كثرة الاختلاف من نقلة الأخبار والتمييز بين الصحاح والضعاف ، وحرصه على إيراد الأسانيد بتمامها خلاف المدّعى. هذا ، مع أنّه ـ كما قيل ـ قد أكثر في الكافي من الرواية عن غير المعصوم في أوّل كتاب الإرث. وقال في كتاب الديات في باب وجوه القتل : عليّ بن

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إبراهيم قال : وجوه القتل على ثلاثة أضرب ... إلى آخر ما قال ، ولم يرو في ذلك الباب حديثا آخر. وفي باب شهادة الصبيان عن أبي أيّوب قال : سمعت إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام. وأكثر أيضا في أصول الكافي من الرواية عن غير المعصوم ، منه ما ذكره في مولد الحسين عليه‌السلام من حكاية الأسد الذي دعته فضّة إلى حراسة جسده عليه‌السلام ، وما ذكره في مولد أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أسد بن صفوان ، وهو طويل ، والحكايتان مشهورتان ، إلى غير ذلك.

وأمّا الصدوق فإنّه وإن قيل بصراحة كلامه في ضمانه صحّة ما أورده في الفقيه ، إلّا أنّا قد أوضحنا فيما أوردناه على القرينة السابقة أنّ مراده بالصحّة ليس القطع بالصدور بل الظنّ أو الوثوق به ، فراجع. ويدلّ عليه أيضا ما قدّمناه سابقا من تقليده في تصحيح الأخبار وتضعيفها شيخه ابن الوليد ، كما صرّح به في كتاب الصلاة. وعن كتاب الإكمال قال في توجيه اختلاف الإماميّة ما لفظه المحكيّ : «إنّ اختلافهم إنّما هو من قبل كذّابين دسّوا أنفسهم لهم في الوقت بعد الوقت والزمان بعد الزمان حتّى عظم البلاء ، وكان أسلافهم قوما يرجعون إلى ورع واجتهاد وسلامة ناجية ، ولم يكونوا أصحاب نظر وتمييز ، وكانوا إذا رأوا رجلا مستورا يروي خبرا أحسنوا به الظنّ وقبلوه ، فلمّا كثر هذا وظهر شكوا إلى أئمّتهم ، فأمرهم الأئمّة عليهم‌السلام أن يأخذوا ما يجمع عليه ، فلم يفعلوا وجروا على عادتهم ، فكانت الجناية من قبلهم لا من قبل أئمّتهم ، والإمام أيضا لم يقف على هذه التخاليط التي رويت» انتهى.

وأنت خبير بأنّه مع هذا الكلام كيف تحمل الصحّة في كلامه على إرادة القطع بالصدور؟ مع أنّه قال في أوّل كتابه : «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع». وعدّ من جملة هذه الكتب المشهورة نوادر (*) محمّد بن أحمد بن يحيى. وفي الخلاصة ورجال النجاشي : «أنّ أصحابنا

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «كتاب نوادر الحكمة على ما قيل كتاب حسن ، يعرفه القمّيون بدبّة شبيب. وشبيب فاميّ كان بقم ، له دبّة ذات بيوت ، يعطي منها ما يطلب منه ، فشبّهوا هذا الكتاب بذلك. منه».

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

قالوا : إنّه كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، ولا يبالي عمّن أخذ ، وما عليه في نفسه طعن في شيء» انتهى. واستثنى ابن الوليد جماعة من رواته ، وتبعه أبو العبّاس والصدوق. ومن كانت حاله ذلك كيف يجترئ أحد على دعوى القطع بصدور أخبار مثله؟ وإن استثنوا منها ما استثنوا.

ومن جملتها محاسن البرقي. وقال الغضائري : حديثه يعرف وينكر ، ويروي عن الضعفاء كثيرا ، ويعتمد المراسيل.

ومنها : كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله. وقد روى في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام عن محمّد بن عبد الله المسمعي رواية ، قال : كان شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد سيّئ الرأي في محمّد بن عبد الله راوي هذا الحديث ، وأنا أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب ، لأنّه كان في كتاب الرحمة ، وقد قرأت عليه ولم ينكره ، وروى لي» انتهى. وقد اكتفى في الاعتماد على كتاب الرحمة بمجرّد عدم إنكار شيخه عليه ، فكيف يكون مثله قطعيّا؟

ومنها : نوادر ابن أبي عمير. وفي ترجمته عن النجاشي : وأمّا نوادره فهي كثيرة ، لأنّ الرواة لها كثيرة ، فهي مختلفة باختلافهم.

ومنها : رسالة أبيه إليه ، مع أنّ تلك الرسالة فتاوى أبيه إليه. ودعوى أنّه كان يقطع بصدور جميع فتاوى أبيه فيها عن المعصوم عليه‌السلام بعيدة عن السداد. مع أنّ الصدوق قد يضعّف روايته في الفقيه ، قال في باب صوم التطوّع : «وأمّا خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه ، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن كان لا يصحّحه ، ويقول : إنّه من طريق محمّد بن موسى الهمداني ، وكان غير ثقة ، وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح» انتهى. وفي باب ما يجب به التعزير والرجم عند إيراد رواية عن وهب بن وهب جاء هذا الحديث هكذا : «في رواية وهب بن وهب ، وهو ضعيف. والذي أفتي به وأعتمده في هذا المعنى ما رواه الحسن ...». وفي باب إحرام

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الحائض : «وبهذا الحديث أفتي ، دون الحديث الذي رواه ابن مسكان عن إبراهيم بن إسحاق عمّن سأل أبا عبد الله عليه‌السلام» إلى أن قال : «لأنّ هذا الحديث إسناده منقطع ، والحديث الأوّل رخصة ورحمة ، وإسناده متّصل». وفي باب ميراث ذوي الأرحام مع الموالي : «فأمّا الحديث الذي رواه المخالفون ـ إلى أن قال ـ فهو حديث منقطع». ويقرب ممّا تقدّم ما في باب ما يصلّى فيه من الثياب ، وباب ميراث المجوس ، وباب رجلين يوصى إليهما فينفرد كلّ منهما ... ، وباب ما يجب على من أفطر أو جامع ، وباب وجوب الجمعة ، إلى غير ذلك.

هذا كلّه ، مضافا إلى ما ذكرناه فيما أوردناه على القرائن السابقة ، إذ بعد ملاحظة جميع ما قدّمناه بل بعضها لا يبقى ريب في عدم كون أخبار الفقيه مقطوعا بها عند الصدوق.

وأمّا شيخ الطائفة فقد تقدّم فيما أوردناه على القرينة السابقة دعوى الوحيد البهبهاني ظهور كلامه في أوّل التهذيب وصراحته في أوّل الاستبصار في عدم كون المراد بالصحّة في كلماتهم هو القطع بالصدور ، مع أنّ الشيخ كثيرا يطعن على أحاديثهما بالضعف والإرسال. ومنه ما تقدّم فيما أوردناه على القرينة السابقة من طعنه على روايتي ابن المغيرة وابن أبي عمير. ومنه ما ذكره في باب زكاة الحنطة والشعير من قوله : «فإنّ هذين الخبرين الأصل فيهما سماعة ، وتختلف روايته ، لأنّ الرواية الأخيرة قال فيها : سألته ، ولم يذكر المسئول ، وهذا يحتمل أن يكون غير من يجب اتّباع قوله» إلى أن قال : «والرواية الاولى قال فيها : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، وذكر الحديث. وهذا الاضطراب في الحديث ممّا يضعّف الاحتجاج به ، ولو سلّم لكان ...» إلى آخر ما ذكره. ونحوه ما ذكره في كتاب الصوم في بحث أنّ شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور ، وما ذكره في بحث المتيمّم يصلّي بتيمّمه صلوات الليل والنهار ، وما ذكره في باب من أحلّ الله من النساء ومن حرّم ، وما ذكره في آخر باب وقت الزكاة ، وما ذكره في بحث بيع

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الذهب والفضّة نسيئة ، وما ذكره في باب ميراث ابن الملاعنة ، وما ذكره في بحث المحتلم الخائف على نفسه من شدّة البرد ، وما ذكره في باب حكم المسافر في الصيام ، إلى غير ذلك.

وكذا في الاستبصار في باب أنّ المتيمّم يجوز له أن يصلّي بتيمّمه صلوات كثيرة ، وفي باب ما يحلّ لبني هاشم من الزكاة ، وفي باب علامة أوّل يوم من شهر رمضان ، وفي باب من فاته الوقوف بالمشعر ، وباب النهي عن بيع الذهب بالفضّة نسيئة ، وباب أنّه لا يجوز العقد على الإماء إلّا بإذن مواليهنّ ، وباب أنّ الرجل إذا سمّى المهر ودخل بالمرأة قبل أن يعطيها ، وباب عدّة المتمتّع بها إذا مات زوجها ، وباب أنّ الزوج والزوجة كلّ منهما يرث دية صاحبه ، وباب حكم العوامل في الزكاة ، وباب ذكر جمل من الأخبار يتعلّق بها أصحاب العدد ، وباب أنّه إذا دخل بالأمّ حرمت عليه البنت ، وباب أنّ اللبن للفحل ، وباب أنّه لا يجوز العقد على امرأة عقد عليها الأب ، إلى غير ذلك ممّا أشار إليه الوحيد البهبهاني في رسالته.

ومع تسليم كون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة عند الأئمة الثلاثة ، فهو لا يستلزم كونها كذلك عند غيرهم ممّن تأخّر عنهم أو تقدّم عليهم ، كيف وقد يكون الحديث صحيحا عند الأئمّة الثلاثة ويطعن عليه غيرهم من الأجلّة ، كما في حديث سهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه قد أورده الكليني والصدوق مع مبالغته ـ كشيخه ابن الوليد ـ في التشنيع على من تأمّل فيه. وعن الشيخ أنّه بعد أن أورد الرواية المتضمّنة لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسجد سجدتي السهو قطّ قال : «الذي أفتي به ما تضمّنه هذا الخبر ، فأمّا الأخبار التي قدّمناها من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سجد فإنّها موافقة للعامّة ، وإنّما ذكرناها لأنّ ما تضمّنه من الأحكام معمول بها على ما بيّنّاه». ومن جملة الأخبار التي قدّمها تلك الرواية التي صحّحها المشايخ المذكورة ، وأوردها بطرق متعدّدة ، بل استشهد لمطلوبه واستند إليها ، فلاحظ ، فهذا يدلّ على كونها صحيحة عنده» انتهى المحكيّ عنه.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال الوحيد البهبهاني : «قال الأجلّ المرتضى والمفيد في رسالته في الردّ على الصدوق في جواب أهل الحائر ما لفظه : الحديث الذي رواه الناصبيّة والمقلّدة من الشيعة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سها في صلاته فسلّم على ركعتين ، ثمّ نقل الحديث ثمّ قال : من الأخبار الآحاد الّتي لا تثمر علما ، ولا توجب عملا ، ومن عمل على شيء منها فعلى الظنّ يعتمد في عمله بها دون اليقين ، وقد نهى الله تعالى عن العمل على الظنّ في الدين ، وحذّر من القول فيه بغير علم ويقين ـ إلى أن قال ـ وإذا كان الخبر بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سها من الأخبار الآحاد التي من عمل بها كان بظنّه عاملا ، حرم الاعتقاد بصحّته ولم يجز القطع ، ووجب العدول عنها إلى ما يقتضيه اليقين من كلامه عليه‌السلام وعصمته ، وحراسة الله تعالى له من الخطأ في عمله ... إلى آخر ما قال. ثمّ شرع في الإتيان بالأدلّة على بطلان هذا الحديث ، ومن جملتها أنّه قال : وممّا يدلّ على بطلان هذا الحديث أيضا اختلافهم في الخبر ـ إلى أن قال ـ وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في هذا الحديث أدلّ دليل على بطلانه ، وأوضح حجّة في وضعه واختلافه» انتهى.

وقد تقدّم أيضا طعن المفيد في أخبار الذرّ مع إيراد الكليني لها في كتابه. مع أنّ الصدوق قد يضعّف حديث الكافي ، كما في باب الرجلين يوصي إليهما فيفرز كلّ منهما نصف التركة ، قال ما لفظه : «وفي كتاب محمّد بن يعقوب الكليني عن أحمد بن محمّد ، ونقل الحديث ، ثمّ قال : لست أفتي بهذا الحديث ، بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن علي ، ولو صحّ الخبران جميعا كان الواجب الأخذ بقول الأخير» وعن الشيخ في التهذيب بعد أن أورد رواية الكافي قال : «ذكر أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه أنّ هذا الخبر لا اعتمد عليه ولا أفتي به ، وإنّما أعمل بالخبر الأوّل ، ظنّا منه أنّهما متنافيان ، وليس الأمر على ما ظنّه». ونحوه عن الاستبصار.

مع أنّ الكليني في كتاب الصوم قال : باب نادر ، وأورد الأحاديث الدالّة على أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا ، مثل رواية حذيفة بطريقين عن الصادق عليه‌السلام ، و

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

روايته عن المعاذ بن كثير عنه عليه‌السلام ، ورواية محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عنه عليه‌السلام ، ولم يورد غير هذه الأحاديث. وكذا الصدوق في كتاب الصوم في كتاب النوادر ، إلّا أنّه أورد بدل رواية «محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه» رواية محمّد بن إسماعيل عن محمّد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه عنه عليه‌السلام ، ومتنهما متقاربان ، ولا يبعد أن يكونا واحدين. والشيخ قد بالغ في الطعن على هذه الأخبار في كتابيه. وكذا المفيد في رسالته ، وقال في جملة كلامه : فهي أحاديث شاذّة قد طعن نقلة الآثار من الشيعة في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ... إلى آخر ما ذكر من هذا المساق.

وللشيخ الحرّ العاملي كلام في دفع ما قدّمناه قال :

فإن قلت : إنّ رئيس الطائفة كثيرا ما يطرح في كتابي الأخبار بعض الأحاديث التي يظهر من القرائن نقلها من الكتب المعتمدة ، معلّلا بأنّه ضعيف.

قلت : للصحيح عند القدماء وسائر الأخبار بين ثلاثة معان : أحدها : ما علم وروده عن المعصوم عليه‌السلام. وثانيها : ذلك مع قيد زائد ، وهو عدم معارض أقوى منه بمخالفة التقيّة ونحوها. وثالثها : ما قطع بصحّة مضمونه في الواقع ، أي : بأنّه حكم الله ولو لم يقطع بوروده عن المعصوم عليه‌السلام. وللضعيف عندهم ثلاثة معان مقابلة لمعنى الصحيح ، أحدها : ما لم يعلم وروده عن المعصوم عليه‌السلام بشيء من القرائن. وثانيها : ما علم وروده ، وظهر له معارض أقوى منه. وثالثها : ما علم عدم صحّة مضمونه في الواقع ، لمخالفته للضروريّات ونحوها. فتضعيف الشيخ لبعض الأحاديث المذكورة معناه : أنّ الحديث ضعيف بالنسبة إلى معارضه وإن علم ثبوته بالقرائن. وأمّا الضعيف الذي لم يثبت عن المعصوم عليه‌السلام ، ولم يعلم كون مضمونه حقّا ، فقد علم بالتّتبّع والنقل أنّهم ما كانوا يثبتونه في كتاب معتمد ، ولا يهتمّون بروايته بل ينصّون على عدم صحّته.

فإن قلت : في كتاب من لا يحضره الفقيه ما يدلّ على الطعن في بعض أحاديث الكافي ، وذلك قوله في باب الرجل يوصي إلى رجلين : لست أفتي بهذا الحديث ـ

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مشيرا إلى ما رواه الكليني عن الصادق عليه‌السلام ـ بل أفتي بما عندي بخطّ العسكري عليه‌السلام ، ولو صحّ الخبران لوجب الأخذ بالأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام. وقوله في باب الوصيّ يمنع الوارث : ما وجدت هذا الحديث إلّا في كتاب محمّد بن يعقوب ، ولا رويته إلّا من طريقه.

قلت : أمّا الأوّل فليس بصريح في نفي صحّة الحديث الذي في الكافي ، لاحتمال إرادته نفي تساوي الصحّة ، فإنّ خطّ المعصوم عليه‌السلام أقوى من النقل بوسائط ، أو بسبب التقدّم والتأخّر خاصّة ، فيكون تضعيفا بالنسبة إلى قوّة المعارض كما مرّ ، فلا ينافي ثبوت وروده عن المعصوم عليه‌السلام. ويحتمل كونه أيضا غافلا عمّا صرّح به الكليني في أوّل كتابه ... إلى آخر ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره من تثليث معنى الصحيح والضعيف ونسبته إلى القدماء لا شاهد له ، بل مخالف لما صرّح به جماعة من انحصار الأخبار عندهم في الصحيح والضعيف ، وأنّ الصحيح ما تركن إليه النفس من حيث صدوره ، والضعيف خلافه كما قدّمناه. مضافا إلى أنّ ما ذكره لا يتأتّى في كثير ممّا قدّمناه ، فلاحظ ولا تغفل.

وأمّا ما ذكره من كون الخطّ أقوى من النقل بوسائط فهو ممّا تضحك منه الثكلى ، بعد فرض القطع بصدور المنقول عن المعصوم عليه‌السلام ، سيّما مع الخلاف من الأعاظم في حجّية المكاتبة وكثرة احتمال التقيّة فيها ، فتدبّر.

وأمّا ما ذكر من احتمال غفلة الصدوق عمّا ذكره الكليني في أوّل كتابه ، ففيه : ـ مع عدم دلالة كلام الكليني في أوّل كتابه على مدّعاه كما قدّمناه ـ أنّه وإن فرض غفلته عن ذلك ، إلّا أنّه كان مطّلعا على الاصول والكتب المعتمدة التي أخذ الكليني أخبار كتابه منها ، والله أعلم بالصواب.

ومنها : ما ذكره الأمين الأسترآبادي أيضا من «أنّه لو لم تكن أحاديث كتبنا مأخوذة من الاصول المجمع عليها لزم أن يكون أكثر أحاديثنا غير صالحة للاعتماد

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عليها ، والعادة قاضية ببطلانه» انتهى.

وفيه : أنّه إن أراد قضاء العادة ببطلان خلوّ أكثر الأحكام عن أدلّة قطعيّة مطلقا ، ففيه : أنّ أيّ عادة تقضي بذلك؟ لجواز أن يجعل الشارع قسما من الأخبار كالموثوق بالصدور حجّة كما هو ظاهر الأدلّة ، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إنّ قاعدة اللطف تقتضي إيصال الأحكام إلى المكلّفين على سبيل القطع ، لقبح تفويت المصالح الواقعيّة عنهم.

قلت : إنّ ذلك إنّما هو مع المصلحة المتداركة في العمل بالطريق على تقدير تخلّفها عن الواقع ، وقد تكون الطريق متضمّنة للمصلحة. مع أنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا لم يتسبّب المكلّفون لتفويت المصالح على أنفسهم ، وقد تسبّبوا لأعظم من ذلك كغيبة الإمام عليه‌السلام ، لأنّهم لو أزالوا السبب لظهر وانتفعنا بوجوده الشريف وما معه من الأحكام.

وإن أراد بطلان خلوّ أكثر الأحكام عن أدلّة قطعيّة الاعتبار من قبل الشارع ، ففيه : ـ مع منع بطلانه ، لجواز العمل بمطلق الظنّ حينئذ كما سيأتي في محلّه ـ أنّه خلاف المدّعى من القطع بصدور أخبار الكتب المشهورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

ومنها : ما ذكره الأمين الأسترآبادي أيضا من «أنّه كثيرا ما يطرح رئيس الطائفة الأحاديث الصحيحة باصطلاح المتأخّرين ، ويعمل [المتأخّرون (*)] بنقائضها الضعيفة باصطلاح المتأخّرين ، فلو لا ما ذكرناه لما وقع من مثل رئيس الطائفة ذلك عادة» انتهى.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ عمل الشيخ بالضعيف على اصطلاح المتأخّرين لا دلالة فيه على كون الأخبار عنده قطعيّة الصدور ، لجواز كون ذلك لأجل وثوقه بصدور ما عمل به كما هو معنى الصحيح على اصطلاح القدماء ، كما قدّمناه.

ومنها : ما ذكره أيضا من «أنّه كثيرا ما يعتمد رئيس الطائفة على طرق ضعيفة

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. والاظهر أنّها زيادة من النساخ ، ومخلّة بالمعنى ، ولذا جعلناها بين معقوفتين.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مع تمكّنه من طرق اخرى صحيحة ، فلو لا ما ذكرناه لما وقع من مثله ذلك عادة» انتهى. ويظهر جوابه من سابقه.

ومنها ما ذكره أيضا من «أنّ رئيس الطائفة صرّح في كتاب العدّة وفي أوّل الاستبصار بأنّ كلّ حديث عمل به مأخوذ من الاصول المجمع على صحّة نقلها ، ونحن نقطع بأنّه ما كذب» انتهى.

وفيه : أنّه قد حكي عن الفاضل التوني أنّي تصفّحت العدّة فما رأيت هذا الكلام فيه. وأمّا ما نقله عن الاستبصار فقد تقدّمت عن الوحيد البهبهاني دعوى صراحة عبارة الشيخ في أوّل الاستبصار في خلاف ما ذكره. مع أنّ الإجماع على صحّة ما في الاصول من الأخبار لا يستلزم القطع بصدورها ، لما عرفت من أنّ الصّحة عندهم ما تركن النفس إلى صدوره لا ما قطع به ، مضافا إلى منع استلزام حصول القطع له لحصوله لغيره أيضا.

ومنها : ما ذكره أيضا من «أنّ شيخنا الصدوق قدس‌سره ذكر مثل ذلك بل أقوى منه في أوائل من لا يحضره الفقيه ، ونحن نقطع عادة بأنّه ما كذب ، فكذلك نقول في حقّ الكافي للإمام ثقة الإسلام» انتهى. وقد ظهر جوابه ممّا تقدم بما لا مزيد عليه.

ومنها : ما ذكره أيضا من «أنّا قطعنا قطعا عاديا في حقّ أكثر رواة أحاديثنا ـ بقرينة ما بلغنا من أحوالهم ـ أنّهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث ، والذي لم نقطع في حقّه بذلك كثيرا نقطع بأنّه طريق إلى أصل الثقة الذي أخذ الحديث منه. والفائدة في ذكره مجرّد التبرّك باتّصال سلسلة المخاطبة اللسانيّة ، ودفع طعن العامّة بأنّ أحاديثكم ليست معنعنة ، بل مأخوذة من كتب قدمائكم ومن اصولهم. ومن جملة القرائن على ما ذكرناه أنّ الإمام ثقة الإسلام صرّح في أوّل كتاب الكافي بصحّة جميع أحاديثه ، ومع ذلك كثيرا ما يذكر في أوائل الأسانيد من ليس بثقة» انتهى ما قصدنا إيراده من كلامه في المقام.

وإنّي لا أظنّك بعد أن تحيط خبرا بما قدّمناه ـ من شطر من أحوال الرواة و

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الكتب المشهورة ، وجملة من الأخبار ، وما في كلام ثقة الإسلام ، وغير ذلك ـ تغترّ بمثل هذه الكلمات ، ولذا طوينا الكشح عن ذكر غيرها ممّا ذكره الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل وغيره.

وبقي الكلام في المقامين الآخرين اللذين أشرنا إليهما في عنوان الكلام ، وهما : دعوى القطع بعدم صدور خطأ ونسيان عن نقلة الأخبار ، ودعوى القطع بدلالتها على المرادات الواقعيّة.

قال الأمين الأسترآبادي بعد ذكر ما تقدّم من القرائن : «بقي احتمال السهو ، وهو يندفع تارة بتعاضد بعض الروايات ببعض ، وتارة بقرينة تناسب أجزاء الحديث ، وتارة بقرينة السؤال والجواب ، وتارة بقرائن اخرى» انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذه القرائن كلّها قرائن ظنّية لا قطعيّة. نعم ، اجتماع جملة منها في بعض الموارد قد يفيد القطع ، ولكن أين هذا من دعوى القطع في جميع آحاد الأخبار؟

وقال في مقام آخر بعد ذكر جملة من القرائن :

فإن قلت : بقي احتمال آخر لم يندفع ، وهو احتمال إرادة خلاف الظاهر.

قلت : معلوم أنّ الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلّم بكلام يريد به خلاف ظاهره من غير وجود قرينة صارفة بيّنة ، لا سيّما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة ... إلى آخر ما ذكره.

وفيه أوّلا : أنّ الحكمة إنّما تقتضي إيراد الكلام على وجه يفي بمراده ولو بالاعتماد على القرائن العقليّة والمقاميّة ، وأمّا غفلة المخاطب أحيانا عن بعض القرائن فهي أمر ممكن بل واقع.

فإن قلت : إنّه يجب على المتكلّم تنبيهه على غفلته من باب الإرشاد.

قلت : إنّه إنّما يتمّ لو علم بغفلته.

فإن قلت : إنّ موضوع الكلام هو الإمام العالم بكلّ شيء.

٥٧

وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر. الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرة بالخصوص أم لا؟ فالمحكيّ عن السيّد (٣) والقاضي (٣٩٠) وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس قدس سرّهم : المنع ، وربّما نسب إلى المفيد قدس سرّه حيث حكى عنه في

______________________________________________________

قلت : إنّ علمه إمّا بالأسباب العادّية ، فقد لا تتّفق له تلك الأسباب. وإمّا بعلم الإمامة ، فلا يجب عليه العمل به ، ولذا كانوا يقضون بين الناس بالأسباب الظاهريّة ، وقال عليه‌السلام : «نحن نحكم بالظاهر ، والله وليّ السرائر». نعم ، يجب عليه الرضا بما فهمه على حسب استعداده ، وهو غير ما نحن فيه.

وثانيا : أنّ ما ذكر على تقدير تسليمه إنّما يتمّ بالنسبة إلى المشافهة دون الغائبين والمعدومين ، إذ القرائن قد تنطمس بامتداد الزمان وتمادي أيدي الظلّام ، ودفع احتمال وجودها حين صدور الخطاب بالأصل يجعل الدلالة تعبّدية وهو واضح.

ثمّ إنّ جميع ما قدّمناه إنّما هو على تقدير كون مرادهم بالعلم هو الاعتقاد الجزمي المطابق للواقع ، بل وكذلك إن أرادوا به مطلق الاعتقاد الجزمي. وإن أرادوا به العلم العرفي ، أعني : الوثوق وركون النفس بحيث لا يعتنى باحتمال خلافه عند العقلاء ويطلق عليه العلم عرفا ـ كما ربّما يومئ إليه قول الأمين الأسترآبادي : «المعتبر من اليقين في البابين ما يشمل العادي ، فلا يتعيّن تحصيل ما هو أقوى منه من أفراد اليقين ، وباب اليقين العادّي باب واسع يشهد بذلك اليقظان النفس» انتهى ـ فهو غير بعيد بالنسبة إلى أخبار الكتب الأربعة. ولو لا خوف الإطالة لذيّلنا الكلام في ذلك وفي سائر المراتب المتقدّمة ، لأنّا تركنا كثيرا ممّا ناسبه المقام لذلك ، ولعلّ فيما قدّمناه كفاية لمن طلب الهداية ، والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٣٩٠. اعلم أنّ الفرق بين مذهب السيّد والأخباريّين ـ مع عدم عمل كلّ منهما بأخبار الآحاد ـ أنّ معظم الأخباريّين يدّعون القطع بصدور جميع الأخبار المودعة في الكتب المعروفة ، والسيّد يدّعي كون أكثر الأحكام معلومة بالضرورة

٥٨

المعارج أنّه قال : «إنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ، ربّما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل» (٤) ، وربّما ينسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا إلى المحقّق بل إلى ابن بابويه ، بل في الوافية : أنّه لم يجد (٣٩١) القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلّامة (٥) ، وهو عجيب.

وأمّا القائلون بالاعتبار ، فهم مختلفون من جهة : أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب المعتبرة ـ كما يحكى عن بعض الأخباريّين (٦) أيضا وتبعهم بعض المعاصرين (٣٩٢) من الاصوليّين (٧) بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ـ أو أنّ المعتبر بعضها ،

______________________________________________________

أو الإجماع أو الأخبار المتواترة ، كما نقله عنه في المعالم ، فلا يلزم أن يكون عنده جميع الكتب الأربعة فضلا عن غيرها قطعيّا.

٣٩١. لا يخفى أنّ ناسب هذا القول إلى الشيخ والمحقّق وابن بابويه هو صاحب الوافية أيضا ، وإن كانت العبارة ربّما توهم خلافه. قال في الوافية : «اختلفوا في حجّية خبر الواحد العاري عن قرائن القطع ، فالأكثر من علمائنا الباحثين في الاصول على أنّه ليس بحجّة ، كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس ، وهو الظاهر من ابن بابويه في كتاب الغيبة ، والظاهر من كلام المحقّق بل الشيخ الطوسي أيضا ، بل نحن لم نجد قائلا صريحا بحجّية خبر الواحد ممّن تقدّم على العلّامة» انتهى.

وقد اختلف عمل الشيخ في كتب الاصول والحديث والفقه ، قال الشهيد الثاني في شرح الدراية «والعجب أنّ الشيخ اشترط ذلك ـ يعني الإيمان والعدالة ـ في كتبه الاصوليّة ، ووقع له في الحديث وكتب الفروع الغرائب ، فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا ، حتّى إنّه يخصّص به أخبارا كثيرة صحيحة حيث تعارضه بإطلاقها ، وتارة يصرّح بردّ الحديث لضعفه ، واخرى بردّ الصحيح معلّلا بأنّه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، كما هي عبارة المرتضى» انتهى.

٣٩٢. هو صاحب المناهج فيما حكي عنه.

٥٩

وأنّ المناط في الاعتبار عمل الأصحاب (٣٩٣) كما يظهر من كلام المحقّق (٨) أو عدالة الراوي أو وثاقته أو مجرّد الظنّ بصدور الرواية من غير اعتبار صفة في الراوي أو غير ذلك من التفصيلات. والمقصود هنا : بيان إثبات حجّيته بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلّي. ولنذكر أوّلا ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع ثمّ نعقّبه بذكر أدلّة الجواز ، فنقول :

______________________________________________________

٣٩٣. ربّما يظهر من الشهيد الثاني نسبة التفصيل إلى المحقّق بين ما كان الخبر صحيحا غير شاذّ ولا معارض بغيره من الأخبار الصحيحة فيعتبره مطلقا ، وبين ما كان حسنا أو موثّقا أو ضعيفا ، فيعتبر إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا ، ولا يعتبر إذا لم يكن كذلك.

ولا بأس بنقل ملخّص كلامه قال في شرح الدراية : «من جوّز العمل بخبر الواحد في الجملة كأكثر المتأخّرين قطع بالعمل بالخبر الصحيح ، لعدم المانع منه ، فإنّ رواته عدول صحيحو العقائد. لكن لا يعمل به مطلقا ، بل حيث لا يكون شاذّا أو معارضا بغيره من الأخبار الصحيحة ، فإنّه حينئذ يطلب المرجّح. وربّما عمل بعضهم بالشاذّ أيضا ، كما اتّفق للشيخين في صحيحة زرارة» ثمّ نقل الصحيحة وقال : «واختلفوا في العمل بالحسن ، فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح ، وهو الشيخ على ما يظهر من عمله ، وكلّ من اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام ولم يشترط ظهورها. ومنهم من ردّه مطلقا ، وهم الأكثرون حيث اشترطوا في قبول الرواية الإيمان والعدالة ، كما قطع به العلّامة في كتبه الاصوليّة وغيره. وفصّل آخرون ـ كالمحقّق في المعتبر والشهيد في الذكرى ـ فقبلوا الحسن بل الموثّق ، وربّما ترقّوا إلى الضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين الأصحاب ، حتّى قدّموه على الخبر الصحيح حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا. وكذا اختلفوا في العمل بالموثّق نحو اختلافهم في الحسن ، فقبله قوم مطلقا ، وردّه آخرون ، وفصّل ثالث. وأمّا الضعيف فذهب الأكثر إلى منع العمل به مطلقا. وأجازه آخرون ، وهم جماعة كثيرة منهم من ذكرنا مع اعتضاده بالشهرة» انتهى. والأصحّ ما نسبه

٦٠