فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالا بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشف عن ذلك ظنّا هي الأمارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ، ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالإجماع المركّب ؛ حيث إنّ أحدا لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة ، كما عرفت.

أقول : الإنصاف أنّ التعميم بهذا الطريق أضعف من التخصيص (٩١٨) بمظنون الاعتبار ؛ لأنّ هذا المعمّم قد جمع ضعف القولين ؛ حيث اعترف بأنّ مقتضى القاعدة ـ لو لا عدم الكفاية ـ الاقتصار على مظنون الاعتبار ، وقد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ بالاعتبار إلّا إذا ثبت جواز العمل بمطلق الظنّ عند انسداد باب العلم.

وأمّا ما ذكره من التعميم لعدم الكفاية ، ففيه أوّلا : أنّه مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ، وليس كذلك (٩١٩) ، بل الأمارات الظنّية ـ من الشهرة وما دلّ على اعتبار قول الثقة ، مضافا إلى ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات وفي تشخيص أحوال الرواة ـ توجب الظنّ القويّ بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر الموثّق ، والضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية ، ومن المعلوم كفاية ذلك وعدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلى الاصول.

وثانيا : أنّ العلم الاجمالي الذي ادّعاه يرجع حاصله إلى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار ، ومن المعلوم أنّ العمل بها لأجل ذلك لا يوجب التعدّي إلى ما ليس فيه هذه العلّة ، أعني مشكوكات الاعتبار الغير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار ؛ فإنّ العلم الإجمالي

______________________________________________________

٩١٨. يعني : من القول بالترجيح بالظنّ بالاعتبار.

٩١٩. لا يذهب عليك أنّ ما ذكره هنا مناف لما ذكره فيما أورده على القول بالترجيح بالظنّ بالاعتبار ، من منع وجود أمارة تفيد الظنّ باعتبار أمارة على الإطلاق ، فتدبّر.

٥٠١

بوجود شهرات متعدّدة مقيّدة لإطلاقات (*) الأخبار أو مخصّصة لعموماتها لا يوجب التعدّي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو تخصيص ، فضلا عن التسرّي إلى الاستقراء والأولويّة. ودعوى الإجماع لا يخفى ما فيها ؛ لأنّ الحكم بالحجّية في القسم الأوّل لعلّة غير مطّردة في القسم الثاني حكم عقليّ نعلم بعدم تعرّض الإمام عليه‌السلام له قولا ولا فعلا إلّا من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة وهي وجود العلم الإجمالي.

ومن ذلك يعرف الكلام في دعوى الأولويّة ؛ فإنّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الإجمالي ، فكيف يتعدّى إلى ما لا يوجد فيه المناط فضلا عن كونه أولى؟ وكأنّ متوهّم الإجماع رأى أنّ أحدا من العلماء لم يفرّق بين أفراد الخبر الحسن أو أفراد الشهرة ، ولم يعلم أنّ الوجه عندهم ثبوت الدليل عليهما مطلقا أو نفيه كذلك ؛ لأنّهم أهل الظنون الخاصّة ، بل لو ادّعى الإجماع على أنّ كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو الشهرات لأجل العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للواقع لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الإجمالي ، كان في محلّه.

الثالث من طرق التعميم : ما ذكره بعض مشايخنا (٩٢٠) طاب ثراه من قاعدة الاشتغال ؛ بناء على أنّ الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة ،

______________________________________________________

٩٢٠. هو شريف العلماء رحمه‌الله. ونقول في تقرير التعميم : إنّه بعد ما ثبت وجوب العمل بالظنّ في الجملة فمقتضى قاعدة الاشتغال وجوب العمل بالجميع ، لأنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، ومع العمل بالبعض لا يحصل العلم بالفراغ.

وقد أجيب عنه بوجوه :

أحدها : أنّ العمل بجميع الظنون من باب الاحتياط يدفعه ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ من الآيات والأخبار.

__________________

(*) في جميع النسخ : بدل «لإطلاقات» ، لإطلاق.

٥٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّه قد تقدّم عند تأسيس الأصل في المسألة أنّ ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ من الآيات والأخبار إنّما هو إمّا من جهة كون التعبّد والتدين بما لم يرد الشرع به تشريعا محرّما ، وإمّا من جهة مخالفته للاصول. وشيء منهما لا يتأتّى في المقام ، لعدم تأتّي التشريع ولا مخالفة الاصول مع العمل بالظنّ من باب الاحتياط. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الجواب المذكور وإلى ما يرد عليه بقوله : «ومنع جريان قاعدة الاشتغال ...».

وثانيها : أنّه يحتمل أن يكون بعض أفراد الظنون التي تردّد الواجب بينها ممّا يحرم العمل به في نظر الشارع ، وحينئذ يجب ترك العمل بجميعها من باب المقدّمة ، فيتعارض الاحتياطان ، لأنّ العلم الإجمالي بوجود ما يجب العمل به بين هذه الظنون كما يقتضي الاحتياط بالإتيان بالجميع ، كذلك حرمة العمل ببعضها المردّد بينها تقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع ، فيدور الأمر حينئذ بين المحذورين ، فلا مجال للاحتياط.

وفيه : أنّ ما علم تحريم العمل به من القياس ونحوه أمره واضح. وما يحتمل التحريم ، فإن اريد منه الحرمة الذاتيّة ، ففيه ـ مع تسليم وجود محرّم ذاتي بين الأمارات حتّى القياس ونحوه ، لقوّة احتمال كون منع الشارع منه لأجل عدم إيصاله إلى الواقع غالبا في نظر الشارع ـ أنّ الشكّ فيها بدويّ تنفيه أصالة البراءة ، وبعد نفي حرمته يثبت وجوب العمل به لأجل قاعدة الاحتياط. وإن اريد منه الحرمة التشريعيّة ، فقد عرفت أنّها لا تنافي العمل بالظنّ من باب الاحتياط.

وثالثها : أنّه يحتمل أن يكون بعض مظنونات الوجوب محرّما في الواقع ، فمقتضى الاحتياط في مورد الظنّ هو ترك العمل بمقتضاه ، وهو يعارض الاحتياط بالعمل بالظنّ ، مثل ما لو قامت أمارة ظنّية على وجوب شيء أو استحبابه أو كراهته أو إباحته ، واحتمل كون هذا الشيء محرّما في الواقع ، أو قامت على حرمته واحتمل كونه واجبا في الواقع ، أو على طهارته واحتمل كونه نجسا في الواقع. والفرق بين هذا الجواب وسابقه : أنّ احتمال الحرمة هنا في مورد الأمارة ، وهناك في العمل بها. وفيه : ما تقدّم في سابقه من اندفاع احتمال الحرمة بالأصل.

٥٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ورابعها : أنّ العمل بالظنون من باب الاحتياط إنّما يتمّ فيما كان الظنّ مثبتا للتكليف من الوجوب أو التحريم ، بخلاف ما لو كان مثبتا لأحد الأحكام الثلاثة الباقية ، لعدم تماميّة وجوب العمل بالظنّ مع كون مؤدّاه الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة.

وفيه : أنّ معنى وجوب العمل بالظنّ هو الالتزام بمؤدّاه على الوجه الذي أفادته الأمارة ، فإن كان مؤدّاه وجوب الفعل يجب الالتزام بوجوبه ، وإن كان مؤدّاه إباحته يجب الالتزام بإباحته ، وهكذا.

وخامسها : أنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة بالعمل بالظنون قد يعارضه وجوب الاحتياط في المسألة الفرعيّة في بعض الموارد ، كما إذا قامت أمارة ظنّية على عدم وجوب السورة ، وقلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لأنّ مقتضى وجوب الاحتياط في المسألة الاصوليّة هو الالتزام بعدم وجوب السورة ، ومقتضى الاحتياط في المسألة الفرعيّة هو الالتزام بوجوبها.

وأجاب عنه المعمّم المذكور بأنّ الأصل الجاري في المسألة الاصوليّة كالدليل بالنسبة إلى الأصل الجاري في المسألة الفرعيّة ، لحكومته عليه ، وكون معارضتهما من قبيل معارضة المزيل والمزال ، لكون الشكّ في وجوب السورة مسبّبا عن الشكّ في وجوب العمل بالظنّ ، فإذا ثبت وجوب العمل به بقاعدة الاحتياط يزول الشكّ عن وجوب السورة ، لثبوت عدم وجوبها حينئذ.

أقول : في كلّ من التمسّك بقاعدة الاشتغال لإثبات التعميم والجواب المذكور نظر ، أمّا الأوّل فإنّ ظاهر القائلين بوجوب العمل بالظنّ المطلق هو جعله حجّة شرعيّة ، بحيث يصلح لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات الثابت اعتبارها بالظنّ الخاص ، ولا ريب أنّ قاعدة الاحتياط لا تفيد هذا المدّعى ، إذ غايتها إثبات كون الظنّ من الأدلّة الفقاهتيّة دون الاجتهاديّة.

وأمّا الثاني فإنّه يرد عليه أوّلا : أنّ العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما هو من جهة كشف مقدّمات دليل الانسداد ـ التي منها بقاء التكليف بامتثال الأحكام

٥٠٤

فإذا لم يكن قدر متيقّن كاف في الفقه وجب العمل بكلّ ظنّ. ومنع جريان قاعدة الاشتغال هنا ـ لكون ما عدا واجب العمل من الظنون محرّم العمل ـ قد (*) عرفت

______________________________________________________

الواقعيّة المعلومة إجمالا ـ عن حجّية الظنّ عند الشارع في الجملة ، فإذا كان وجوب الاحتياط في المسألة الاصوليّة من جهة مراعاة العلم الإجمالي بتلك الأحكام الواقعيّة ، فكيف ترفع اليد عن الاحتياط اللازم في المسألة الفرعيّة لأجل معارضته الاحتياط اللازم في المسألة الاصوليّة؟ فتأمّل.

وثانيا : ما أورده المصنّف قدس‌سره على إثبات التعميم بقاعدة الاحتياط. وحاصله : منع التعارض بين الاحتياط في المسألة الاصوليّة والفرعيّة حتّى يلتجئ إلى دعوى كون الأوّل حاكما على الثاني ، لأنّ معنى الاحتياط في المسألة الاصوليّة هو جعل العمل على وجه لا يخالف الأمارة الظنّية ، فإذا دلّت على عدم وجوب السورة ، فمعنى الاحتياط في العمل بهذه الأمارة إيقاع الصلاة على وجه ينطبق على عدم الوجوب ، ويكفي فيه عدم قصد وجوب السورة لا قصد عدم وجوبها ، إذ غاية ما دلّت عليه الأمارة هو عدم وجوبها. ولا ريب أنّه لا يعتبر في الأفعال غير الواجبة عند اختيارها أن توقع بقصد عدم الوجوب ، إذ يكفي في العمل بمؤدّى الأمارة عدم قصد وجوبها. ولا ريب أنّ هذا لا ينافي إيقاعها باحتمال وجوبها الواقعي عند احتمال وجوبها في الواقع. وإذا تحقّق عدم التنافي بينهما نقول : إنّ عدم وجوب الفعل من حيث هو لا ينافي وجوبه لعارض ، مثل كون المورد من موارد قاعدة الاشتغال. نعم ، لو كانت هذه الأمارة معتبرة من باب الظنّ الخاصّ ، فوجوب العمل بمؤدّاها ينافي وجوب الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، لكونها حينئذ معيّنة للحكم المعلوم إجمالا في الواقعة. نعم ، وجوب العمل بالأمارة من باب الظنّ الخاصّ لا ينافي استحباب الاحتياط في موردها ، لأنّ تعيينها للواقع لمّا كان شرعيّا لا حقيقيّا فهو لا ينافي رجحان الاحتياط ، وإيقاع العمل على وجه يكون محرزا لمصلحة الواقع.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «قد» ، فقد.

٥٠٥

الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة اعتبار الظنّ بالطريق. ولكن فيه : أنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ، كما إذا اقتضى الاحتياط في الفرع (*) وجوب السورة ، وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ، فإنّه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة لاحتمال وجوبها ، ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الاصوليّة ؛ لأنّ الحكم الاصولي المعلوم بالإجمال ـ وهو وجوب العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب ـ معناه وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب ، ولا تنافي بين الاحتياط وفعل السورة لاحتمال الوجوب ، وكونه لا على وجه الوجوب الواقعي.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظنّ وجوب تطبيق عمله عليه ، فإذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به إلّا أنّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل ، فإذا اختار فعل ذلك فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ؛ إذ لا يعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصد عدم الوجوب.

______________________________________________________

وبالجملة ، إنّ مقتضى كون الأمارة معيّنة للواقع هو عدم تأتّي الاحتياط في موردها في الجملة ، فإن كانت الأمارة كاشفة عن الواقع ومعيّنة له على وجه الحقيقة ، بأن كانت مفيدة للقطع به ، فلا يتأتّى الاحتياط في موردها لا وجوبا ولا استحبابا. وإن كانت كاشفة ومعيّنة له شرعا لا حقيقة ، فهي إنّما تنافي وجوب الاحتياط في موردها لا استحبابه ، كما هو واضح ممّا قرّرناه.

فإن قلت : إنّ مؤدّى الأمارة ليس حصر الواقع في موردها لينافي وجوب الاحتياط في مورد يجب فيه ، لأنّ غايتها الكشف عن ثبوت مؤدّاها في الواقع لا نفي الغير أيضا ، بأن دلّت على أنّ ما علم إجمالا هو ما دلّت عليه خاصّة. فإذا تردّد

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «في الفرع» ، في الفروع.

٥٠٦

نعم ، يجب التشرّع (٩٢١) والتديّن بعدم الوجوب سواء فعله أو تركه من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع. وحينئذ : فإذا تردّد الظنّ الواجب العمل المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب امور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظنّ المجمل المعلوم إجمالا وجوب أن لا يكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذه الظنون وكانت هذه الامور مباحة بحكم الأصل ؛ ولذا يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل لاحتمال أنّه واجب.

ثمّ إذا فرض العلم الإجمالي من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الامور ، فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها لاحتمال أن يكون هو الواجب. وما اقتضاه الظنّ القائم على عدم وجوبه ـ من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب ـ باق بحاله ؛ لأنّ الاحتياط في الجميع لا يقتضي إتيان كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعي ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ،

______________________________________________________

الأمر بين القصر والإتمام في بعض الموارد ، وقامت أمارة ظنّية على وجوب القصر مثلا ، فهي لا تنافي وجوب الإتمام أيضا من باب الاحتياط.

قلت : سيجيء في المسألة الشبهة المحصورة تحقيق عدم وجوب الاحتياط بتحصيل الموافقة القطعيّة عند قيام الأمارة المعتبرة على بعض أطراف العلم الإجمالي.

وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا في مسألة البراءة عند الجواب عن الدليل العقلي للأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة.

ثم إنّ المصنّف رحمه‌الله وإن لم يتعرّض للجواب الخامس وما أجاب به عنه المعمّم ، إلّا أنّ فيما أجاب به عن استدلال المعمّم لإثبات التعميم إشارة إلى تزييفهما ، كما هو واضح للمتأمّل.

ثم إنّه ممّا قدّمناه يظهر أنّ قول المصنّف رحمه‌الله : «ولكن فيه أنّ قاعدة الاشتغال في المسألة العمل بالظنّ معارضة في بعض الموارد ...» ، لا يخلو من مسامحة.

٩٢١. قد أسلف المصنّف رحمه‌الله في فروع العلم الإجمالي منع وجوب الالتزام بما علم من الشرع ، فراجع.

٥٠٧

والظنّ القائم على عدم وجوبه لا يمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه ، كما أنّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتفصيل ـ كظاهر الكتاب ـ دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه لاستحباب الإتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب.

هذا ، وأمّا ما قرع سمعك (٩٢٢) من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما ، فليس في مثل المقام. بل مثال الأوّل منهما : ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة مزيلا للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا تردّد الواجب بين القصر والإتمام ودلّ على أحدهما أمارة من الأمارات التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها ، فإنّه إذا قلنا بوجوب العمل بهذه الأمارات يصير حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين ، إلّا أن يقال (٩٢٣):

______________________________________________________

٩٢٢. لا أعرف وجه فرق بين ما نحن فيه وبين المثال الأوّل ، لأنّ القائل بوجوب الاحتياط عند الشكّ في الأجزاء والشرائط إنّما يقول مع الشكّ في السورة مثلا : إنّ التكليف بالصلاة في الجملة ثابت ، والشكّ إنّما هو في أنّ المكلّف به هي الصلاة المركّبة من تسعة أجزاء أو المركّبة من عشرة أجزاء ، نظير مثال القصر والإتمام ، فإن كان الظنّ الثابت اعتباره في الجملة معيّنا لما تعلّق به في هذا المثال وحاكما على قاعدة الاحتياط فيه ، فكذلك فيما نحن فيه من دون فرق بينهما أصلا.

٩٢٣. تحقيق الكلام في هذا الاستدراك يبتني على أنّ مؤدّى الأمارة القائمة على وجوب القصر مثلا هو تعيين الواقع وأنّ الواجب هو ذاك دون غيره ، أو أنّ مؤدّاها وجوب القصر خاصّة من دون تعرّض لنفي وجوب غيرها ، إذ الأوّل ينافي وجوب الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، بخلاف الثاني. والأوّل هو الأظهر ، لأنّ مؤدّى الأمارات بيان الحكم الخاصّ بالواقعة ، وهو واضح بعد فرض اتّحاد حكم الوقائع على المذهب الحقّ من التخطئة دون التصويب. وسيجيء نظيره عند الجواب عن الدليل العقلي للأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة التحريميّة. وكذا في مسألة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عند قيام

٥٠٨

إنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي (*) إتيانها لا نفي غيرها ، فالصلاة الاخرى حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير نظير ما نحن فيه.

وأمّا الثاني ـ وهو مورد المعارضة ـ فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها أمارات نعلم إجمالا بحجّية إحداها ؛ فإنّ مقتضى هذا وجوب الإتيان بالجميع ، ومقتضى ذاك ترك الجميع ، فافهم. وأمّا دعوى : أنّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العمل به في مقابل الاحتياط للإجماع المركّب ، فقد عرفت شناعته (٩٢٤).

فإن قلت : إذا عملنا في مقابل (٩٢٥) الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط لزم العسر والحرج ؛ إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو (**) موهوم الوجوب مع كونه مطابقا (٩٢٦) للاحتياط اللازم ، فإذا فرض لزوم العسر من مراعاة الاحتياطين معا في الفقه (٩٢٧) تعيّن دفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ ، فإذا فرض هذا الظنّ مجملا لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضى الظنّ بالتكليف احتياطا ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيعمل بها فرارا عن لزوم العسر (٩٢٨).

______________________________________________________

الأمارة على حرمة بعض أطرافها.

٩٢٤. يعني : في آخر التنبيه السابق ، وكذا فيما أورده ثانيا على المعمّم الثاني.

٩٢٥. يعني : عملنا في غير المورد الاحتياط اللازم في الفقه بالظنّ المثبت للتكليف.

٩٢٦. الضمير عائد إلى قوله : «وكلّ مشكوك ...».

٩٢٧. متعلّق بالعسر.

٩٢٨. لا للاحتياط.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وجوب.

(**) في بعض النسخ زيادة : كلّ.

٥٠٩

قلت : دفع العسر يمكن بالعمل ببعضها ، فما المعمّم؟ فيرجع الأمر إلى أنّ قاعدة الاشتغال لا تنفع ولا تثمر في الظنون المخالفة للاحتياط ؛ لأنّك عرفت أنّه لا يثبت وجوب التسرّي إليها فضلا عن التعميم فيها ؛ لأنّ التسرّي إليها كان للزوم العسر ، فافهم.

هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظنّ في الجملة ، وقد عرفت أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وعرفت أيضا ما ينبغي سلوكه على تقدير تماميّته من وجوب اعتبار المتيقّن ـ حقيقة أو بالإضافة ـ ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة.

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الإطاعة الظنّية والفرار عن المخالفة الظنّية وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ، فالتعميم وعدمه لا يتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ؛ لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنّي بين الأسباب المحصّلة له ، كما لا فرق فيما كان المقصود الانكشاف الجزمي بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّر عرفا. بيان ذلك أنّ الثابت من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيلي هو وجوب الامتثال الإجمالي بالاحتياط في إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ، لكنّ المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت وجوبه على وجه الموجبة الكلّية بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط أو يرجع إلى الأصل كذلك ، ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكلّية لا يستلزم صدق السالبة الكلّية ، وحينئذ فلا يثبت من ذلك إلّا وجوب العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة.

ثمّ إنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القويّ الاطمئناني أقرب إلى العلم عند تعذّره ، وأنّه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع وترك ما يكرهه وجب تحصيل ذلك بالظنّ (٩٢٩)

______________________________________________________

٩٢٩. لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ إذا ارتفع العسر بالعمل بالظنّ الاطمئناني النافي للتكليف. وربّما ينافره ـ بل ينافيه ـ ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله عند الاعتراض

٥١٠

الأقرب إلى العلم. وحينئذ فكلّ واقعة تقتضي الاحتياط الخاصّ بنفس المسألة أو الاحتياط العامّ من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطع بتحقّق التكليف فيها ، إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنّية توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع تركنا الاحتياط وأخذنا بها. وكلّ واقعة ليست فيها أمارة كذلك ، نعمل (*) فيها بالاحتياط ، سواء لم توجد أمارة أصلا كالوقائع المشكوكة أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان.

وكلّ واقعة (**) لم يمكن فيها الاحتياط ، تعيّن التخيير في الأوّل (٩٣٠) والعمل بالظنّ في الثاني (٩٣١) وإن كان في غاية الضعف ؛ لأنّ الموافقة الظنّية أولى من غيرها (٩٣٢) ، والمفروض عدم جريان البراءة والاستصحاب ؛ لانتقاضهما بالعلم الإجمالي ، فلم يبق من الاصول إلّا التخيير ، ومحلّه عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلّا فيؤخذ بالراجح.

______________________________________________________

على المرجّح الثاني ، أعني : قوّة الظنّ من دعوى ندرة وجود الظنّ الاطمئناني مطلقا فضلا عن القسم النافي منه كما هو محلّ الكلام في المقام ، إذ من الواضح عدم ارتفاع العسر بالعمل بالظنّ النادر الوجود فضلا عن العمل بقسم خاصّ منه.

٩٣٠. يعني : في الوقائع المشكوكة.

٩٣١. يعني : فيما كانت فيه أمارة وإن لم تبلغ مرتبة الاطمئنان.

٩٣٢. لأنّ المطلوب بعد الانسداد بحكم العقل هو الوصول إلى الواقع بالموافقة الإجماليّة القطعيّة مع تيسّرها ، وبالأعمّ منها ومن الموافقة الاطمئنانيّة الإجماليّة مع تعسّر الاولى. وأمّا مع عدم إمكان الاحتياط ـ كما في موارد التخيير ـ فينتقل إلى الموافقة الظنّية مطلقا ، إذ الحكم بعدم جواز الاقتصار على الظنّ الذي لم يبلغ مرتبة الاطمئنان في غير موارد التخيير إنّما هو من جهة إمكان الاحتياط في مورد الظنّ غير الاطمئناني ، وأمّا مع تعذّره تعيّن الأخذ بالظنّ الموجود لا محالة ، لكونه أولى من الموافقة الاحتماليّة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «نعمل» ، يعمل.

(**) في بعض النسخ : بدل «وكلّ واقعة» ، نعم لو.

٥١١

ونتيجة هذا هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظنّ الغير الاطمئناني إن أمكن (*) والعمل بالظنّ في الوقائع المظنونة بالظنّ الاطمئناني ، فإذا عمل المكلّف قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة ـ الغير الواجب على المكلّف من جهة العسر ـ إلّا إلى الموافقة الاطمئنانيّة ، فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظنّ الاطمئناني بها.

وأمّا مورد التخيير ، فالعمل فيه على الظنّ الموجود في المسألة وإن كان ضعيفا ، فهو خارج عن الكلام ؛ لأنّ العقل لا يحكم فيه بالاحتياط حتّى يكون التنزّل منه إلى شيء آخر ، بل التخيير أو العمل بالظنّ الموجود تنزّل من العلم التفصيلي إليهما بلا واسطة.

______________________________________________________

ولكنّك خبير بأنّ الانتقال من الامتثال التفصيلي الجزمي إلى الامتثال الظنّي مطلقا ـ وإن كان ضعيفا في موارد التخيير ـ فرع إبطال جواز الرجوع إلى الاصول التي تقتضيها الوقائع الشخصيّة من رأس ، وهو خلاف المفروض في كلامه من عدم ثبوت بطلان الاصول إلّا على وجه الكلّية لا مطلقا.

نعم ، في بعض النسخ بعد قوله : «أولى من غيرها» قد وقع قوله : «والمفروض عدم جريان البراءة والاستصحاب ، لانتقاضهما بالعلم الإجمالي ، فلم يبق من الاصول إلّا التخيير ، ومحلّه عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلّا فيؤخذ بالراجح» انتهى. وأنت خبير بأنّ حكم العقل بتعيّن الأخذ بالظنّ الموجود مطلقا في موارد التخيير إن كان لأجل مطلوبيّة الوصول إلى الواقع بحسب الإمكان عند العقل ، فمع عدم الدليل عليه مع وجود الأصل المعتبر وهو التخيير في مورد الظنّ المفروض ، أنّه لا بدّ من القول بذلك أيضا في الموارد المذكورة مع انفتاح باب العلم في أغلب المسائل ، وهو خلاف ظاهر العلماء ، لعدم حكمهم بتعيّن العمل حينئذ بالظنّ الموجود في موارد التخيير كما هو واضح. وإن كان لأجل الإجماع عليه فلا تخفى شناعة هذه الدعوى.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وإلّا فبالأصول.

٥١٢

وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه (٩٣٣) في موارد الانسداد على الظنّ الاطمئناني ومطلق الظنّ والتخيير ، كلّ في مورد خاصّ ، وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقلّ. وقد سبق لذلك مثال (٩٣٤) في الخارج ، وهو ما إذا علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع ، وكان أقسام القطيع ـ بحسب احتمال كونها مصداقا للمحرّمات ـ خمسة ، قسم منها يظنّ كونها محرّمة بالظنّ القويّ الاطمئناني لا أنّ المحرّم منحصر فيه ، وقسم منها يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشكّ والتحيّر ، وثالث يشكّ في كونها محرّمة ، وقسم منها في مقابل الظنّ الأوّل (٩٣٥) وقسّم منها في مقابل الظنّ الثاني (٩٣٦) ، ثمّ فرضنا في المشكوكات وهذا القسم (٩٣٧) من الموهومات ما يحتمل أن يكون (٩٣٨) واجب الارتكاب.

______________________________________________________

٩٣٣. الأولى أن يضاف إلى ما ذكر وجوب الاحتياط أيضا.

٩٣٤. الأولى أن يمثّل بالعلم الإجمالي بالوجوب دون الحرمة ، لما سيصرّح به من عدم كون الاحتياط في موارد الشبهات التحريميّة موجبا للعسر.

٩٣٥. بأن كان موهوم الحرمة ومظنون الإباحة بالظنّ الاطمئناني.

٩٣٦. بأن كان موهوم الحرمة ومظنون الإباحة بظنّ غير اطمئناني.

٩٣٧. يعني : القسم الأخير.

٩٣٨. لا بدّ أن يعتبر العلم الإجمالي بالوجوب ، وإلّا فمجرّد احتماله لا ينفي إمكان الاحتياط ، كما في سائر موارد الشبهة المحصورة إذا احتمل فيه وجوب ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي الحاصل بالحرمة ، لأنّ مجرّد احتماله لا ينفي وجوب اجتناب الجميع من باب الاحتياط ، لأنّ احتمال الوجوب مندفع بالأصل السالم عن المعارض ، فيبقى حكم العلم الإجمالي بالحرمة باقيا على حاله.

وتوضيح ما ذكره في المقام : أنّه مع العلم الإجمالي بالحرمة مثلا في الأحكام أو الموضوعات ، فكلّ واحد من أطرافه لا يخلو : إمّا أن يكون مظنون الحرمة بظنّ اطمئناني ، وإمّا أن يكون مظنون الحرمة بظنّ غير اطمئناني ، وإمّا أن يكون مشكوك الحرمة ، وإمّا أن يكون مظنون عدم الحرمة بظنّ اطمئناني ، بأن يكون

٥١٣

وحينئذ : فمقتضى الاحتياط وجوب اجتناب الجميع ممّا لا يحتمل الوجوب ، فإذا انتفى وجوب الاحتياط لأجل العسر واحتيج إلى ارتكاب موهوم الحرمة ، كان ارتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئناني أولى من الكلّ ، فيبنى على العمل به ، ويتخيّر في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ، ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه. لكنّك خبير بأنّ هذا ليس من حجّية مطلق الظنّ (٩٣٩) ولا الظنّ الاطمئناني في شيء ؛ لأنّ معنى حجّيته أن يكون دليلا في الفقه ـ بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل الذي يقتضيه ـ والظنّ هنا ليس كذلك ؛ إذ العمل : أمّا في موارد وجوده ، ففيما طابق منه الاحتياط فالعمل على الاحتياط لا عليه ؛

______________________________________________________

مظنون الإباحة بظنّ اطمئناني وموهوم الحرمة ، وإمّا أن يكون مظنون عدم الحرمة بظنّ غير اطمئناني ، بأن يكون مظنون الإباحة بظنّ غير اطمئناني ، وموهوم الحرمة. والثالث والخامس إمّا يحتمل الوجوب فيهما أم لا ، بمعنى أن يكون صنف من مشكوك الحرمة وموهومها ممّا يحتمل فيه الحرمة خاصّة ، وصنف منهما ممّا يحتمل فيه كلّ من الحرمة والوجوب. فالأقسام سبعة.

ومقتضى القاعدة فيما لا يحتمل فيه سوى الحرمة هو وجوب الاحتياط باجتناب الجميع. وإذا فرض استلزام الاحتياط الكلّي للعسر ، واحتيج إلى ارتكاب بعض محتملات المعلوم إجمالا ، تعيّن القسم الرابع للارتكاب ، لأنّه أبعد عن مخالفة الواقع من غيره. وإذا احتمل وجوب أحد صنفي القسم الثالث والخامس تعيّن العمل بالظنّ الموجود في أحد صنفي الخامس ، لكونه أقرب إلى إدراك الواقع من الحكم بالتخيير بعد عدم إمكان الاحتياط فيه ، وبالتخيير في أحد صنفي الثالث ، إذ لا طريق لامتثال الواقع فيه سواه ، فهو القدر الممكن من امتثال الواقع فيه.

٩٣٩. توضيحه : أنّ المكلّف إذا حصل له العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعيّة قبل تمييز الأمارات وتحصيل ما يمكن تحصيله من الأدلّة ، فإذا ميّزها وحصّل منها ما يمكن تحصيله ، فإمّا أن يحصل له العلم التفصيلي في غالب مسائل الفقه ، أو يحصل الظنّ الخاصّ بها ، أو لا يحصل شيء منهما.

٥١٤

إذ لم يدلّ على ذلك مقدّمات الانسداد ، وفيما خالف الاحتياط لا يعوّل عليه إلّا بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العسر ، وإلّا فلو فرض فيه جهة اخرى لم يكن معتبرا من تلك الجهة ، كما لو دار الأمر بين شرطيّة شيء وإباحته واستحبابه ، فظنّ باستحبابه ، فإنّه لا يدلّ مقدّمات دليل الانسداد إلّا على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء والأخذ بالظنّ في عدم وجوبه ، لا في إثبات استحبابه. وأمّا في موارد عدمه وهو الشكّ فلا يجوز العمل إلّا بالاحتياط الكلي الحاصل من احتمال كون الواقعة من موارد التكليف المعلوم إجمالا وإن كان لا يقتضيه نفس المسألة ، كما إذا شكّ في حرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ، بل العمل على هذا الوجه يتبعّض في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعا للحرج ، ثمّ يعيّن العقل للطرح البعض الذي يكون وجود التكليف فيها احتمالا ضعيفا في الغاية.

______________________________________________________

أمّا الأوّل فلا ريب في ارتفاع العلم الإجمالي معه ، ورجوعه إلى معلوم بالتفصيل ومشكوك بالشكّ البدوي.

وأمّا الثاني فالعلم الإجمالي وإن لم يرتفع معه ، لعدم منافاته للظنّ ، كما إذا ظنّ حرمة بعض أطراف الشبهة المحصورة ، إلّا أنّ فرض اعتبار الظنّ وتنزيل الشارع له بمنزلة العلم يوجب ارتفاع العلم الإجمالي حكما وإن لم يرتفع موضوعا ، إذ مقتضى تنزيل الشارع له بمنزلته هو ترتيب آثار العلم عليه من جواز الرجوع معه في موارد الشكّ إلى الاصول.

وأمّا الثالث فمقتضى القاعدة فيه هو وجوب الاحتياط في جميع موارد إمكانه. فإذا فرض ـ لأجل لزوم العسر منه ـ جواز مخالفته بالعمل بالظنّ الاطمئناني مطلقا ، فمعنى جواز العمل به حينئذ ليس إلّا جواز مخالفة الاحتياط بالعمل على طبقه ، لا كونه حجّة شرعيّة بحيث يكون معيارا في الأحكام نفيا وإثباتا ، ويكون رافعا للعلم الإجمالي في الموارد الخالية منه على ما عرفت. ويظهر أثر ذلك في موضعين : أحدهما : وجوب العمل بالاحتياط في موارد الشكّ على الأوّل ، وبالاصول على الثاني. وثانيهما : عدم إثبات جواز العمل بالظنّ ما عدا

٥١٥

فإن قلت : إنّ العمل بالاحتياط (٩٤٠) في المشكوكات منضمّة إلى المظنونات (*) يوجب العسر فضلا عن انضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ووجوب الرجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل (**) ، وهذا مساو في المعنى (٩٤١) لحجّية الظنّ المطلق وإن كان حقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلّي ، لكنّه لا يقدح بعد عدم الفرق في العمل. قلت : لا نسلّم لزوم

______________________________________________________

جواز مخالفة الاحتياط بالعمل به من سائر الآثار على الأوّل ، بخلاف الثاني ، على ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من الوجهين.

وبالجملة ، إنّ العمل بالظنّ إذا كان لأجل دفع العسر ، وفرض اندفاعه بالعمل بالظنون الاطمئنانيّة المخالفة للاحتياط ، فالعمل إنّما هو بالاحتياط في جميع الموارد سوى موارد الظنون المذكورة ، وهذا ليس معنى حجّية الظنّ على ما عرفت.

٩٤٠. حاصل السؤال : أنّ مقتضى ما تقدّم هو وجوب العمل بالاحتياط فيما عدا مورد التخيير إلّا أن يقوم الظنّ الاطمئناني على خلافه ، فيجب العمل بالاحتياط في المشكوكات ، ومظنون الوجوب أو الحرمة مطلقا ، وموهوم الوجوب أو الحرمة المقابل للظنّ غير الاطمئناني. والعمل به في الأوّلين خاصّة موجب للعسر فضلا عن ضمّ الثالث إليهما. وقد قابل المصنّف رحمه‌الله ذلك في الجواب بمنع لزوم العسر بالعمل بالاحتياط في الجميع ، فضلا عن لزومه بالعمل به في المشكوكات خاصّة. ومقتضى المقابلة وإن كان أن يقول في المشكوكات خاصّة ، للزوم العمل على طبق الاحتياط في المظنونات على كلّ تقدير ، فخصّ المشكوكات بالذكر.

٩٤١. فيه نظر ، لما أشار إليه في تقرير الإيراد من أنّ العمل بالظنّ الاطمئناني لدفع العسر اللازم من العمل بالاحتياط لا يوجب ترتيب آثار الحجّية عليه مطلقا.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المظنونات» ، الموهومات.

(**) في بعض النسخ زيادة : في كلّ منها.

٥١٦

الحرج من مراعاة الاحتياط (٩٤٢) في المظنونات (٩٤٣) بالظنّ الغير القويّ في نفي التكليف ، فضلا عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات ؛ وذلك لأنّ حصول الظنّ (٩٤٤) الاطمئناني غير عزيز في الأخبار وغيرها.

أمّا في غيرها ؛ فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة والإجماع المنقول والاستقراء والأولويّة. وأمّا الأخبار ، فلأنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن ، وهو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه ولو في خصوص الرواية وإن لم يكن إماميّا أو ثقة على الإطلاق ؛ إذ ربّما يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها. وأمّا احتمال الإرسال ، فمخالف لظاهر كلام الراوي ، وهو داخل في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئناني منه ، فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالإسناد ، لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر ؛ لأنّ الجهة التي يعتبر فيها الظنّ الاطمئناني هو جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه ، وأمّا أنّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظي لا بأس بعدم إفادته للظنّ ، فيكون صدور (٩٤٥) المتن غير مظنون أصلا ؛ لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

وبالجملة : فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار وغيرها من الأمارات بحيث لا يحتاج إلى ما دونها ولا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلى الاحتياط (*)

______________________________________________________

٩٤٢. يعني : منضمّة إلى المشكوكات والمظنونات مطلقا ، كما هو مقتضى المقابلة. وقوله : «بعد الموهومات» يعني : بعد البناء على العمل بالظنّ في الموهومات.

٩٤٣. يعني : المظنونات المطابقة للاحتياط ، سواء بلغ الظنّ إلى حدّ الاطمئنان أم لا.

٩٤٤. يظهر توضيح المقام ممّا علّقناه على ما أورده على المرجّح الثاني ، أعني : قوّة الظنّ ، فراجع. والمنافاة بين ما ذكره هنا وهناك واضحة.

٩٤٥. تفريع لعدم الإفادة ، لا المنفي في قوله : «لا بأس».

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الاحتياط» : الاصول.

٥١٧

محذور وإن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان ، قريبة جدّا ، إلّا أنّه يحتاج إلى مزيد تتبّع في الروايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء. وكيف كان : فلا أرى الظنّ الاطمئناني الحاصل من الأخبار وغيرها من الأمارات أقلّ عددا من الأخبار المصحّحة بعدلين ، بل لعلّ هذا أكثر.

ثمّ إنّ الظنّ الاطمئناني من أمارة أو أمارات إذا تعلّقت بحجّية أمارة ظنّية كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تفده ، بناء على ما تقدّم : من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق (*) ، إلّا أن يدّعي مدّع قلّتها بالنسبة إلى نفسه؟ لعدم الاطمئنان له غالبا من الأمارات القويّة وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضا ، وحينئذ فيتعيّن في حقّه التعدّي منه إلى مطلق الظنّ.

وأمّا العمل في المشكوكات (٩٤٦) بما يقتضيه الأصل في المورد فلم يثبت ، بل اللازم بقائه على الاحتياط نظرا إلى كون المشكوكات من المحتملات التي يعلم إجمالا بتحقّق التكليف فيها وجوبا وتحريما. ولا عسر في الاحتياط فيها نظرا إلى قلّة المشكوكات ؛ لأنّ أغلب المسائل يحصل فيها الظنّ بأحد الطرفين ، كما لا يخفى. مع أنّ الفرق بين الاحتياط في جميعها والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها إنّما يظهر في الاصول المخالفة للاحتياط ، ولا ريب أنّ العسر لا يحدث بالاحتياط فيها خصوصا مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم الترك وهو غير موجب للعسر. وحينئذ : فلا يثبت المدّعى من حجّية الظنّ وكونه دليلا بحيث يرجع في موارد عدمه إلى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات.

______________________________________________________

٩٤٦. معطوف على قوله : «لا نسلم ...» وفي التعرّض لإثبات قلّة المشكوكات مع الاستغناء منه بإثبات كثرة وجود المظنونات بالظنون الاطمئنانيّة ، بحيث لا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية منها إلى الاصول محذور ، ضرورة استلزام كثرتها على الوجه المذكور لقلّة المشكوكات بحيث لا يلزم من العمل بالاحتياط فيها

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالطريق» ، بالواقع.

٥١٨

والحاصل : أنّ العمل بالظنّ من باب الاحتياط (*) لا يخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلّي الثابت بمقتضى العلم الإجمالي في الوقائع. نعم ، لو ثبت بحكم العقل أنّ الظنّ عند انسداد باب العلم مرجع في الأحكام الشرعيّة نفيا وإثباتا ـ كالعلم ـ انقلب التكليف إلى الظنّ ، وحكمنا بأنّ الشارع لا يريد إلّا الامتثال الظنّي ، وحيث لا ظنّ كما في المشكوكات فالمرجع إلى الاصول الموجودة في خصوصيّات المقام ، فيكون كما لو انفتح باب العلم أو الظنّ الخاصّ ، فيصير لزوم العسر حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الإجمالي في الامتثال بعد تعذّر التفصيلي ، لا علّة حتّى يدور الحكم مدارها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ المقدّمات المذكورة لا تنتج هذه النتيجة ، كما يظهر لمن راجعها وتأمّلها. نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العسر ثبتت النتيجة (٩٤٧) المذكورة ، لكن قد عرفت فساد دعواه في الغاية ، كدعوى أنّ العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط الكلّي إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ، فلا مقتضي فيها للعدول عمّا تقتضيه الاصول الخاصّة في مواردها ؛ فإنّ هذه الدعوى يكذّبها ثبوت العلم الإجمالي بالتكليف الإلزاميّ قبل استقصاء الأمارات بل قبل الاطّلاع عليها ، وقد مرّ تضعيفه سابقا ، فتأمّل فيه ؛ فإنّ ادّعاء ذلك ليس كلّ البعيد.

ثمّ إنّ نظير هذا الإشكال (٩٤٨) الوارد في المشكوكات من حيث الرجوع فيها

______________________________________________________

عسر ، تنبيه على فساد ما تقدّم في السؤال من دعوى كون العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّة إلى الظنون المثبتة للتكليف موجبا للعسر ، لأنّ منشأ العسر هو العمل بالاحتياط في المشكوكات خاصّة ، لتعيّن العمل بالظنون المذكورة على كلّ تقدير. فأشار المصنّف رحمه‌الله إلى فساد ذلك ، بدعوى قلّة المشكوكات مع قطع النظر عن كثرة وجود الظنون الاطمئنانيّة وقلّتها.

٩٤٧. بمعنى كون الظنّ في معنى الحجّة ، كما تقدّم في السؤال السابق.

٩٤٨. حاصله : أنّ مقتضى حجّية الظنّ هو جواز الرجوع في موارد فقده إلى

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الاحتياط» ، العسر.

٥١٩

بعد العمل بالظنّ إلى الاصول العمليّة وارد فيها من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والأخبار المتيقّن

______________________________________________________

الاصول اللفظية إن وجدت ، وإلّا فإلى الاصول العمليّة. وكما أنّ الإشكال وارد على الثاني ، كذلك وارد على الأوّل أيضا ، بتقريب أنّ من جملة مقدّمات دليل الانسداد انسداد باب العلم التفصيلي وجدانا وشرعا بالأحكام الواقعيّة غالبا ، وهو فرع الالتزام بإجمال ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والمتيقّن من الظنون الخاصّة ، لأجل العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر من كثير منها ، وإلّا انفتح باب العلم شرعا ، والكاشف عنها ظنّا هي الأمارات المخالفة لها بالتخصيص أو التقييد أو قرينة المجاز. ولا ريب أنّ الظنّ التفصيلي لا ينافي العلم الإجمالي ، كما إذا ظنّ حرمة أحد أطراف الشبهة المحصورة ، إلّا إذا ثبتت حجّية الظنّ شرعا ، وإذا فرض كون العمل بالظنّ لأجل لزوم العسر من العمل بالاحتياط الكلّي لا لأجل حجّيته شرعا ، فالعمل بالظنون المخالفة للظواهر بالتخصيص أو التقييد أو قرينة المجاز لأجل دفع العسر ، لا يوجب ارتفاع العلم الإجمالي المذكور حتّى يصحّ التمسّك بالظواهر في موارد الشكّ. وقد تقدّم توضيح الفرق في العمل بالظنّ بين كونه من باب الحجّية ، وكونه من باب الفرار من لزوم العسر ، عند شرح قوله : «بأنّ هذا ليس من حجّية مطلق الظنّ» فراجع.

ولكنّك خبير بأنّ دعوى إجمال الظواهر هنا تنافي دعوى عدم إجمالها في المقدّمة الثالثة ، عند الاستشكال في دفع وجوب الاحتياط الكلّي باستلزامه العسر بقوله : «وتحصّل ما ذكرنا إشكال آخر أيضا ...» ، سيّما مع إحالة تلك الدعوى إلى ما ذكره هنا بقوله : «وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات». وبالجملة إنّ دعواه هناك عدم جواز العمل بالظنون المخالفة للظواهر لا تجتمع مع دعواه هنا عدم جواز التمسّك بالظواهر في موارد الشكّ ، لأنّ الاولى مبنيّة على اعتبار الظواهر ، والثانية على إجمالها كما لا يخفى.

٥٢٠