فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق (٨٣٦) منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ، بل الظاهر : أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى ؛ لإحراز المصلحة الأوّلية التي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ؛ فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق لا إدراك المصلحة الواقعيّة ؛ ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتّفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.

فإن قلت : العمل بالظنّ في الطريق عمل بالظنّ في الامتثال الظاهري والواقعي ؛ لأنّ الفرض إفادة الطريق للظنّ بالواقع بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ؛ فإنّه ظنّ بالواقع وليس ظنّا بتحقّق (٨٣٧) الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهري مشكوك (٨٣٨) أو موهوم (٨٣٩) بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ.

قلت أوّلا : إنّ هذا خروج عن الفرض ؛ لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيدا للظنّ بالواقع أصلا. نعم ، قد اتّفق في الخارج (٨٤٠) أنّ الامور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة

______________________________________________________

٨٣٦. تعليل لعدم اعتبار الشارع.

٨٣٧. فيكون الظنّ بالطريق أولى ، لأنّه إذا استلزم الظنّ بالواقع فإذا تخلّف أحدهما عن الواقع فالغالب إصابة الآخر له ، بخلاف الظنّ بالواقع خاصّة.

٨٣٨. إذا كانت الأمارة مشكوكة الاعتبار.

٨٣٩. إذا كانت الأمارة موهومة الاعتبار.

٨٤٠. هذا إنّما يتمّ إذا اريد من الظنّ الظنّ النوعي المجامع للظنّ الفعلي بالخلاف ، ولكن دليل الانسداد لا يقتضي اعتبار الظنون النوعيّة. وإن اريد منه

٤٤١

للظنّ (*) ، لا أنّ مناط الاستدلال اتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع.

وثانيا : إنّ هذا يرجع (٨٤١) إلى ترجيح بعض الأمارات الظنّية على بعض باعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعا دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق. وسيجيء الكلام في أنّ نتيجة دليل الانسداد ـ على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم ـ كلّية بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثمّ التعميم مع فقد المرجّح. والاستدلال المذكور (٨٤٢) مبنيّ على إنكار ذلك كلّه (٨٤٣) وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الاصوليّة ، لا في نفس الأحكام

______________________________________________________

الظنّ الشخصي فالملازمة ممنوعة ، إذ الأمارة المظنونة الاعتبار كالخبر الصحيح قد لا تفيد الظنّ الشخصي لمخالفة الشهرة مثلا. فالأولى أن يجاب أوّلا : بمنع الملازمة بين الظنّ بالاعتبار والظنّ بالواقع ، وثانيا : ـ مع التسليم ـ بكونه خروجا عن الفرض.

٨٤١. لأنّ حاصل السؤال ترجيح الظنّ بالاعتبار على الظنّ بالواقع لأجل استلزامه الظنّ بالواقع ، وهو اعتراف بكون مقتضى دليل الانسداد هو اعتبار الظنّ بالواقع دون الظنّ بالطريق ، وترجيح بعض الظنون المتعلّقة بالواقع لأجل كون طريقه مظنونا ، إذ لو كان الظنّ بالواقع ملغى في نتيجة الانسداد فلا وجه لترجيح الظنّ بالطريق باستلزامه الامتثال الظاهري والواقعي ، بخلاف الظنّ بالواقع خاصّة ، بل لا معنى للترجيح حينئذ ، إذ بعد تقيّد مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة بالتوصّل إليها بالطرق المجعولة ، كما هو مقتضى القول بكون مقتضى دليل الانسداد هو اعتبار الظنّ بالطريق خاصّة ، لا وجه لملاحظة الظنّ بالواقع أصلا بعد الانسداد ، لكون وجوده حينئذ كعدمه.

٨٤٢. أعني : الوجه الأوّل الذي استدلّ به صاحب الفصول.

٨٤٣. من حجّية الظنّ بالواقع ، وكون النتيجة مهملة أو كلّية. وحاصل ما

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : شخصا أو نوعا.

٤٤٢

الواقعيّة الفرعيّة ؛ بناء منه على أنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطرق (*) ليست مكلّفا بها تكليفا فعليّا إلّا بشرط قيام تلك الطرق عليها ، فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي. وقد عرفت ممّا ذكرنا : أنّ نصب هذه الطرق ليس إلّا لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأوّل.

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك (٨٤٤) بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها : جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع لا قيدا له.

______________________________________________________

ذكره في وجه الابتناء المذكور : أنّ مقتضى تخصيص نتيجة دليل الانسداد باعتبار الظنّ بالطرق خاصّة هو دعوى كون مطلوبيّة الواقع مقيّدة بالوصول إليه بالطرق المجعولة ، وإلّا لم يكن وجه للتخصيص المذكور ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله قبل السؤالين اللذين أوردهما في المقام. ومقتضى تقيّد مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة بالتوصّل إليها بالطرق المجعولة إلغاء الظنّ بالواقع بالمرّة ، وكون اعتباره على وجه الإطلاق أو الإهمال ، لأنّ هذا فرع اعتبار الظنّ بالواقع الذي عرفت تعيّن إلغائه على هذا المسلك.

٨٤٤. غير خفيّ أنّ ما ادّعاه المستدلّ من انحصار مقتضى دليل الانسداد في إثبات اعتبار الظنّ بالطرق خاصّة مبنيّ ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ على كون مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة مقيّدة بمساعدة الطرق المجعولة عليها والتوصّل لامتثالها بها. وأشار المصنّف رحمه‌الله في منع ذلك أوّلا إلى كون اعتبار الطرق المجعولة لأجل كشفها الغالبي عن الواقع. وثانيا : ـ مع تسليم كون جعلها من باب الموضوعيّة ـ إلى منع كون ذلك مقتضيا لتقيّد الأحكام الواقعيّة بالتوصّل بها إليها.

وأقول : وعلى تقدير تسليم التقيّد المذكور يلزم التصويب في الأحكام ، و

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الطرق» ، الطريق.

٤٤٣

والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : «لا اريد من الواقع إلّا ما ساعد عليه ذلك الطريق» ، فينحصر التكليف الفعلي حينئذ في مؤدّيات الطرق ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ وبين أن يكون التكليف الفعلي بالواقع باقيا على حاله ، إلّا أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ، فمؤدّى هذه الطرق واقع جعلي ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقي وبين الظنّ بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح ؛ إذ الترجيح مبنيّ على إغماض الشارع عن الواقع (٨٤٥).

______________________________________________________

ذلك لأنّ الشارع إمّا أن يلاحظ مصلحة في سلوك طريق مخصوص فائقة على مصلحة الواقع ، بحيث يغمض الشارع عن مصلحة الواقع ، ويجعل مناط التكليف ما أدّى النظر في الأمارة إليه.

وإمّا أن يلاحظ فيه مصلحة متداركة لمصلحة الواقع على تقدير تخلف الطريق عنه ، مع بقاء مصلحة الواقع على حالها. وإمّا أن لا يلاحظ فيه سوى مصلحة الطريقيّة والوصول إلى الواقع غالبا. والأوّل مستلزم للتصويب. والظاهر إجماعهم على بطلان هذا النحو من التصويب. والأخيران غير مستلزمين للمطلوب من عدم إجزاء التوصّل إلى الواقع بغير الطرق المجعولة ، وإن فرضت مطابقة العمل للواقع أيضا ، كما هو واضح. مضافا إلى أنّ مقتضى القول باعتبار الطرق على وجه الموضوعيّة على الوجه المذكور هو القول بالإجزاء على تقدير انكشاف تخلف الطريق عن الطريق الواقع ، والمستدلّ لا يقول بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة ، والتنافي بينهما واضح. وما أبعد ما بينه وبين ما ذهب إليه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّه مع قوله باعتبار الطرق من باب الظنون المطلقة قال بالإجزاء فيها ، فقولهما في طرفي الإفراط والتفريط.

٨٤٥. بأن كانت مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة مقيّدة بالوصول إليها بالطرق المجعولة ، كما عرفته في الحاشية السابقة.

٤٤٤

وبذلك ظهر (٨٤٦) ما في قول بعضهم : من أنّ التسوية (٨٤٧) بين الظنّ بالواقع والظن بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل (٨٤٨) والطريق المقرّر مستقلا ؛ لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين (٨٤٩) به ؛ نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر ؛ لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ؛ فلذا لا يحكم بالبراءة معه (٢) ، انتهى.

الوجه الثاني : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأخر ، قال : لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ولم يسقط عنّا التكليف

______________________________________________________

٨٤٦. يعني : بما ذكره من أنّ مفاد نصب الطرق ليس تقييد الواقع بها ، بل جعلها عين الواقع بالتنزيل ، فتكون مؤدّياتها واقعا جعليّا. ووجه ظهور فساد قول المستدلّ هو ابتنائه على كون الأحكام الواقعيّة مقيّدة بامتثالها بالطرق المجعولة زعما منه كون العلم أيضا من الطرق المجعولة دون المنجعلة ، فتخيّل كون مطلوبيّة الأحكام الواقعيّة مقيّدة بأدائها بالطرق المجعولة التي منها العلم ، فالواقع من حيث هو ملغى في نظر الشارع ، فإذا تعذّر العلم بالواقع ، وتعذّر أيضا معرفة سائر الطرق المجعولة ، يقوم الظنّ بهذه الطرق مقام العلم بها ، وحيث إنّه لا معنى لتعلّق الظنّ بالعلم فيعتبر الظنّ بسائر الطرق ، وعلى هذا يكون الطرق المجعولة في عرض العلم دون الواقع. وقد أشرنا عند شرح قوله : «إن كان منصوبا حتّى حال الانسداد ...» إلى توضيحه وتوضيح فساده.

٨٤٧. مقول للقول.

٨٤٨. أي : الفعلي الواقعي.

٨٤٩. من الطريق والواقع.

٤٤٥

بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف (٨٥٠) ، بأن يقطع معه (٨٥١) بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل العلم منه (٨٥٢) بأداء الواقع أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه. وحينئذ فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ. وبينهما بون بعيد ؛ إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة لقيام دليل ظنّي على حجّيته سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ؛ إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظنّ ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك (٨٥٣) بمقتضى حكم العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلّا الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته واعتباره عند الشارع يكون حجّة دون ما لم يقم عليه ذلك (٣) ، انتهى بألفاظه.

______________________________________________________

٨٥٠. على صيغة الفاعل.

٨٥١. أي : مع الإتيان بالمكلّف به.

٨٥٢. أي : من القطع بالفراغ.

٨٥٣. يعني : إذا تعيّن تحصيل الظنّ بالفراغ بعد تعذّر العلم به بمقتضى العقل يلزم أن يلاحظ ويعتبر ما يظنّ معه رضا الشارع بالعمل بما يفيد الظنّ بالواقع من الطرق ، ليحصل بذلك الظنّ بالفراغ. وبعبارة اخرى : أنّ حكم العقل بتحصيل الظنّ بالفراغ حكم كلّي لا بدّ في مقام العمل من تطبيقه على ما يوجد فيه ذلك ، وليس هو في الخارج إلّا الدليل الدالّ على حجّية ما يفيد الظنّ بالواقع. فتحصّل من ذلك أنّ كلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشارع فهو حجّة ، دون ما لم يقم عليه ذلك.

٤٤٦

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذكره سابقا في مقدمات هذا المطلب ، حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك المقدّمات : إنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوّلية إلّا أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره؟ أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع منّا في الظاهر وحكم معه قطعا بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقته للواقع أو ظنّ ذلك أو لم يحصل به شيء منهما؟ وجهان.

الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ؛ فإنّه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يقض شيء من الأدلّة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الأدلّة الشرعيّة قائمة على خلاف ذلك ؛ إذ لم يبن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ؛ وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ؛ إذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به ، انتهى.

ثمّ شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا ، إلى أن قال : فتحصّل ممّا قرّرناه أنّ العلم الذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أدائه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها للواقع. وبعبارة اخرى : لا بدّ من المعرفة بالتكليف وأداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى

٤٤٧

اليقين ، من غير فرق بين الوجهين (٨٥٤) ولا ترتيب بينهما (٨٥٥). نعم ، لو لم يظهر طريق مقرّر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع مع إمكانه ؛ إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطرق المقرّرة (٤) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : ما ذكره في مقدّمات (٨٥٦) مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، ما جزم به من أنّ المناط (٨٥٧) في تحصيل العلم أوّلا هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه ، فيه : أنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليّا بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمة بهذا ـ على مذهب المخطّئة ـ من حيث إنّه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث إنّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعي فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.

______________________________________________________

٨٥٤. من أداء العمل على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع.

٨٥٥. بأن يجب أداء العمل على طبق الواقع ، ومع تعذّر العلم به يجب أدائه على طبق الطريق.

٨٥٦. هو ما أشار إليه في آخر ما نقله عنه بقوله : «من غير فرق بين الوجهين».

٨٥٧. حاصل (*) ما ذكره يرجع إلى وجهين :

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «توضيحه : أنّ المستدلّ فيما زعمه من كون الظنّ بالطريق مستلزما للظنّ بالبراءة دون الظنّ بالواقع ، كأنّه قد تخيّل أنّ الحكم بالبراءة مع العلم بالواقع إنّما هو بمقتضى العقل ، والحكم بها مع العمل بالطريق المجعول إنّما بحكم الشارع ، لأنّ حصول البراءة به إنّما هو بجعل الشارع ، فحصول البراءة لازم للواقع بشرط حصول العلم به ، ولازم للطريق المجعول من حيث هو. وبعبارة أخرى : أنّ مطابقة العمل للواقع من قبيل المقتضي لحصولها ، وللطريق المجعول من قبيل العلّة التامّة. و

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : أنّ كون المناط عند العقل في العلم بحصول الامتثال هو العلم بتفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به ، لا يقضي بكون المدار عند انسداد باب العلم بالواقع وبالطرق المجعولة على الظنون المظنونة الاعتبار خاصّة ، لأنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به مع التمكّن من العلم إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ، وإمّا بفعل ما جعله الشارع عين الواقع بالتنزيل ، وهو مؤدّيات الطرق المجعولة. فالحكم بفراغ الذمّة بالعمل بمؤدّيات الطرق المجعولة إنّما هو من جهة أنّها عين الواقع بحكم الشارع وتنزيلها منزلته ، لا أنّها شيء آخر في قبال الواقع ، وموافقتها موجبة للفراغ. فإذا انسدّ باب العلم بالواقع وبالطريق المجعول فالاكتفاء بالظنّ بالواقع أولى من الظنّ بالطريق المجعول ، لما عرفت من كون العمل بمؤدّيات الطرق المجعولة لأجل كونها بمنزلة الواقع.

ويؤيّده بل يدلّ عليه أنّه لا ريب أنّ المرتبة العليا في نظر العقلاء في امتثال أوامر الموالي هو امتثال التكليف النفس الأمري ، وهو الإتيان بالمأمور به الواقعي من حيث إنّ المولى أمره به ، لا الإتيان بالفعل لخوف العقاب وتحصيل فراغ الذمّة. فالواجب على المكلّف أوّلا وبالذات مع التمكّن من تحصيل نفس الأمر هو الإتيان بما أمر الشارع به من حيث إنّه أمره به ، ولذا قد حكم المشهور ـ كما قيل ـ ببطلان العبادة الواقعة لخوف النار. ومع تسليم صحّتها فهي من أدنى مراتب الامتثال. فجعل الواجب أوّلا وبالذات هو تفريغ الذمّة عن التكليف النفس الأمري مع إمكان تحصيل الواقع كما ترى. وحينئذ فمع فرض الانسداد يكون الواجب على المكلّف ثانيا وبالعرض هو تحصيل الواقع ظنّا لا تفريغ الذمّة ظنّا

__________________

لا ريب أنّ الظنّ بالمقتضي من حيث هو لا يستلزم الظنّ بالمعلول ، بخلاف الظنّ بالعلّة التامّة ، وأنت خبير بأنّه لو تمّ ذلك لاستلزم أن يحصل القطع بعدم البراءة مع الظنّ بالواقع ، إذ بعد فرض كون الواقع مقتضيا لحصول البراءة بشرط حصول العلم به ، فلا بدّ أن يحصل القطع بعدم حصول مقتضاه ، مع القطع بعدم تحقّق شرطه الذي هو العلم ، وهو بيّن الفساد ، وسيجيء توضيح المقام زيادة على ذلك بما لا مزيد عليه. منه مدّ ظلّه».

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مطلقا ، سواء حصل الظنّ بالواقع أم لا ، على ما حقّق المستدلّ به المقام. ومع تسليم صحّة الامتثال بالإتيان بالفعل بداعي تحصيل فراغ الذمّة وخوف النار يكون ذلك من أدنى مراتب الامتثال على ما عرفت.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله قد أوضح كون مؤدّى الطريق عين الواقع بتنزيل الشارع ، وكون العلم به بمنزلة العلم بالواقع ، سواء كان الطريق مجعولا على وجه يشمل حال الانفتاح أو كان مجعولا في حال الانسداد خاصّة ، بأن كان نصب الطريق مرتّبا على تعذّر تحصيل الواقع على وجه اليقين ، ورتّب على ذلك الإيراد الثاني كما ستعرفه.

وثانيهما : أنّ ما ذكره من الفرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، بعدم استلزام الأوّل للظنّ بالفراغ ، بخلاف الثاني ، ضعيف جدّا ، لأنّك بعد ما عرفت من كون مؤدّى الطريق بمنزلة الواقع ، والعلم به بمنزلة العلم به ، فلو كان الظنّ بالطريق مستلزما للظنّ بالفراغ فالظنّ بالواقع أولى بذلك.

وبالجملة إنّه لا فرق بينهما من هذه الجهة ، لأنّه إن أراد من حصول الظنّ بالفراغ بالعمل بما ظنّ اعتباره من الأمارات الفراغ الثاني الواقعي ، بأن كانت هذه الأمارة بحيث لو علمنا باعتبارها لحصل العلم بالفراغ الواقعي بالعمل بها ، ففيه : أنّ الظنّ بالواقع أيضا كذلك ، لأنّه لو انكشف الواقع وعلم إصابة ظنّنا له لحصل اليقين بالفراغ أيضا.

وإن أراد الفراغ الفعلي ، بأن حصل الظنّ بالفراغ فعلا بالعمل بمؤدّى الأمارة التي ظنّ اعتبارها ، ففيه : أنّ الظنّ باعتبار الأمارة لا يخلو : إمّا أن يكون حاصلا من أمارة معلومة الاعتبار ، أو معلومة عدم الاعتبار كالقياس ، أو مظنونة الاعتبار ، أو مشكوكة الاعتبار ولا ريب في حصول العلم بالفراغ على الأوّل ، والعلم بعدمه على الثاني ، والظنّ بالفراغ على الثالث ، والشكّ فيه على الرابع.

ونقول حينئذ : إنّ الظنّ بالواقع أيضا كذلك ، لأنّه مع حصول الظنّ به من

٤٥٠

والحاصل : أنّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين مراد واقعي حقيقي ، ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقرّرة (٨٥٨) ذلك المراد

______________________________________________________

أمارة معلومة الاعتبار يحصل اليقين بالفراغ ، ومن أمارة معلوم عدم اعتبارها يحصل اليقين بعدمه ، ومن أمارة مظنونة الاعتبار يحصل الظنّ بالفراغ ، ومن أمارة مشكوكة الاعتبار يحصل الشكّ فيه.

وبالجملة ، إنّه لا فرق في حصول الظنّ بالفراغ بين تعلّق الظنّ بالواقع وتعلّقه باعتبار أمارة خاصّة ، لما عرفت من كون العمل بكلّ من الواقع المظنون ومؤدّى الأمارة المظنونة الاعتبار موجبا للظنّ بالفراغ.

وكأنّ المستدلّ قد زعم أنّ نفس سلوك الطريق المجعول في عرض سلوك الطريق العقلي غير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ للعلم بالفراغ ، فيكون نفس سلوك الطريق الشرعيّ أيضا كذلك ، وبعد انسداد باب العلم بالواقع والطريق لا معنى لتعلّق الظنّ بالعلم. وأمّا تعلّقه بالواقع فهو لا يستلزم الظنّ بالفراغ ، لفرض عدم كون محض سلوك الواقع علّة تامّة للفراغ حتّى يستلزم الظنّ به للظنّ به ، بخلاف الظنّ بالطريق المجعول ، لفرض كونه ظنّا بالعلّة التامّة للفراغ.

ولكنّه فاسد جدّا ، إذ لا ريب أنّ نفس سلوك الطريق المجعول من دون علم به لا يترتّب عليه تحقّق الامتثال أصلا حتّى يكون في عرض العلم بالواقع. نعم ، يترتّب عليه سقوط الأمر في التوصّليات ، كما يترتّب ذلك على سلوك نفس الواقع من دون علم به حين سلوكه ، فمؤدّى الطريق في عرض الواقع ، والعلم به في عرض العلم بالواقع ، والامتثال إنّما يترتّب على العلمين ، والظنّ أيضا إنّما يقوم مقامهما عند تعذّرهما دون المعلومين. هذا حاصل ما أورده المصنّف رحمه‌الله في المقام. وأمّا توضيح بعض ما يتعلّق بعباراته فستقف عليه إن شاء الله تعالى.

٨٥٨. الجارّ ليس متعلّقا بالعمل ، بل هو ظرف مستقرّ صفة للأوامر الظاهريّة ، أي : الثابتة بالطرق المقرّرة.

٤٥١

الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ـ وقد اعترف المحقّق المذكور حيث عبّر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول ـ فأداء كلّ من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة للأمر المتعلّق به ما لم يحصل العلم به. نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الإطاعة والامتثال ، كان مجرّد إتيان كلّ منهما مسقطا للأمر من دون امتثال ، وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلّا مع العلم.

ثمّ إنّ هذين الأمرين مع التمكّن من امتثالهما يكون المكلّف مخيّرا في امتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه وينتفي موضوع الأمر الآخر ؛ إذ المفروض كونه ظاهريّا قد اخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظاهري.

هذا مع التمكّن من امتثالهما ، وأمّا لو تعذّر عليه امتثال أحدهما تعيّن عليه امتثال الآخر ، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع وتمكّن من سلوك الطريق المقرّر لكونه معلوما له أو انعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وانسدّ عليه باب سلوك الطريق المقرّر لعدم العلم به. ولو عجز عنهما معا قام الظنّ بهما مقام العلم بهما بحكم العقل. فترجيح الظنّ بسلوك الطريق المقرّر على الظنّ بسلوك الواقع لم يعلم وجهه ، بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ؛ لما أشرنا إليه سابقا من حكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع.

هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكّن من العلم ، وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم ، فهو أيضا كذلك (٨٥٩) ؛ ضرورة أنّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعيّة عند تعذّره هي الإطاعة الظاهريّة المتوقّفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه.

______________________________________________________

٨٥٩. أي : مثل الواقع الجعلي الواقع في عرض الواقع ، فكما أنّ امتثال الواقع الحقيقي والجعلي هناك لا يحصل إلّا بالعلم بأدائهما ، كذلك الأمر في الواقع الجعلي الواقع في طول الواقع الحقيقي ، فيترتّب عليه أيضا ما كان مرتّبا على الأوّل من قيام الظنّ بالواقع مقام العلم به.

٤٥٢

والحاصل : أنّ سلوك الطريق المجعول مطلقا أو عند تعذّر العلم في مقابل العمل بالواقع ، فكما أنّ العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجب امتثالا وإنّما يوجب فراغ الذمّة من المأمور به واقعا لو لم يؤخذ فيه تحقّقه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول ، فكلّ منهما موجب لبراءة الذمّة واقعا وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو اعتقد عدم حصوله. وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقّق في شيء منهما إلّا بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه.

فالحكم بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، بخلاف الظنّ بأداء الواقع فإنّه لا يوجب الظنّ بفراغ الذمّة إلّا إذا ثبت حجّية ذلك الظنّ ؛ وإلّا فربّما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ، تحكّم صرف. ومنشأ ما ذكره قدس‌سره تخيّل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعيّ المجعول في مقابل سلوك الطريق العقلي (٨٦٠) الغير المجعول وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبراءة الذمّة ، فيكون هو أيضا كذلك ، فيكون الظنّ بالسلوك (٨٦١) ظنّا بالبراءة ، بخلاف الظنّ بالواقع ؛ لأنّ نفس أداء الواقع (٨٦٢) ليس سببا تامّا (٨٦٣) للبراءة حتّى يحصل من الظنّ به الظنّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعيّ بالطريق العقلي.

وأنت خبير بأنّ الطريق الشرعيّ لا يتّصف بالطريقيّة فعلا إلّا بعد العلم به تفصيلا ؛ وإلّا فسلوكه ـ أعني مجرّد تطبيق الأعمال عليه ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع ، لغو صرف ؛ ولذلك أطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع لا في مقابل العلم بالعمل بالواقع ، ويلزم من ذلك كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر ؛ فدعوى : أنّ الظنّ بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ بإتيان الواقع ، فاسدة.

______________________________________________________

٨٦٠. فيكون سلوك كلّ منهما سببا تامّا للعلم بالفراغ.

٨٦١. لكون الظنّ بسلوك الطريق ظنّا بحصول السبب التام للبراءة.

٨٦٢. من دون علم بأدائه.

٨٦٣. لأنّ السبب التامّ هو العلم بأداء الواقع.

٤٥٣

هذا كلّه ، مع ما علمت (٨٦٤) سابقا في ردّ الوجه الأوّل من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام ، وإنّما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم ثمّ على الظنّ الاطمئناني.

ثمّ إنّك حيث عرفت (٨٦٥) أنّ مآل هذا القول إلى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة إلى المسائل الاصوليّة وهي حجّية الأمارات المحتملة للحجّية ، لا بالنسبة إلى نفس الفروع ، فاعلم أنّ في مقابله قولا آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس‌سرهم ، وهو عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل هذه المسألة الاصوليّة أعني حجّية الأمارات المحتملة ، وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبيه أنّه ذهب إليه فريق. وسيأتي الكلام فيه عند التكلّم في حجّية الظنّ المتعلق بالمسائل الاصوليّة إن شاء الله تعالى.

ثمّ اعلم أنّ بعض من لا خبرة له ـ لمّا لم يفهم من دليل الانسداد إلّا ما تلقّن من لسان بعض مشايخه وظاهر عبارة كتاب القوانين ـ ردّ القول الذي ذكرناه أوّلا عن بعض المعاصرين : من حجّية الظنّ في الطريق لا في نفس الأحكام بمخالفته لإجماع العلماء ؛ حيث زعم أنّهم بين من يعمّم دليل الانسداد لجميع المسائل العلميّة ـ

______________________________________________________

٨٦٤. لا يقال : إنّ الوجه الثاني ليس مبنيّا على جعل الطريق من قبل الشارع ، إذ يكفيه ثبوت المعنى الأعمّ من الجعل والإمضاء ، إذ بعد كون مبنى الاستدلال على كون مناط حكم العقل في الامتثال حصول الظنّ بالبراءة ، فللمستدلّ أن يقول إنّ الظنّ بها إنّما يحصل بالعمل بالطريق الذي ظنّ كونه مجعولا أو ممضى عند الشارع لا بمجرّد الظنّ بالواقع.

لأنّا نقول : قد أوضحنا عند شرح ما أورده على الوجه الأوّل أنّ مقتضى كون امتثال الأحكام الشرعيّة موكولا إلى طريقة العقلاء هو إعمال الظنّ في تعيين الواقع عند تعذّر العلم أو الوثوق به ، فراجع.

٨٦٥. لا يخفى أنّ حقّ العبارة أن يقال : وأمّا الطائفة الثانية فسيأتي الكلام فيما ذهبوا إليه عند التكلم ... إلى آخر ما ذكره.

٤٥٤

اصوليّة أو فقهيّة ـ كصاحب القوانين (٥) وبين من يخصّصه بالمسائل الفرعيّة ، فالقول بعكس هذا خرق للإجماع المركّب.

ويدفعه : أنّ المسألة ليست من التوقيفيّات التي يدخلها الإجماع المركّب (٨٦٦) ، مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشيعة جدّا ، بل المسألة عقليّة ، فإذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطرق ، فلا معنى لردّه بالإجماع المركّب. فلا سبيل إلى ردّه إلّا بمنع جريان حكم العقل وجريان مقدّمات الانسداد في خصوصها كما عرفته منّا ، أو فيها في ضمن (٨٦٧) مطلق الأحكام الشرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا (٦).

______________________________________________________

٨٦٦. قد أوضحنا الكلام في ذلك في أوّل مقصد حجّية القطع ، فراجع عليه.

٨٦٧. أي : في مسألة تعيين الطريق في ضمن مطلق المسائل الاصوليّة والفرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا من القائلين بانفتاح باب العلم والظنّ الخاصّ.

٤٥٥

المصادر

(١) الفصول الغرويّة : ص ٢٧٧.

(٢) هداية المسترشدين : ص ٣٩٤.

(٣) هداية المسترشدين : ص ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(٤) هداية المسترشدين : ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(٥) القوانين ج ١ : ص ٤٥٢.

(٦) الفوائد الحائريّة : ص ٢٧٦ ؛ الرسائل الاصولية : ص ٤٣٠ ـ ٤٣١.

٤٥٦

الأمر الثاني وهو أهمّ الامور في هذا الباب : أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة (٨٦٨) من حيث أسباب الظنّ ، فلا يعمّ الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظنّ إلّا بعد ثبوت معمّم ـ من لزوم ترجيح بلا مرجّح أو إجماع مركّب أو غير

______________________________________________________

٨٦٨. حاصله : أنّ نتيجة مقدّمات دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة في قوّة موجبة جزئيّة ، محتاجة في التعدّي عن القدر المتيقّن إلى غيره في الجملة أو مطلقا إلى مرجّح أو معمّم ، أو قضيّة كلّية عامّة حاصرة لجميع أفراد الظنون حتّى يحتاج إخراج بعضها إلى دليل خاصّ؟

وبعبارة اخرى : هل هي حجّية الظنّ في الجملة الدائر بين الكلّ والبعض ، أو حجّية الظنّ مطلقا.

وبعبارة ثالثة : أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد ملاحظة مقدّمات دليل الانسداد من باب الكشف عن جعل الشارع للظنّ حجّة شرعيّة في الجملة حتّى يؤخذ بالمتيقّن منه ، ويحتاج التعدّي عنه إلى دليل ، لكون العمل به حينئذ من باب أكل الميتة الذي يقتصر فيه على ما تندفع به الضرورة ، أو من باب الحكومة والإنشاء حتّى لا يفرّق بين أفراده.

فنقول : إنّ اعتبار عموم الظنّ أو إهماله تارة يلاحظ بالنسبة إلى الموارد ، واخرى إلى أسبابه ، وثالثة إلى مراتبه. وتخصيص المصنّف رحمه‌الله للثاني بالذكر في عنوان المسألة إنّما هو من باب المثال.

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فأمّا اعتباره بالنسبة إلى موارده فلا خلاف بينهم ـ كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ـ في اعتباره بالنسبة إلى جميعها ، والمراد بها هي المسائل الفقهيّة ، لأنّ كلّ من عمل بالظنّ بدليل الانسداد في مسألة من المسائل الفقهيّة لم يفرّق بينها وبين غيرها من المسائل الفقهيّة التي انسدّ فيها باب العلم. وأمّا العمل به في الاصولين والموضوعات المستنبطة والصرفة والمسائل المشتبهة ففيه كلام آخر ، تقدّم الكلام في بعضها ، وسيجيء في الباقي.

وأمّا اعتباره بحسب الأسباب والمراتب فنقول : إنّ الظنّ الحاصل من الأمارات الظنّية لا يخلو : إمّا أن يكون معلوم الاعتبار ، كالحاصل من ظواهر ألفاظ الكتاب والسنّة القطعيّة والبيّنة ونحوها ، وإمّا معلوم عدم اعتباره ، كالحاصل من القياس والاستحسان والرمل والجفر ونحوها ، وإمّا مظنون الاعتبار ، كالحاصل من الخبر الصحيح والإجماع المنقول بناء على ذهاب المشهور إلى اعتباره كما قرّر في محلّه ، وإمّا مشكوك الاعتبار ، كالشهرة وظاهر الإجماع وعدم الخلاف ، وإمّا موهوم الاعتبار ، كالغلبة وقياس الأولويّة. فهذه أقسام خمسة.

أمّا الأوّلان فأمرهما واضح ، إذ لا إشكال في حجّية الأوّل وفي عدم حجّية الثاني ، وإن اختلفوا في كيفيّة إخراجه من تحت دليل الانسداد على القول بكون نتيجتها مطلقة لا مهملة ، إلّا أنّه [لا](*) إشكال في حكمه.

وأمّا الثلاثة الأخيرة فهي محلّ الكلام في المقام ، وفيها أقوال : أحدها كون النتيجة مطلقة شاملة للأقسام الثلاثة المذكورة بحسب الأسباب والمراتب. وثانيها : كونها مهملة في قوّة الموجبة الجزئيّة. وثالثها : كونها مطلقة شاملة للأقسام الثّلاثة بحسب أسبابها ، ومهملة بالنسبة إلى مراتبها. واختاره المصنّف رحمه‌الله. ولعلّ هذا من المصنّف رحمه‌الله ليس قولا بالتفصيل في المسألة ، لأنّ قوله بذلك إنّما هو لأجل منعه تماميّة بعض مقدّمات دليل الانسداد كما ستعرفه في محلّه ، وإلّا فمع تسليم تماميّتها

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعني.

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فالقول منحصر في القولين الأوّلين ، فتدبّر.

واختلف القائلون بالأوّل ، فمنهم من قال باعتبار الظنّ حتّى في مسألة واحدة انسدّ فيها باب العلم وإن انفتح فيما عداها. وهذا لازم لكلّ من قال باعتبار الاصول مقيّدا بعدم حصول الظنّ بخلافها ، كصاحب المعالم والزبدة والقوانين ، إذ بعد فرض منع وجوب الاحتياط لا مناص من العمل بالظنّ في تلك المسألة وإن كان ضعيفا ، إذ لولاه تعيّن العمل فيها بالبراءة أو الاستصحاب إن كانت المسألة من مواردهما ، والفرض انتفاء مقتضى العمل بهما بعد فرض حصول الظنّ بخلافهما.

ومنهم من لا يقول بما قدّمناه ، ويعتبر في جواز العمل بالظنّ انسداد باب العلم في أغلب المسائل الفقهيّة. وهذا لازم لكلّ من قال باعتبار الاصول من باب التعبّد أو الظنّ النوعي مطلقا ، لأنّ عدم تجويز هذه الفرقة للعمل بالاصول بعد إبطال وجوب الاحتياط إنّما هو لأجل حصول العلم الإجمالي بوجود أحكام وجوبيّة وتحريميّة لله سبحانه في الواقع ، وحصول هذا العلم الإجمالي إنّما هو بعد الانسداد الأغلبي ، وإلّا فمع انفتاح باب العلم وجدانا أو شرعا في أغلب المسائل ترتفع الشبهة عن هذه المسائل التي انفتح فيها باب العلم ، ويتشخّص الواقع فيها ولو بالشرع. وحينئذ تبقى الشبهة في باقي الموارد التي انسدّ فيها باب العلم مجرّدة عن العلم الإجمالي ، فيجب العمل فيها بالاصول دون الظنّ.

والعجب من صاحب المعالم وغيره حيث ذهبوا إلى اعتبار الاصول من باب الظنّ ، ومع ذلك قد ذهبوا إلى إهمال نتيجة دليل الانسداد ، واعتبروا الظنّ القويّ كالحاصل من خبر الواحد ، لأنّ مقتضى الأوّل كما عرفت هو العمل بكلّ ظنّ في أيّ مورد ومن أيّ سبب حصل ، لا الاقتصار على بعض الظنون. ومن هنا يظهر السرّ في نسبة المصنّف رحمه‌الله إطلاق نتيجة دليل الانسداد إلى الدليل الذي تمسّك به صاحبا المعالم والزبدة لإثبات حجّية خبر الواحد وهو دليل الانسداد ، لا إلى اختيارهم ومذهبهم ، حيث قال : «ويظهر أيضا من صاحبي المعالم والزبدة بناء

٤٥٩

ذلك ـ ، أو قضيّة كلّية لا تحتاج في التعميم إلى شيء؟ وعلى التقدير الأوّل ، فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض أم لم يثبت؟ وعلى التقدير الثاني ـ أعني كون القضيّة كلّية ـ فكيف توجيه خروج القياس مع أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص؟

فهنا مقامات :

______________________________________________________

على اقتضاء ما ذكره» إلى آخر ما ذكره. وذلك لما عرفت أنّ مذهبهم هو إهمال النتيجة ، إلّا أنّ دليلهم يقتضي إطلاقها ، فتدبّر.

واختلف القائلون بالثاني أيضا ، فقيل : إنّ الحجّة من الظنون المطلقة هي الظنون القويّة كالخبر الصحيح الأعلى ، لأنّ العقل بعد ملاحظة مقدّمات دليل الانسداد إنّما يحكم بحجّية الظنّ في الجملة ، والمتيقّن منه على وجه يكتفى به في إتمام الفقه هي الظنون القويّة ، لدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، والمتيقّن هو الأوّل ، وهي الظنون القويّة.

وهذا المسلك ممّا سلكه صاحب المعالم ، لأنّه بعد تقرير دليل الانسداد حصر مقتضاه في العمل بالأخبار ، ثمّ شرط في جواز العمل بها كون رواتها مزكّاة بتزكية عدلين. قال في المعالم : «إنّ العقل قاض بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة متفاوتة بالقوّة والضعف ، فالعدول عن القويّ منها إلى الضعيف قبيح ، ولا ريب أنّ كثيرا من الأخبار الآحاد يحصل بها من الظنّ ما لا يحصل من سائر الأدلّة ، فيجب تقديم العمل بها» انتهى.

وقيل : إنّ الحجّة كلّ ما ظنّ اعتباره ، كأقسام الخبر ما عدا القسم الضعيف منها ، بل هو أيضا إذا انجبر بالعمل والإجماع المنقول. وهذه الفرقة هم القائلون باعتبار الظنّ بالطريق.

وقيل : إنّ الحجّة هي جميع أفراد الظنون ، نظرا إلى أنّ النتيجة وإن فرضناها مهملة إلّا أنّها تضمّ إليها مقدّمات تسمّى معمّمات تفيد حجّية كلّ ظنّ ، كما ستجيء إن شاء الله تعالى. هذا كلّه في أقوال المسألة ، وستقف على ما هو التحقيق وبعض أدلّة الأقوال. والله الهادي إلى الصواب.

٤٦٠