فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

وحاصل ذلك : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن (٧٧٧) الامتثال العلمي الإجمالي وهو الاحتياط المطلق ، ومع تعذّره لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي ، كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا ، ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّية وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات (٧٧٨) وإلغائه في الموهومات (٧٧٩) ، كان الثاني هو المتعيّن.

ودعوى لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات ، خلاف الإنصاف ؛ لقلّة المشكوكات ، لأنّ الغالب حصول الظنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم. اللهمّ إلّا أن يدّعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، وحاصله :

دعوى أنّ الشارع لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع ، فيكون حاصل دعوى الإجماع (٧٨٠) : دعوى انعقاده على أنّه لا يجب شرعا الإطاعة العلميّة الإجماليّة

______________________________________________________

٧٧٧. هذا مبنيّ على المشهور من إبطال عمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مطلقا ، وإلّا فتفصيل الكلام في جواز الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي قد تقدّم في مقصد حجّية القطع ، فراجع.

٧٧٨. يعني : مظنونات الوجوب أو الحرمة.

٧٧٩. يعني : موهومات الوجوب والحرمة ، بأن حصل الظنّ بعدمها في الواقع.

٧٨٠. حاصله : أنّ جواز العمل بالاصول في المسائل المشكوكة فرع ارتفاع العلم الإجمالي في مواردها ، لعدم جواز العمل بها مع وجوده كما سيجيء ، وهو إنّما يرتفع في المقام بوجود الحجّة الكافية من العلم ـ أو ما هو بمنزلته ـ في المسائل التي انسدّ فيها باب العلم ، بحيث لا يبقى في الموارد الخالية منها مانع من العمل بالاصول ، بأن كانت الوقائع مع وجودها بين معلومة بالتفصيل وجدانا أو شرعا ، وبين مشكوكة بالشكّ البدوي ، وحينئذ فمرجع دعوى الإجماع قطعا أو ظنّا على

٤٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز العمل بالاصول في المسائل المشكوكة إلى دعوى الإجماع كذلك على وجود حجّة كافية في المسائل المشتبهة ، وهو الظنون الحاصلة من الأمارات التي لم يثبت اعتبارها بالخصوص ، لعدم ما سواها. فحاصلها : دعوى الإجماع على حجّية الظنّ بعد الانسداد. ودعوى الإجماع في المسائل المستحدثة غير المعنونة في كلمات القدماء بعيدة عن السداد. مضافا إلى كون حجّية الظنّ المطلق عندهم عقليّة لا شرعيّة. مع أنّ مرجع دعوى الإجماع الظنّي على حجّية الاصول في موارد الشكّ ـ بتقريب ما عرفت ـ إلى دعوى الظنّ بحجّية الظنّ المطلق بعد الانسداد ، وهو كما ترى.

وحاصل ما أجاب به عمّا أورده على نفسه ثانيا بقوله : «فإن قلت إن لم يقم في موارد الشكّ ...» ، هو إثبات عدم وجوب الاحتياط في موارد الشكّ مع وجود ما يظنّ طريقيّته على وجه الأولويّة القطعيّة ، لأجل الإجماع على عدم وجوبه مع عدم وجود ما يظنّ طريقيّته ، فإذا كانت الاصول في موارد الشك مظنونة الاعتبار جاز الآن العمل بها في الأمارات.

وأنت خبير بأنّ مرجع دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في موارد الشكّ وإن لم يقم فيها ما يظن طريقيّته ، ودعوى الأولويّة العقليّة القطعيّة على عدم وجوبه مع قيامه فيها التي مرجعها إلى دعوى الإجماع على ذلك أيضا ، لأنّ الأوّل إذا كان إجماعيّا يكون الثاني أيضا كذلك ، لا محالة إلى دعوى الإجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي انسدّ بها باب العلم ، لما عرفت أن المتّجه على تقدير عدم وجودها هو وجوب الاحتياط في موارد الشكّ. فدعوى الإجماع على عدم وجوبه في نفيها والأولويّة القطعيّة في بعض آخر ، فرع ما ذكرناه من الالتزام بوجود الحجّة الكافية. فإذا استضعف المصنّف رحمه‌الله ذلك في الجواب عمّا أورده على نفسه أوّلا ، فكيف أعاده بالسؤال ثانيا؟

وظنّي أنّ هذا إنّما وقع من المصنّف رحمه‌الله من أجل أنّه قد كتب الجواب عمّا أورده على نفسه أوّلا عند التصنيف بوجه آخر سوى ما قدّمنا توضيحه ، ثمّ ضرب

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه في الدورة الأخيرة من مباحثه التي لم تتمّ له ، وأدركه في أثنائها هادم اللذات ، جعل الله الجنّة مثواه ، وكتب في هامش الكتاب وجها آخر في الجواب ، وهو الذي كتبه أوّلا ، وكان السؤال الثاني مرتبطا بما كتبه أوّلا ، وبعد ضربه عليه لم يرتبط السؤال الثاني بما كتبه ثانيا تمام الربط.

وكان حاصل ما نبّه أوّلا : أنّ إثبات حجّية الظنّ الذي لا يفرّق فيه بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق موقوف على تمهيد مقدّمات دليل الانسداد التي منها إبطال وجوب الاحتياط في الوقائع المشتبهة ، فإذا توقّف إثبات هذه المقدّمة ولو في الجملة ـ بمعنى توقّف إبطال وجوب الاحتياط في موارد الشكّ ـ على إثبات حجّية الظنّ مطلقا لزم الدور.

هذا محصّل ما ذكره. ولا ريب في ارتباط السؤال الثاني به ، إذ يمكن حينئذ أن يقال : إنّا سلّمنا عدم إمكان إثبات هذه المقدمة بحجّية الظنّ ، إلّا أنّه يمكن إثباتها بالأولويّة بالتقريب المتقدّم.

ولعلّ الوجه في ضرب المصنّف رحمه‌الله على ما كتبه أوّلا هو ظهور فساده ، لأنّه بعد الاعتراف باعتبار الظنّ بعدم الوجوب أو التحريم كما في الواقع ، والظنّ باعتبار ما دلّ على عدم الحكم في الواقع أو الظاهر ، ولا يتوقّف ذلك على إثبات اعتبار مطلق الظنّ حتّى يلزم الدور. والعسر كما يندفع بترك العمل بالاحتياط فيما يظنّ بعدم الوجوب أو التحريم [في الموهومات لدفع العسر ، ممّا هو الفرض ، فلا يعقل الفرق بين الظنّ بعدم الوجوب أو التحريم](*) في الواقع ، كذلك يندفع بترك العمل به في شطر من هذه الموارد ، وفي جملة من الموارد المشكوكة التي فرض حصول الظنّ باعتبار ما قام فيها على عدم الوجوب أو التحريم ، بل ربّما كان الظنّ بالطريق أقوى من الظنّ الحاصل بعدم الحكم في الواقع ، فيكون أولى بترك

__________________

(*) ورد ما بين المعقوفتين في هامش الطبعة الحجريّة ولم يعلّم محلّه ، ووضعناه هنا استنادا إلى بعض القرائن.

٤٠٣

في الوقائع المشتبهة مطلقا ـ لا في الكلّ ولا في البعض ـ وحينئذ يتعيّن الانتقال إلى الإطاعة الظنّية ، لكنّ الإنصاف أنّ دعواه مشكلة جدّا وإن كان تحقّقه مظنونا بالظنّ القويّ ، لكنّه لا ينفع ما لم ينته إلى حدّ العلم.

فإن قلت : إذا ظنّ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظنّ بأنّ المرجع في كلّ مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فيصير الاصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ، فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلّف وكفاية الرجوع إلى الاصول ، وسيجيء أنّه لا فرق في الظنّ الثابت حجّيته بدليل الانسداد بين الظنّ المتعلّق بالواقع وبين الظنّ المتعلّق بكون شيء طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلّف عن الواقع.

قلت : مسألة اعتبار الظنّ بالطريق موقوف على هذه المسألة ، بيان ذلك : أنّه لو قلنا ببطلان لزوم الاحتياط في الشريعة رأسا من جهة اشتباه التكاليف الواقعيّة فيها وعدم لزوم الامتثال العلمي الإجمالي حتّى في المشكوكات وكفاية الامتثال الظنّي في جميع تلك الواقعيّات المشتبهة ، لم يكن فرق بين حصول الظنّ بنفس الواقع وبين حصول الظنّ بقيام شيء من الامور التعبّدية مقام الواقع في حصول البراءة الظنّية عن الواقع والظنّ بسقوط الواقع في الواقع أو في حكم الشارع وبحسب جعله.

أمّا لو لم يثبت ذلك ، بل كان غاية ما ثبت هو عدم لزوم الاحتياط بإحراز الاحتمالات الموهومة ـ للزوم العسر ـ كان اللازم جواز الفعل على خلاف الاحتياط في الوقائع المظنون عدم وجوبها أو عدم تحريمها. وأمّا الوقائع المشكوك وجوبها أو تحريمها فهي باقية على طبق مقتضى الأصل من الاحتياط اللازم المراعاة ، بل الوقائع المظنون وجوبها أو تحريمها نحكم فيها بلزوم الفعل أو الترك ؛ من جهة كونها من محتملات الواجبات والمحرّمات الواقعيّة. وحينئذ : فإذا قام ما يظنّ كونه طريقا على عدم وجوب أحد الموارد المشكوك وجوبها ، فلا يقاس بالظنّ القائم على عدم وجوب مورد من الموارد المشتبهة في ترك الاحتياط ، بل اللازم هو العمل بالاحتياط ؛ لأنّه من الموارد المشكوكة ، والظنّ بطريقيّة ما قام عليه لم يخرجه عن كونه مشكوكا.

وأنت خبير : بأنّ جميع موارد الطرق المظنونة التي يراد إثبات اعتبار الظنّ

٤٠٤

بالطريق فيها إنّما هي من المشكوكات ؛ إذ لو كان نفس المورد مظنونا مع ظنّ الطريق القائم عليه لم يحتج إلى إعمال الظنّ بالطريق ولو كان مظنونا ، بخلاف الطريق التعبّدي المظنون كونه طريقا ، لتعارض الظنّ الحاصل من الطريق والظنّ الحاصل في المورد على خلاف الطريق ، وسيجيء الكلام في حكمه على تقدير اعتبار الظنّ بالطريق.

والحاصل : أنّ اعتبار الظنّ بالطريق وكونه كالظنّ بالواقع مبنيّ على القطع ببطلان الاحتياط رأسا ، بمعنى أنّ الشارع لم يرد منّا في مقام امتثال الأحكام المشتبهة الامتثال العلمي الإجمالي حتّى يستنتج من ذلك حكم العقل بكفاية الامتثال الظنّي ؛ لأنّه المتعيّن بعد الامتثال العلمي بقسميه من التفصيلي والإجمالي ، فيلزم من ذلك ما سنختاره : من عدم الفرق ـ بعد كفاية الامتثال الظنّي ـ بين الظنّ بأداء الواقع والظنّ بمتابعة طريق جعله الشارع مجزيا عن الواقع ، وسيجيء تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إذا لم يقم في موارد الشكّ ما ظنّ طريقيّته لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات والمحرّمات الواقعيّة وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة اقتضاء القاعدة في نفس المسألة ، كما لو كان الشكّ فيه في المكلّف به ، وهذا إجماع من العلماء حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشكّ من جهة احتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ، وإن احتاط الأخباريّون في الشبهة التحريميّة من جهة مجرّد احتمال التحريم ، فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّا مع عدم قيام ما يظنّ طريقيّته على عدم الوجوب ، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة.

قلت : العلماء إنّما لم يذهبوا إلى الاحتياط في موارد الشكّ ؛ لعدم العلم الإجمالي (٧٨١) لهم بالتكاليف ، بل الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلا أو مظنون لهم بالظنّ الخاصّ وبين مشكوك التكليف رأسا ، ولا يجب الاحتياط في ذلك عند

______________________________________________________

الاحتياط فيه.

٧٨١. لزعمهم انفتاح باب العلم ، إمّا وجدانا كالمرتضى والحلّي ، أو شرعا كالمشهور القائلين بالظنون الخاصّة.

٤٠٥

المجتهدين بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبيّة. والحاصل : أن موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظنّ الخاصّ مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد ، وقد نبّهنا على ذلك غير مرّة في بطلان التمسّك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء ، فراجع.

ويحصل ممّا ذكر (٧٨٢) إشكال آخر أيضا من جهة أنّ نفي الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها.

ودعوى : أنّ باب العلم والظنّ الخاصّ إذا فرض انسداده سقط عمومات الكتاب والسنّة المتواترة وخبر الواحد الثابت حجّيته بالخصوص عن الاعتبار ؛ للعلم الإجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلّم ، فلا يبقى ظاهر منها على حاله حتّى يكون الظنّ الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد ، مجازفة ؛ إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم (٧٨٣) إجمالها بالخصوص مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢٨) و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٢٩) وشبههما (٧٨٤) ، وأمّا كثير من

______________________________________________________

٧٨٢. فقد تقدّم توضيح الإشكال عند شرح قوله : «إلّا أنّ هنا شيئا ينبغي أن ينبّه عليه» فراجع.

٧٨٣. لعلمنا بورود تخصيصات وتقييدات كثيرة عليها في الواقع ، ويمكن أن يقال في مثل هذه الخطابات أيضا بارتفاع العلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد بعد الفحص عن مظانّهما ووجدان بعض المخصّصات والمقيّدات الثابت اعتباره بالظنون الخاصّة ، كالخبر الصحيح الأعلى ونحوه ، إذ بعد وجدان عدّة من المخصّصات والمقيّدات يمكن منع بقاء العلم الإجمالي بوجود مخصّص آخر بعدها ، ومجرّد احتماله غير مانع من العمل بأصالة الحقيقة من العموم أو الإطلاق ، وحينئذ لا وجه لترك العمل بالخطابات المذكورة لأجل الظنّ الحاصل من مثل الشهرة ونحوها ، فتأمّل.

٧٨٤. من خطابات العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات ، مثل قوله

٤٠٦

العمومات (٧٨٥) التي لا نعلم بإجمال كلّ منها ، فلا نعلم ولا نظنّ بثبوت المجمل بينها لأجل طروّ التخصيص في بعضها. وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إن شاء الله.

هذا كلّه حال الاحتياط في جميع الوقائع. وأمّا الرجوع (٧٨٦) في كلّ واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من غير التفات إلى العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ـ بأن يلاحظ نفس الواقعة ـ فإن كان فيها حكم سابق يحتمل بقائه استصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيير ، وإلّا : فإن كان الشكّ في أصل التكليف ـ كشرب التتن ـ اجري البراءة ، وإن كان الشكّ في تعيين المكلّف به ـ مثل القصر والإتمام ـ : فإن أمكن الاحتياط وجب ، وإلّا تخيّر ، كما إذا كان الشكّ في تعيين التكليف الإلزامي ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم.

______________________________________________________

تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله : المؤمنون عند شروطهم ونحوها.

٧٨٥. مثل عمومات الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة والحدود والديات ونحوها ، ممّا لم يحصل لنا العلم بورود مخصّص لها سوى ما ثبت لنا بدليل معتبر. وأنت خبير بأنّ التفصيل بين عمومات الكتاب والسنّة المتواترة أو المتيقّن من آحادها وإطلاقاتهما وظواهرهما ، بتسليم العلم الإجمالي في بعضهما ومنعه في بعض آخر ، إنّما يتمّ إن لوحظ كلّ خطاب بحياله ، وإلّا فمنع العلم الإجمالي بارتكاب خلاف الظاهر في جملتها بحسب العموم أو الظهور ، ولو بالنسبة إلى ما سوى ما علم إجمالا بارتكاب خلاف الظاهر فيه بالخصوص ، مجازفة محضة ، كما يظهر بعد ملاحظة كثرة ما سواه.

٧٨٦. هذا هو الطريق الثاني من الطرق المقرّرة للجاهل التي تقدّمت في أوّل المقدّمة.

٤٠٧

ويردّ هذا الوجه : أنّ العلم الإجمالي بوجود (٧٨٧) الواجبات والمحرّمات يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المطابق لها المخالف للاحتياط ، بل وكذا العلم الإجمالي بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط يمنع عن العمل بالاستصحابات (٧٨٨) من حيث إنّها استصحابات ، وإن كان لا يمنع عن العمل بها من حيث الاحتياط ، لكنّ الاحتياط في جميع ذلك (٧٨٩) يوجب العسر.

وبالجملة (٧٩٠) فالعمل بالاصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم

______________________________________________________

٧٨٧. فإنّه مع وجود العلم الإجمالي المذكور ، فإن اريد إجراء البراءة والاستصحاب في جميع أطرافه لزمت مخالفة العلم الإجمالي بثبوت التكليف في الجملة ، وارتفاع الحالة السابقة كذلك. وإن اريد إجرائهما في بعضها غير المعيّن فلا معنى له ، وفي بعضها المعيّن دون آخر لزم الترجيح بلا مرجّح.

٧٨٨. لأنّا إذا فرضنا إناءين نجسين ثمّ علم إجمالا بعروض الطهارة لأحدهما ، فالعلم بانتقاض الحالة السابقة في الجملة فيهما وإن كان يمنع استصحاب نجاستهما كما عرفته في الحاشية السابقة ، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من الاجتناب من كلّ منهما من باب المقدّمة للاجتناب عن الحرام الواقعي. وما نحن فيه أيضا نظير الإنائين المشتبهين فيما ذكرناه ، فلا تغفل.

٧٨٩. لعلّ المشار إليه هو جميع موارد الاستصحابات المثبتة والنافية وأصالة البراءة ، لأنّه مع عدم جريان هذه الاصول يكون المورد مجرى لقاعدة الاشتغال ، لأنّ مجرّد احتمال التكليف في الواقع علّة تامّة لحكم العقل بالخروج من عهدة التكليف المحتمل ، إلّا أن يكون هنا أصل وارد أو حاكم على هذه القاعدة من الاصول اللفظيّة أو العمليّة. والعمل بأصالة البراءة في الشبهة البدويّة إنّما هو لحكومتها على قاعدة الاشتغال فيها ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في محلّه ، فعلى ما ذكرناه يئول الأمر إلى الاحتياط الكلّي ، وهو مستلزم للعسر بل اختلال النظم.

٧٩٠. ربّما يتوّهم أنّ هذا ليس جملة وحاصلا لما سبقه ، لأنّ المصنّف رحمه‌الله في السابق قد جعل المانع من جريان البراءة والاستصحاب النافي والمثبت هو العلم

٤٠٨

للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج ؛ وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين (٧٩١) ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا رجوع هذا الجاهل الذي انسدّ عليه باب العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى العالم بها وتقليده فيها ، فهو باطل لوجهين : أحدهما الإجماع القطعي (٧٩٢).

______________________________________________________

الإجمالي بالخلاف ، وهنا قد جعل المانع من جريان الاصول النافية لزوم المخالفة الكثيرة التي هي مانعة اخرى سوى مطلق مخالفة العلم الإجمالي ، لإمكان الالتزام بجواز الثاني كما يظهر من جماعة ، بخلاف الأوّل ، لكونه أقبح منه كما لا يخفى. وفي الاصول المثبتة من الاحتياط والاستصحاب المثبت لزوم الحرج. ولكنّ الوجه فيه واضح ، لأنّ المخالفة الكثيرة حيث كانت أقوى من مطلق مخالفة العلم الإجمالي عدل إليها هنا أخذا بالأقوى ، وكذلك الاستصحاب المثبت حيث كان مشاركا للاحتياط في استلزامهما الحرج. ولو كان لزوم ذلك من اجتماعهما ، فأغمض عن مانعة الخاصّ وهو العلم الإجمالي فعلّل عدم جريانهما بعلّة مشتركة.

ثمّ إنّه لم يشر إلى وجه عدم جريان أصالة التخيير في مواردها ، لأنّها لاختصاصها بموارد دوران الأمر بين المحذورين لا ينهض شيء من التعليلات المذكورة ـ من مخالفة العلم الإجمالي أو لزوم المخالفة الكثيرة أو الحرج ـ لمنع جريانه فيها.

٧٩١. لا أرى وجها لذلك ، لأنّه لا فرق في المقام بين أن نعمل بالاصول المختلفة بحسب المقامات أو بالأدلّة ، لأنّها أيضا كالاصول ما بين ناف ومثبت ، والعلم الإجمالي كما أنّه مانع من جريان الاصول النافية ، كذلك مانع من العمل بالاصول اللفظيّة ، وكذلك لزوم الحرج كما أنّه مانع من العمل بالاولى كذلك الثانية.

٧٩٢. لاتّفاقهم على عدم جواز تقليد المقتدر لاستنباط الأحكام الشرعيّة الظنّية ، وإن فرض انسداد باب العلم الوجداني والشرعيّ في حقّه. وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كلماتهم ، إلّا أنّ حكمها معلوم من مذهبهم وطريقتهم ، وهو واضح لا يقبل الإنكار.

٤٠٩

والثاني : أنّ الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص ، وأمّا الجاهل الذي بذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلّطه في استناده إليه واعتقاده عنه ، فلا دليل على حجّية فتواه (٧٩٣) بالنسبة إليه ، وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل ؛ فإنّ من يخطّئ القائل بحجّية خبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها كيف يجوز له متابعته؟ وأيّ مزيّة له عليه حتّى يجب رجوعه إليه ولا يجب العكس؟ وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء من أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدليل على التكليف.

والحاصل أنّ اعتقاد مجتهد ليس حجّة على مجتهد آخر خال عن ذلك الاعتقاد ، وأدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يراد بها العالم الذي يختفي منشأ علمه على ذلك الجاهل ، لا مجرّد المعتقد (*) بالحكم ، ولا فرق بين المجتهدين المعتقدين المختلفين في الاعتقاد وبين المجتهدين اللذين أحدهما اعتقد الحكم عن دلالة والآخر اعتقد فساد تلك الدلالة فلم يحصل له اعتقاد. وهذا شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهدا كان أو مفتيا أو غيرهما.

المقدّمة الرابعة (٧٩٤) : في أنّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة و

______________________________________________________

٧٩٣. إذ عمدة الدليل على حجّية فتوى العالم في حقّ الجاهل هو الإجماع والعقل ، والمتيقّن من الأوّل غير ما نحن فيه. ولا ريب في عدم استقلال العقل أيضا بذلك إن لم يستقلّ بعدمه. وأمّا الإطلاقات مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) فعلى تقدير دلالتها منصرفة إلى غير محلّ الفرض.

٧٩٤. لا يذهب عليك أنّ حاصل هذه المقدّمة هو كون المقدّمات الثلاث المتقدّمة في كلام المصنّف رحمه‌الله منتجة لتعيّن الامتثال الظنّي ، وهذا ليس من جملة مقدّمات دليل الانسداد ، بل هي النتيجة المطلوبة إثباتها في المقام. فالأولى ـ بل

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : ولو كان أعلم.

٤١٠

لم يجز إهمالها بالمرّة كما هو مقتضى المقدّمة الثانية ، وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه إلى الاصول الشرعيّة كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة ، تعيّن بحكم العقل (*) التعرّض لامتثالها على وجه الظنّ بالواقع فيها ؛ إذ ليس بعد الامتثال العلمي والظنّي بالظنّ الخاصّ المعتبر في الشريعة امتثال مقدّم على الامتثال الظنّي.

توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرّض لامتثال الحكم الشرعيّ ،

______________________________________________________

المتعيّن ـ أن يذكر في هذه المقدّمة أنّه بعد انسداد باب العلم ، وعدم جواز العمل بالاصول ، وعدم وجوب العمل بالاحتياط ، وعدم جواز التقليد للعالم بالحكم ، أنّه لا يجوز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي مطلقا ، أو مع قيام ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيّا للامتثال بعد الانسداد كالقرعة ونحوها ، لقبح الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع التمكّن من الظنّ ، ويجعل تعيّن العمل بالظنّ الحاصل من الأمارات التي لم يثبت اعتبارها بالخصوص نتيجة للمقدّمات الأربع المذكورة. والمصنّف (**) رحمه‌الله قد عكس ، فجعل النتيجة هي المقدّمة الرابعة ، وما ينبغي أن يذكر في المقدّمة الرابعة نتيجة لتلك المقدّمات.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : المستقلّ.

(**) في هامش الطبعة الحجريّة : «لعلّ الوجه فيما وقع من المصنّف رحمه‌الله أنّ عبارته أوّلا كانت هكذا : المقدّمة الرابعة ، في أنّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة ، ولم يجز إهمالها بالمرّة ، كما هو مقتضى المقدّمة الثانية ، وثبت عدم وجوب ... إلى آخر ما ذكره ، وكان جميع ما ذكره متعلّقا ببيان المقدّمة الرابعة ، كما يشهد به قوله في آخر كلامه : «هذا خلاصة الكلام في مقدّمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظنّ في الجملة». وعلى هذا تكون عبارة المصنّف رحمه‌الله ساكتة عن بيان النتيجة. ثمّ ضرب على قوله : «الأحكام المشتبهة ـ إلى قوله ـ المقدّمة الثانية» وكتب بدل المضروب في الهامش بعد قوله : «التعرّض لامتثال» قوله : «الواقع في مسألة واحدة ـ إلى قوله ـ في المقدّمة الأولى». وعلى هذا يكون في العبارة تعرّض لبيان المقدّمات الأربع ولبيان النتيجة بقوله : «إذا تمهّد هذه المقدّمات ...». ولذا قد وقع منه ما ذكره أوّلا بيانا للمقدّمة الرابعة تتميما لبيان النتيجة على ما ضربه ثانيا. منه دام علاه».

٤١١

فله مراتب أربع : الاولى : الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو أن يأتي بما يعلم تفصيلا أنّه هو المكلّف به ، وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطريق الشرعيّ وإن لم يفد العلم ولا الظنّ ، كالاصول الجارية في مواردها وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد. الثانية : الامتثال العلمي الإجمالي ، وهو يحصل بالاحتياط. الثالثة : الامتثال الظنّي ، وهو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به. الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كالتعبّد بأحد طرفي المسألة من الوجوب والتحريم أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه.

وهذه المراتب مترتّبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلّا مع تعذّرها ، على إشكال في الأوّلين تقدّم في أوّل الكتاب (٧٩٦) ، وحينئذ فإذا تعذّرت المرتبة الاولى ولم يجب الثانية تعيّنت الثالثة ، ولا يجوز الاكتفاء بالرابعة.

فاندفع بذلك : ما زعمه بعض (٣٠) من تصدّى لردّ دليل الانسداد بأنّه لا يلزم من إبطال الرجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالاحتياط وجوب العمل بالظنّ ؛ لجواز أن يكون المرجع شيئا آخر لا نعلمه ، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه ، فعلى

______________________________________________________

٧٩٥. (*) إذ لا ريب في انسداد باب العلم بالضرر والعدالة غالبا مع تعلّق أحكام مختلفة بهما ، وكون العمل بأصالة البراءة مستلزما لمخالفة العلم الإجمالي بل المخالفة الكثيرة ، وعدم إمكان الاحتياط في موردهما ، فتعيّن العمل في تعيينهما بالظنّ لا محالة.

٧٩٦. إذ تقدّم تفصيل الكلام في مقصد حجّية القطع في جواز الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي أو الظنّ الخاصّ أو الظنّ المطلق ، فراجع ولاحظ.

__________________

(*) هذه التعليقة على عبارة وردت في بعض نسخ الفرائد ، وهي قوله : «المقدّمة الرابعة : في أنّه إذا وجب التعرّض لامتثال الواقع في مسألة واحدة أو في مسائل ، ولم يمكن الرجوع فيها إلى الاصول ، ولم يجب أو لم يجز الاحتياط ، تعيّن العمل فيها بمطلق الظّن. ولعلّه لذلك يجب (٧٩٥) العمل بالظنّ في الضرر والعدالة وأمثالهما. إذا تمهّدت هذه المقدّمات ، فنقول : إذا ثبت وجوب التعرّض فيما نحن فيه للامتثال حيث انسدّ فيه باب العلم والظنّ الخاصّ كما مرّ في المقدّمة الاولى».

٤١٢

المستدلّ سدّ باب هذه الاحتمالات ، والمانع يكفيه الاحتمال.

توضيح الاندفاع ـ بعد الاغماض عن الإجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها ـ : أنّ مجرّد احتمال كون شيء غير الظنّ طريقا شرعيّا لا يوجب العدول عن الظنّ إليه ؛ لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام امتثال الواقع وإن قام عليه ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيّا ؛ إذ مجرّد الاحتمال لا يجدي في طرح الطرف المظنون ؛ فإنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم والشكّ قبيح. والحاصل أنّه كما لا يحتاج الامتثال العلمي إلى جعل جاعل ، فكذلك الامتثال الظني بعد تعذّر الامتثال العلمي وفرض عدم سقوط الامتثال.

واندفع بما ذكرنا (٧٩٧) أيضا : ما ربّما يتوّهم من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل وبين التزام العمل بالظنّ ؛ نظرا إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقائه فلا يجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في امتثاله.

توضيح الاندفاع :

______________________________________________________

٧٩٧. من كون المراد ببقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة هو وجوب التعرّض لامتثالها بنحو من أنحاء الامتثال ولو كان على سبيل الظنّ ، في مقابل كوننا مهملين كالبهائم ، لا ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه المقتضي للاحتياط في الوقائع المشتبهة ، حتّى يثبت التنافي بينه وبين الاكتفاء بالظنّ في مقام الامتثال.

والحاصل : أنّ الأحكام الواقعيّة إمّا أن يحصل العلم بها تفصيلا على ما هي عليها في الواقع ، وإمّا أن يحصل العلم بها إجمالا. وعلى الثاني إمّا أن يتيسّر الاحتياط ، أو لا يتيسّر. فعلى الأوّل يجب الامتثال التفصيلي. وعلى الثاني يجب الامتثال الإجمالي بالعمل بالاحتياط. وعلى الثالث يجوز الاقتصار على الامتثال الظنّي. وبقاء التكليف بالواقع على الأوّلين واضح. وأمّا على الثالث فالمراد ببقاء التكليف بالواقع فيه هو عدم إعراض الشارع عن الواقع بالمرّة ، بحيث تجوز المخالفة القطعيّة له ، واقتناعه في امتثاله بالعمل بما أدّى إليه ظنّه أنّه هو الحكم الواقعي.

٤١٣

أنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمر بين محذورين من حيث الحكم أو من حيث الموضوع بحيث لا يمكن الاحتياط ، فإنّ الحكم بالتخيير لا ينافي التزام بقاء التكليف فيقال : إنّ الأخذ (٧٩٨) بأحدهما لا يجدي في امتثال الواقع ؛ لأنّ المراد (٧٩٩) ببقاء التكليف عدم السقوط رأسا بحيث لا يعاقب عند ترك المحتملات كلّا ، بل العقل يستقلّ باستحقاق العقاب عند الترك رأسا ، نظير جميع الوقائع المشتبهة.

فما نحن فيه نظير اشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معا مع عدم إمكان الاحتياط أو كونه عسرا قد نصّ الشارع على نفيه مع وجود الظنّ بأحدهما ، فإنّه يدور الأمر بين العمل بالظنّ والتخيير والعمل بالموهوم ، فإنّ إيجاب العمل بكلّ من الثلاثة (٨٠٠) وإن لم يحرز به الواقع ، إلّا أنّ العمل بالظنّ أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخيير فيجب عقلا ، فافهم.

ولا فرق في قبح طرح الطرف الراجح والأخذ بالمرجوح بين أن يقوم على المرجوح ما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا شرعا وبين أن لا يقوم ؛ لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيح ولو باحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعا حيث قام عليه ما يحتمل كونه طريقا. نعم ، لو قام على الطرف الموهوم ما يظنّ كونه طريقا معتبرا شرعيّا ودار الأمر بين تحصيل الظنّ بالواقع وبين تحصيل الظنّ بالطريق المعتبر الشرعيّ ، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّه بعد ما ثبت ـ بحكم المقدّمة الثانية ـ وجوب التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الأنحاء وحرمة إهمالها وفرضها كالمعدوم ، وثبت ـ بحكم المقدّمة الثالثة ـ عدم وجوب امتثال المجهولات بالاحتياط وعدم جواز الرجوع في امتثالها إلى الاصول الجارية في نفس تلك المسائل ولا إلى فتوى من يدّعي انفتاح باب العلم

______________________________________________________

٧٩٨. تفريع للمنافاة.

٧٩٩. تعليل لعدم المنافاة.

٨٠٠. بأن يجب العمل إمّا بالتخيير أو الظنّ أو الوهم.

٤١٤

بها : تعيّن وجوب تحصيل الظنّ بالواقع فيها وموافقته ، ولا يجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفي المسألة ، ولا بعد تحصيل الظنّ الأخذ بالطرف الموهوم ؛ لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشكّ والوهم مع التمكّن من الظنّ كما يقبح الاكتفاء بالظنّ مع التمكّن من العلم ، ولا يجوز أيضا الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا مع عدم إفادته للظنّ ؛ لعدم خروجه عن الامتثال الشكّي أو الوهمي.

هذا خلاصة الكلام في مقدّمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظنّ في الجملة (٨٠١).

______________________________________________________

٨٠١. يعني : إمّا على وجه الإطلاق أو الإهمال ، على الخلاف الآتي فيه.

٤١٥

المصادر

(١) شرح مختصر الاصول : ص ١٦٣.

(٢) النور (٢٤) : ٦٣.

(٣) الأنفال (٨) : ٢٥.

(٤) النحل (١٦) : ٤٥.

(٥) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٠٧.

(٦) الذريعة في اصول الشريعة ج ٢ : ص ٥٥٠ ؛ مفاتيح الاصول : ص ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

(٧) القوانين ج ١ : ص ٤٤٨.

(٨) القوانين ج ١ : ص ٢٤٣.

(٩) هداية المسترشدين : ص ٤١٢.

(١٠) بحر الفوائد ج ١ : ص ١٨٩.

(١١) المعالم : ص ١٩٢.

(١٢) الوافية : ص ١٥٩.

(١٣) عوائد الأيّام : ص ٣٧٩.

(١٤) رسائل الشريف المرتضى ج ٣ : ص ٣٩.

(١٥) هداية المسترشدين : ص ٤٠٢.

(١٦) عوائد الأيّام : ص ٣٦٠.

(١٧) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣٦٠ ، ذيل الحديث ١٠٣١.

(١٨) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٣٦.

(١٩) الحدائق الناضرة ج ١٩ : ص ٢٣١.

(٢٠) عوائد الأيّام : ص ٣٥٩ ـ ٣٧٦.

(٢١) القوانين ج ١ : ص ٤٤٢.

(٢٢) المقنعة : ص ٦٠.

(٢٣) مفاتيح الاصول : ص ٥٣٧.

(٢٤) مفاتيح الاصول : ص ٥٣٧.

(٢٥) كفاية الأحكام : ص ٢٤١.

(٢٦) الوسائل ج ١ : ص ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٢٧) إرشاد الأذهان ج ١ : ص ٢٥١.

(٢٨) المزّمّل (٧٣) : ٢٠.

(٢٩) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٣٠) عوائد الأيّام : ص ٣٧٧ ـ ٣٧٩.

٤١٦

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّك قد عرفت أنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوب الامتثال الظنّي للأحكام المجهولة ، فاعلم : أنّه لا فرق (٨٠٢) في الامتثال الظنّي بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ـ كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبي ـ وبين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّية أمر لا يفيد الظنّ كالقرعة مثلا ، فإذا ظنّ حجّية القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعي إلّا أنّه حصل ظنّ ببراءة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصّة ، وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلّف إلّا من حيث كون تحقّقه مبرءا للذمّة. فكما أنّه لا فرق في مقام التمكّن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق علم كون سلوكه مبرءا للذمّة في نظر الشارع ، فكذا لا فرق عند تعذّر العلم بين الظنّ بتحقّق الواقع وبين الظنّ ببراءة الذمّة في نظر الشارع.

وقد خالف في هذا التعميم فريقان : أحدهما من يرى أنّ مقدّمات دليل الانسداد

______________________________________________________

٨٠٢. هذا إشارة إلى أنّ دليل الانسداد بعد تشييد مقدّماته هل يفيد حجّية الظنّ مطلقا ، سواء تعلّق بتعيين الطريق ـ أعني : تعيين المسائل الاصوليّة ـ أم بالحكم الواقعي ، أو يختصّ بالأوّل أو الثاني؟ وقد اختار الأوّل أوّلا ، كما هو الأقوى على ما ستعرفه ، ثمّ نقل الخلاف في الأخيرين.

٤١٧

لا تثبت إلّا اعتبار الظنّ وحجّيته في كون الشيء طريقا شرعيّا مبرءا للذمّة في نظر الشارع ، ولا يثبت اعتباره في نفس الحكم الفرعي زعما منهم عدم نهوض المقدّمات المذكورة لإثبات حجّية الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ، إمّا مطلقا أو بعد العلم الإجمالي بنصب الشارع طرقا للأحكام الفرعيّة. الثاني : مقابل هذا ، وهو من يرى أنّ المقدّمات المذكورة لا تثبت إلّا اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ، وأمّا الظنّ بكون شيء طريقا مبرءا للذمّة فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة لم يثبت اعتباره فيها من دليل الانسداد ؛ لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة.

______________________________________________________

وأقول : قد اختار الثاني صاحب الهداية والفصول ، وسبقهما الشيخ أسد الله التستري. وهو لا يقدح فيما ذكره في الفصول من أنّه لم يسبقه إلى ما اختاره أحد ، لأنّه مع أخيه الفاضل البارع صاحب الهداية من تلامذة الشيخ المذكور ، ولا غرو في نسبة التلميذ مطالب شيخه إلى نفسه ، كما جرى ديدنهم عليه في أمثال هذا الزمان. واختار الثالث المحقّق البهائي والمحقّق القمّي وصاحب الرياض قدس سرّهم.

وحاصل ما استدلّ به المصنّف رحمه‌الله على مختاره : أنّ المناط في حكم العقل بعد تعذّر الامتثال القطعي التفصيلي ، وعدم وجوب الإجمالي ، وعدم جواز الاعتماد على سائر الطرق المقرّرة للجاهل ، هو تحصيل الظنّ بفراغ الذمّة ، سواء حصل من الظنّ بالواقع أو الظنّ بالطريق ، لعدم كون الواقع على ما هو عليه ـ وكذا تطبيق العمل للطرق المقرّرة المعتبرة شرعا ـ مطلوبا عند العقل إلّا من هذه الجهة ، لأنّ العقل الحاكم بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية في الأوامر الشرعيّة والعرفيّة إنّما يحكم بذلك لأجل خوف الضرر في المخالفة ، لا لأجل كون المولى أهلا ومستحقّا لذلك ، ولا من جهة المصالح الكامنة في المأمور به ، ولا تحصيل الثواب ، لأنّ هذه الغايات وإن وجدت كثيرا ما في الأشخاص على حسب اختلاف استعداداتهم ومراتبهم ، ولذا قد قسّم أعمال العباد في الأخبار على طاعة الأحرار وطاعة العبيد وطاعة الأجراء ، إلّا أنّ الظاهر أنّ قصد هذه الغايات إنّما هو لأجل تحصيل كمال الإطاعة ، وإلّا فالمحرّك للعبد من قبل العقل إلى الامتثال هو خوف العقاب على

٤١٨

أمّا الطائفة الاولى ، فقد ذكروا لذلك وجهين : أحدهما وهو الذي اقتصر عليه بعضهم (٨٠٣) ما لفظه : «إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا فعليّا بأحكام فرعيّة كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره (٨٠٤) ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالرجوع إليها في معرفتها. ومرجع هذين القطعين (٨٠٥) عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد

______________________________________________________

تقدير المخالفة.

وبالجملة ، إنّ قصد التخلّص من النار من جملة الغايات المصحّحة للعمل ، بل هو المحرّك عند العقل على ما عرفت. وحينئذ إن أمكن تحصيل العلم بالبراءة كان هو المتعيّن عند العقل ، وإلّا كان المتعيّن هو تحصيل الظنّ بها ، سواء كان حاصلا من الظنّ بالواقع أو بالطريق بعد فرض استلزامها للظنّ بها.

٨٠٣. هو صاحب الفصول. وهو رحمه‌الله تعالى قد استدلّ ـ بعد ما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ـ على إثبات نصب الطرق وكون الواقع مطلوبا من طرق خاصّة ببعض الوجوه الذي أشار المصنّف رحمه‌الله في طيّ كلماته إلى فساده.

٨٠٤. يعني : عند تعذّر القطع بالواقع ، بأن كان جواز العمل بالطريق المنصوب مرتّبا على تعذّر القطع بالواقع لا واقعا في عرضه.

٨٠٥. يعني : أنّ مرجع القطع بثبوت التكليف بالأحكام الواقعيّة وبالطرق المنصوبة إلى القطع بكون الواقع مطلوبا من هذه الطرق ، بمعنى اقتناع الشارع في امتثال الأحكام الواقعيّة بالعمل بمؤديات هذه الطرق ، وإلّا فلا يعقل أن يكون الواقع على ما هو عليه مطلوب الوصول إليه بهذه الطرق ، إذ مطلوبيّة الواقع على ما هو عليه لا يعقل إلّا بالأمر بالعلم أو بالاحتياط ، إذ ربّما تتخلّف هذه الطرق من

٤١٩

تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجّيته ؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه» (١).

وفيه أوّلا : إمكان منع نصب (٨٠٦) الشارع طرقا خاصّة للأحكام الواقعيّة (*) ، كيف؟ وإلّا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار ؛ لتوفّر الدواعي بين المسلمين على ضبطها ؛ لاحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى معرفة صلواته الخمس.

______________________________________________________

الواقع ، فإيصالها إليه غالبي لا دائمي.

ولعلّ الوجه فيما ذكره تخيّل أنّ الطرق ليست مجعولة في عرض الواقع بحيث يكون التكليف بها تكليفا مستقلّا مباينا للتكليف بالواقع ، وقيامها محدثا لمصلحة فيما قامت عليه ، وإلّا لزم التصويب الباطل عند أهل الصواب. وليست أيضا بحيث يكون التكليف الفعلي الذي هو مناط الثواب والعقاب مع قيامها متعلّقا بالواقع ، وإلّا لزم كون جعل الطرق لغوا محضا. فالفرار من لزوم التصويب واللغويّة إنّما يحصل بالتزام كون الواقع مطلوبا بهذه الطرق على نحو ما عرفت. وستعرف ضعف هذا الوجه من المصنّف وممّا علّقنا على كلامه.

٨٠٦. لا يذهب عليك أنّ إثبات أنّ المتعيّن بعد انسداد باب العلم هو العمل بالظنون التي ظنّ اعتبارها على الوجه الذي ذكره المستدلّ ، يتوقّف ـ بعد إثبات بقاء التكليف بالأحكام الواقعيّة ـ على إثبات مقدّمات ، إحداها : إثبات جعل الشارع طرقا مخصوصة لامتثال هذه الأحكام. الثانية : إثبات كون جعل هذه الطرق على وجه الموضوعيّة لا للكشف الغالبي عن الواقع. الثالثة : إثبات وجود هذه الطرق بين الطرق الموجودة التي يمكن الوصول إليها ، وإنّها ليست طرقا وراء هذه الطرق. الرابعة : إثبات عدم المتيقّن من هذه الطرق يكفي في الفقه. الخامسة :

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وافية بها.

٤٢٠