فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

المصادر

(١) رجال النجاشي : ص ٣٩ ، رقم الترجمة ٨٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال ج ٢ : ص ٧٩٥ ، الحديث ٩٧٦.

(٣) الفهرست للشيخ الطوسي : ص ٢٦٨ ، الرقم ٥٩٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال ج ٢ : ص ٤٨٩ ـ ٤٩٠ ، رقم الترجمة ٤٠١.

(٥) اختيار معرفة الرجال ج ٢ : ص ٤٩١ ، رقم الترجمة ٤٠٢.

(٦) هداية الأبرار : ص ١٧ ؛ الحدائق الناظرة ج ١ : ص ١٧.

(٧) الوافية : ص ١٥٩.

(٨) هداية المسترشدين : ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٣٠١
٣٠٢

فلنشرع في الأدلّة التي أقاموها على حجّية الظنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدليل وإن اقتضاها أمر (*) آخر ، وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثبوت من ذلك الدليل إذا فرض أنّه لا يثبت إلّا الظنّ في الجملة ولا يثبته كلّية ، وهي أربعة : الأوّل : أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم. أمّا الصغرى ؛ فلأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب على الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ باستحقاق العقاب على الفعل ، أو لأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ بوجود المفسدة في الترك ، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل بناء على قول «العدليّة» (٦٤٩) بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، وقد جعل في النهاية كلّا من الضررين دليلا مستقلا على المطلب.

واجيب عنه بوجوه : أحدها : ما عن الحاجبي (١) وتبعه غيره من منع الكبرى ، وأنّ دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين احتياط مستحسن ، لا واجب.

وهو فاسد ؛ لأنّ الحكم المذكور حكم إلزامي أطبق العقلاء على الالتزام به في جميع امورهم وذمّ من خالفه ؛ ولذا استدلّ به المتكلّمون (٦٥٠) في وجوب شكر

______________________________________________________

٦٤٩. أمّا على قول الأشاعرة المنكرين لما ذكره العدليّة فينحصر إثبات الصغرى في الوجه الأوّل. وحيث كان إثبات الكبرى واضحا لم يتعرّض للكلام فيها ، لأنّ العقلاء يفرّون من مظانّ الضرر فرارهم من الأسد. وعليه بنوا ما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله من إثبات وجوب معرفة الصانع المتوقّف على وجوب شكر المنعم ، كما سنشير إليه ، وكذا وجوب النظر إلى المعجزة ، وغير ذلك ممّا أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ذلك كلّه شواهد لإثبات الكبرى.

٦٥٠. بتقريب : أنّ في ترك الشكر مظنّة قطع المنعم بعض نعمه أو احتمال ذلك ، فإذا ثبت وجوب الشكر لأجل دفع الضرر المظنون أو المحتمل ثبت وجوب

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أمر» ، دليل.

٣٠٣

المنعم الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى ، ولولاه (٦٥١) لم يثبت وجوب النظر في المعجزة ، ولم يكن لله على غير الناظر حجّة ؛ ولذا خصّوا النزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلّات العقليّة بما كان مشتملا على منفعة وخاليا عن أمارة المفسدة ؛ فإنّ هذا التقييد يكشف عن أنّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه ، بل الأقوى كما صرّح به الشيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر والسيّد في الغنية : وجوب دفع الضرر المحتمل ، وببالي (٦٥٢) أنّه تمسّك في العدّة بعد العقل بقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ...).

ثمّ إنّ ما ذكره من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليّين غير ظاهر ؛ لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة ، مثل التعليل (٦٥٣) في آية النبأ ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا (٦٥٤) بِأَيْدِيكُمْ

______________________________________________________

معرفته تعالى ، لأنّه مع عدمها يظنّ بالوقوع في الخطأ في كيفيّة شكره ، وهو مظنة الضرر ، فيجب دفعه.

٦٥١. لأنّ مدّعي النبوّة إمّا مظنون الصدق في دعواه أو محتمل فيه ذلك ، فترك النظر في معجزته يستلزم الضرر على سبيل الظنّ على الأوّل ، وعلى سبيل الاحتمال على الثاني ، فلو لم يجب دفع الضرر المظنون على الأوّل وكذا المحتمل على الثاني يلزم إفحام الأنبياء.

فإن قلت : إنّ الشكّ في وجوب النظر شكّ بدوي ، فهو مورد البراءة.

قلت : إنّ مبني البراءة حيث كان على قبح التكليف بلا بيان يختصّ موردها بما يمكن البيان فيه من الشارع ، ومسألة النبوّة ليست كذلك ، لعدم إمكان البيان من مدّعي النبوّة ، وعدم جريان عادته سبحانه على إبلاغها بإلهام أو إرسال ملك ، فلو بني على إجراء أصالة البراءة لزم إفحام الأنبياء.

٦٥٢. الأنسب أن يورد هذا الكلام بعد قوله : «ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة».

٦٥٣. لأنّ في ارتكاب الضرر المظنون مخافة الوقوع في الندم لا محالة.

٦٥٤. في أواسط سورة البقرة. والاستدلال به مبنيّ على كون ظاهره النهي

٣٠٤

إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) بناء على أنّ المراد (٦٥٥) العذاب والفتنة الدنيويّان ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ (٦٥٦) الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٣) ، وقوله تعالى : (وَ

______________________________________________________

عن إلقاء النفس في معرض الهلاكة الصادق مع الظنّ بها أيضا ، لا الهلاكة الواقعيّة ، وإلّا فحرمة إلقاء النفس في الهلاكة الواقعيّة لا يستلزم حرمته مع الظنّ بها أيضا ، لكونه مصادرة ، لأنّ الحاجبي يدّعي كون الاحتياط مع ظنّ الضرر حسنا لا واجبا. ومنه يظهر وجه الاستدلال بقوله سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً ...) ، وقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

٦٥٥. لأنّه إذا فسّرت الفتنة بالدنيويّة يكون وجوب الحذر لاحتمال إصابتها ، كما هو مقتضى الترديد بلفظة «أو». ولا ينافره وقوع العذاب الأليم أحد طرفي الترديد مع العلم بترتّبه على مخالفة أمره سبحانه ، إذ لعلّ ترديده سبحانه لأجل إبهام إصابة الفتنة على المخاطب وبالجملة ، إنّ مقتضى الآية علّية كلّ من احتمال إصابة الفتنة والعذاب الأليم لوجوب الحذر فإذا ثبت وجوب الحذر ، بمجرّد احتمال إصابة الفتنة فمع ظنّها بطريق أولى. وأمّا إذا فسّرت الفتنة بما عدا العذاب الاخروي من سائر المفاسد الاخرويّة ، فلا ترتبط الآية بما نحن فيه ، إذ إصابة أحد الأمرين لأجل مخالفة أمره سبحانه معلومة لا مظنونة.

والحاصل : أنّ المراد بالفتنة والعذاب في الآية يحتمل أن يكون الدنيويّين منهما ، كما يظهر من الطبرسي حيث قال في تفسير قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي : بليّة تظهر ما في قلوبهم من النفاق ، وقيل : عقوبة في الدنيا ، أو يصيبهم عذاب أليم ، أي : في الدنيا ويحتمل أن يكون الاخرويّين كما قدّمناه. ويحتمل أن يكون المراد بالفتنة الدنيويّة وبالعذاب الاخروي ، كما قدّمناه أيضا. والاستدلال إنّما يتمّ على الأخير بتقريب ما عرفت ، دون الأوّلين ، لأنّ إصابة أحد الأمرين لأجل مخالفة أمره تعالى حينئذ معلومة لا مظنونة كما عرفت.

٦٥٦. أي : يعمّهم وغيرهم ، واتّقاء الفتنة بإنكار موجبها من المنكر.

٣٠٥

يُحَذِّرُكُمُ (٦٥٧) اللهُ نَفْسَهُ) ، وقوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ (٦٥٨) مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) (٤) إلى غير ذلك. نعم ، التمسّك في سند الكبرى بالأدلّة الشرعيّة يخرج الدليل المذكور عن الأدلّة العقليّة ، لكنّ الظاهر أنّ مراد الحاجبيّ منع أصل الكبرى ، لا مجرّد منع استقلال العقل بلزومه ، ولا يبعد عن الحاجبيّ أن يشتبه عليه حكم العقل الإلزامي بغيره ، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح ، والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثاني.

ثانيها : ما يظهر من العدّة (٥) (٦٥٩) والغنية وغيرهما من أنّ الحكم المذكور مختصّ بالامور الدنيويّة ، فلا يجري في الاخرويّة مثل العقاب.

وهذا كسابقه في الضعف ؛ فإنّ المعيار هو التضرّر ، مع أنّ المضارّ الاخرويّة أعظم ، اللهمّ إلّا أن يريد (٦٦٠) المجيب ما سيجيء من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به ، بخلاف المضارّ الدنيويّة التابعة لنفس الفعل أو الترك ، علم حرمته أو لم يعلم ، أو يريد (٦٦١) أنّ المضارّ الغير الدنيويّة ـ وإن لم تكن خصوص العقاب ـ ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ،

______________________________________________________

٦٥٧. أي : يخوّفكم أن يغضب عليكم ، فيجب الاحتراز عن كلّ ما يوجب غضبه.

٦٥٨. فإنّ مخالفة الضرر المظنون ليس فيها أمن ، فيجب تركها.

٦٥٩. هذا الجواب بظاهره يرجع إلى منع كلّية الكبرى. وهذا لمّا كان بظاهره واضح الفساد فوجّهه المصنّف رحمه‌الله بوجهين ، يرجع حاصلهما إلى منع الصغرى في الجملة. وربّما يقال إنّهما ـ مع مخالفتهما لظاهر كلام العدّة والغنية ـ إنّما يتمّان في الشبهات البدويّة دون المشوبة بالعلم الإجمالي كما فيما نحن فيه ، لفرض علمنا إجمالا ببقاء التكاليف. وفيه : أنّ هذا الدليل مفروض مع قطع النظر عن الانسداد ، وهو واضح.

٦٦٠. حاصله : كون العقاب المحتمل أو المظنون مأمونا بأصالة البراءة.

٦٦١. مبنى الأوّل على قبح العقاب بلا بيان ، ومبنى الثاني على وجوب

٣٠٦

وهو الباعث له على التكليف والبعثة (*) ، لكنّ هذا الجواب راجع إلى منع الصغرى ، لا الكبرى.

ثالثها : النقض (٦٦٢) بالأمارات التي قام الدليل القطعي على عدم اعتبارها ، كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (٦). واجيب عنه (٧) تارة (٦٦٣):

______________________________________________________

اللطف على الله تعالى. والثاني أعمّ بحسب المؤدّى من الأوّل ، كما يظهر بالتأمّل في عبارة المصنّف رحمه‌الله.

٦٦٢. النقض بخبر الفاسق بل الكافر أيضا يظهر من المعارج ، قال : «فإنّ الظنّ يحصل عند خبره» انتهى. والظاهر أنّ مراده النقض بكلّ ظنّ نهى الشارع عن العمل به كالقياس ونحوه ، ولذا عمّم المصنّف رحمه‌الله عنوان النقض ، وألحق القياس بخبر الفاسق ، فلا خصوصيّة لخبره في النقض ، كيف وقد عمل به جماعة ـ بل المحقّق أيضا ـ إذا كان مقبولا عند الأصحاب.

وكيف كان ، فهذا الجواب كما أنّه صالح لأن يرجع إلى منع الصغرى ، بأن يكون مقصوده أنّه بعد منع الشارع من العمل بالظنّ مطلقا لا يبقى ظنّ بالعقاب ، كما في موارد خبر الفاسق والقياس وغيرهما ممّا نهى عنه الشارع بالخصوص ، كذلك صالح لأن يرجع إلى منع كلّية الكبرى ، والوجه فيه واضح. والجوابان اللذان نقلهما المصنّف رحمه‌الله مبنيّان على الثاني دون الأوّل.

٦٦٣. الجواب الأوّل ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث منع عدم جواز العمل بخبر الفاسق إذا أفاد الظنّ ، قائلا : إنّ اشتراط العدالة معركة للآراء ، والاستدلال بالآية غايته الظنّ ، ولم يحصل العلم بحجيّة هذا الظنّ كما مرّ. مع أنّ الشيخ صرّح بجواز العمل بخبر المحترز عن الكذب ، مع أنّ المشهور جواز العمل بالخبر الضعيف المعتضد بعمل الأصحاب ، ولا ريب أنّ ذلك لا يفيد إلّا الظنّ.

أقول : إنّ هذا الجواب يمكن إجرائه في القياس أيضا ، بتقريب أن يقال : إنّما

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «البعثة» ، البعث.

٣٠٧

بعدم التزام حرمة العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم ،

______________________________________________________

نمنع قيام دليل صالح لإثبات حرمة العمل به في حال الانسداد ، إذ ما دلّ من الأخبار على حرمة العمل به إنّما هو في مقام جعل القياس دليلا مستقلّا في مقابل الكتاب والسنّة ، بل في مقابل الأئمّة عليهم‌السلام ، بحيث يستغنى به عن الرجوع إليهم عليهم‌السلام ، لأنّ هذه الأخبار إنّما وردت في مقام التعريض بالعامّة ، حيث كانوا يستغنون بالعمل به عن الرجوع إلى حملة علوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأمّا دعوى الإجماع بل الضرورة على حرمة العمل به فهي في حال الانسداد ممنوعة ، إذ المتيقّن من الإجماع هو حال الانفتاح خاصّة.

ولكن هذا الوجه لا يخلو من منع ، لأنّ المنساق من الأخبار وإن كان هو ما ذكر ، إلّا أنّ إطلاق الإجماعات المدّعاة في كلماتهم شامل لحالتي الانفتاح والانسداد ، بل يمكن دعوى بلوغ حرمة العمل به في زمان الانسداد أيضا مبلغ الضرورة كما لا يخفى.

وأجاب المحقّق المذكور عن النقض أيضا بدعوى انفتاح باب العلم في مورد القياس ، فإنّا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدّى القياس ، فنعلم أنّ حكم الله تعالى في غيره ، وإن لم نعلم أنّه أيّ شيء هو؟ ففي تعيينه يرجع إلى سائر الأدلّة وإن كان مؤدّاه عين مؤدّاه. ثمّ إنّه تأمّل في ذلك ، من جهة إمكان منع دعوى حرمة القياس حتّى في موضع لا سبيل إلى الحكم سواه. وهذا الذي ذكره هو الذي أشرنا إليه في ذيل الجواب السابق مع جوابه.

وربّما أجيب أيضا عن النقض بأنّ العقل عند حصول الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن كان حاكما بوجوب دفع الضرر المظنون والعمل بالظنّ ، إلّا أنّ حكمه بذلك معلّق على عدم ورود منع عن الشارع من العمل به ، فبعد ورود النهي عن العمل بخبر الفاسق والقياس يرتدع عمّا كان حاكما به ، وإن كانا مفيدين للظنّ بالحكم الواقعي.

٣٠٨

واخرى : بأنّ الشارع (٦٦٤)

______________________________________________________

وفيه : أنّه إنّما يتم على تقدير تقرير نتيجة حكم العقل مهملة أو معلّقة ، بأن كان العقل حاكما بوجوب العمل بالظنّ في الجملة أو معلّقا كما عرفت ، وشيء منهما ليس بشيء ، كما سيجيء في محلّه.

ونقول هنا أيضا على سبيل الإجمال : إنّه مع بقاء التكليف ، وانسداد سبيل العلم إلى الأحكام الواقعيّة ، وعدم جواز العمل بسائر الاصول ، يصير الظنّ كالعلم بحكم العقل ، إذ لا يعقل حينئذ أن يريد الشارع من عباده الوصول إلى أحكامه الواقعيّة وينهى مع ذلك عن العمل بالظنّ ، وإلّا لزم التناقض ، نظير ما لو ثبت التكليف في الواقع ولم يجز العمل بالعلم. فلا بدّ حينئذ إمّا من رفع اليد عن الواقع ، وهو خلاف الفرض ، أو جواز العمل بالظنّ وهو المطلوب. مضافا إلى أنّ ورود النهي عن الشارع لو كان كافيا في ارتداع العقل عن حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون ، يلزمه أن لا يحكم بوجوب دفع الضرر المظنون مطلقا ، لما تكاثر من الآيات والأخبار على حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، ولا اختصاص لذلك بخبر الفاسق والقياس.

٦٦٤. حاصله : أنّ خروج القياس ونحوه إنّما هو من باب التخصّص دون التخصيص ، لأنّ الأحكام الواقعيّة ناشئة من المصالح والمفاسد الكائنتين في الأشياء ، وحينئذ يجوز أن يكون بعض الطرق مشتملا على مفسدة أعظم من مصلحة الواقع ، فيجوز للشارع حينئذ أن يرفع اليد عن الحكم الواقعي مع انحصار الوصول إليه في هذا الطريق ، وأن لا يتجزّى بالمأتيّ به بهذا الطريق مع عدم الانحصار ، ونهي الشارع عن العمل بالقياس ، ونحن يكشف عن وجود مفسدة في العمل به أعظم من مفسدة مخالفة الواقع ، فيكون تجويز ترك العمل بالقياس ونحوه مع إفادته الظنّ بالواقع من قبيل دفع الأفسد بالفاسد.

فإن قلت : إن صحّ ذلك جرى مثله في نوع الظنّ ، لورود النهي كتابا وسنّة عنه.

قلت : ليس الأمر كما زعمت ، لأنّ ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ مطلقا

٣٠٩

إذا ألغى ظنّا تبيّن أن في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به.

ويضعّف الأوّل : بأنّ دعوى وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة انسدّ فيها

______________________________________________________

إنّما يدلّ عليها من حيث كون العمل به تشريعا ، وحكم العقل بجواز العمل بالظنّ من جهة حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون إنّما هو من باب الاحتياط ، والحرمة التشريعيّة لا تنافي وجوب العمل به من باب الاحتياط كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، بخلاف النهي الوارد عن العمل بخبر الفاسق بالخصوص أو القياس كذلك ، لكونه ظاهرا في المنع من العمل بالظنّ الحاصل فيهما من جهة حزازة فيهما لا من جهة محض كون العمل بهما تشريعا محرّما ، فتكون حرمة العمل بهما ذاتيّة لا تشريعيّة. وإن شئت قلت : إنّ حرمة العمل بهما من وجهين أحدهما اندراجهما تحت عموم ما دلّ على حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، والآخر : خصوص النهي الوارد فيهما. وحرمة العمل بالظنّ الحاصل منهما من الجهة الاولى لا تنافي وجوب العمل به من باب الاحتياط ، ووجوب دفع الضرر المظنون كسائر الظنون المطلقة كما عرفت ، بخلاف حرمة العمل به من الجهة الثانية ، لكون ورود النهي فيه بالخصوص كاشفا عن وجود مفسدة فيه أعظم من مفسدة مخالفة الواقع.

وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله : أنّه إن اريد من الحرمة الذاتيّة في العمل بخبر الفاسق والقياس حرمة الاتّكال والاعتماد عليهما في إثبات الأحكام الشرعيّة ، ففيه : أنّ هذا ليس إلّا جعلهما حجّة ، وليست حرمة العمل بهما حينئذ إلّا من حيث التشريع ، فلا يزيد ذلك على سائر الظنون. وإن اريد منها حرمة جعل الأفعال على طبق خبر الفاسق والقياس ، وإن لم يكن على وجه الاتّكال والاعتماد عليهما ، بل كان الاتّكال على سائر الأدلّة ، ففيه : أنّ العقل مستقلّ بعدم حرمته ، ولم يقل أحد بها أيضا ، إذ مرجعها إلى حرمة العمل بالبراءة والاستصحاب مثلا في مورد القياس.

فإن قلت : إنّا نختار الشقّ الأوّل ونقول : إنّك قد عرفت وجود خصوصيّة في خبر الفاسق والقياس مفقودة في مطلق الظنّ ، وهذه الخصوصيّة لا يمكن أن

٣١٠

باب العلم وإن لم ينسدّ في غيرها ، الظاهر أنّه خلاف (٦٦٥) مذهب الشيعة ، لا أقلّ من كونه مخالفا لإجماعاتهم المستفيضة بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس.

والثاني : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتّب الضرر على تركه أو تركه حذرا من التضرّر بفعله لا يتصوّر فيه ضرر أصلا ؛ لأنه من الاحتياط الذي استقلّ العقل بحسنه وإن كانت الأمارة ممّا ورد النهي عن اعتباره.

______________________________________________________

تكون حرمة التشريع ، لفرض اشتراك الجميع في ذلك.

قلت أوّلا : إنّ هذه الخصوصيّة غير مجدية في المقام ، لأنّ الحرمة الناشئة من هذه الخصوصيّة إن كانت مع التديّن والالتزام بمؤدّاهما ، فقد عرفت أنّ هذه الحرمة ثابتة في سائر الظنون أيضا ولو لاجل التشريع ، وإن كانت مع تطبيق العمل على مقتضاهما فقد عرفت عدم الحرمة حينئذ أصلا.

وثانيا : أنّه يحتمل أن تكون خصوصيّة خبر الفاسق والقياس ونحوهما غلبة مخالفتهما للواقع لا حزازة واقعيّة في العمل بهما ، إذ يحتمل أن يكون بعض الأمارات في نظر الشارع غالب المخالفة للواقع ، وبعضها يتساوى الموافقة والمخالفة ، وبعضها غالب الموافقة ، فأمر بالعمل بالأخير بالخصوص كخبر العادل ، ونهى عن الثاني بالعموم كالأمارات التي لم يقم دليل على جواز العمل بها ولا على المنع منها بالخصوص ، ونهى عن الأوّل بالخصوص كخبر الفاسق والقياس ونحوهما ، ولا ريب أنّ حرمة العمل بالأوّلين حينئذ تكون من باب التشريع.

فإن قلت : إنّه لا دليل على ما ذكرت ، إذ يحتمل أن تكون خصوصيّة خبر الفاسق والقياس حزازة واقعيّة فيها غير ما ذكرت.

قلت : ظاهر آية النبأ وأدلّة حرمة العمل بالقياس ما ذكرناه ، فتدبّر.

٦٦٥. لا يخفى أنّ العمل بالظنّ في مسألة انسدّ فيها باب العلم مع انفتاحه في غيرها من المسائل متّجه ، بناء على ما زعمه المحقّق القمّي رحمه‌الله من كون عدم وجوب العمل بالاحتياط في مورد الانسداد لأجل عدم الدليل على وجوبه ، مع كون اعتبار أصالة البراءة والاستصحاب لأجل إفادتهما الظنّ مطلقا ، إذ يمكن حينئذ أن يقال :

٣١١

نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظنّ بذلك الضرر وجعل مؤدّاها حكم الشارع والالتزام به والتديّن به ، ربّما كان ضرره أعظم من الضرر المظنون ؛ فإنّ العقل مستقلّ بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق العقاب عليه ؛ لأنّه تشريع ، لكن هذا لا يختصّ بما علم إلغاؤه ، بل هو جار في كلّ ما لم يعلم اعتباره.

توضيحه : أنّا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة : أنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قطعي ـ سواء قام دليل على عدم اعتباره أم لا ـ فالعمل به بمعنى التديّن بمؤدّاه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة. وأمّا العمل به بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه مثلا أو ترك ما ظنّ حرمته من دون أن يتشرّع بذلك ، فلا قبح فيه إذا لم يدلّ دليل من الاصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظنّ ، بأن يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه أو وجوب ما ظنّ تحريمه.

فإن أراد أنّ الأمارات التي يقطع بعدم حجّيتها ـ كالقياس وشبهه ـ يكون في العمل بها بمعنى التديّن بمؤدّاها وجعله حكما شرعيّا ضرر أعظم من الضرر المظنون ، فلا اختصاص لهذا الضرر بتلك الظنون ؛ لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره قاطع يكون في العمل به بذلك المعنى هذا الضرر العظيم أعني التشريع.

وإن أراد ثبوت الضرر في العمل بها بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب وترك ما ظنّ حرمته لذلك كما يقتضيه قاعدة دفع

______________________________________________________

إذا انسدّ باب العلم في مسألة فلا ريب في عدم ارتفاع الحكم الشرعيّ واقعا أو ظاهرا عن موردها. وحينئذ إمّا أن يجب الاحتياط والفرض عدمه ، أو يرجع فيها إلى أصالة البراءة أو الاستصحاب ، ولا دليل عليهما ، لعدم إفادتهما الظنّ في مقابل خبر الفاسق مثلا المفروض إفادته للظنّ بالواقع ، لعدم إمكان حصول الظنّ بطرفي المسألة ، فلا مناص حينئذ من العمل بالظنّ الحاصل من خبر الفاسق. ودعوى المصنّف رحمه‌الله كون ذلك خلاف مذهب الشيعة مبنيّة على استظهار كون مذهبهم في مثل المقام هو الرجوع إلى الاصول الجارية بحسب الموارد. وسيجيء تفصيل الكلام في ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

٣١٢

الضرر ، فلا ريب في استقلال العقل وبداهة حكمه بعدم الضرر في ذلك أصلا وإن كان ذلك في الظنّ القياسي. وحينئذ فالأولى لهذا المجيب (٦٦٦) أن يبدّل دعوى الضرر في العمل بتلك الأمارات المنهيّ عنها بالخصوص بدعوى : أنّ في نهي الشارع عن الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها ـ مع علمه بأنّ تركها ربما يفضي إلى ترك الواجب وفعل الحرام ـ مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته في الواقع ، فتأمّل. وسيجيء تمام الكلام عند التكلّم في الظنون المنهيّ عنها بالخصوص وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجّية الظنّ لها إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

٦٦٦. لأنّه مع دعوى الضرر في العمل بالقياس مثلا يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله من أنّ العمل به بمعنى التديّن والالتزام به لا يختصّ ضرره به ، لتأتّيه في العمل بمطلق الظنّ أيضا بالمعنى المذكور ، وبمعنى الاحتياط ودفع الضرر المظنون لا ضرر فيه أصلا ، بخلاف ما لو أبدل الضرر في العمل به بالمصلحة في ترك العمل به التي يستكشف عنها بنهي الشارع عن العمل به بالخصوص ، لفرض عدم المصلحة في ترك العمل بمطلق الظنّ سوى التحرّز عن مفسدة التشريع.

ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى أنّ كون النهي عن القياس مثلا بالخصوص لأجل مصلحة في ترك العمل به وإن كان محتملا ، إلّا أنّ كونه لأجل مفسدة حرمة التشريع محتمل أيضا ، فلا دليل على التعيين.

والأولى أن يقال : إنّه على مذهب العدليّة من الإماميّة والمعتزلة لا بدّ أن تكون الأحكام ناشئة من المصالح والمفاسد ، بمعنى كون الوجوب ناشئا من المصلحة في الفعل والحرمة من المفسدة في الفعل أيضا ، وحينئذ فإذا حرّم الشارع فعلا ـ كشرب الخمر ـ فالقدر المسلّم على قاعدتهم إنّما هو الالتزام بوجود مفسدة في الشرب دون المصلحة في الترك ، إذ يكفي في وجوب الترك الناشئ من حرمة الفعل كونه خاليا من مفسدة الفعل ، ولا داعي إلى التزام مصلحة اخرى في الترك. وكذا الحال في حرمة العمل بالقياس.

٣١٣

فالأولى أن يجاب (٦٦٧) عن هذا الدليل : بأنّه إن اريد من الضرر المظنون

______________________________________________________

٦٦٧. لا يذهب عليك أنّ الأولى في الجواب أن يردّد الكلام بين امور ، بأن يقال : إنّ الاستدلال بدليل دفع الضرر المظنون إمّا مع ضمّ مقدمات دليل الانسداد المعروف إليه ، أو بدونها. وعلى الثاني فإمّا أن يراد بالضرر المظنون العقاب الاخروي ، أو المفسدة المظنونة. فعلى الأوّل يئول الدليل إلى قولنا : إنّ التكليف بالأحكام الواقعيّة ثابت ، وسبيل العلم إليها منسدّ ، ومخالفة المجتهد لما ظنّه من الوجوب والحرمة مظنّة للضرر ، ودفع الضرر للمظنون واجب ، فالعمل بما ظنّه واجب.

وحينئذ نقول : إنّ مرجع هذا الدليل إلى دليل الانسداد المعروف ، فلا وجه للجمع بينهما وإفراد كلّ منهما بالذكر في كلام جماعة ، إلّا أن يقال : إنّ هنا أدلّة ثلاثة : أحدها قاعدة الضرر المعبّر عنها بوجوب دفع الضرر المظنون. وثانيها : قاعدة ترجيح المرجوح. وثالثها : دليل الانسداد المعروف. واختلاف هذه الأدلّة إنّما هو بحسب الاعتبار ولحاظ المستدلّ. فنظره في الأوّل إلى كون الظنّ موافقا للاحتياط ، لكون ما ظنّه المجتهد من الوجوب والحرمة مظنة للضرر ، وفي الثاني إلى كون الظنّ أقرب إلى العلم الذي هو الطريق إلى الواقع. وفي الثالث إلى كون المظنون أقرب إلى الواقع. وهذه الأدلّة وإن توقّفت على إحراز مقدّمات دليل الانسداد المعروف ، إلّا أنّ اختلافها إنّما هو بالاعتبار على الوجه المذكور.

فيقال في تقريرها حينئذ : إنّ التكليف بالأحكام الواقعيّة باق ، وسبيل العلم إليها منسدّ غالبا. وحينئذ إمّا أن نقول : إنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون واجب. أو نقول : إنّ عمل المجتهد بخلاف ما ظنّه ترجيح للمرجوح ، وهو قبيح. أو نقول : إنّ ما ظنّه المجتهد أقرب إلى الواقع ، فتعيّن الأخذ به في حكم العقل. وعدم إشارتهم إلى مقدّمات دليل الانسداد المعروف عند تقرير الدليلين الأوّلين لعلّه للإحالة إلى ما ذكروه عند تقرير دليل الانسداد ، فافهم ذلك ، لأنّي لم أجد من تنبّه على ما ذكرناه فيما أعلم.

٣١٤

العقاب ، فالصغرى ممنوعة (٦٦٨) ؛ فإنّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك ـ كاستحقاق الثواب عليهما ـ ليس ملازما للوجوب والتحريم الواقعيّين ؛ كيف وقد يتحقّق التحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل كما في الحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو مركّبا ، بل استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقّق الإطاعة والمعصية اللّتين لا تتحقّقان إلّا بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما ، وأمّا الظنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشكّ ، بل هو هو ؛ بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون المفروض منها.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الحكم بعدم العقاب والثواب فيما فرض من صورتي الجهل البسيط و (*) المركّب بالوجوب والحرمة إنّما هو لحكم العقل بقبح التكليف مع الشكّ أو القطع بالعدم ، أمّا مع الظنّ بالوجوب أو التحريم فلا يستقلّ العقل بقبح المؤاخذة ، ولا إجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النزاع.

______________________________________________________

والكلام في المقامين الآخرين يظهر من التأمّل في كلام المصنّف رحمه‌الله وما أعلّقه عليه.

٦٦٨. حاصله : أنّ الظنّ بالحكم الإلزامي إنّما يستلزم الظنّ بالعقاب إذا كانت بين الحكم الواقعي والعقاب ملازمة واقعيّة ، وليس كذلك ، لتخلّفه فيما فرضه من صورة الجهل بسيطا أو مركّبا. نعم ، الملازمة إنّما هي بين العلم بالحكم الإلزامي أو الظنّ المعتبر به وبين العقاب ، وليس شيء منهما حاصلا في المقام. أمّا الأوّل فمعلوم. وأمّا الثاني فلعدم ثبوت اعتبار الظنّ في المقام. ومجرّد عدم جريان أصالة البراءة في صورة الظنّ بالحكم على تقدير تسليمه لا يستلزم الظنّ بالعقاب ما لم تثبت الملازمة الواقعيّة المذكورة ، غاية الأمر مع عدم جريان أصالة البراءة هو تحقّق احتمال العقاب على المخالفة. وحينئذ إن قلنا بوجوب دفع الضرر المحتمل يتّجه القول بحجيّة الظنّ وإلّا فلا. وظاهر المصنّف رحمه‌الله حيث قنع في الجواب على منع الصغرى هو تسليم الكبرى ، وهو وجوب دفع الضرر المظنون على تقدير تسليم الصغرى.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

٣١٥

ويردّه : أنّه لا يكفي المستدلّ منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع بل لا بدّ له من إثبات أنّ مجرّد الوجوب والتحريم الواقعيّين مستلزمان للعقاب حتّى يكون الظنّ بهما ظنّا به ، فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا ، فالصغرى غير ثابتة.

ومنه يعلم فساد ما ربما يتوّهم أنّ قاعدة دفع الضرر يكفي للدليل على ثبوت الاستحقاق. وجه الفساد أنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصغرى وهي الظنّ بالعقاب.

______________________________________________________

وفيه نظر ، لأنّ الشكّ في التكليف ابتداء لا يوجب الاحتياط عند الاصوليّين ـ بل عند الأخباريّين أيضا ـ إذا كانت الشبهة وجوبيّة ، لكون المرجع في الشبهات البدويّة عندهم هي البراءة دون الاحتياط ، وإن اختلف الاصوليّون في كون ذلك من جهة العقل أو الشرع أو بناء العقلاء ، لأنّ جماعة منهم قد ادّعوا حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، وعدم اقتناعه بالضرر المحتمل في مقام إلزامه بالاحتياط الذي هو بيان إجمالي من قبل العقل للجاهل بالحكم الواقعي. وبعضهم قد سلّم حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الذي مقتضاه وجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة ، إلّا أنّه ادّعى ورود الشرع على البناء على البراءة عند الشكّ في التكليف. وهذا المسلك سلكه الشيخ في العدّة ، حيث أفاد أنّ الأصل في الأشياء هو الحظر ، وأنّ البناء على البراءة للأدلّة النقليّة. وبعض آخر سلّم أيضا حكم العقل بوجوب التحرّز عن الضرر المحتمل ، إلّا أنّه ادّعى بناء العقلاء على خلافه. وهذا ممّا سلكه شريف العلماء. وسيجيء تفصيل الكلام في محلّه إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ تقدير ، فبناء الاصوليّين على اختلاف مشاربهم ـ بل الأخباريّين أيضا في الجملة ـ في الشبهات البدويّة على البراءة. ومن الواضحات عندهم كون الظنّ بالحكم عندهم كالشكّ فيه ما لم يقم دليل على اعتباره ، وعدم كفاية استلزام الظنّ بالحكم للظنّ بالضرر في ذلك ، كيف وقد تقدّم عند الاعتراض على ما أجاب به الحاجبي عن دليل وجوب دفع الضرر المظنون تقوية المصنّف رحمه‌الله

٣١٦

نعم ، لو ادّعي أنّ دفع الضرر المشكوك لازم توجّه فيما نحن فيه الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظنّ بناء على عدم (٦٦٩) ثبوت الدليل على نفي العقاب عند الظنّ ، فيصير وجوده محتملا فيجب دفعه ، لكنه رجوع عن الاعتراف (٦٧٠) باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين.

______________________________________________________

لوجوب دفع الضرر المحتمل.

وحينئذ نقول : إنّ قول المصنّف رحمه‌الله بذلك مع قوله بالبراءة في الشبهات البدويّة إمّا مبنيّ على ورود قاعدة قبح التكليف بلا بيان على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كما اختاره في مسألة البراءة ، وحينئذ لا بدّ أن يراد بما قوّاه من وجوب دفع الضرر المحتمل وجوبه مع قطع النظر عن قاعدة قبح التكليف بلا بيان.

ويرد عليه : أنّ هذه القاعدة كما ترد على قاعدة دفع الضرر المحتمل ، كذلك ترد على قاعدة دفع الضرر المظنون ، بعد فرض كون الاحتمال كالظنّ في حكم العقل ، وعدم قيام دليل خارجي آخر على اعتبار الظنّ.

وإمّا مبنيّ على حكومة بناء العقلاء أو الأدلّة الشرعيّة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، مع تسليم ورود هذه القاعدة على قاعدة قبح التكليف بلا بيان.

ويرد عليه ـ مع منافاته لما اختاره من عكس ذلك كما عرفت ـ : أنّ بناء العقلاء وكذا الأدلّة الشرعيّة كما أنّهما واردان على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كذلك واردان على قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون. وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ الأولى للمصنّف رحمه‌الله أن يمنع الصغرى أوّلا ، ويمنع الكبرى ثانيا.

٦٦٩. لأنّه مع الظنّ بالحكم الإلزامي وعدم جريان أصالة البراءة النافية لاحتمال العقاب يتحقّق احتماله لا محالة ، فيجب دفعه.

٦٧٠. فيما سبق من صورتي الجهل البسيط والمركّب. وحاصله : أنّ استلزام الظنّ بالوجوب والحرمة لاحتمال العقاب إنّما هو مع قطع النظر عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا مع ملاحظتها فلا يبقى احتمال العقاب حتّى يجب دفعه

٣١٧

وإن اريد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة ، ففيه أيضا منع الصغرى (٦٧١) ؛ فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ، إلّا أنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد ارتكاب ما ظنّ حرمته ؛ لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتب المفسدة حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ؛ لاحتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف أو يعلمه بإعلام الشارع نظير الكفّارة والتوبة وغيرهما من الحسنات التي يذهبن السّيئات.

______________________________________________________

بحكم العقل.

وبالجملة ، إنّ هنا قاعدتين : إحداهما : وجوب دفع الضرر المحتمل ، والاخرى : قبح العقاب بلا بيان. والثانية واردة على الاولى ، على ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله في مبحث البراءة في مسألة الشبهة التحريميّة الحكميّة ، فراجع. وحينئذ يكون الظنّ بالوجوب أو التحريم كالشكّ فيهما في عدم وجوب دفع الضرر المحتمل في موردهما ، لأجل ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

وهنا بحث ، وهو أنّ ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ حيث منع الصغرى على تقدير كون المراد بالضرر هو الضرر الاخروي المظنون ـ هو تسليم ورود قاعدة دفع الضرر المظنون على قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ولعلّه أيضا ظاهر العلماء. وتقديم القاعدة الثانية على الاولى في الضرر المحتمل ، وسؤال الفرق حينئذ متّجه بعد القول بوجوب دفع الضرر المحتمل كالمظنون بمطلق الظنّ الذي لم يثبت اعتباره إلّا بهذه القاعدة ، كثبوت اعتبار الاحتمال بها في مورد احتمال الضرر ، والمقام يحتاج إلى التأمّل.

٦٧١. حاصله : أنّ المصالح والمفاسد الكامنتين اللتين هما منشأ الأحكام الشرعيّة من قبيل المقتضيات دون العلل التامّة ، فالظنّ بالحكم إنّما يستلزم الظنّ بالمفسدة الفعليّة إذا حصل الظنّ بعدم المانع ، والظنّ بالحكم لا يستلزم الظنّ بعدم المانع حتّى يستلزم الظنّ بالمفسدة المزبورة.

وفيه : أنّه بعد فرض حصول الظنّ بالوجوب أو الحرمة لا بدّ من حصول الظنّ بعلّته التامّة لا محالة ، وإلّا لا يحصل الظنّ بأحدهما. ومن هنا يظهر أنّه لا وجه

٣١٨

ويردّ عليه : أنّ الظنّ بثبوت مقتضي المفسدة (٦٧٢) مع الشكّ في وجود المانع كاف في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشكّ في وجود المانع ؛ فإنّ احتمال وجود المانع للضرر أو وجود ما يتدارك الضرر لا يعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع الظنّ بوجود مقتضي الضرر أم القطع به ، بل أكثر موارد التزام العقلاء التحرّز عن المضارّ المظنونة ـ كسلوك الطرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو ذلك ـ من موارد الظنّ بمقتضى الضرر دون العلّة التامّة له ، بل المدار في جميع غايات حركات الإنسان ـ من المنافع المقصود جلبها والمضار المقصود دفعها ـ على المقتضيات دون العلل التامّة ؛ لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها.

وأضعف من هذا الجواب ما يقال : إنّ في نهي الشارع عن العمل بالظنّ ـ كلّية إلّا ما خرج ـ ترخيصا في ترك مراعاة الضرر المظنون ، ولذا لا يجب مراعاته إجماعا في القياس.

ووجه الضعف (٦٧٣) ما ثبت سابقا : من أنّ عمومات حرمة العمل بالظنّ أو بما عدا العلم إنّما تدلّ على حرمته من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ، ولا تدلّ على

______________________________________________________

لتسليم المصنّف رحمه‌الله لظاهر الجواب ، كما هو ظاهر إيراده عليه بكون الظنّ بالمقتضي كالظنّ بالعلّة التامّة عند العقلاء.

ثمّ إنّ ظاهر منع الصغرى هو تسليم وجوب دفع الضرر المظنون ، أعني : المفسدة المظنونة ، وهو كذلك بحكم العقل والعقلاء ، لبنائهم على التحرّز عن مظانّ الضرر ، إلّا أنّه يرد عليه أنّ حكم العقل والعقلاء بوجوب دفع الضرر المظنون إرشادي ، فلا يترتّب عليه سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، فغاية ما يترتّب على مخالفة هذا الحكم هو ترتّب المفسدة الواقعيّة لو كانت موجودة في الواقع ، لا الحرمة الشرعيّة كما هو المقصود من إثبات حجّية الظنّ. والتمسّك في ذلك بالأدلّة الشرعيّة مثل قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ونحوها يخرج الدليل من كونه عقليّا مع إمكان كونها للإرشاد أيضا.

٦٧٢. المقتضى على صيغة المفعول ، وهي الحرمة.

٦٧٣. لا يخفى أنّ حرمة العمل بالظنّ إمّا لما ذكره من عدم إغنائه عن الواقع ،

٣١٩

حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله والحذر عن مخالفته.

فالأولى أن يقال (٦٧٤):

______________________________________________________

أو لكون التديّن به والالتزام به تشريعا محرّما ، وشيء منهما لا ينافي العمل بالظنّ لأجل دفع الضرر المظنون الذي مرجعه إلى الاحتياط. وعدم إشارة المصنّف رحمه‌الله هنا إلى الوجه الثاني إمّا لوضوحه أو لتقدّمه في كلامه سابقا.

٦٧٤. حاصله : كون المفسدة المظنونة متداركة بالمصلحة المقطوع بها أو المظنونة في العمل بالاصول. وأورد عليه سيّدنا الأستاذ دام علاه أوّلا : بأنّ مقتضى اعتبار وجود المصلحة في الطرق الظاهريّة هو الالتزام باقتضائها للإجزاء إذا انكشف خلافها كما هو ظاهر المشهور ، لكنّه خلاف مذهب المصنّف رحمه‌الله ، لعدم ذهابه إلى إفادتها للإجزاء. وقد صرّح في غير موضع من هذا الكتاب بعدم كون مصلحة الطرق الظنّية سوى مصلحة الطريقيّة ، وليست هذه الطرق عنده إلّا الأوامر العذريّة غير مفيدة لشيء سوى ما يترتّب عليها من ثواب الانقياد ، بل الالتزام بالمصلحة والمفسدة في الطرق الظاهريّة مستلزم للتصويب.

وثانيا : بأنّ ما ذكره خلاف طريقة الفقهاء ، بل خلاف طريقته أيضا ، لأنّهم إنّما عملوا بأصالة البراءة في موارد الظنون غير المعتبرة من جهة كون التكليف بلا بيان قبيحا ، لا من جهة وجود مصلحة في العمل بها كما هو واضح.

ويمكن دفع الأوّل بناء على القول بوجود المصلحة في الطرق الظاهريّة ، بأنّ غاية ما يلزم من ترخيص الشارع في العمل بالأصل في مقابل الظنّ غير المعتبر وجود مصلحة في الجملة في العمل به. وأمّا كونها مصلحة مطلقة فلا ، لاحتمال كونها مصلحة مقيّدة بعدم مطابقة الأصل للواقع ، وبعدم انكشاف خلاف الأصل بعد العمل به ، لاندفاع محظور الترخيص المذكور بذلك ، فلا دليل على الالتزام بأزيد من ذلك ، وحينئذ فلا منافاة بين الالتزام بوجود المصلحة في الطرق الظاهريّة وبين عدم القول بالإجزاء. وتحقيق المقام موكول إلى مصلحة الإجزاء.

ويمكن دفع الثاني بأنّ الالتزام بوجود المصلحة في العمل بالأصل في مقابل

٣٢٠