فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

فنقول : إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو ، وإلّا وجب عليه (٦١٠) ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام

______________________________________________________

على ذلك إلى زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، مع استقرار الفتوى إلى زمان المحقّق الثاني ـ ممّن عدا المفيد ـ على كونها إمّا بيعا فاسدا كما هو مذهب العلّامة ، أو مفيدة لمجرّد الإباحة كما هو المعروف فيما بينهم. وكذلك قد أفتى جماعة من المتأخّرين ـ كصاحب الرياض وغيره ـ بجواز بيع الصبيّ المميّز في المحقّرات ، لما وجدوا من استقرار عمل الناس إلى زمان الأئمّة عليهم‌السلام ـ بل وقبله ـ على ذلك ، مع فتوى من تقدّمهم بالبطلان. وهكذا في غير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبّع. ولعلّ الوجه في عدم اعتذارهم بفتاوى العلماء كونهم مسبوقين بالشبهة.

٦١٠. حاصله : أنّ اعتبار سيرة العقلاء إنّما هو لكشفها عن تقرير المعصوم عليه‌السلام ، وحينئذ يشترط اعتباره بشروط التقرير ، من علم الإمام عليه‌السلام بعملهم بطريق متعارف لا بعلم الإمامة ، وعدم خوفه من ردعهم عنه ، وعدم ردعه لهم عن ذلك والمصنّف رحمه‌الله حيث سلّم تحقّق الشرطين الأوّلين ، تكلّم على الثالث بقوله : «إنّ الشارع». والوجه في تسليم الشرط الأوّل واضح ، إذ دعوى عدم اطّلاعه على طريقة العقلاء في الإطاعة والامتثال واضحة الفساد. وأمّا الثاني فيمكن منعه في المقام ، لكون العمل بالظنون من شعار العامّة ، حتّى إنّ شارح المختصر قد نسب المنع من العمل بأخبار الآحاد إلى الرافضة. وهو وإن كان خطأ ، ومنشؤه ملاحظة دعوى المرتضى لإجماع الإماميّة على المنع ، إلّا أنّ عمل العامّة بالظنون وشيوع ذلك بينهم ممّا لا ينكر.

ثمّ إنّ حاصل ما أورده المصنّف رحمه‌الله على نفسه انتفاء الشرط الثالث ، نظرا إلى كفاية الآيات الناهية في الردع. ويمكن تقرير السؤال على وجه لا يندفع بما أجاب به المصنّف رحمه‌الله ، بأن يقال : إنّه يحتمل ردع الإمام عليه‌السلام بغير الآيات الناهية ، وعدم بلوغ ردعه إلينا.

٢٤١

الشرعيّة ، كما ردع في مواضع خاصّة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ؛ لأنّ اللازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعدّ معصية كذلك.

فإن قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة بل المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم. قلت : قد عرفت (٦١١) انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين وأنّ الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما : الأوّل : أنّ العمل بالظنّ والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة. والثاني : أنّ فيه طرحا لأدلّة الاصول العمليّة واللفظيّة التي اعتبرها الشارع عند عدم العلم بخلافها. وشيء من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل ؛ لكون حرمة العمل بالظنّ من

______________________________________________________

فإن قلت : إنّه لو ردع لبلغ إلينا ، لتوفّر الدواعي عليه.

قلت : إن اريد بلوغه مطلقا ولو بطريق الآحاد فقد بلغ ، مثل ما رواه في البحار عن بصائر الدرجات عن محمّد بن عيسى قال : «أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثاني عليه‌السلام وجوابه بخطّه ، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك أجمعين قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به مع اختلافه؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه : ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا». ومثله عن مستطرفات السرائر. مضافا إلى تكاثر الروايات على طرح ما يخالف الكتاب أو لا يوافقه.

وإن اريد بلوغه على سبيل التواتر فلزومه ممنوع ، لأنّ توفّر الدواعي إنّما يقتضي التواتر لو لم يوجد عنه مانع ، ووجوده محتمل ، ومجرّد احتماله كاف في المقام. ودعوى القطع بالعدم بعيدة ، سيّما مع اندراس أكثر الأخبار.

ثمّ إنّه يرد على ما أورده المصنّف رحمه‌الله على نفسه منع كفاية الآيات الناهية في الردع ، وإلّا لا نسدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكون جميع الأحكام مبيّنة في الكتاب والسنّة عموما أو خصوصا ، فتدبّر.

٦١١. يعني : عند تأسيس الأصل في العمل بالظنّ.

٢٤٢

أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء ؛ لأنّ حرمة التشريع ثابت عندهم ، والاصول العمليّة واللفظيّة معتبرة عندهم مع عدم الدليل على الخلاف ، ومع ذلك نجد بنائهم على العمل بالخبر الموجب للاطمئنان.

والسّر في ذلك عدم جريان الوجهين المذكورين بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ؛ لانتفاء تحقّق التشريع مع بنائهم على سلوكه في مقام الإطاعة والمعصية ؛ فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترك ما أخبر بحرمته لا يعدّ مشرّعا (٦١٢) ، بل لا يشكّون في كونه مطيعا ؛ ولذا يعوّلون عليه في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع أنّ قبح التشريع عند العقلاء لا يختصّ بالأحكام الشرعيّة.

وأمّا الاصول المقابلة للخبر ، فلا دليل على جريانها في مقابل خبر الثقة ؛ لأنّ الاصول التي مدركها حكم العقل ـ لا الأخبار ؛ لقصورها عن إفادة اعتبارها ـ كالبراءة (٦١٣) والاحتياط والتخيير ، لا إشكال في عدم جريانها في مقابل خبر الثقة بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به في أحكامهم العرفيّة ؛ لأنّ نسبة العقل (٦١٤) في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة إلى الأحكام الشرعيّة والعرفيّة سواء.

______________________________________________________

٦١٢. الوجه فيه أنّ التشريع هو إدخال ما ليس من الدين فيه بقصد أنّه منه ، أو ما شكّ في كونه منه فيه بقصد أنّه منه. ولا ريب أنّ كيفيّة امتثال الأحكام الشرعيّة موكولة إلى العرف ، ومع بناء العقلاء على الاعتماد في امتثالها بخبر الثقة ، بمعنى اقتناعهم في امتثالها بثبوتها به ، لا يتحقّق موضوع التشريع ، لفرض حصول امتثال الحكم الشرعيّ بطريق معتبر. ومن هنا يظهر الوجه في قوله : «بل لا يشكّون».

٦١٣. الإنصاف أنّه لا قصور في أخبار البراءة. فالأولى فيها أن يقال بورودها في مقام إمضاء حكم العقل لا لتأسيس حكم موافق له ، فتدبّر.

٦١٤. يعني : أنّ حكم العقل بمقتضى الاصول في مواردها بالنسبة إلى الأحكام العرفيّة والشرعيّة على نهج واحد ، فكما أنّه لا سبيل إلى حكم العقل بمقتضاها في الأحكام العرفيّة في مقابل خبر الثقة ، كذلك في الأحكام الشرعيّة.

٢٤٣

وأمّا الاستصحاب ، فإن اخذ من العقل (٦١٥) فلا إشكال في أنّه لا يفيد الظنّ في المقام ، وان اخذ من الأخبار فغاية الأمر (٦١٦) حصول الوثوق بصدورها دون اليقين. وأمّا الاصول اللفظيّة كالإطلاق والعموم ، فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق به في مقابلها ، فتأمّل.

______________________________________________________

٦١٥. هذا هو ظاهر المشهور ، ولذا لم يتمسّك أحد من العلماء إلى زمان والد شيخنا البهائي في إثبات اعتبار الاستصحاب بالأخبار. ومن هنا أيضا جعل المحقّق القمّي الاستصحاب مغايرا لقاعدة اليقين. ولمّا كان القول باعتباره من باب العقل ملازما للقول باعتباره من باب الظنّ نوعا أو شخصا ، إذ العقلاء لا يعملون بطريق من دون حصول الظنّ به ، بنى المصنّف رحمه‌الله عدم اعتبار الاستصحاب في مقابل قول الثقة على عدم حصول الظنّ منه في مقابله ، ولم يتعرّض لعدم اعتباره في مقابله على تقدير اعتباره تعبّدا عقليّا.

٦١٦. حاصله : أنّ العمل بالاستصحاب حينئذ في مقابل خبر الثقة ترجيح بلا مرجّح ، لفرض كون مرجعه إلى العمل بالخبر الموثوق بالصدور.

أقول : لو فرض تواتر أخبار الاستصحاب أمكن الجواب حينئذ بمنع الدليل على جواز العمل بظواهرها في مقابل خبر الثقة ، لأنّ العمل بالظواهر من باب بناء العقلاء وإمضاء طريقتهم من الشارع ، كما يرشد إليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ). وهو منتف في مقابل خبر الثقة ، نظير ما ذكره في الاصول اللفظيّة.

ثمّ إنّه ربّما يورد على هذا الوجه من وجوه تقرير الإجماع أوّلا : بأنّ بناء العقلاء على العمل بالأخبار الموثوقة بالصدور في امور معاشهم ومعادهم إنّما هو من حيث إفادتها للوثوق من حيث هو من دون خصوصيّة للخبر ، ولذا يعملون بسائر الأمارات المفيدة للوثوق أيضا ، فيكون الدليل حينئذ أعمّ من المدّعى ، إذ المطلوب في المقام إثبات حجّية الأخبار المفيدة للوثوق بحيث يكون لخصوصيّة السبب مدخل في ذلك.

٢٤٤

الخامس : ما ذكره العلّامة في النهاية : من إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ، وقد ذكر في النهاية مواضع كثيرة عمل فيها الصحابة بخبر الواحد. وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّه : إن اريد من الصحابة العاملين بالخبر من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلّا عن رأي الحجّة عليه‌السلام ، فلم يثبت عمل أحد منهم (٦١٧)

______________________________________________________

وثانيا مع التسليم : بأنّ ذلك إنّما ينهض دليلا على مذهب القدماء حيث كانوا عاملين بالأخبار الموثوق بها ، لا على مذهب مثل صاحب المعالم والأردبيلي وأمثالهما من التعبّد بالأخبار وإن لم تفد الوثوق ولا الظنّ أيضا. هكذا قيل ، وهو كما ترى.

وثالثا : أنّ المقصود في المقام إثبات حجّية الأخبار في مقابل العلم ، بحيث يجوز الرجوع إليها مع التمكّن منه بسؤال الإمام عليه‌السلام ونحوه. ولا ريب أنّ عمل العقلاء بالأخبار غير العلميّة إنّما هو عند عدم التمكّن من العلم ، لانسداد باب العلم في أغلب امور معاشهم ، لتعلّقها في الأغلب بالمستقبل الذي لا سبيل للعلم إليه ، إذ لا يرتاب أحد في حقّ أحد أن يعمل في امور معاشه بغير العلم مع التمكّن منه في الأغلب. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله أشار إلى أحد الوجوه المذكورة على سبيل منع الخلوّ بالأمر بالتأمّل.

٦١٧. لا يذهب عليك أنّ ما ذكره إنّما يتّجه لو كان العلّامة متمسّكا بإجماع أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ما أورده بناء على هذا متّجه. وأمّا لو كان متمسّكا بإجماع أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كما يظهر من طريق ردّ المصنّف رحمه‌الله له ، فما أورده عليه غير واضح الورود ، بل متّضح الفساد ، لأنّ قوله : إنّ أحدا منهم ممّن لا يصدر إلّا عن رأي الحجّة لم يثبت عمله بالخبر غير العلمي ، ممّا تشهد القرائن القطعيّة بخلافه. وقد تقدّم في كلامه أنّ المجلسي قد ادّعى تواتر الأخبار بعمل الشيعة في جميع الأعصار بخبر الواحد. وكذا تقدّمت دعوى النجاشي والشهيد اتّفاقهم على العمل

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بمراسيل ابن أبي عمير ، إلى غير ذلك من الشواهد. ومن هنا يظهر أنّ التمسّك بإجماع أصحاب الأئمّة أولى من التمسّك بإجماع أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد حكي التمسّك بالأوّل عن الشيخ في العدّة وغيره.

وتقريب الاستدلال فيه أن يقال : إنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام لم يزالوا عاملين بالأخبار غير العلميّة من دون أن يفتّشوا عن القرائن القطعيّة ، إذ لم يكن يومئذ عند كلّ واحد منهم إلّا أصل أو أصلان ، وكان عملهم بما عندهم من دون مراجعة سائر الاصول ، وهو إمّا كاشف عن حقيّة ما أجمعوا عليه ، لأنّ عمل التابعين أو قولهم بشيء كاشف عن كونه مذهب رئيسهم ، كما قرّرناه في مبحث الإجماع ، وإمّا كاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام ، إذ لا ريب في اطّلاع الإمام عليه‌السلام على عملهم ، وهو مع عدم ردعه لهم عنه كاشف عن رضاه به. وإذا ثبت الجواز في حقّهم ثبت في حقّنا بدليل المشاركة في التكليف ، إذ لم يثبت في حقّنا ما يوجب مغايرتنا معهم في التكليف إلّا امور لا يصلح لذلك ، أحدها : مغايرتنا معهم بالأبدان. الثاني : مغايرة زماننا لزمانهم. الثالث : كون الوسائط بالنسبة إلينا أكثر بالنسبة إليهم. الرابع : احتمال كون ما عملوا به من أخبار الآحاد مطابقا للواقع وإن لم يكونوا عالمين بذلك ، وكون عدم ردع الإمام عليه‌السلام لهم عن العمل بها لذلك ، وهو لا يثبت جواز عملنا بها أيضا ، لاحتمال عدم إصابتنا الواقع لو علمنا بها.

وأمّا عدم صلاحيّة هذه الوجوه لما ذكر ، فأمّا الأوّل فللإجماع على عدم اختلاف الأحكام باختلاف الأبدان.

وأمّا الثاني ، فإنّ اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان إمّا من جهة احتمال طروء النسخ في الزمان المتأخّر ، وإمّا من جهة احتمال التقيّة عن الردع في الزمان المتقدّم. والأوّل منفي بالإجماع ، لإجماعهم على عدم وقوع النسخ بعد زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. واحتمال كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر بعض خلفائه بأنّ الحكم الفلاني ينسخ في وقت كذا ، وكان خلفائه أيضا قد أخبروا به في وقته ، كما احتمله المحقّق

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

القمّي رحمه‌الله تبعا لبعض محشّى المعالم ، خلاف الإجماع أيضا. والثاني لا سبيل إليه في المقام ، لعدم حصول الخوف للأئمّة عليهم‌السلام في المنع عن العمل بالأخبار المنقولة عنهم. مع أنّ العامل بها لم يكن إلّا أصحابهم ، وكانوا متمكّنين عن ردعهم.

وأمّا الثالث فهو خلاف الإجماع أيضا. وأمّا الرابع ، فإنّ مجرّد كون تلك الأخبار مطابقة للواقع مع اطّلاع الإمام عليه‌السلام على ذلك غير كاف في جواز عدم الردع ، إذا لم يثبت عندهم جواز العمل بها شرعا أو كون ما عملوا به من الأخبار مطابقا للواقع ، لكونه تشريعا محرّما. وأمّا احتمال عملهم بمطابقة ما عملوا به بالواقع فمصادمة للوجدان.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح المقام. ولكنّه يعد لا يخلو عن نظر بل منع ، إذ يرد عليه أوّلا : أنّ المقصود في المقام إثبات حجّية أخبار الآحاد في مقابل العلم بحيث يجوز العمل بها مع التمكّن منه ، إذ المنكر لحجّيتها هو السيّد ، وهو يدّعي ثبوت أكثر المسائل الفرعيّة بالضرورة والإجماع والأخبار المتواترة أو المحفوفة بالقرائن القطعيّة ، ولم يثبت عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بأخبار الآحاد كذلك ، لعدم تمكّن جميعهم من تحصيل الأحكام علما بالأخذ من الإمام عليه‌السلام أو بالقرائن القطعيّة ، لعدم تمكّن جميعهم من الوصول إلى خدمته في كلّ وقت ، وسؤاله عن جميع ما بدا له من الأحكام ، إذ لم يكن حالهم إلّا كحال المقلّدين مع المجتهد في أمثال زماننا ، بل عروض الموانع لهم من الوصول إلى خدمة الإمام عليه‌السلام كان أكثر من المقلّدين. وحينئذ فدعوى الإجماع على العمل بأخبار الآحاد في مقابل السيّد غير مجدية. مع أنّ احتمال ما ذكرناه كاف في منع صحّة التمسّك بالإجماع المذكور في المقام.

وثانيا مع التسليم : أنّ عملهم بأخبار الآحاد لعلّه كان لأجل عدم علمهم إجمالا بوجود المعارض في جملة الأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، إذ لم يكن يومئذ عند كلّ واحد منهم إلّا أصل أو أصلان ، وكان عملهم بما عندهم من دون اطّلاع

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على ما عند الآخر ، ولا يقاس على ذلك أمثال زماننا ممّا اجتمعت فيه الأخبار ، وعلمنا بكون أكثرها من قبيل الأخبار المتعارضة. فالإجماع على جواز العمل لمن لم يحصل له العلم الإجمالي بوجود المعارض لا يثبت الجواز لمن حصل له العلم بذلك ، لاحتمال كون الحجّة حينئذ هو مطلق الظن الحاصل بعد الفحص عن مجموع الأدلّة لا خصوص الظنّ الخبري ، إذ لا ريب أنّ الإجماع في حال لا يثبت الحكم في حال اخرى.

وثالثا : أنّه يرد عليه ما أوردناه على أكثر ما تقدّم من وجوه تقرير الإجماع. وتوضيح ذلك : أنّ إجماع أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام على العمل بأخبار الآحاد إجماع تقييدي ، فلا بدّ فيه من الأخذ بما هو المتيقّن من عملهم ، لإجمال جهة عملهم ، وعدم العلم بكون عملهم بأيّ قسم من الأخبار. والمتيقّن منه هو الخبر الصحيح الذي زكّي رجال سنده بتزكية عدلين ، وكانت شهادتهما مستنده إلى الحسّ دون الظنون الرجاليّة ، وكانت متضمّنة للإخبار عن الملكة لا مجرّد حسن الظاهر أو عدم ظهور الفسق ، وكانت عدالة المزكّي أيضا ثابتة بالعلم أو طريق شرعيّ من شهادة العدلين لا المعاشرة ، وكان الخبر ممّا يفيد الوثوق ، ولم يكن ممّا أعرض عنه الأصحاب ، ولا من المكاتيب والمراسيل والمضمرات والمنقول بالمعنى ، لوجود الخلاف في اعتباره مع انتفاء أحد هذه القيود.

ومع الأخذ بالمتيقّن يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ الخبر الجامع للقيود المذكورة لغاية ندرة وجوده غير كاف في شيء من أبواب الفقه ، فضلا عن أغلب مسائله كما هو المقصود في المقام ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بمطلق الظنّ الثابت اعتباره بدليل الانسداد.

وثانيهما : أنّه مخالف للعلم الإجمالي ، لأنّا نعلم إجمالا أنّ في غير الأخبار الجامعة للقيود المذكورة أخبارا صادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام. ويلزم ذلك أيضا لو اقتصرنا على الأخبار الصحيحة الأعلائيّة ، للعلم إجمالا بصدور أخبار كثيرة ـ من الصحاح المزكّى سنده بعدل واحد ، والموثّقات والحسان والضعاف ـ عن

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّا لو لم نقل بكون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة كما هو مذهب الأخباريّين ، فلا ريب في كون أكثرها قطعيّة. ومن هنا يتّجه الإشكال على المقتصرين على الأخبار الصحيحة الأعلائيّة ، كصاحب المعالم والمدارك والشهيد الثاني.

نعم ، قد أجاب عنه المصنّف رحمه‌الله على ما حكاه عنه بعض مشايخنا بمنع اقتصار هؤلاء الجماعة في مقام العمل على الخبر الصحيح الأعلائي ، وإن حصروا الحجّة من الأخبار في هذا القسم ، لوضوح أنّ ذلك إنّما هو في مقام إثبات الأحكام المخالفة للاصول والعمومات المستفادة من الكتاب والسنّة المعتبرة على مذاقهم ، أو سائر الأدلّة المعلومة الاعتبار.

والحاصل : أنّهم يعملون بخمس طوائف من الأخبار : إحداها : الأخبار الصحيحة الأعلائيّة. الثانية : الأخبار الموافقة للاصول. الثالثة : الأخبار الموافقة للعمومات المستفادة من الكتاب والسنّة القطعيّة أو المعتبرة على مذاقهم. الرابعة : الأخبار الموافقة للعقل أو الإجماع محصّلا أو محكيّا. وقد ذكر الشهيد الثاني كون الإجماع المنقول أقوى من الخبر الصحيح ، لكونه عالي السند. الخامسة : الأخبار الواردة في السنن والكراهة ، لجواز التسامح فيهما. وبعد إخراج هذه الطوائف لا يبقى من الأخبار المتعلّقة بالأحكام إلّا قليل منها. ودعوى العلم الإجمالي بصدور بعضها عن الأئمّة عليهم‌السلام مصادمة للوجدان.

ولكنّ الإنصاف أنّ منع عدم بقاء العلم الإجمالي بعد إخراج الطوائف المذكورة بصدور بعض من الأخبار الباقية عن الأئمّة عليهم‌السلام بعيد عن السداد ، لأنّ الأخبار الواردة في العبادات أغلبها واردة في الواجبات والمحرّمات المخالفة للقواعد والاصول ، ووجود الخبر الصحيح الأعلائي فيها نادر جدّا ، كما هو واضح للمتأمّل الخبير والناقد البصير.

هذا ، ويدفع الأمرين ما أسلفه المصنّف رحمه‌الله في صدر المبحث من كون المقصود في المقام إثبات الحجّية في الجملة في مقابل السلب الكلّي الذي يدّعيه السيّد ، وهو

٢٤٩

بخبر الواحد فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه‌السلام له.

وإن اريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كلّ ناعق ، فمن المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه‌السلام ؛ لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم. ولعلّ هذا مراد السيّد قدس‌سره حيث أجاب عن هذا الوجه : بأنّه إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الذين يتجشّم التصريح بخلافهم ، وإمساك النكير (٦١٨) عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم. إلّا أن يقال : إنّه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام بل ولا أتباعه من الصحابة النكير على العاملين إظهارا للحقّ وإن لم يظنّوا الارتداع ؛ إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة (٦١٩) الخلافة التي أنكرها عليهم من أنكر ؛ لإظهار الحقّ ودفعا لتوهّم دلالة السكوت على الرضا.

السادس : دعوى الإجماع من الإماميّة حتّى السيّد (٦٢٠)

______________________________________________________

لا ينافي ندرة الوجود أو مخالفة العلم الإجمالي ، إلّا أنّه ينافيه ما أورده على الوجه السادس من وجوه تقرير الإجماع من الأخذ بالقدر المتيقّن من عملهم ، وأنّه نادر الوجود ، فلاحظ.

٦١٨. يعني : من الإمام عليه‌السلام.

٦١٩. لا يخفى ما في هذا القياس ، إذ لا ريب في وجود الفارق.

٦٢٠. حاصله : أنّ العلماء كافّة قد عملوا بأخبار الكتب الدائرة بينهم وإن اختلفت جهة عملهم بها ، إذ السيّد إنّما عمل بها لأجل زعمه كونها قطعيّة الصدور إمّا بالتواتر أو الاحتفاف بالقرينة ، وجماعة لأجل زعمهم كونها ظنونا خاصّة على اختلافهم في شرائطها ، وجماعة اخرى لأجل زعمهم كونها ظنونا مطلقة ، ولكنّ الحاصل من الكلّ هو العمل بتلك الأخبار.

ويرد على هذا الوجه ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله ـ أنّ هذا الوجه لا يثبت اعتبار الأخبار من باب الظنون الخاصّة ، لاحتمال كون عملهم ـ أو أكثرهم ـ بها من باب الظنون المطلقة الثابت اعتبارها بدليل الانسداد ، كما نسبه في محكيّ المفاتيح إلى المشهور ، وفي القوانين إلى ظاهر العلماء ، مع أنّ تداول

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الكتب المعروفة وشيوع العمل بها إنّما حدث بعد زمان الأئمّة عليهم‌السلام. وقد حكي عن المحقّق عدم صحّة التمسّك بالإجماع في المسائل التي حدث عنوانها بعد زمانهم ، لعدم إمكان الاستكشاف المعتبر عن رضا المعصوم عليه‌السلام في مثله.

تكميل : اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد تمسّك على اعتبار الأخبار غير العلميّة بالأدلّة الأربعة ، وقد وقع الفراغ هنا عمّا عدا دليل العقل. وأنت إذا تأمّلت فيما ذكره إلى هنا من النظر أو المنع في أكثر الأدلّة المذكورة ، وكذا تأمّلت ما علّقناه على كلماته ممّا بلغ إليه النظر القاصر ، علمت أنّ شيئا من الأدلّة المتقدّمة في كلامه غير تامّ الدلالة. ولا أرى هنا بأسا لتجديد الكلام وتتميم المرام ، ولعلّ الله سبحانه يهدينا إلى الطريق الأسدّ والمنهج الأقوم ، فنقول : إنّ شيئا من الأدلّة المتقدّمة في كلامه لا يفيد سوى حجّية القدر المتيقّن المجمع عليه. أمّا الإجماع فإنّه لمّا كان أمرا لبيّا ، وكان مناط اعتباره كشفه على سبيل القطع عن الواقع ، فلا بدّ فيه من الأخذ بما هو المتيقّن من مورده. وحينئذ لا بدّ من بيان الوجوه المحتملة في اعتبار أخبار الآحاد والأخذ بما هو المتيقّن منها ، لأنّ منها ما كان أخصّ من الآخر ، فلا بدّ من الأخذ به ، وما كان منها أعمّ من الآخر من وجه فلا بدّ فيه من الأخذ بمورد اجتماعهما ، وما كان مباينا للآخر وفلا بدّ فيه من الأخذ بهما أخذا بالمتيقّن في تحصيل الإجماع.

وحينئذ نقول : إنّ ما يحتمل في حجّية خبر الواحد من باب الوصف أمران ، لأنّ منهم من قال باعتباره من حيث إفادته الظنّ من دون نظر إلى حال الراوي والرواية وربّما عزي ذلك إلى الشيخ ، نظرا إلى اشتراطه في حجّية كون الراوي متحرّزا عن الكذب. ومنهم من قال باعتباره من حيث إفادته للوثوق والاطمئنان بالصدور ، كما حكي عن قدماء الأصحاب. وظاهر أنّ الثاني أخصّ من الأوّل ، لأنّ كلّ من يعمل بخبر مظنون الصدور يعمل أيضا بخبر موثوق الصدور ، ولا عكس ، فلا بدّ في تحصيل الإجماع من اعتبار كونه موثوقا بالصدور. وما يحتمل في حجّيته من حيث ملاحظة الراوي أو الرواية امور :

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : كون الراوي عدلا. وعزى في المعالم اعتبار هذا الشرط إلى الأكثر. فيكون لخبر العدل جهة موضوعيّة ، إذ لعلّ الشارع قد جعل خبر العدل ـ لأجل ما في صفة العدالة من الشرف ـ معتبرا من باب التعبّد. ولا بدّ من الأخذ بذلك أيضا. لأنّه المتيقّن بالنسبة إلى خبر من لم يكن عدلا ، وإن اعتبره جماعة أيضا. وقد تقدّم في كلام الشيخ الذي نقله المصنّف رحمه‌الله دعوى الإجماع على اعتبار هذا الشرط.

نعم ، قال المحقّق البهائي : ليس مراد الشيخ اشتراط العدالة مطلقا ، بل حيث تنتفي قرائن صدق الخبر والوثوق بصدوره على وجه الخصوص ، فيكون اعتبار العدالة عنده لأجل كونها من القرائن العامّة لصدق الخبر ، فالمعتبر عنده أوّلا هي القرائن الخاصّة ثمّ القرائن العامّة.

وقال بعض مشايخنا : إنّ الشيخ وإن ادّعى الإجماع على اشتراط العدالة ، إلّا أنّ مراده منها ليس هو المعنى المعتبر في الشهادة ، لأنّه قد ادّعى الإجماع على العمل بأخبار جماعة من العامّة والفطحيّة وغيرهم ، وهي لا تجتمع مع دعوى الإجماع على اشتراط العدالة بالمعنى المعتبر في باب الشهادة ، لكونه فرع الإيمان ، فلا بدّ أن يكون مراده بالعدالة هو مجرّد التحرّز عن الكذب ، كما هو صريح كلامه الذي نقلناه عنه عند شرح ما يتعلّق بكلامه.

وأقول : ربّما ينافيه قوله بعد نفي الخلاف في اعتبارها : «ومن خالف الحقّ لم تثبت عدالته ، بل ثبت فسقه» كما تقدّم فيما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ، فلا بدّ من الالتزام بما ذكره البهائي أو الحكم بالتنافي بين كلماته. ولكن بعد البناء على الأخذ بالمتيقّن لا يهمّنا إثبات الإجماع على اعتبار العدالة بالمعنى المعتبر في باب الشهادة ، لكفاية مجرّد احتماله كما لا يخفى. وأمّا كون الراوي ضابطا فقد اشترطه جماعة أيضا ، فلا بدّ من الأخذ به أيضا في مقام الأخذ بالمتيقّن.

الثاني : كون الخبر ممّا قبله الأصحاب وقد اعتبره المحقّق ، وتبعه المحدّث البحراني والنسبة بينه وبين اعتبار كون الراوي عدلا عموم من وجه ، فلا بدّ من

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخذ بمورد اجتماعهما ، وهو كون الخبر مع عدالة راويه ممّا قبله الأصحاب.

الثالث : كون الخبر مأخوذا على وجه السماع من الشيخ دون الوجادة. وهذا الشرط وإن لم يعتبره الأصحاب ، إلّا أنّ قضيّة الأخذ بالمتيقّن تعطى اعتباره أيضا ، لأنّ ظاهر الرواة اعتباره ، كما يشهد به ما حكي عن أحمد بن محمّد بن عيسى أنّه جاء إلى الحسن بن علي بن الوشاء وطلب منه أن يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا لأبان بن عثمان الأحمر ، فأخرجهما ، فقلت : أحبّ أن أسمعهما ، فقال لي : رحمك الله ما أعجلك اذهب فاكتبهما واسمع من بعد. فقلت له : لا آمن الحدثان. فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فإنّي قد أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليه‌السلام. وعن حمدويه عن أيّوب بن نوح أنّه دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا ، فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ، فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم به فليس بسماع (*) ولا برواية ، وإنّما وجدته. وعن عليّ بن الحسن بن فضال أنّه لم يرو كتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وإنّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد عن أبيه ، واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلة الحديث مع أبيه كان صغير السنّ ، ليس له كثير معرفة بالروايات ، فقرأها على أخويه ثانيا.

وكيف كان ، فالمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المتيقّن من إجماعهم قولا وفعلا على العمل بأخبار الآحاد هو الخبر الموثوق بالصدور ، الذي لم يعرض عنه الأصحاب ، وكان راويه عدلا وضابطا ، وكانت روايته على سبيل السماع دون الوجادة.

وأمّا الأخبار فالمتحصّل من تراكمها أيضا ليس إلّا اعتبار ما هو القدر المتيقّن الاعتبار ، لأنّ أوضحها دلالة هي الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص مخصوصين ، كزرارة وأبي بصير وزكريّا بن آدم وأمثالهم ، ومن القريب أن أمر الإمام عليه‌السلام

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «أي : من الإمام عليه‌السلام منه».

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بالرجوع إليهم إنّما هو لأجل إفادة خبرهم الوثوق والاطمئنان ، بل ربّما يحصل القطع من خبرهم. فالحاصل منها أيضا ليس بواف بإتمام الفقه ، إذ خبر العدل الواقعي أو الثابت عدالته بطريق شرعيّ لا بالظنون الاجتهاديّة مع كونه موثوقا بالصدور قليل الوجود ، فاللازم مع عدم تيسّر ظنون مخصوصة وافية بإتمام الفقه هو الأخذ بالظنون الثابت اعتبارها بدليل الانسداد.

وأمّا الآيات فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله ـ وما علّقناه عليه ـ عدم دلالة شيء منها على المطلوب. ومع التسليم فإنّما تدلّ على حجّية الخبر الصحيح على مصطلح المشهور ، وليست هي كالإجماع أمرا لبيّا لا بدّ من الأخذ بالمتيقّن منه ، ولا كالأخبار واردة في أشخاص مخصوصين ، يحتمل كون أمر الإمام عليه‌السلام بالرجوع إليهم لأحل إفادة خبرهم للوثوق بما أخبروا به ، لأنّ آية النبأ مثلا على تقدير تسليم دلالتها فإنّما تدلّ بمفهومها على حجّية خبر العدل ، وكذا على اعتبار شهادة عدل واحد ، فتدلّ على اعتبار خبر قد زكّي رجال سنده بعدل واحد.

والعجب أنّ صاحب المعالم مع قوله بدلالة الآية على حجّية خبر العدل قد أنكر دلالتها على حجيّة الخبر الصحيح على مصطلح المشهور ، استنادا إلى تعارض مفهوم الآية مع منطوقها ، ورجحان منطوقها لأجل قوّته بالنسبة إلى المفهوم.

وتوضيح ذلك : أنّ الآية بمفهومها تدلّ على حجّية خبر العدل الواقعي ، كما هو مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، فإذا أخبر شخص عن الإمام عليه‌السلام وزكّاه عدل آخر ، فمقتضى الآية قبول مثل هذا الخبر ، لأنّها كما تدلّ على اعتبار رواية العدل كذلك تدلّ على اعتبار إخبار العدل عن العدالة ، فإذا ثبت عدالة المخبر بتزكية العدل وجب قبول مثل خبره بمقتضى مفهوم الآية. ولكن يعارضه منطوقها ، لأنّ مقتضى تعليق وجوب التبيّن على خبر الفاسق الواقعي هو وجوب التبيّن عن خبر هذا المخبر ، لاحتمال فسقه في الواقع ، إذ تزكية العدل لا يرفع هذا الاحتمال ، ويرجّح مقتضى المنطوق ، لقوّته بالنسبة إلى المفهوم ، فيثبت وجوب

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التبيّن عن خبر هذا المخبر المزكّى بتزكية عدل واحد. نعم ، لو كان المخبر مزكّى بتزكية عدلين لا يجب التبيّن عن خبره ، ولا يعتنى باحتمال فسقه في الواقع ، لكون اعتبار البيّنة ثابتا بالإجماع.

وربّما يجاب عنه بأنّ دلالة الآية على قبول خبر المزكّى بعدل واحد وإن كانت بالمفهوم ، إلّا أنّه من حيث كونه من قبيل الدلالة اللفظية أقوى من دلالتها بحسب المنطوق على وجوب التبيّن عن خبر هذا المخبر ، لكونها بالدلالة الالتزاميّة العقليّة ، لكون ذلك من لوازم تعليق وجوب التبيّن في منطوقها على خبر الفاسق الواقعي ، وإلّا فلا ريب في عدم دلالتها على وجوب التبيّن عن خبر المخبر المفروض عدم العلم بفسقه وعدالته.

وفيه : أنّ دلالة الآية بمفهومها على وجوب قبول خبر المزكّى بتزكية عدل واحد إنّما هي من جهة كون ذلك لازما ، لوجوب قبول تزكية عدل واحد ، فدلالتها بالمفهوم على وجوب قبول خبره أيضا بالالتزام لا بالدلالة التامّة.

فالأولى في الجواب هو منع التعارض بين المنطوق والمفهوم ، لأنّ دلالة المنطوق على وجوب التبيّن عن خبر المزكّى بتزكية عدل واحد كما عرفت إنّما هي من جهة تعليق وجوب التبيّن فيه على خبر الفاسق الواقعي ، مع عدم العلم بعدالة هذا المخبر في الواقع ، والمفهوم قد دلّ على كون هذا المخبر عادلا ، فيجب قبول خبره من دون تعارض بينهما أصلا ، لحكومته على مقتضى المنطوق.

هذا كلّه على تقدير دلالة الآية بحسب مفهومها على وجوب قبول خبر العادل ، وإلّا فقد عرفت عدم نهوضها لإثبات ذلك. وقد عرفت أيضا أنّ المتيقّن من الإجماع والأخبار الواردة في المقام هي حجّية خبر العدل الضابط الموثوق بالصدور ، مع كونه مما قبله الأصحاب ، وكانت روايته على سبيل السماع دون الوجادة. ولا ريب أنّ الخبر الجامع لهذه القيود الخمسة قليل الوجود في أخبارنا الموجودة في أيدينا ، وهو غير كاف في إتمام الفقه ، وحينئذ لا بدّ في إتمامه من

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إعمال الظنون الثابت اعتبارها بدليل الانسداد.

نعم ، يمكن إلغاء القيدين الأخيرين ، بأن يقال بعدم اعتبارهما في حجّية أخبار الآحاد. أمّا قيد كون الرواية على سبيل السماع دون الوجادة ، فإنّ اعتبار الرواة ذلك إنّما هو من جهة التحرّز عن أخذ الأخبار الموضوعة المدسوسة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كما روي أنّ يونس بن عبد الرحمن عرض على سيّدنا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال : «إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام». فاعتبارهم كون الرواية على سبيل السماع والإجازة دون الوجادة إنّما هو من جهة كون مشايخ الإجازة عارفين بالأخبار ، ومميّزين بين الموضوعة منها وغيرها ، فلو لم تكن الرواية عنهم على سبيل السماع والإجازة ربّما يؤخذ بما هو من الأخبار الموضوعة. فاعتباره إنّما هو للتحرّز عن ذلك.

والأخبار المودعة في الكتب الأربعة ، بل وغيرها من الكتب المعتبرة التي هي المرجع لعلمائنا في أمثال زماننا ، إنّما أودعت فيها بعد النقد والانتخاب ، كما نبّه عليه صاحب الحدائق وغيره ، ولا داعي إلى الدسّ في هذه الكتب في أمثال زماننا ، فالداعي إلى اعتبار الشرط المذكور مفقود في العمل بأخبار هذه الكتب ، لتواترها عن مصنّفيها ، وعلمنا بعدم الدّس فيها ، وكون أخبارها مودعة فيها بعد الانتخاب.

وأمّا قيد كون الخبر مقبولا عند الأصحاب ، فلوضوح كون اعتبار هذا الشرط لأجل كون قبول الأصحاب وعدم إعراضهم عنه من القرائن المورثة للوثوق بصدقه ، لا لأجل خصوصيّة اخرى فيه ويؤيّده أنّ المحقّق في المعتبر إنّما اعتبر في جواز العمل بالخبر غير العلمي وجود أحد أمرين : إمّا كون الخبر مقبولا عند الأصحاب ، أو احتفافه بقرائن الصدق. وحينئذ فاعتبار كون الخبر موثوقا بالصدور يغني عن اعتبار هذا القيد.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّن صرّح بعدم كون عمل الأصحاب شرطا في جواز العمل بالخبر العلّامة الطباطبائي في فوائده قائلا : «عدم تعرّض الأصحاب لرواية في مسألة ليس من القدح في شيء ، فإنّ الرواية متى صلحت للاحتجاج صحّ التمسّك بها ، ولم يتوقّف على سبق الاحتجاج بها من غير هذا المستدلّ ، كيف ولو كان كذلك لوقفت الأدلّة على المستدلّ الأوّل ، وامتنع التعدّي عنه بتكثير الدلائل وتحقيق المسائل ، ولوجب القدح في أكثر الاحتجاجات المذكورة في كتب الأصحاب ، فإنّ المتأخّرين عن الشهيد الثاني قد زادوا عليه كثيرا ، وهو قد زاد على الشهيد الأوّل ، وقد زاد الشهيدان على الفاضلين ، والفاضلان على الشيخين ، والشيخان على من تقدّمهما. وقد جرت سنّة الله تعالى في عباده وبلاده بتكامل العلوم والصنائع يوما فيوما ، بتلاحق الأفكار واتّساع الأنظار ، وزيادة كلّ لاحق على سابق ، إمّا بزيادة تتبّعه وعثوره على ما لم يعثر عليه الأوّل ، ووقوفه على ما لم يقف عليه ، أو لأنّ أفكار الأوائل وأنظارهم هيّأت له فكرا زائدا ونظرا صائبا ، فزاد عليهم بما أخذ منهم ، أو لعناية ربّانيّة ولطف مخصوص ساق إلى المتأخّر زلفة وكرامة تختصّ به. وليس في شيء من ذلك ما يزري بحال المتقدّمين ، أو ينقص عن جلالتهم ، أو يطعن فيهم.

ولنعم ما قال الشيخ الفقيه ابن إدريس رحمه‌الله في خاتمة كتاب السرائر : لا ينبغي لمن استدرك على من سلف وسبق إلى بعض الأشياء أن يرى لنفسه الفضل عليهم ، لأنّهم إنّما زلّوا حيث زلّوا لأنّهم كدّوا أفكارهم وشغلوا أذهانهم في غيره ، ثمّ صاروا إلى الشيء الذي زلّوا فيه بقلوب قد كلّت ونفوس قد سئمت وأوقات ضيّقة. وأمّا من يأتي بعدهم فقد استفاد ما استخرجوه ، ووقف على ما استظهروه من غير كدّ ولا كلفة ، وحصلت له بذلك رياضة ، واكتسب قوّة ، فليس بعجيب إذا صار إلى حيث زلّ فيه من تقدّم ، وهو موفور القوى متّسع الزمان ، لم يلحقه ملل ولا خامره ضجر ، أن يلحظ ما لم يلحظوه ، ويتأمّل ما لم يتأمّلوه. ولذلك

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

زاد المتأخّرون على المتأخّرين ، وكثرت العلوم بكثرة الرجال واتّصال الزمان وامتداد الآجال. هذا كلامه.

وكما أنّ استدراك اللاحق على من سلف لا يوجب طعنا فيهم ، فكذا إهمالهم لما استدركه لا يوجب طعنا فيه ولا فيمن سبق عليه. ولو كان الاستدراك على السلف طعنا في الخلف لكان السلف أولى بذلك ، لتقدّمهم في ذلك وسبقهم إليه ، إذ ما من أحد منهم إلّا وقد استدرك على من تقدّمه بأشياء كثيرة أهملها المتقدّم أو لم يشبع القول فيه. وكثيرا ما يدّعي أحدهم أنّ المسألة خالية عن النصّ ، ثمّ يأتي آخر فيها بنصّ أو نصوص معتبرة ـ بل صحيحة ـ من الكتب الأربعة فضلا عن غيرها. والاستدراك بالنصّ على الشهيد الثاني كثير جدّا. واستقصاء المواضع التي اتّفق ذلك له أو لغيره يفضي إلى غاية تطويل» انتهى كلامه رفع مقامه.

وبعد نفي اعتبار القيدين المذكورين يكون المتيقّن هو الخبر الجامع للقيود الثلاثة الباقية ، وهو خبر العدل الضابط الموثوق بالصدور. وليس اعتبار قيد العدالة موهونا ، لتأيّده بوجوه :

أحدها : آية النبأ لصراحتها في عدم جواز قبول خبر الفاسق من دون تبيّن.

الثاني : قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) لأنّ الفاسق ظالم ، إذ لا أقل من ظلمه لنفسه ، والأخذ بخبره ركون إليه فيحرم. وقد استدلّ الشهيد الثاني وغيره بها على اعتبار العدالة في الشاهد والوصيّ.

الثالث : اشتهار القول باشتراط العدالة في العمل بأخبار الآحاد. واريد بها المعنى الأخصّ الشامل للإسلام والإيمان ، كما يشير إليه كلام العلّامة في جواب فخر المحقّقين ، على ما حكاه صاحب المعالم عن والده في فوائد الخلاصة قائلا : «سأل الفخر والده عن أبان بن عثمان ، فقال : الأقرب عندي عدم قبول روايته ، لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ...) ، ولا فسق أعظم من عدم الإيمان. وأشار به إلى ما رواه الكشّي من أنّ أبان كان من الناووسيّة.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابع : ما حكي عن فهرست الشيخ من أنّ الأصحاب تركوا العمل بروايات ابن الجنيد لمّا كان عاملا بالقياس. وإذا كان العمل بالقياس موجبا عندهم لترك العمل بروايات العامل به ، مع عدم كونه موجبا للفسق أو فساد العقيدة لمكان الاشتباه ، فكيف بما يوجب ذلك؟

الخامس : الأخبار. منها : ما روي عن سعد بن عبد الله أنّه كان لا يروي أخبار إبراهيم بن عبد الحميد ، معلّلا بأنّه كان قد أدرك خدمة الرضا عليه‌السلام ولم يرو عنه شيئا ، مشيرا بذلك إلى كونه واقفيّا. فإذا ترك سعد الرواية عن إبراهيم لاحتمال وقفه الناشئ من عدم روايته عن الرضا عليه‌السلام ، فكيف إذا علم بفسقه بالجوارح أو العقيدة؟

ومنها : ما روي عن أحمد أنّه كتب إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، وكان أخوه قد كتب إليه قبله؟ فكتب عليه‌السلام بما معناه : قد فهمت ما كتبتما ، فاعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، كثير القدم في أمرنا ، فإنّهم كافيكما إن شاء الله تعالى.

ومنها : ما روي عن عبد الله الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم الحسن بن روح ، قال : سئل الشيخ عن كتب ابن أبي عزاقر بعد ما ذمّ وخرجت فيه اللعنة ، فقيل له : كيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملأى؟ فقال : أقول فيها ما قال أبو محمّد الحسن بن علي عليه‌السلام وقد سئل عن كتب بني فضّال ، فقالوا : كيف نعمل وبيوتنا منها ملأى فقال عليه‌السلام : «خذوا ما رووا ، وذروا ما رأوا» لأنّ سؤال الإمام عليه‌السلام عن كتب بني فضّال مع وثاقتهم ظاهر في عدم كون مجرّد وثاقة الراوي كافية عندهم في العمل بالأخبار. وأمّا أمر الإمام عليه‌السلام بالعمل بأخبارهم مع كونهم فطحيّين فلعلّه من جهة علمه عليه‌السلام بمطابقتها للواقع.

ومنها : ما رواه في البحار من قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا». وما رواه في الاحتجاج وتفسير الإمام عليه‌السلام في حديث طويل من قوله عليه‌السلام : «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه» بناء على كون التقليد أعمّ من أخذ الفتوى و

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الرواية ، فتأمّل. وهذان الخبران صريحان في عدم جواز العمل بما رواه العامة ، بل الثاني منهما حيث كان مسوقا مساق الحصر يعطي انحصار جواز أخذ الفتوى والرواية فيمن وصفه الإمام عليه‌السلام.

وبالجملة ، إنّ هذه الأخبار مع ما تقدّمها من سائر الوجوه دالّة صريحا أو تلويحا على اشتراط العدالة في العمل بالأخبار ، وعدم جواز العمل بخبر غير العدل وإن كان ثقة في دينه.

ولكنّ الإنصاف عدم نهوض شيء من هذه الوجوه لذلك. أمّا آية النبأ فإنّها مع عدم نهوضها بحسب المفهوم لإثبات حجّية خبر العدل كما قرّر في غير المقام ، نمنع دلالتها منطوقا على عدم حجّية خبر الفاسق ، فإنّها من حيث تعليق وجوب التبيّن ـ الظاهر في التبيّن العلمي ـ على خبر الفاسق ، وتعليل ذلك بكراهة إصابة القوم ، ظاهرة في عدم جواز العمل بأخبار الآحاد مطلقا حتّى خبر العادل ، لأنّ مقتضى عموم التعليل عدم جواز العمل بغير العلم ، والحال أنّا قد علمنا بالإجماعات المتقدّمة جواز العمل بالأخبار غير العلميّة في الجملة. وحينئذ لا بدّ إمّا من الالتزام بإجمال الآية ، لكونها مخصّصة بمخصّص مجمل ، أو حمل التبيّن فيها على المعنى الشامل للتبيّن العلمي والوثوقي والظنّي ، فتفيد الآية حينئذ جواز العمل بكلّ خبر يفيد الوثوق أو الظنّ وإن لم يكن المخبر عادلا.

وأمّا آية الركون ، فمع أنّ الظاهر من قوله : «الذين ظلموا» هو الظالم لغيره دون نفسه ، أنّ الظاهر من الركون هو حبّ الظالمين والميل إليهم ، كما يشهد به ما حكاه الطبرسي عن بعضهم من أنّ المراد بالركون إلى الظالمين المنهيّ عنه الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم وإظهار موالاتهم ، وقال : وقريب منه ما روي عنهم عليهم‌السلام أنّ الركون المودّة والنصيحة والطاعة. ولا ريب أنّ هذا المعنى غير حاصل إذا عمل بروايات الفاسق مع عدم مودّته وموالاته.

وأمّا ما ذكره الشيخ في فهرسته فلا دلالة فيه على المدّعى في شيء ، إذ

٢٦٠