فرائد الأصول - ج ٢

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-65-2
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ مخالفة التقييد للأصل إنّما هو فيما كان المطلق واردا لبيان الإطلاق ، والمقام ليس كذلك ، لو ورد المطلق فيه مورد الغالب ، كما سيصرّح به في آخر كلامه. ومن هنا يحصل الفرق بينه وبين آية حرمة كتمان النساء لما في أرحامهنّ ، إذ الغالب عدم إفادة قولهنّ للعلم ، بخلاف ما نحن فيه. ولذا صحّح في ذيل ما أورده على الآية الآتية الاستدلال باستلزام حرمة الكتمان لوجوب قبول قولهنّ وإلّا لغا التحريم ، ومنعه في المقام.

قلت : نمنع الغلبة في مورد الآية ، لأنّ نفر عدد التواتر من كلّ قوم أو احتفاف الإنذار بقرائن القطع نادر جدّا ، ويتّضح ذلك لو قيس ذلك بنفر المقلّدين لتحصيل الأحكام الشرعيّة وأخذها من المجتهد إذا كان في بلد آخر ، سيّما إذا كان بعيد المسافة. ومع تسليم نفر عدد التواتر فلا ريب أنّه قلّما يتّفق إخبار جميعهم عن قضيّة واحدة ، لندرة تواطئهم على السّؤال عن حكم خاصّ. ومع تسليم حصول غلبة نفر عدد التواتر من كل فرقة في الجملة ، نمنع حصول الغلبة بالنسبة إلى آحاد المتخلّفين ، إذ لا بدّ في المقام من دعوى غلبة نفر عدد التواتر ، وإنذار هذا العدد لأغلب المتخلّفين ، وشيء من الغلبتين غير معلوم التحقّق في المقام.

فإن قلت : إن لم يكن وجوب الحذر مشروطا بحصول العلم بإنذار المنذرين ، كيف استشهد الإمام عليه‌السلام الآية الشريفة في مسألة معرفة الإمام عليه‌السلام؟

قلت : مع تسليم تواتر هذه الأخبار كي تصلح لتقييد الآية ، إنّ الآية وإن كانت مطلقة إلّا أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام في مسألة الإمامة لعلّه بضميمة ما ذكر في الأذهان من مطلوبيّة العلم فيها ، فاستشهادها فيها إنّما هو لبيان وجوب النفر لمعرفة الإمام عليه‌السلام ، وإخبار النافرين للمتخلّفين بذلك ، ووجوب عملهم به في الجملة ، بمعنى وجوبه على تقدير حصول العلم لهم بإخبارهم ، لما ركز في أذهانهم من اعتبار العلم في مسألة الإمامة ، وهو لا ينافي إطلاق الآية بالنسبة إلى غيرها ، لأنّ تقييدها بالنسبة إلى مسألة الإمامة أو غيرها لا ينافي إطلاقها بالنسبة إلى غيرها ، ولذا استدلّ

١٤١

الثاني : أنّ التفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الامور الواقعيّة (٤٨٥) من الدين ، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الامور المتفقّه فيها ، فالحذر لا يجب إلّا عقيب الإنذار بها ، فإذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ أنّ الإنذار هل وقع بالامور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطأ أو تعمّدا من المنذر ـ بالكسر ـ لم يجب الحذر حينئذ ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة ، فهو نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري لعلّه يمتثلها. فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات ؛ فإنّ المقصود من هذا الكلام ليس إلّا وجوب العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو لم يعلم مطابقته للواقع ، ولا يعدّ هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأمر الكذائي. ونظيره : جميع ما ورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ؛ فإنّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحقّ الواقعي ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع.

ثمّ الفرق بين هذا الإيراد وسابقه : أنّ هذا الإيراد مبنيّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الامور الواقعيّة المستلزم لعدم وجوبه إلّا بعد إحراز كون الإنذار متعلّقا بالحكم الواقعي ، وأمّا الإيراد الأوّل فهو مبنيّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجبا على الإطلاق أو بشرط حصول العلم.

______________________________________________________

أصحابنا بها على وجوب تحصيل الاجتهاد وكونه كفائيّا. مع أنّ كلمة «لعلّ» بعد تعذّر معناه الحقيقي ظاهرة في الطلب الإلزامي المولوي ، فلو كان وجوب الحذر مشروطا بحصول العلم كان الأمر به إرشاديّا ، وهو خلاف الظاهر.

٤٨٥. لأنّ الدين عبارة عن امور واقعيّة. وهذا الإيراد في غاية من الضعف ، إذ بعد كون المراد بالحذر وجوب العمل والقبول ، وبالإنذار إبلاغ الحكم مطلقا كما عليه مبنى هذا الإيراد ، لا إبلاغه على وجه التخفيف كما عليه مبنى الإيراد الثالث ، فلا ريب في ظهور الآية في إنشاء حكم ظاهري لوجوب التعبّد بخبر المنذرين ، لأنّها حينئذ نظير قولك لزيد : إذا أخبرك عمرو بأمري يجب عليك امتثاله.

وأمّا تنظيره على قول القائل : أخبر فلانا بأوامري لعلّه يمتثلها ، فهو قياس مع

١٤٢

الثالث : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذرين ولو لم يفد العلم ، لكن لا تدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث إنّه خبر ؛ لأنّ الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف ، فإنشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلا ، ومن المعلوم أنّ التخويف لا يجب (٤٨٦) إلّا على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الامور التي يعلم المخاطبون

______________________________________________________

الفارق ، لأنّ القياس أن يخاطب نفس فلان كما مثّلنا به ، لعدم اختصاص الخطاب في الآية بالمنذرين. وأمّا قياسه على جميع ما ورد من بيان الحقّ للناس ، ففيه : أنّ الأمر ببيان الحقّ للناس غير أمر الناس بالعمل بما يخبر به المخبر ، وما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأوّل ، لسكوته عن كيفيّة العمل رأسا.

٤٨٦. وجوب التخويف على المجتهد الواعظ أو المفتي ، والتخوّف على المتّعظ والمستفتي ، لا يخلو من نظر بل منع. نعم ، ربّما يجب في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن لا دخل لذلك في الاجتهاد والتقليد والوعظ والاتّعاظ ، لأنّ ذلك كلّه عناوين مختلفة وإن كان يجتمع بعضها مع بعض بحسب المورد. وبالجملة ، فحمل الآية على مسألة الوعظ والتقليد لا يخلو من نظر أو منع ، فتدبّر.

تنبيه : اعلم أنّه قد ظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله وما علّقناه على كلامه أنّ الآية الشريفة تحتمل وجوها. كلّ منها لا يخلو من إشكال :

أحدها : أن يكون المراد وجوب النفر لتعلّم الأحكام الشرعيّة لأجل إنذار الجهال بإرشادهم إليها وتعليمها إيّاهم. وحاصله : وجوب التفقّه والاجتهاد كفاية ، والإفتاء للعامي بما تعلّموا منها.

وثانيها : وجوب تعلّمها وإنذار العباد بالوعظ ، وبيان ما وعد الله عباده في الإطاعة والعصيان من الثواب والعقاب.

وثالثها : وجوب تعلّمها لأجل أمر العصاة بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ورابعها : وجوب النفر إلى الجهاد.

١٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وخامسها : وجوب النفر لمعرفة الإمام.

وسادسها : وجوب النفر لأجل تعلّم الأخبار ونقلها إلى المتخلّفين. والتقريب في الكلّ يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله وما قدّمناه في الحواشي السابقة.

ويرد على الأوّل أوّلا : أنّ الفقه لغة وعرفا بمعنى الفهم والعلم لا بالمعنى المصطلح عليه المبنىّ على استعمال ظنون اجتهاديّة ، لتأخّر حدوثه عن زمان صدور الآية ، فلا يمكن حمله عليه. وبعبارة اخرى : أنّ التّفقّه في الدين ـ أعني : معرفة الأحكام الشرعيّة ـ إنّما يصدق على الاجتهاد المصطلح عليه على تقدير اعتبار ظنون المجتهد شرعا وكونها كالعلم بدليل آخر ، فلا يمكن إثباته بالآية.

وثانيا : أنّ الإمام عليه‌السلام قد استشهد الآية لوجوب معرفة الإمام عليه‌السلام بعد مضيّ إمام سابق عليه ، كما تضمّنته جملة من الأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله ، فوجوب معرفة الإمام مراد منها لا محالة ، فلو شملت مع ذلك وجوب تحصيل الاجتهاد أيضا لزم منه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ معرفة الإمام واجب عقلا ، فيكون الأمر بها إرشاديّا ، نظير الأمر بإطاعة الله تعالى ورسوله ، والأمر بتحصيل الاجتهاد وتقليد العامي للمجتهد مولوي ، وهما معنيان متغايران ، فلا يجوز إرادتهما من لفظ واحد في استعمال واحد ، فتأمّل.

وثالثا : أنّ كلمة «لو لا» إذا دخلت على الماضي فهي للتنديم والتوبيخ ، وإذا دخلت على المستقبل فهي للتخصيص ، والتوبيخ على الماضي إنّما يصحّ مع سبق علم المخاطب بوجوب هذا الفعل عليه ، لقبح توبيخ الجاهل رأسا ، فلو كان المراد بالتفقّه هو الاجتهاد لزم معرفة المخاطب بوجوبه بغير الآية ، والفرض في المقام إثبات وجوبه بها مع قطع النظر عن دلالة دليل آخر عليه.

ورابعا : أنّ الإنذار هو التبليغ مع التخويف ، والحذر هو التخوّف ، وقد أشرنا في الحواشي السابقة إلى عدم وجوب التخويف والتخوّف في بيان المجتهد للفتاوى وأخذ المقلّد لها منه.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويرد على الثاني والثالث أوّلا : أنّهما مخالفان للأخبار التي نقلها المصنّف ، فإنّها ما بين دالّ على كون المراد وجوب النفر لتعلّم الأخبار ومسائل الحلال والحرام وتعليمها للمتخلّفين ، ودالّ على كون المراد وجوب النفر لمعرفة الإمام بعد الإمام.

وثانيا : أنّ مطلوبيّة الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما هي لملاحظة حال الغير لا حال الواعظ والآمر والناهي ، ولا ريب أنّ مطلوبيّة النفر والتفقّه في الدين ليست لمجرّد مطلوبيّة الإنذار والحذر ، إذ مطلوبيّة عمل المتفقّه بما تعلّم من مسائل الحلال والحرام ملحوظة فيه لا محالة ، إذ المنساق من الآية هو مطلوبيّة التفقّه لأجل عمل المتفقّه وغيره بما تفقّه فيه.

وعلى الرابع أوّلا : أنّ حملها على بيان وجوب النفر للجهاد خاصّة تقييد في إطلاقها ، والأصل عدمه.

وثانيا : أنّه مخالف للأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله ، لأجل دلالتها على كون وجوب النفر لأجل تعلّم مسائل الحلال والحرام أو معرفة الإمام عليه‌السلام.

وعلى الخامس أنّه مخالف لرواية الفضل وعليّ بن حمزة وغيرهما ، مضافا إلى كونه تقييدا في إطلاق الآية ، والأصل عدمه.

وعلى السادس ما أورده المصنّف رحمه‌الله من وجوه الإشكال ، وإن كان بعضها ضعيفا. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ العمدة ممّا أورده المصنّف رحمه‌الله عليه هو الإيراد الثالث ، لما تقدّم من ضعف الأوّلين منها. ويمكن دفعه أيضا بأنّ المستفاد من الأخبار التي نقلها هو عدم اعتبار التخويف في الإنذار وعدم اعتبار التخوّف في الحذر ، بمعنى كون المراد بهما في الآية تعلّم الأحكام وتعليمها للمتخلّفين من دون اعتبار تخويف وتخوّف في ذلك. وذلك لأنّ هذه الأخبار على أصناف ، منها ما دلّ على كون المراد وجوب النفر لتعلّم أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ونقلها إلى المتخلّفين ، كرواية الفضل. ومنها ما دلّ على كون المراد وجوب النفر لتعلّم الأحكام الشرعيّة وتعليمها للغير ، كرواية أبي حمزة وعبد المؤمن. ومنها ما دلّ على كون

١٤٥

بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يوعد على شرب الخمر وفعل الزنا وترك الصلاة ، أو على المرشدين في مقام إرشاد الجهّال ، فالتخوّف لا يجب إلّا على المتّعظ أو المسترشد ، ومن المعلوم أنّ تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارج عن الأمرين.

توضيح ذلك : أنّ المنذر إمّا أن ينذر ويخوّف على وجه الإفتاء ونقل ما هو مدلول الخبر باجتهاده ، وإمّا أن ينذر ويخوّف بلفظ الخبر حاكيا له عن الحجّة عليه‌السلام. فالأوّل كأن يقول : «يا أيّها الناس اتّقوا الله في شرب العصير ؛ فإنّ شربه يوجب المؤاخذة». والثاني كأن يقول في مقام التخويف : قال الإمام عليه‌السلام : «من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر». أمّا الإنذار على الوجه الأوّل ، فلا يجب الحذر عقيبه إلّا على المقلّدين لهذا المفتي. وأما الثاني ، فله جهتان : إحداهما : جهة تخويف وإيعاد. و

______________________________________________________

المراد وجوب النفر لمعرفة الإمام. ولا يجب التخويف والتخوّف في شيء ممّا ذكرناه. نعم ، قد يجبان في الأخيرين من باب الأمر بالمعروف للعصاة. ولا يمكن حمل الآية على ذلك خاصّة ، لمنافاته للأخبار المذكورة. فلو حمل الإنذار والحذر في الآية على الأعمّ ممّا يعتبر فيه التخويف والتخوّف وممّا لا يعتبران فيه ، لزم استعمال اللفظ في معنيين ، إذ التبليغ مع التخويف كما هو ظاهر لفظ الإنذار غير التبليغ المطلق. مع أنّ حمله على المعنى الأعمّ كاف في المقام. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأخبار المذكورة من قبيل الآحاد التي لا تصلح لصرف الآية عن ظاهرها في مثل المقام. وهو مشكل ، مع أنّا قد أسلفنا سابقا عدم اعتبار التخويف والتخوّف إلّا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد عرفت عدم صحّة حمل الآية على ذلك أو ما يشمله.

فإن قلت : سلّمنا تواترها إلّا أنّ جملة منها تدلّ على اعتبار إفادة الخبر للعلم بالمخبر به ، لورودها في معرفة الإمام عليه‌السلام ، فلا يمكن الاستناد إليها في المقام.

قلت : مقتضى الآية اعتبار خبر الواحد مطلقا ، واشتراط العلم في مسألة الإمامة ثابت من الخارج ، فلا يصحّ تخصيص الآية بما يفيد العلم مطلقا بذلك.

١٤٦

الثانية : جهة حكاية قول الإمام عليه‌السلام. ومن المعلوم أنّ الجهة الاولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلّا على من هو مقلّد له ؛ إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه. وأمّا الجهة الثانية ، فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية ، لكن وظيفته مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الإمام عليه‌السلام ، وأمّا أنّ مدلوله متضمّن لما يوجب التحريم الموجب للتخوّف أو الكراهة ، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة إلى هذا المجتهد.

فالآية الدالّة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين مختصّة بمن يجب عليه اتّباع المنذر في مضمون الحكاية وهو المقلّد له ؛ للإجماع على أنّه لا يجب على المجتهد التخوّف عند إنذار غيره. إنّما الكلام في أنّه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه‌السلام أم لا؟ والآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف. فالحقّ أنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب التقليد على العوامّ أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.

وذكر شيخنا البهائي قدس‌سره في أوّل أربعينه : أنّ الاستدلال بالنبويّ المشهور : «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» على حجّية الخبر لا يقصر عن الاستدلال عليها بهذه الآية. وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها ؛ لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدّا ، كما سيجيء إن شاء الله عند ذكر الأخبار.

هذا ولكن ظاهر الرواية المتقدّمة عن علل الفضل يدفع هذا الإيراد ، لكنّها من الآحاد ؛ فلا ينفع في صرف الآية عن ظاهرها في مسألة حجّية الآحاد ، مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ؛ لأنّ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ من كلّ صقع بحيث يكون الغالب حصول القطع من حكايتهم لحكم الله الواقعي عن الإمام عليه‌السلام ، وحينئذ فيجب الحذر عقيب إنذارهم ، فإطلاق الرواية منزّل على الغالب.

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها جماعة تبعا للشيخ في العدّة على حجّية الخبر قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ (٤٨٧) ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ

______________________________________________________

٤٨٧. الآية في سورة البقرة. والمعروف هو الاستدلال بهذه الآية ، واستدلّ

١٤٧

لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٥١). والتقريب فيه نظير ما بيّناه في آية النفر من أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار.

ويرد عليها ما ذكرنا (٤٨٨) من الإيرادين الأوّلين في آية النفر ، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلم عقيب الاظهار أو اختصاص

______________________________________________________

شارح المختصر فيما حكي عنه بآية اخرى بعدها ، وهي قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). والظاهر اشتباه الأمر عليه ، وحسبان أنّ هذه هي المستدلّ بها في المقام.

وكيف كان ، فتقريب الاستدلال ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ أنّ المرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام من الهدى والبيّنات ، فيحرم كتمانه ، فإذا حرم كتمانه يجب إظهاره ، فإذا وجب إظهاره وجب قبوله ، وإلّا لغا تحريم الكتمان.

٤٨٨. مضافا إلى أنّ الآية إنّما نزلت في اليهود حيث كانوا يكتمون ما عرفوه في التوراة من آيات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلعنهم الله تعالى بفعلهم هذا ، ولا ريب أنّ قول اليهود ليس بحجّة إلّا إذا أفاد العلم ، سيّما في مسائل الاعتقاد.

وإلى أنّ الآية إنّما تدلّ على حرمة كتمان ما بيّنه سبحانه في الكتاب خاصّة ، والمراد بالكتاب إمّا خصوص القرآن ، وإمّا مطلق الكتب السماويّة كما يشهد به نزولها في اليهود ، فحرمة الكتمان إنّما تستلزم وجوب إظهار ما بيّنه تعالى في الكتاب للناس ، ووجوب إظهاره أيضا إنّما يستلزم قبول ما بيّنه الله تعالى في الكتاب ، فوجوب القبول فرع العلم بكون ما يجب قبوله ممّا بيّنه سبحانه في كتابه. وحينئذ نقول : إنّ شمول الآية لما أخبر به العادل فرع العلم بكون ما أخبر به ممّا بيّنه تعالى في كتابه ، فلا تشمل ما لم يوجد حكمه فيه.

وإلى أنّ الكتمان يطلق ويراد به تارة مجرّد عدم إظهار الشيء ، واخرى إخفائه عن قصد. وظاهر الآية هو الثاني دون الأوّل ، كما يشهد به موردها ، حيث كان اليهود يخفون ما عرفوه في التوراة من آيات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته.

١٤٨

وجوب القبول المستفاد منها بالأمر الذي يحرم (٤٨٩) كتمانه ويجب إظهاره ؛ فإنّ من أمر غيره بإظهار الحقّ للناس ليس مقصوده إلّا عمل الناس بالحقّ ، ولا يريد بمثل هذا الخطاب تأسيس حجّية قول المظهر تعبّدا ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحقّ. ويشهد لما ذكرنا أنّ مورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما بيّن الله لهم ذلك في التوراة ، ومعلوم أنّ آيات النبوّة لا يكتفى فيها بالظنّ. نعم ، لو وجب الإظهار على من لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن جعل ذلك دليلا على أنّ المقصود العمل بقوله وإن لم يفد العلم ؛ لئلّا يكون إلقاء هذا الكلام كاللغو.

ومن هنا يمكن الاستدلال بما تقدّم : من آية تحريم كتمان ما في الأرحام على النساء على وجوب تصديقهنّ ، وبآية وجوب إقامة الشهادة على وجوب قبولها بعد الإقامة ، مع إمكان كون وجوب الإظهار لأجل رجاء وضوح الحقّ من تعدّد المظهرين.

ومن جملة الآيات التي استدلّ بها بعض المعاصرين ، قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٥٢) بناء على أنّ وجوب السؤال (٤٩٠) يستلزم وجوب قبول الجواب ؛ وإلّا لغى وجوب السؤال ، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جوابا له ؛ لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعا ،

______________________________________________________

هذا ، ويمكن دفع الأوّل بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد. والثاني بالعلم بتحقّق المناط في غير ما بيّنه الله تعالى في الكتاب أيضا ممّا هو من قبيل الهدى والبيّنات. والثالث بأنّ ظاهر لفظ الكتمان لغة هو المعنى الأوّل. نعم ، يطلق على الثاني أيضا شايعا في العرف ، إلّا أنّ الظاهر كونه حقيقة في الأوّل.

٤٨٩. أي : الأمر الواقعي الثابت من الدين.

٤٩٠. التقريب الأتمّ والأوضح أن يقال : إنّ المراد بالذكر إمّا القرآن أو العلم ، فإذا وجب سؤال أهل القرآن والعلم بحكم الآية وجب قبول قولهم وإلّا لغا وجوب السؤال ، فإذا وجب القبول على تقدير سبق السؤال وجب بدونه أيضا بالتقريب الذي ذكره. وحاصله : أنّ وجوب السؤال من باب المقدّمة للعمل بقول

١٤٩

فإذا سئل الراوي الذي هو من أهل العلم عمّا سمعه عن الإمام عليه‌السلام في خصوص الواقعة ، فأجاب بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبول بحكم الآية ، فيجب قبول قوله ابتداء : إنّي سمعت الإمام عليه‌السلام يقول كذا ؛ لأنّ حجّية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ، كما لا يخفى.

ويرد عليه أوّلا : أنّ الاستدلال إن كان بظاهر الآية ، فظاهرها بمقتضى السياق (٤٩١) إرادة علماء أهل الكتاب كما عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة ؛ فإنّ المذكور في سورة النحل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) ، وفي سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وإن كان مع قطع النظر عن سياقها ، ففيه : أنّه ورد (٤٩٢) في الأخبار المستفيضة أنّ أهل الذكر

______________________________________________________

المسئول ، فلا خصوصيّة لسبق السؤال في وجوب العمل بقوله. مضافا إلى عدم الفاصل بين المسبوق به وغيره ، وإلى أنّ السؤال عبارة عن طلب الإنسان ما يفقده عنده عن مظانّه عند الحاجة إليه ، وهو كما يصدق على سؤال الراوي شفاها ، كذلك يصدق على رجوع المجتهد إلى كتب الأخبار المأخوذة من الرواة عند الحاجة إلى استنباط الأحكام ، لكونه رجوعا إليهم في الحقيقة ، فتأمّل.

٤٩١. لأنّ ظاهرها أنّ المأمور بالسؤال هو اليهود ، والمسئول عنه هو الأنبياء السالفون من حيث كونهم بشرا أو ملائكة ، لأنّ الكفّار لمّا استبعدوا كون المبعوث من قبل الله تعالى بشرا قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) فأمرهم الله تعالى بسؤال علمائهم عن ذلك ، وأخبرهم أيضا بأنّ السنّة الجارية من الله تعالى في السلف والخلف ليست إلّا أن يكون الرسل من سنخ البشر بوحي إليهم. فقوله تعالى : (إِلَّا رِجالاً) أي : لا ملائكة. وقوله سبحانه : (أَهْلَ الذِّكْرِ) أي : العالمين بالتوراة والإنجيل من علمائهم. وقوله عزوجل : (بِالْبَيِّناتِ) متعلّق بمحذوف ، أي : أرسلناهم بالحجج الواضحة والزبر ، أي : الكتب.

٤٩٢. قد يتوهّم أنّ سؤال الإمام يصدق على سؤال الراوي عنه ، وغاية

١٥٠

هم الأئمّة عليهم‌السلام ، وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك ، وأرسله في المجمع عن عليّ عليه‌السلام. وردّ بعض مشايخنا (٥٣) هذه الأخبار بضعف السند ؛ بناء على اشتراك بعض الرواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي. وفيه نظر ؛ لأنّ روايتين منها صحيحتان ، وهما روايتا محمّد بن مسلم والوشّاء ، فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرمي حسنة أو موثّقة ، نعم ثلاث روايات أخر منها لا تخلو من ضعف ولا تقدح قطعا.

وثانيا : أنّ الظاهر (٤٩٣) من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا كما يقال في العرف : سل إن كنت جاهلا. ويؤيّده : أنّ الآية واردة في اصول الدين وعلامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعا. وثالثا : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب لا لحصول العلم منه ، قلنا : إنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام عليه‌السلام (٤٩٤) ؛ وإلّا لدلّ على حجّية قول كلّ عالم بشيء ولو من

______________________________________________________

الأمر أن يكون ذلك سؤالا بواسطة ، مضافا إلى احتمال كون تفسير أهل الذكر بالأئمّة عليهم‌السلام من باب التفسير بالفرد الأكمل. وهو ضعيف. أمّا الأوّل فلمنع الصدق. وأمّا الثاني فلاندفاعه بالحصر المستفاد من قول الباقر عليه‌السلام فيما رواه في الكافي عن العيّاشي حيث قيل له : إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أنّهم اليهود والنصارى ، قال : إذا يدعونكم إلى دينهم ثمّ قال مشيرا بيده إلى صدره : نحن أهل الذّكر ، ونحن المسئولون. وكذا من قول الصادق عليه‌السلام : «إيّانا عنى ، ونحن أهل الذكر ، ونحن المسئولون». ونحوهما صحيحة الوشّاء.

٤٩٣. يرد عليه أنّ الظاهر أنّ : قولنا إن لم تعلم كذا فاسأل فلانا ، إنّما يقال حيث ثبتت حجّية قول فلان من الخارج ، لا في مقام يطلب فيه حصول العلم للسائل من قول فلان ، والفرق بينهما واضح. فالآية على ما ذكرناه تدلّ على حجّية قول أهل العلم.

٤٩٤. لأنّ الراوي إنّما يسمّى راويا من حيث نقل ألفاظ الإمام عليه‌السلام مع قطع النظر عن فهم معناها ، ولذا لا يجب اتّباع ما فهمه منها وإن كان ما نقله حجّة ،

١٥١

طريق السمع والبصر ، مع أنّه يصحّ سلب هذا العنوان من مطلق من أحسّ شيئا بسمعه أو بصره ، والمتبادر من وجوب سؤال أهل العلم ـ بناء على إرادة التعبّد بجوابهم ـ هو سؤالهم عمّا هم عالمون به ويعدّون من أهل العلم في مثله ، فينحصر مدلول الآية في التقليد ؛ ولذا تمسّك به جماعة على وجوب التقليد على العامّي.

وبما ذكرنا يندفع ما يتوهّم : من أنّا نفرض الراوي من أهل العلم ، فإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب. حاصل وجه الاندفاع : أنّ سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي سمعوها من الإمام عليه‌السلام والتعبّد بقولهم فيها ، ليس سؤالا من أهل العلم (٤٩٥) من حيث هم أهل العلم ؛ ألا ترى أنّه لو قال : «سل الفقهاء إذا لم تعلم أو الأطبّاء» ، لا يحتمل أن يكون قد أراد ما يشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة من قيام زيد وتكلّم عمرو وغير ذلك؟

ومن جملة الآيات قوله تعالى في سورة البراءة (٤٩٦): (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٤). مدح الله عزوجل رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديقه للمؤمنين ،

______________________________________________________

فهو من هذه الحيثيّة لا يسمّى أهل العلم.

٤٩٥. الأولى أن يقال : سؤال أهل العلم ، لأنّ أهل العلم مسئولون لا مسئول عنهم.

٤٩٦. عن القمّي : «أنّ عبد الله بن نفيل كان منافقا ، وكان يقعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين ينمّ عليه ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك وينقل حديثك إلى المنافقين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من هو؟ فقال : الرجل الأسود كثير شعر الرأس ، ينظر بعينين كأنّهما قدران ، وينطق بلسانه شيطان. فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فحلف أنّه لم يفعل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد قبلت منك فلا تقع. فرجع إلى أصحابه فقال : إنّ محمّدا أذن ، أخبره الله أنّي أنمّ وأنقل أخباره فقبل ، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فأنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) الآية». وفي سبب نزولها أقوال أخر نقلها الطبرسي.

١٥٢

بل قرنه بالتصديق (٤٩٧) بالله جلّ ذكره ، فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا (٤٩٨). ويزيد تقريب الاستدلال وضوحا (٤٩٩) ما رواه في فروع الكافي

______________________________________________________

وقوله تعالى : (أُذُنُ خَيْرٍ) قرئ بالضمّ والتنوين فيهما ، وقرئ بالإضافة. والمعنى : أنّ جماعة من المنافقين يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول ، ويقولون : هو أذن ، أي : يستمع إلى ما يقال له ويصغي إليه ويقبله ، فأطلق عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله اسم العضو المخصوص مبالغة في كثرة استماعه لما يقال له ، فكأنّه لذلك صار آلة الاستماع. فردّ عليهم الله تعالى بقوله : قل يا محمّد هو أذن خير ، يستمع إلى ما هو خير لكم. قيل : وهو الوحي. وقيل : معناه يسمع الخبر ويعمل به. هذا على قراءة الإضافة. وأمّا على قراءة الضمّ والتنوين فالمعنى : أنّ كونه أذنا أصلح لكم ، لأنّه يقبل عذركم ويستمع إليكم ، ولو لم يقبل عذركم كان شرّا لكم ، فكيف تعيبونه بما هو خير لكم؟ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، يعني : لا يضرّه كونه أذنا ، فإنّه أذن خير ، فلا يقبل إلّا الخبر الصادق من الله تعالى ، ويصدّق المؤمنين فيما يخبرونه ، ويقبل منهم دون المنافقين. واللام مزيدة للتفرقة بين الإيمانين.

٤٩٧. لأنّه يشهد بكون المراد بتصديق المؤمنين تصديقا حقيقيّا كتصديقه تعالى. وقد يمنع ذلك ، لأنّ المراد بتصديقه تعالى هو التصديق الجزمي ، لعدم احتمال الخلاف فيما أخبر به تعالى ، بخلاف تصديق المؤمنين ، إذ لا بدّ أن يراد به إمّا التصديق الظاهري ، أعني : ترتيب آثار الواقع على ما أخبروا به بإلغاء احتمال خلافه ، وإمّا التصديق الصوري كما سيشير إليه ، فيختلف المعنيان في الموضعين.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الاقتران ظاهر في كون المراد بالتصديق الثاني إمّا هو المعنى المراد بالأوّل ، أو ما يقرب منه ويشابهه ، وهو التصديق الظاهري ، لا الصوري الذي لا يترتّب عليه أثر الواقع أصلا.

٤٩٨. لعدم الفاصل.

٤٩٩. في الحسن أنّه : «كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير ، وأراد رجل

١٥٣

في الحسن ب «ابراهيم بن هاشم» ، أنه كان لاسماعيل بن أبي عبد الله دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ قال : سمعت الناس يقولون ، فقال : يا بنيّ ، إنّ الله عزوجل يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ؛ فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» (٥٥).

ويرد عليه أوّلا : أنّ المراد بالاذن سريع التصديق والاعتقاد (٥٠٠) بكلّ ما يسمع ، لا من يعمل تعبّدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه ، فمدحه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك لحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم.

______________________________________________________

من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبت إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار ، أفترى أن أدفعها يبتاع لي بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس. فقال : يا بنيّ لا تفعل. فعصى أباه ودفع إليه دنانيره ، فاستهلكها ولم يأت بشيء منها. فخرج إسماعيل ، وقضى أنّ أبا عبد الله حجّ وحجّ إسماعيل تلك السنّة ، فجعل يطوف البيت وهو يقول : اللهمّ آجرني واخلف عليّ ، فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : مه يا بنيّ فلا والله ما لك على الله هذا ولا لك أن يؤجرك ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته! فقال إسماعيل : يا أبت إنّي لم أره يشرب الخمر ، إنّما سمعت الناس يقولون. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» الخبر.

٥٠٠. قد يورد عليه بأنّ هذا المعنى لا يناسب مرتبة النبوّة ، سيّما نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ سرعة الاعتقاد بكلّ ما يسمع تنشأ من عدم اعتدال المزاج ، وهو فيه لا بدّ أن يكون معتدلا.

وربّما يدفع ذلك بأنّه إنّما يلزم لو كانت سرعة الاعتقاد ناشئة من عدم الفطانة ، وإلّا فلو نشأت من حسن الظنّ بالناس وعدم اتّهامهم فهي لا تنافي اعتدال المزاج ،

١٥٤

وثانيا : أنّ المراد من التصديق (٥٠١) في الآية ليس جعل المخبر به واقعا و

______________________________________________________

كيف لا وحسن الظنّ بهم وعدم اتّهامهم في أقوالهم وأفعالهم من الصفات الحسنة.

ويضعّفه بأنّه إنّما يتمّ مع غلبة الصلاح على الزمان وأهله ، وإلّا فمع غلبة الفساد عليهم فلا حسن في حسن الظنّ بهم ، كما قال الأمير عليه‌السلام فيما رواه السيّد الرضيّ في نهج البلاغة : «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» وفي معناه أخبار أخر.

ثمّ إنّه قد يجاب عن الآية أيضا بأنّها قد نزلت في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي ليست بمعتبرة في موردها ، للإجماع على عدم اعتبار أخبار الآحاد بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تمكن تعدية الحكم منه إلينا؟

وفيه : أنّ الآية مطلقة بالنسبة إلى الإخبار عن الأحكام والموضوعات ، فهي تدلّ على اعتبار أخبار الآحاد في الموضوعات بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا ثبت ذلك في حقّه ثبت في حقّنا أيضا ، بدليل الإجماع على مشاركتنا معه فيما عدا ما اختصّ به من الأحكام بالدليل ، فإذا ثبت اعتبار أخبار الآحاد في الموضوعات في حقّنا ثبت اعتبارها في الأحكام في حقّنا ، إمّا بعدم القول بالفصل أو بالفحوى ، لأنّ جماعة من العلماء مع عدم قولهم بها في الموضوعات قالوا بها في الأحكام واحتمال كون اعتبار أخبار الآحاد في الموضوعات من خواصّه ، مندفع بأنّ خواصّه محصورة ، وليس هذا منها ، فتدبّر.

٥٠١. حاصله : أنّه مع تسليم ظهور الآية في تصديق المخبر بمعنى تنزيل المخبر به منزلة الواقع ، لا التصديق الناشئ من حسن الظنّ ، نقول : إنّ هنا صوارف عن هذا الظهور ، وهي معيّنة لكون المراد به هو التصديق الصوري :

منها : كونه أذن خير لجميع الناس كما هو مقتضى عموم الخطاب بالتقريب الذي ذكره.

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن يرد عليه أوّلا : النقض بثبوت حجّية البيّنة إجماعا ، إذ لا ريب أنّ اعتبار الشارع لها إنّما هو بملاحظة مصلحة عموم الناس ، وهو انتظام أمر معاشهم ، مع تأتّي المفسدة التي ذكرها في المقام فيها أيضا. وتوضيحه على سبيل الحلّ : أنّ مصلحة النوع ربّما تقتضي تأسيس قاعدة وتمهيد قانون ، وإن استلزم إجراء هذه القاعدة بعض المفاسد الشخصيّة في بعض الموارد ، إلّا أنّه لا يعارض المصلحة العامّة ، بل هو ليس بمفسدة بعد مزاحمته بما هو أقوى منه ، ومن هذا القبيل اعتبار البيّنة شرعا. ومن هنا يظهر عدم تماميّة الاستشهاد المذكور ، إذ الظاهر من قوله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) إرادة كونه خيرا بالنسبة إلى عموم المكلّفين لا بالنسبة إلى خصوص أشخاصهم ، وقد عرفت أنّ المفسدة الشخصيّة لا تعارض المصلحة النوعيّة. ومن هنا يظهر سقوط التأييد بما نقله من تفسير العياشي.

وثانيا : أنّ المفسدة التي ذكرها على تقدير كون المراد بالتصديق هو التصديق الحقيقي واردة على تقدير إرادة التصديق الصوري أيضا ، لأنّه إذا أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زيدا بأنّ عمرا نهب أمواله وهتك عرضه ، فإذا لم يصدّقه إلّا بحسب الصورة وكان زيد صادقا في دعواه في الواقع لم يكن خيرا له ، إلّا أن يقال : إنّ المفسدة هنا مترتّبة على عدم تصديقه حقيقة لا على تصديقه صورة.

ومنها : ما نقله عن تفسير العيّاشي وقد عرفت الحال فيه.

ومنها : ما نقله عن القمّي. وقوله : «وهذا التفسير صريح ...» لا يخلو عن منع. نعم ، هو صريح في عدم إرادة الإيمان الحقيقي خاصّة.

ومنها : العدول من الباء إلى اللام في قوله سبحانه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنّه ظاهر في كون تصديقه للمؤمنين بملاحظة نفعهم لا على وجه الحقيقة كما في تصديقه سبحانه.

وفيه : أنّ تغيير الأسلوب كما يمكن أن يكون لأجل ما ذكره من مغايرة معنى التصديق بالله تعالى وللمؤمنين ، بإرادة الحقيقي بالأوّل والصوري بالثاني ،

١٥٦

ترتيب جميع آثاره عليه ؛ إذ لو كان المراد به ذلك لم يكن اذن خير لجميع الناس ؛ إذ لو أخبره أحد بزنا أحد أو شربه أو قذفه أو ارتداده ، فقتله النبيّ أو جلده ، لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبر عنه ، بل كان محض الشّر له ، خصوصا مع عدم صدور الفعل منه في الواقع. نعم ، يكون خيرا للمخبر من حيث متابعة قوله وإن كان منافقا مؤذيا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يقتضيه الخطاب في «لكم» ؛ فثبوت الخير لكلّ من المخبر

______________________________________________________

كذلك يمكن أن يكون لأجل مغايرتهما بإرادة التصديق الجزمي بالأوّل والظاهري بالثاني كما أسلفناه سابقا. وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ المؤيدات المذكورة كلّها لا تخلو عن نظر.

نعم ، ربّما يؤيّد ما ذكره أوّلا : أنّ ظاهر الآية وجوب تصديق آحاد جميع المؤمنين ، كما هو قضيّة الجمع المعرّف المفيد للعموم الاصولي ، فيلزم أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مصدّقا للموافق منهم والمنافق ، والعادل منهم والفاسق ، والمتجاهر منهم بالفسق والمستتر به ، وهو واضح البطلان ، ومناف لصريح آية النبأ. والبناء على خروج ما أخرجه الدليل بناء على كون العام المخصّص حجّة فيما بقي منه ، مندفع بأنّ الآية من حيث ورودها في مقام الامتنان على العباد ، ببيان كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رءوفا ورحيما بالمؤمنين ومصدّقا لهم وكون ذلك خيرا لهم ، آبية عن التخصيص ، فلا بدّ أن يراد معنى يشمل الجميع. مضافا إلى أنّه مستلزم لتخصيص الأكثر ، وهو مستهجن عرفا ، إذ لا بدّ حينئذ من إخراج المنافقين والفسّاق من العموم ، وهم أكثر المؤمنين ، بل لا بدّ من إخراج العدول أيضا بالنسبة إلى موارد الشهادة كما هو الغالب في الإخبار عن الموضوعات ، لعدم اعتبار قول العدل الواحد في مواردها إجماعا ، واعتباره في الجملة ولو بضمّ مثله إليه ليس تصديقا له على الحقيقة ، إذ ظاهر الآية تصديق كلّ واحد من المؤمنين وترتيب آثار الصدق عليه بانفراده لا بضمّه إلى غيره ، بل لا بدّ من إخراج العدول في إخبارهم عن الأحكام بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ضرورة عدم حجّية أخبار الآحاد بالنسبة إليه ، فلا يبقى تحت العموم إلّا أقلّ قليل من الموارد ، من إخبار ذي اليد عن طهارة

١٥٧

والمخبر عنه لا يكون إلّا إذا صدّق المخبر ، بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأسا ، مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلى المخبر عنه ، فإن كان المخبر به ممّا يتعلّق بسوء حاله لا يؤذيه في الظاهر ، لكن يكون على حذر منه في الباطن ، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية اسماعيل المتقدّمة. ويؤيّد هذا المعنى ما عن تفسير العياشيّ عن الصادق عليه‌السلام : من أنّه يصدّق المؤمنين ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رءوفا رحيما بالمؤمنين ؛ فإنّ تعليل التصديق بالرأفة والرحمة على كافّة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم على الآخر بحيث يرتّب عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه وقوعه ؛ إذ مع الإنكار لا بدّ من تكذيب أحدهما ، وهو مناف لكونه (أُذُنُ خَيْرٍ) ورءوفا رحيما لجميع المؤمنين ، فتعيّن إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا.

ويؤيّده أيضا ما عن القمّي رحمه‌الله في سبب نزول الآية : «أنّه نمّ منافق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبره الله بذلك ، فأحضره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله ، فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه ، فقبل منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إنّه يقبل كلّ ما يسمع ، أخبره الله أنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبل ، وأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فردّه الله تعالى بقوله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)» (٥٦). ومن المعلوم أنّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقا. وهذا التفسير صريح في أنّ المراد من «المؤمنين» : المقرّون بالإيمان من غير اعتقاد ، فيكون الإيمان لهم على حسب إيمانهم. ويشهد بتغاير معنى الإيمان في الموضعين ـ مضافا إلى تكرار لفظه ـ : تعديته في الأوّل بالباء وفي الثاني باللام ، فافهم.

______________________________________________________

ما في يده أو نجاسته ونحو ذلك.

وثانيا أنّ ضمير الخطاب في قوله تعالى : (خَيْرٍ لَكُمْ) يشمل مؤذي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا وجه لتصديقه للمؤذين له على وجه الحقيقة ، بترتيب آثار الصدق على إخبارهم إذ أخبروا عن مثل القتل والارتداد مثلا ، فلا بدّ من حمل التصديق في الآية إمّا على التصديق الناشئ من حسن الظنّ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب الأوّل ، وإمّا على التصديق الصوري كما أشار إليه في الجواب الثاني.

١٥٨

وأمّا توجيه الرواية (٥٠٢) فيحتاج إلى بيان (٥٠٣) معنى التصديق ، فنقول : إنّ المسلم إذا أخبر بشيء فلتصديقه معنيان : أحدهما : ما يقتضيه أدلّة تنزيل (*) فعل المسلم على الصحيح والأحسن ؛ فإنّ الإخبار من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه ما كان مباحا ، وفاسده ما كان نقيضه كالكذب والغيبة ونحوهما ، فحمل الإخبار على الصادق حمل على أحسنه. والثاني : هو حمل إخباره من حيث إنّه لفظ دالّ على معنى يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ، على كونه مطابقا للواقع وترتيب آثار الواقع عليه.

و (**) المعنى الثاني هو الذي يراد من العمل بخبر العادل. وأمّا المعنى الأوّل فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن ، وهو ظاهر الأخبار الواردة في أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن يصدّقه ولا يتّهمه ، خصوصا مثل قوله عليه‌السلام : «يا أبا محمد ، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون

______________________________________________________

٥٠٢. أي : رواية الكافي التي قرّب بها الاستدلال بالآية.

٥٠٣. يمكن أن يقال أيضا : إنّه إذا ثبت بما ذكره تعيّن حمل التصديق في الآية على التصديق الصوري ، تعيّن حمله عليه في الرواية أيضا ، بقرينة استشهاد الإمام عليه‌السلام الآية فيها.

مضافا إلى أنّه لو كان المراد بالتصديق في الرواية ترتيب آثار الواقع على المخبر به لزم إجراء حدّ شرب الخمر الثابت بأخبار الآحاد على الرجل القرشي ، وهو خلاف الإجماع ، فلا تكون حجّة في موردها ، مع قيام الإجماع على عدم جواز تخصيص المورد. ومن هنا يظهر ضعف ما تخيّله بعض فضلاء السادة في محكيّ مفتاح الكرامة ، من استنهاض الرواية لحجّية خبر العدل مطلقا حتّى في الموضوعات ، ردّا على من ادّعى عدم وجود دليل عليه.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تنزيل» ، حمل.

(**) في بعض النسخ زيادة : الحاصل أنّ.

١٥٩

قسامة (٥٠٤) : أنّه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذّبهم ...». فإنّ تكذيب القسامة (٥٠٥) مع كونهم أيضا مؤمنين ، لا يراد منه إلّا عدم ترتيب آثار الواقع على

______________________________________________________

٥٠٤. حكى الطريحي عن المصباح : «أنّه قد تكرّر ذكر القسامة بالفتح ، وهي الأيمان تقسّم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم ، يقال : قتل فلان بالقسامة ، إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل وادّعوا على رجل أنّه قتل صاحبهم ، ومعهم دليل دون البيّنة ، فحلفوا خمسين يمينا أنّ المدّعى عليه قتل صاحبهم ، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمّون قسامة» ، انتهى. والمراد بها هنا ـ كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله في مبحث الاستصحاب ـ هي البيّنة.

٥٠٥. حاصله : أنّ المراد بتكذيب القسامة ليس المعنى المقابل للمراد بتصديق الأخ المشهود عليه ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح ، لأنّه تصديق الواحد وتكذيب المتعدّد. وحيث كان المراد بتكذيبهم عدم ترتيب آثار الواقع على خبرهم الذي هو المقابل للمعنى الثاني للتصديق ، فلا بدّ أن يكون المراد بتصديقه هو المعنى الأوّل.

وأنت خبير بأنّه يمكن أن يؤخذ لكلّ من التكذيب والتصديق معنى يقابل الآخر ، بأن يحمل التصديق على معنى مطابقة الواقع المستلزم لتكذيب القسامة بمعنى المخالفة له ، مع حمل خبر القسامة على الصدق بمعنى المطابقة لاعتقادهم ، إذ لا منافاة بين تكذيبهم وتصديقهم بهذا المعنى ، فيتقابل التكذيب والتصديق حينئذ في الرواية ، ولا يلزم منه ترجيح المرجوح. وهذا المعنى يظهر من المصنّف رحمه‌الله في مبحث الاستصحاب عند التعرّض لقاعدة حمل فعل المسلم على الصحّة.

ثمّ إنّهم قد استدلّوا في المقام بآيات أخر ، منها قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). واستدلّ به العلّامة في النهاية ، وقال : «أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب ، والمخبر عن الرسول قائم بالقسط شاهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنّما يكون واجبا إن كان القبول واجبا ، وإلّا فوجوب الشهادة كعدمها» انتهى.

١٦٠