موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ١

الدكتور سميح دغيم

موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الدكتور سميح دغيم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة لبنان ناشرون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

(ما) لا صفة له زائدة على حسنه ، وهو الذي يسمّى مباحا ، من حيث عرف فاعله أنّه لا مضرّة عليه في فعله ، ولا في ألّا يفعل ، ولا يستحقّ به المدح ، وما هذا حاله لا مدخل له في التكليف ، كما لا مدخل له فيه الواقع من الساهي ، وعلى حدّ الإلجاء. والضرب الثاني : ما يختصّ بصفة زائدة على حسنه ، تقتضي دخوله في أن يستحقّ به المدح. وهذا على ضربين : أحدهما يحصل كذلك لصفة تخصّه ، والآخر لأنّه يسهّل فعل غيره من الواجبات ، فالأوّل كالإحسان والتفضّل ، واجتلاب المنفعة لنفسه ، والثاني كالنوافل الشرعيّة ، ويدخل فيه النهي عن المنكر من جهة العقل ، ويدخل فيه مدح من فعل الواجب ، لأنّ ذلك مما لا يجب على أهل العقول ، كما يلزمهم الفصل بين المحسن والمسيء ، لأنّ هناك إنّما وجب الفصل لأمر يتعلّق به ، وليس كذلك حال الوجه الأوّل (ق ، غ ١٤ ، ١٧١ ، ١٢)

ـ الإعادة في نفسها عظيمة ولكنّها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل الضمير في عليه للخلق ، ومعناه أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء لأنّ تكوينه في حدّ الاستحكام والتمام أهون عليه وأقل تعبا وكبدا ، من أن يتنقّل في أحوال ويتدرّج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ ، وقيل الأهون بمعنى الهيّن. ووجه آخر وهو أنّ الإنشاء من قبيل التفضّل الذي يتخيّر فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله لأنّها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والإفعال إمّا محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور ، وإمّا ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة ، وإمّا تفضّل ، والتفضّل حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله ، وإمّا واجب لا بدّ من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكأنّ الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول ، فلمّا كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع ، وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتي والتسهّل ، فكانت أهون منها ، وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء (ز ، ك ٣ ، ٢٢١ ، ٦)

ـ اتّفقوا (المعتزلة) على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة ، استحقّ الثواب والعوض. والتفضّل معنى آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها ، استحقّ الخلود في النار ، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار. وسمّوا هذا النمط : وعدا ووعيدا (ش ، م ١ ، ٤٥ ، ١٥)

ـ التفضّل هو اتّصال منفعة خاصّة إلى الغير من غير استحقاق يستحقّ بذلك حمدا وثناء ومدحا وتعظيما ، ووصف بأنّه محسن مجمل ، وإن لم يفعله لم يستوجب بذلك ملاما وذمّا (ش ، ن ، ٤٠٦ ، ١٠)

ـ الدرجات جمع درجة وهي الطبقات والمراتب ويقال لها درجات في الجنّة ودركات في النار ، وإنّما تفاضلت وتفاوتت بحسب الأعمال ، ولا يجوز أن يقع ذلك تفضّلا لأنّ التفضّل بالثواب قبيح ، فإن قلت فما قولك في الحور والولدان والأطفال والمجانين قلت ، يكون الواصل إليهم نعيما ولذّة لا شبهة في ذلك ، ولكن لا ثواب لهم ولا ينالونه (أ ، ش ٢ ، ١٢١ ، ٢١)

تفضّل مبتدأ

ـ قد علمنا أنّه لا يجوز وجوب النظر والمعرفة

٣٤١

لأجل بقاء النعم ، لأنّ القديم ، تعالى ، متفضّل بتبقية النعم عليه. ولا يستحقّ ذلك بالنظر والمعرفة ، بل هو تفضّل مبتدأ. فإذا لم يصحّ ذلك ، لم يصحّ أن يستحقّ زوالها بترك النظر والمعرفة (ق ، غ ١٢ ، ٤٣٠ ، ١٣)

تفضيل

ـ أمّا التفضيل فإيذان بأنّ السيئ الذي يفرط منهم من الصغائر والزلّات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه (ز ، ك ٣ ، ٣٩٨ ، ٢٠)

تفكّر

ـ النظر مشترك. والمراد به هنا إجالة الخاطر في شيء لتحصيل اعتقاد. ويرادفه التفكّر المطلوب به ذلك. وهو صحيح وفاسد. والأوّل : ما يتبع به أثر ، نحو التفكّر في المصنوع ليعرف الصانع. والثاني : ما كان راجحا بغيب ، نحو التفكّر في ماهيّة الروح ، وذات الباري تعالى (ق ، س ، ٥٤ ، ١٥)

تقابل ضدين

ـ أمّا المتقابلان : فهما ما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة. وهذا إمّا أن يكون في اللفظ أو في المعنى. فإن كان في المعنى فإمّا أن يكون بين وجود وعدم ، أو بين وجودين ؛ إذ الأعدام المحضة لا تقابل بينها. فإن كان القسم الأوّل فهو تقابل السلب والإيجاب وذلك كقولنا الإنسان فرس ، الإنسان ليس بفرس وهو مما يستحيل اجتماع طرفيه في الصدق أو الكذب. وإن كان من القسم الثاني ، فإمّا أن لا يعقل واحد منهما إلّا مع تعقّل الآخر أو ليس : فإن كان الأول فيسمّى تقابل المتضايفين ، وذلك كما في الأبوّة والبنوّة ونحوهما. ومن خواص هذا التقابل ارتباط كل واحد من الطرفين بالآخر في الفهم ، وإن كان الثاني فيسمّى تقابل الضدّين ، وذلك كالتقابل الواقع بين السواد والبياض ونحوه. ومن خواص هذا التقابل جواز انتقال طرفيه بالحركة إلى واسطة تكون بينهما (م ، غ ، ٥٠ ، ١٦)

تقابل العدم والملكة

ـ أمّا المتقابلان : فهما ما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة. وهذا إمّا أن يكون في اللفظ أو في المعنى. فإن كان في المعنى فإمّا أن يكون بين وجود وعدم ، أو بين وجودين ؛ إذ الأعدام المحضة لا تقابل بينها. فإن كان القسم الأوّل فهو تقابل السلب والإيجاب وذلك كقولنا الإنسان فرس ، الإنسان ليس بفرس وهو مما يستحيل اجتماع طرفيه في الصدق أو الكذب. وإن كان من القسم الثاني ، فإمّا أن لا يعقل واحد منهما إلّا مع تعقّل الآخر أو ليس : فإن كان الأول فيسمّى تقابل المتضايفين ، وذلك كما في الأبوّة والبنوّة ونحوهما. ومن خواص هذا التقابل ارتباط كل واحد من الطرفين بالآخر في الفهم ، وإن كان الثاني فيسمّى تقابل الضدّين ، وذلك كالتقابل الواقع بين السواد والبياض ونحوه. ومن خواص هذا التقابل جواز انتقال طرفيه بالحركة إلى واسطة تكون بينهما. وأمّا إن كان من القسم الثالث فيسمّى تقابل العدم والملكة ، والمراد بالملكة هاهنا كل قوّة على شيء ما مستحقّة لما قامت به إمّا لذاته أو لذاتيّ له. وذلك كما في قوة السمع

٣٤٢

والبصر ونحوه للحيوان ، والمراد بالعدم هو رفع هذه القوّة على وجه لا تعود ، وسواء كان في وقت إمكان القوى عليه أو قبله ، وذلك كما في العمى والطرش ونحوه للحيوان (م ، غ ، ٥٠ ، ١٨)

تقابل متضايفين

ـ أمّا المتقابلان : فهما ما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة. وهذا إمّا أن يكون في اللفظ أو في المعنى. فإن كان في المعنى فإمّا أن يكون بين وجود وعدم ، أو بين وجودين ؛ إذ الأعدام المحضة لا تقابل بينها. فإن كان القسم الأوّل فهو تقابل السلب والإيجاب وذلك كقولنا الإنسان فرس ، الإنسان ليس بفرس وهو مما يستحيل اجتماع طرفيه في الصدق أو الكذب. وإن كان من القسم الثاني ، فإمّا أن لا يعقل واحد منهما إلّا مع تعقّل الآخر أو ليس : فإن كان الأول فيسمّى تقابل المتضايفين ، وذلك كما في الأبوّة والبنوّة ونحوهما. ومن خواص هذا التقابل ارتباط كل واحد من الطرفين بالآخر في الفهم (م ، غ ، ٥٠ ، ١٥)

تقبيح

ـ قول إبراهيم (النظّام) : إنّ المعصية والكفر بالعبد كانت معصية وكفرا ، وإنّما كان بالله التقبيح للمعصية والكفر وهو الحكم بأنّهما قبيحان (خ ، ن ، ٢٩ ، ٢٢)

ـ في تحسين العقل وتقبيحه : إنّ العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع ، وعليه يعلم أنّه إن قصر ولم يعرفه ولم يشكره عاقبه عقوبة دائمة ، فأثبتنا التخليد واجبا بالعقل (ش ، م ١ ، ٧٠ ، ٦)

ـ في بيان أنّ العقل لا مجال له في أن يحكم في أفعال الله تعالى بالتحسين والتقبيح. أعلم أنّه لمّا ثبت أنّه لا معنى للتحسين والتقبيح إلّا جلب المنافع ودفع المضار ، فهذا إنّما يعقل ثبوته في حق من يصحّ عليه النفع والضرر ، فلمّا كان الإله متعاليا عن ذلك امتنع ثبوت التحسين والتقبيح في حقّه. فإن أراد المخالف بالتحسين والتقبيح شيئا سوى جلب المنافع ودفع المضارّ ، وجب عليه بيانه حتى يمكننا أن ننظر أنّه هل يمكن إثباته في حق الله تعالى أم لا ، فهذا هو الحرف الكاشف عن حقيقة هذه المسألة (ف ، أ ، ٦٧ ، ٩)

تقدّم

ـ إنّ التقدّم والتأخّر والمع يطلق على الشيئين إذا كانا متناسبين نوعا من المناسبة ، ولا نسبة بين الباري تعالى وبين العالم إلّا بوجه الفعل والفاعليّة ، والفاعل على كل حال متقدّم والمفعول متأخّر (ش ، ن ، ٢٢ ، ١٤)

ـ قال (الشهرستاني) في معرض الحكاية عن القوم في أقسام التقدّم والتأخّر ومعا : إنّ التقدّم قد يطلق ويراد به التقدّم بالزمان ، كتقدّم آدم على إبراهيم ، وقد يطلق ويراد به التقدّم بالشرف كتقدّم العالم على الجاهل ، وقد يطلق ويراد به التقدّم بالرتبة كتقدّم الإمام على الصف في جهة المحراب إن جعل مبدأ ، وقد يطلق ويراد به التقدّم بالطبع كتقدّم الواحد على الاثنين ، وقد يطلق ويراد به التقدّم بالعلّية كتقدّم الشمس على ضوئها ، وتقدّم حركة اليد على حركة الخاتم ونحوه. ثم زعم أنّ هذه الأقسام مما لا دليل على حصرها ، ولا ضبط لعددها ، حتى إنّه زاد قسما سادسا وهو التقدّم بالوجود ،

٣٤٣

من غير التفات إلى الزمان أو المكان أو الشرف أو الطبع أو العلّية ، فقال : لا يبعد تصوّر شيئين وجود أحدهما لذاته ، ووجود الآخر من غيره ، ثم ننظر بعد ذلك هل استفاد وجوده منه طبعا أو ذاتا أو غير ذلك ، وعلى هذا النحو أقسام التأخّر ومعا (م ، غ ، ٢٥٨ ، ٦)

تقدّم الإرادة للمراد

ـ أمّا جواز تقدّم الإرادة للمراد فواضح ، لأنّ الواحد منّا يعلم من نفسه أنّه يريد الفعل في المستقبل ويعزم على ذلك ، ويريد المسبّب أيضا في حال السبب ، ويريد جملة الحروف في حال وجود الحرف الأول ، ويعزم على إذا ما يلزمه في المستقبل (ق ، غ ٦ / ٢ ، ٩٠ ، ٤)

تقدّم العلة على المعلول

ـ ما الذي عنيت بتقدّم العلّة على المعلول. قلنا : العقل ما لم يفرض المؤثّر وجودا استحال أن يحكم عليه بكونه مؤثّرا في الغير ، ومرادنا من التقدّم هذا القدر (ف ، م ، ١١٣ ، ١٥)

تقدّم القدرة

ـ إنّا إمّا أن نفعل الفعل مباشرا أو متولّدا. وعلى كل حال فتقدّم كوننا قادرين لكوننا فاعلين واجب. وإذا كان هذا الفاعل لا يبقى في الثاني من حال وجوده ، فكيف يصحّ أن يفعل في الحال ، وكونه قادرا يجب تقدّمه من قبل؟ ويبيّن هذا أنّا إذا فعلنا الشيء مباشرا فيجب أن يكون حالّا فينا ، فإذا فعلناه متولّدا عن سبب ، فيجب في ذلك السبب أن يوجد فينا ، وإن كان حال المسبّب يختلف : فمرّة يوجد فينا ومرّة يوجد في غيرنا ، وعلى الحالات كلها يلزم تقدّم القدرة ليصحّ الفعل بها في الثاني ، فإذا كان في الثاني من وجود القدرة قد عدم المحل ، فكيف يصحّ الفعل بها؟ وهل هذا إلّا إيجاب لصحّة الفعل في محل معدوم؟ ولا يبطل هذا بما نجوّزه في المتولّد أنّه يوجد بعد موت الفاعل ، لأنّ موته لا يخرج المحل من أن يصحّ وجود الفعل فيه لأنّه باق ، والقول بوجوب تقدّم القدرة اقتضى أن نقول بصحّة وجود الفعل وإن مات ، كما اقتضى أن يلزمهم صحّة وجود الفعل في محل معدوم (أ ، ت ، ١٤٩ ، ٨)

تقدّم وتأخّر

ـ إنّ الله تعالى خلق الناس والبهائم وسائر الحيوان وأصناف النبات والجواهر المعدنية كلّها في وقت واحد ، وإنّ خلق آدم عليه‌السلام لم يتقدّم على خلق أولاده ، ولا تقدّم خلق الأمهات على خلق الأولاد ، وزعم أنّ الله تعالى خلق ذلك أجمع في وقت واحد ، غير أنّ أكثر الأشياء بعضها في بعض ، فالتقدّم والتأخّر إنّما يقع في ظهورها من أماكنها .... وقول النظام بالظهور والكمون في الأجسام وتداخلها شرّ من قول الدهريّة الذين زعموا أنّ الأعراض كلّها كامنة في الأجسام ، وإنّما يتعيّن الوصف على الأجسام بظهور بعض الأعراض وكمون بعضها (ب ، ف ، ١٤٢ ، ٩)

تقدير

ـ قال" شيطان الطاق" إنّ الله لا يعلم شيئا حتى يؤثّر إثره ويقدّره والتأثير عندهم [التقدير] والتقدير الإرادة ، فإذا أراد الشيء فقد علمه ، وإذا لم يرده فلم يعلمه ، ومعنى أراده عندهم أنه تحرّك حركة هي إرادة ، فإذا تحرّك تلك الحركة

٣٤٤

علم الشيء وإلّا لم يجز الوصف له بأنّه عالم به ، وزعموا أنّه لا يوصف بالعلم بما لا يكون (ش ، ق ، ٢٢٠ ، ١)

ـ إذ كان الله جلّ ثناؤه موصوفا بالعلم والقدرة والجبروت والحياة لذاته ؛ لإحالة احتمال الأغيار ، وإن لم / يوجد في الحكماء كذلك ، لم يجب تقديره في أفعاله على أفعال الحكماء في الشاهد. وجملة هذا الأصل أنّه لا حكيم في الشاهد إلّا وهو محتمل للسفه ، وكذلك الغنيّ والقدير يحتمل لأضداد تلك الصفات ، وكان بها موصوفا حتى أكرم بأضدادها ، فإنّه له منها قدر ما أعطي منها ، فهو متى رأى السفه في شيء بين أن يكون قد أعطى علم حقيقة الحكمة في ذلك أو لا ، أو بلغ علمه ما يدرك حكمته أو لا ، أو مما كان من صفته القديمة باقية فيه يمنع ذلك إيّاه عن الإحاطة بذلك ؛ فلذلك تبطل وجه دعوى العبد في فعل الله أن ذا ليس بحكمة ولا كذا (م ، ح ، ٢٢٠ ، ٦)

ـ اعلم أنّ التقدير ربما يقوم مقام التحقيق وذلك مثل ما نحن فيه ، وربما لا يقوم مقامه ، وذلك كتقدير وقوع الظلم من جهة الله تعالى فإنّه لا يقوم مقام الوقوع ، إذ لو وقع من الله تعالى الظلم حقيقة لدلّ على الجهل والحاجة ، وليس كذلك إذا هو قدّر وقوعه من قلبه ، فالوجه في ذلك أن يحال السؤال ويقال : خطأ قول من يقول : إنّه يدلّ على الجهل والحاجة ، وخطأ قول من يقول إنّه لا يدلّ عليه ، فهذه هي الدلالة العقليّة (ق ، ش ، ٢٨٣ ، ١٣)

ـ قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدلّ على أنّه لا شيء إلّا وهو المقدّر له : كان من فعله أو من فعل العباد ، فقال : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (الرعد : ٨). والجواب عن ذلك : أن ظاهره إنما يدلّ على أن كل شيء يعلم مقداره وما يختصّ به ؛ لأن المراد بقوله : (عِنْدَهُ) (الرعد : ٨) في هذا المكان : في علمه ، وصدر الكلام يدلّ عليه ، لأنّه قال تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) (الرعد : ٨) ثم عطف على ذلك ، فقال : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (الرعد : ٨) ليبيّن أنّ ما ذكره وما لم يذكره من الأمور سواء في أنّه تعالى يعلم مقداره ، وأن علمه لا يختصّ بمعلوم دون معلوم .... وبعد ، فلو أراد بذلك أنّه قدّره لوجب حمله على أنّه بيّن أحواله ؛ لأنّ" التقدير" في اللغة قد يتناول في الظاهر ذلك ، فمن أين أنّ المراد به الخلق؟ ومتى حملنا الكلام على أنّ المراد به العلم والبيان وفينا العموم حقّه ؛ لأنّا نجعله متناولا للمعدوم والموجود ، والماضي والحاصل ، ومتى حمل على ما قالوه وجب تخصيصه ، وألّا يتناول إلّا الموجود ، فالذي قلناه أولى بالظاهر (ق ، م ٢ ، ٤٠٥ ، ١١)

ـ قالوا : ثم ذكر تعالى فيها ما يدلّ على أنّه الخالق لكل شيء والمقدّر له ، فقال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان : ٢). والجواب عن ذلك قد تقدّم في سورة الأنعام ، وبيّنا أنّ ذلك لا يدلّ على خلقه أفعال العباد ؛ من جهات ، وأنّ ظاهره في اللغة يقتضي أنّه قد قدّر كل شيء ، وذلك مما لا نأباه في أفعال العباد ، لأنّه تعالى قد قدّرها وبيّنها. ودللنا على أنّ ظاهر التقدير في اللغة ليس هو الخلق ، ولا يفيد ذلك أنّ المقدّر من الفعل المقدور ، وبيّنا ذلك بقول الشاعر : وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى فأثبته خالقا ونفى عنه

٣٤٥

القطع الذي هو الفعل. وقوله تعالى في هذه الآية : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان : ٢) يدلّ على أنّ هذا هو المراد بالخلق ، على ما ذكرناه. وبعد ، فإنّ التقدير إنّما يصحّ في الأجسام ؛ لأنّها التي يظهر فيها اختلاف الأشكال ولذلك كثر ذكر الخلق في الأديم دون غيره. فإذا صحّ ذلك وجب حمل الآية على أنّه خلق الأجسام وقدّرها على ما أراده ، ولهذا ذكر هذا عقيب قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف : ١٥٨) فأراد أن يدلّ على أنّه المختصّ بالأمور التي توجب العبادة ، ليبيّن أنّه لا إله سواه ، ولذلك قال بعده : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) (الفرقان : ٣) وإنّما يتعلّق الأول به متى حمل على ما ذكرناه ولذلك قال (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان : ٣) منبّها بذلك على أن ما ادّعوه إلها لا يصحّ منه الخلق ، وكل ذلك واضح (ق ، م ٢ ، ٥٢٨ ، ٧)

ـ " مشايخنا" وإن اتّفقوا في أنّ المخلوق هو المقدّر فقد اختلفوا في أنّ هذا التقدير هل هو معنى أم لا. فنفى" أبو علي" أن يكون معنى وأوجب أن يكون المراد به إيقاع الفعل على وجه مخصوص وهو الصحيح. وقال" أبو هاشم" : بل لا بدّ من معنى يشتقّ منه قولنا" مخلوق". ثم جعل ذلك المعنى إرادة ، ووصف أفعال الله تعالى من جهة اللغة بأنّها مخلوقة ما خلا الإرادة والكراهة ، ولكنّ السمع أوجب أن يوصف الكلّ بذلك فوصفها به. وقال الشيخ" أبو عبد الله" : بل التقدير الذي هو الخلق يرجع به إلى فكر ولو لا ورود السمع لكنا لا نجري على أفعال الله لفظ الخلق (ق ، ت ١ ، ٣٤٦ ، ١٥)

ـ إن قال : فما الطريق الذي به تعرفون في فعل الساهي إنّه فعله؟ قلنا : إنّا نعرفه فعلا له بتقدير الدواعي ، فنفارق فعل غيرنا لأنّك تقول : هذا الساهي قد وقع هذا الفعل منه على حدّ لو كان عالما كان لا يقع إلّا مطابقة لداعيه ، فيقوم التقدير في ذلك مقام التحقيق. ألا ترى أنّ فعل غيره لمّا لم يكن حادثا من جهته لم يصحّ أن يقدر هذا الوجه فيه ، فعرفنا أنّ فعله يختصّ به على ما نقوله وغير ممتنع أن يقوم التقدير مقام التحقيق في مواضع. فعلى هذا نعرف أنّ زيدا قادر إذا عرفنا أنّه لو حاول الفعل لوقع منه ، كما نعرفه قادرا لو وقع منه الفعل. وكذلك في كونه عالما (ق ، ت ١ ، ٣٦٠ ، ١١)

ـ إنّ شيخنا أبا هاشم رحمه‌الله جوّز أن يخلق الإنسان فعل غيره ، ويوصف بأنّه خالق لفعل غيره ، على ما ذكرناه في الأديم ؛ لأنّه وإن كان من فعل الله سبحانه ؛ فالمقدّر له يوصف بأنّه خالق له. وجوّز أن يوصف زيد وعمرو بأنّهما خلقا الأديم ، إذا قدّراه ، وقال : لا يوصف المعدوم بذلك وإن قدّره المقدّر ، لأنّ التقدير إذا تعلّق بالموجود يسمّى خلقا ، وإذا تعلّق بالمعدوم لا يسمّى بذلك. كما أنّ الإرادة متى تعلّقت بالمعدوم يصحّ أن يسمّى عدما ، ومتى تعلّقت بالموجود لم يسمّ بذلك (ق ، غ ٧ ، ٢٢٠ ، ٧)

ـ إن قيل : أليس الله جلّ وعزّ قد قال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان : ٢) و (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس : ١٧ ـ ١٨ ـ ١٩) ففرّق بين الخلق والتقدير ، فدلّ على أنّ الخلق هو الإنشاء والإبداع ، والتقدير ، وهو الانتهاء إلى المقدار الكافي؟. قيل له : لا يمتنع أن يكون الخلق والتقدير واحدا ، وإن ذكرهما كما قال سبحانه

٣٤٦

وتعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يس : ٦٩) فكما وجب حملهما على أنّ المراد بهما أمر واحد ، فكذلك القول في الخلق والتقدير لما دللنا عليه (ق ، غ ٧ ، ٢٢١ ، ٣)

ـ لكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء وهو الله تعالى ، ولقد دلّ بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته أنّ إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبّر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانيّة ، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيرا ومصلحة لأجابهم إليه (ز ، ك ٢ ، ٣٥٠ ، ٢١)

ـ فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (الحجر : ٦٠) والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمّن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسّر العلماء تقدير أعمال العباد بالعلم. فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير وهو لله وحده إلى أنفسهم ولم يقولوا قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم كما يقول خاصّة الملك دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبّر والآمر هو الملك لا هم ، وإنّما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنّهم لا يتميّزون عنهم. وقرئ قدرنا بالتخفيف (ز ، ك ٢ ، ٣٩٤ ، ٦)

ـ القدر والقدر والتقدير وقرئ بهما : أي خلقنا كل شيء مقدّرا محكما مرتّبا على حسب ما اقتضه الحكمة ، أو مقدّرا مكتوبا في اللوح معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه (ز ، ك ٤ ، ٤١ ، ٢٢)

ـ قرئ قوارير من فضة بالرفع على هي قوارير (قَدَّرُوها) (الإنسان : ١٦) صفة لقوارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنّهم قدّروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا (ز ، ك ٤ ، ١٩٨ ، ١٦)

ـ التقدير عنده (شيطان الطاق) الإرادة ، والإرادة فعله تعالى (ش ، م ١ ، ١٨٦ ، ١٩)

تقديم

ـ قد ثبت أنّ القادر منّا يستحيل أن يعيد ما يبقى من مقدوراته ؛ لأنّه لو صحّ أن يعيده لأدّى إلى أن يجوز أن يفعل بالقدرة في هذا الوقت سائر مقدوراتها المتقدّمة ، أو يعدم سائر مقدوراتها المتأخّرة ؛ لأنّ التقديم والتأخير في المعنى كالإعادة ، وتجويز ذلك يؤدّي إلى أن يصحّ من الضعيف حمل الجبال العظيمة على هذا الحدّ ، ويؤدّي إلى أن يختلف حال ما يفعله من المقدورات بالقصد ؛ فمتى قصد فيها إلى تقديم وإعادة وجد من الفعل أكثر مما يوجد إذا لم يقصد هذا الوجه ، وبطلان ذلك بيّن (ق ، غ ١١ ، ٤٦٠ ، ١٢)

تقديم التكليف

ـ إذا كانت السمعيّات مصلحة ، في كل ما كلّف ، فلا بدّ من ذلك في الابتداء. فأمّا إن كانت مصلحة ، في بعضه وفي بعض الأوقات ، فإنّما يجب أن يعرّفه ، عند كونه مصلحة له. وكما يجب أن يعرّفه في تلك الحال ، فيجب أن يريد منه ، في تلك الحال ، إلّا أن يكون ، في تقديم التكليف ، ضرب من المصلحة ؛ فيقدّم ذلك ، كما بيّناه في التكليف أجمع. فإن قيل : هلّا قلتم : إنه يحسن منه تعالى أن يبعث الرّسل بالتكليف الزائد لمكان الثواب فقط ، ويكون ذلك ، من حيث كان تكليفا زائدا ، حسنا غير واجب؟ (ق ، غ ١٥ ، ٦٥ ، ٦)

٣٤٧

تقرّب

ـ اعلم ، أنّ التقرّب مأخوذ في المعنى من القرب ، فحقيقة ذلك لا تجوز على الله تعالى. وإنّما يصحّ ذلك في الأجسام التي يصحّ عليها القرب والبعد. فإذا قيل : إنّ العبد يتقرّب إلى الله ، تعالى ، بفعل الصلاة ، فالمراد به أنّه يطلب منزلة الثواب لديه ، لأنّه أقرب المنازل عنده وأرفعها. ذلك في الشاهد متعارف ، لأنّ أحدنا قد يخاطب الملك في بعض الأحوال بذلك ، فيقول : إنّما أتقرّب إليك بهذا الفعل ، إذا طلب به ضربا من الرفعة لديه. وربما قال بدلا من ذلك : أتقرّب من قلبك. فعلى هذا الوجه استعملوا هذه اللفظة. فإذا صحّ ذلك ، وقد بيّنا في الفصل المتقدّم أنّ المكلّف للنظر والمعرفة ابتداء لا يصحّ أن يعرف الثواب وإن استحقّه على النظر وسائر الطاعات ، فيجب أن لا يصحّ منه أن يطلب بالنظر الثواب. فإذا كان هذا هو طلب القرب من الله ، تعالى ، وهو الذي يفيده التقرّب ، فيجب أن لا يصحّ منه أن يطلب بالنظر الثواب. فإذا كان هذا هو طلب القرب من الله ، تعالى ، وهو أن يتقرّب ، وهذا مما يصحّ ولا يحسن على ما بيّناه من قبل. لأنّ حسن التقرّب بالفعل متعلّق بشروط منها أن يكون عارفا بالله ، تعالى ، ومنها أن يعرف استحقاق منزلة الثواب على الفعل الذي يتقرّب به. ولذلك لا يحسن من أحدنا أن يتقرّب إلى الله ، تعالى ، بفعل المباحات لما لم يستحقّ بهما الثواب (ق ، غ ١٢ ، ٢٨٨ ، ١٦)

ـ قال شيخنا أبو علي ، رحمه‌الله : إنّ التقرّب بفعل الصلاة وغيرها إلى الله ، تعالى ، من العاشق لا يحسن وإن صحّ. وذلك أنّه مع فسقه لا يستحقّ الثواب على الصلاة ، لأنّها تقع محيطة بفسقه ، فيكون طالبا للثواب على وجه يقبح عليه. فذلك وإن صحّ منه ، فهو غير حسن ، إلّا أن يفعلها مع التوبة فيحسن منه التقرّب بها. فإذا كان المصلّى مع معرفته بالله ، تعالى وبالثواب ، لا يحسن منه ذلك ، فبأن لا يحسن ممن لا يعرف كلا الأمرين أولى (ق ، غ ١٢ ، ٢٨٩ ، ١٣)

ـ قال أبو القاسم : التقرّب من جنس التمني ، والمحبة كان الإنسان يتمنى ويحبّ أن يتقرّب بفعله من الله تعالى ، وليس بجائز أن يكون مع الفعل ، أو لو جاز ذلك لجاز أن يكون بعده ، مثل العلّة التي جاز من أجلها أن يكون معه (ن ، م ، ٣٦٧ ، ٢١)

ـ عند شيوخنا أنّ التقرّب إرادة في الحقيقة ، ويكون مقارنا للفعل الذي يتقرّب به (ن ، م ، ٣٦٧ ، ٢٤)

تقضّي القدرة وقت مقدورها

ـ قد بيّنا أنّ القدرة لا يصحّ أن تتعلّق إلّا بجزء واحد في وقت واحد من جنس واحد ، فلو لم نقل بأن تقضّي وقت مقدورها يخرجها من أن توصف بأنّ لها قدرة عليه لم يصحّ ما قدّمناه من الأصل. وليس كذلك حاله ـ تعالى ـ لأنّ الذي يحيل كونه قادرا على الشيء ليس إلّا وجود مقدوره ، فإذا زال هذا الوجه كان حال المقدور ـ وقد تقدّم حدوثه ـ كحاله ولما يتقدّم ذلك ، وصحّة إيجاده له على ما قدّمنا القول فيه. فأمّا ما لا يبقى فقد بيّنا أنّه لأمر يرجع إليه يستحيل وجوده إلّا في وقت واحد من فعل أيّ فاعل كان ، ولا يصحّ أن يحدث إلّا في ذلك الوقت ، وليس كذلك حال الجواهر ؛ لأنّ وجودها في كل وقت على جهة البقاء

٣٤٨

والإحداث يصحّ ؛ على ما قدّمناه (ق ، غ ١١ ، ٤٥٥ ، ٨)

تقليد

ـ يدلّ على فساد التقليد ، أنّ المقلّد لا يخلو من أن يعلم أن المقلّد محق ، أم لا يعلمه. فإن لم يعلمه ، وجوّز كونه مخطئا ، لم يحلّ له تقليده ، لأنّه لا يأمن أن يكون كاذبا في الخبر عن ذلك ، وجاهلا في اعتقاده. وإن كان عالما بإصابة المقلّد ، لم يحلّ من أن يعلمه باضطرار ، وذلك محال ، أو بدليل غير التقليد وهو قولنا ، أو بالتقليد فقط. فيجب في المقلّد أن لا يعلم ما يعتقده إلّا بالتقليد ، وذلك يوجب إثبات مقلّدين ومقلّدين لا نهاية لهم (ق ، غ ١٢ ، ١٢٤ ، ٤)

ـ إنّ التقليد ، على ما بيّناه من قبل ، هو أن يحتذى على المقلّد فيساويه في الاعتقاد الذي هو جهل بأمر يخرجه من أن يكون آمنا من كون اعتقاده جهلا. وليس كذلك ما يقع عن النظر ، لأنّه يعلم من نفسه أنّه ساكن النفس إلى ما اعتقده فقد تميّز عنده العلم من هذا الاعتقاد الذي لا يأمر كونه جهلا (ق ، غ ١٢ ، ٥٣١ ، ١٨)

ـ إنّ التقليد قد يكون من جنس العلم ولا يكون علما (ن ، م ، ٢٨٧ ، ١٦)

ـ ما لم يكن يعرف باستدلال فإنّما هو تقليد لا واسطة بينهما (ح ، ف ٤ ، ٣٥ ، ٢٣)

ـ إنّما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّن لم يأمرنا الله عزوجل باتّباعه قط ، ولا بأخذ قوله بل حرّم علينا ذلك ونهانا عنه ، وأمّا أخذ المرء قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتّباعه وتصديقه وحذّرنا عن مخالفة أمره وتوعّدنا على ذلك أشدّ الوعيد فليس تقليدا بل هو إيمان وتصديق واتّباع للحق وطاعة لله عزوجل وأداء للمفترض (ح ، ف ٤ ، ٣٦ ، ٢٠)

تقويم

ـ أمّا قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين : ٤) ، فليس التقويم في هذه الآية مضافة إلى الله عزوجل وإنّما معناه أنّه ليس فيما خلق الله عزوجل أحسن صورة وتقويما من الإنسان ، ومعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله خلق آدم على صورته ، هو أنّه خلقه حين خلقه على الصورة التي كان عليها في الدنيا ، لم ينقله في الأصلاب والأرحام على اختلاف الأحوال من نطفة إلى علقة ومضغة وجنين ، كما فعل ذلك بنسله ، ولم يشوّه خلقه عند إخراجه من الجنّة كما فعل بالحيّة حين أخرجها من الجنّة فشوّه صورتها بأن مسخ قوائمها حتى مشت على بطنها وشقّ أسنانها وسوّد لسانها أيضا ، ولم يشوّه شيئا من صورة آدم عليه‌السلام. فذلك معنى قوله خلقه على صورته والكناية راجعة إلى آدم عليه‌السلام (ب ، أ ، ٧٥ ، ١٥)

ـ (في أحسن تقويم) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه (ز ، ك ٤ ، ٢٦٩ ، ٧)

تقية

ـ جائز أن يظهر الإمام الكفر والرضى به والفسق على طريق التقيّة (ش ، ق ، ٤٧٠ ، ١٦)

ـ زعمت" طائفة من الشيعة" : ذاهلة عن تحقيق الاستدلال أنّ عليا ـ عليه‌السلام ـ كان في تقيّة فلذلك ترك الدعوة لنفسه ، وزعمت أنّ عليه نصّا جليّا لا يحتمل التأويل. وقالت" العدلية" : هذا فاسد ، كيف تكون عليه

٣٤٩

التقيّة في إقامة الحق وهو سيّد بني هاشم ، وهذا سعد بن عبادة نابذ المهاجرين وفارق الأنصار لم يخش مانعا ودافعا وخرج إلى حوران ولم يبايع ، ولو جاز خفاء النص الجليّ عن الأمّة في مثل الإمامة لجاز أن تنكتم صلاة سادسة وشهر يصام فيه غير شهر رمضان فرضا. وكل ما أجمع عليه الأمّة من أمر الأئمة الذين قاموا بالحق وحكموا بالعدل صواب (ع ، أ ، ٣٠ ، ٣)

ـ إنّ التقيّة متى لم يكن لها سبب لم يصحّ ادّعاؤها ، وسببها معلوم وهو الخوف الشديد ، وظهور أمارات ذلك (ق ، غ ٢٠ / ١ ، ٢٩٠ ، ٥)

ـ إنّ أئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظهر أحد قط عليهم. إحداهما : القول بالبداء ، فإذا أظهروا قولا : أنّه سيكون لهم قوّة وشوكة وظهور. ثم لا يكون الأمر على ما أظهروه. قالوا : بدا الله تعالى في ذلك. والثانية : التقيّة. فكل ما أرادوا تكلّموا به. فإذا قيل لهم في ذلك إنّه ليس بحق ، وظهر لهم البطلان قالوا : إنّما قلناه تقيّة ، وفعلناه تقيّة (ش ، م ١ ، ١٦٠ ، ٧)

ـ أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا ... ، والمشهور المرويّ فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة أي رغبة عن ذلك الإمام الذي وقع الاختيار له ، والمروى بعد قوله ولّاه الله بعد ما تولّى ويصليه جهنم ، وساءت مصيرا ، وأنّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فأدخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية إلّا أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان فأدخل فيما دخل الناس فيه ثم حاكم القوم إلى أن أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك التي تريدها فخذعة الصبي عن اللبن ، ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك إلى آخر الكلام وبعده ، وأعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ولا تعترض بهم الشورى ، وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايع ولا قوة إلّا بالله ، وأعلم أنّ هذا الفصل دالّ بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة كما يذكره أصحابنا المتكلّمون ، لأنّه احتجّ على معاوية ببيعة أهل الحلّ والعقد له ، ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلّهم ، وقياسه على بيعة أهل الحلّ والعقد لأبي بكر فإنّه ما روعي فيها إجماع المسلمين ، لأنّ سعد بن عبادة لم يبايع ولا أحد من أهل بيته وولده ، ولأنّ عليّا وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر وامتنعوا ولم يتوقّف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم ، وهذا دليل على صحّة الاختيار وكونه طريقا إلى الإمامة ، وأنّه لا يقدح في إمامته عليه‌السلام امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام. فأمّا الإماميّة فتحمل هذا الكتاب منه عليه‌السلام على التقيّة وتقول ، إنّه ما كان يمكنه أن يصرّح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال ويقول له أنا منصوص على من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل ، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدّمين وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة ، وهذا القول من الإماميّة دعوى لو عضدها دليل

٣٥٠

لوجب أن يقال بها ويصار إليها ، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقيّة (أ ، ش ٣ ، ٣٠٠ ، ٢٣)

تكافؤ الأدلة

ـ ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلّة ، ومعنى هذا أنّه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ، ولا تغليب مقالة على مقالة حتى يلوح الحق من الباطل ظاهرا بيّنا لا إشكال فيه ، بل دلائل كل مقالة فهي مكافئة لدلائل سائر المقالات ، وقالوا كلما ثبت بالجدل فإنّه بالجدل ينقض (ح ، ف ٥ ، ١١٩ ، ١٨)

تكاليف

ـ إنّ التكاليف لا تعدو أحد وجهين : إمّا أن يكون تكليفا عقليّا أو تكليفا سمعيّا. والغرض بالعقليّ ما يكون الطريق إلى معرفته العقل وإن كان ربما يختلف فقد يتوصّل إليه تارة بالاضطرار وتارة بالاستدلال. والمراد بالسمعيّ ما يكون طريق معرفته السمع وكلّه لا بدّ من الاستدلال فيه على ما تقدّم (ق ، ت ١ ، ١٤ ، ٦)

ـ التكاليف كلها ألطاف ، وبعثة الأنبياء ، وشرع الشرائع ، وتمهيد الأحكام والتنبيه على الطريق الأصوب ، كلها ألطاف (ش ، م ١ ، ٨١ ، ٢١)

تكاليف شرعية

ـ التكاليف الشرعية لا شكّ في تأخّرها عن معرفة الله تعالى وتوحيده ، وعدله (ق ، ش ، ٧٥ ، ١٥)

تكفير

ـ قال قوم من الخوارج : إنّ التكفير إنّما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص ، فأمّا الذي فيه حدّ أو وعيد في القرآن فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه ، مثل تسميته زانيا ، وسارقا ، ونحو ذلك (ب ، ف ، ٧٣ ، ١٥)

ـ قد ظنّ بعض الناس أنّ مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع ، وأنّ الجاهل بالله كافر ، والعارف به مؤمن. فيقال له الحكم بإباحة الدم والخلود في النار حكم شرعي لا معنى له قبل ورود الشرع ، وإن أراد به أنّ المفهوم من الشارع أنّ الجاهل بالله هو الكافر ، فهذا لا يمكن حصره فيه لأنّ الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضا كافر (غ ، ف ، ٨٩ ، ٣)

ـ التكفير : إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة ، والإحباط نقيضه وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة (ز ، ك ١ ، ٥٢٢ ، ٢٠)

ـ المتكلّمون يسمّون إبطال الثواب إحباطا وإبطال العقاب تكفيرا (أ ، ش ٣ ، ٢٢٦ ، ٢٤)

تكلّم

ـ المعتزلة : وهو تعالى متكلّم بكلام. برغوث : وقيل لذاته. قلنا : إثبات صفة لا دليل عليها ، إذ معنى التكلّم فعل الكلام. ولا يعقل غيره ، وإذا لزم كون ذاته على صفة الحروف (م ، ق ، ٩٤ ، ٤)

تكليف

ـ لا يجب على الإنسان التكليف ولا يكون كامل العقل ولا يكون بالغا إلّا وهو مضطرّ إلى العلم بحسن النظر ، وأنّ التكليف لا يلزمه حتى يخطر

٣٥١

بباله أنّك لا تأمن إن لم تنظر أن يكون للأشياء صانع يعاقبك بترك النظر ، أو ما يقوم مقام هذا الخاطر من قول ملك أو رسول أو ما أشبه ذلك ، فحينئذ يلزمه التكليف ، ويجب عليه النظر ، والقائل بهذا القول" محمد بن عبد الوهّاب الجبّائي" (ش ، ق ، ٤٨١ ، ٩)

ـ لا يكون الإنسان بالغا كاملا داخلا في حدّ التكليف إلّا مع الخاطر والتنبيه ، وأنّه لا بدّ في العلوم التي في الإنسان والقوّة التي فيه على اكتساب العلوم من خاطر وتنبيه ، وإن لم يكن مضطرّا إلى العلم بحسن النظر ، وهذا قول بعض" البغداديين" (ش ، ق ، ٤٨١ ، ١٦)

ـ لا يكون الإنسان بالغا إلّا بأن يضطرّ إلى علوم الدين ، فمن اضطرّ إلى العلم بالله وبرسله وكتبه فالتكليف له لازم والأمر عليه واجب ، ومن لم يضطرّ إلى ذلك فليس عليه تكليف وهو بمنزلة الأطفال ، وهذا قول" ثمامة بن أشرس النميري" (ش ، ق ، ٤٨٢ ، ٤)

ـ إنّ الله تعالى قال (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (هود : ٢٠) وقال (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف : ١٠١) وقد أمروا أن يسمعوا الحق وكلّفوه. فدلّ ذلك على جواز تكليف ما لا يطاق وإنّ من لم يقبل الحق ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعا (ش ، ل ، ٥٨ ، ١٢)

ـ تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل ، والذي ادّعيته من القبح إنّما هو في عقول من يحيل وجود الفعل ولا قوّة وذلك وقت الفعل ، فصار قوله عند التحصيل هو القبيح في العقل إن صدق فيما ادّعى ، ولا قوّة إلا بالله. وأمّا الأصل أنّ تكليف من منع عنه الطاقة فاسد في العقل ، وأمّا / من ضيّع القوة فهو حق أن يكلّف مثله ، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلّا من يطيع (م ، ح ، ٢٦٦ ، ٨)

ـ كان (الأشعري) يقول في تكليف الخلق إنّ ذلك ليس بواجب بل كان جائزا أن يكلّف وأن لا يكلّفهم ، كما يقول في الإقدار على ما كلّف والمعونة عليه أنّ ذلك جائز وليس بواجب أيضا (أ ، م ، ١٢٥ ، ٢١)

ـ كان (الأشعري) يقول إنّ ما جرى عليه إطلاق القول عند الفقهاء والمتكلّمين بأنّ التكليف يتوجّه على العاقل فالمراد بذلك العالم بأكثر المنافع والمضارّ المميّز للخير والشرّ الذي يصحّ منه النظر والاستدلال والاستشهاد بالشاهد على الغائب. فلذلك لم يقولوا للطفل والمجنون والبهائم إنّها تعقل مطلقا ، وإن كانت تعلم كثيرا من المعلومات ضرورة (أ ، م ، ٢٨٤ ، ١٩)

ـ قد بيّنا فيما قبل مذهبه في أنّه يقصر الواجبات على السمع دون العقل ، ويقول إنّ التكليف كله سمعيّ وإنّ العقل لا يوجب شيئا ولا يكلّف العاقل من جهته شيئا ، وإنّ حكم من لم تأته الدعوة ولم تبلغه الرسالة الوقف لا يقطع على أفعالهم بقبول ولا ردّ ولا ثواب ولا عقاب ولا طاعة ولا عصيان ولا حسن ولا قبيح. وكان يقول إنّ الواجب ما لا يؤمن فيه ، إن ترك ، العقاب بأغلب الأمور أو يتيقّن ، وإنّ ذلك ممّا لا يمكن التوصّل إليه عقلا لأجل أنّه لا دليل فيه على ما يكون في العواقب من المضارّ والمنافع. فلذلك كان يعتمد فيه على السمع الصادق ويعدل عمّا تتكافأ فيه الظنون وتتساوى فيه الآراء (أ ، م ، ٢٨٥ ، ٢٢)

ـ الوجوب والتكليف لا يتصوران مع الإلجاء (ق ، ش ، ٤٠ ، ٩)

٣٥٢

ـ إنّ التكليف ابتداء ، معلوم أنّه لا ينفكّ عن المشقّة (ق ، ش ، ٤٨٨ ، ٨)

ـ إنّ الله تعالى إذا كلّفنا أمرا من الأمور ، فإنّ تكليفه إيّانا بذلك الفعل لا يتعلّق بعينه وذاته ، وإنّما المبتغى إيقاعه على وجه دون وجه ، فمتى لم يبيّن له الوجه الذي يريد أن يوقعه عليه كان عابثا من حيث أمره بما لا يمكنه الانتفاع به والاهتداء إليه ، ويكون ظالما أيضا لأنّ تكليفه بالفعل والحال ما ذكرناه كتكليفه به وهو لا يطيقه (ق ، ش ، ٥٠٨ ، ٦)

ـ حقيقته (التكليف) ، إعلام الغير في أنّ له أن يفعل أو أن لا يفعل نفعا أو دفع ضرر ، مع مشقّة تلحقه في ذلك على حدّ لا يبلغ الحال به حدّ الإلجاء ، ولا بدّ من هذه الشرائط ، حتى لو انخرم شرط منها فسد الحدّ. والإعلام ، إنّما يكون بخلق العلم الضروري ، أو بنصب الأدلّة ، وأي ذلك كان لم يصحّ إلّا من الله تعالى ؛ ولهذا قلنا : إنّه لا يكلّف على الحقيقة غير الله تعالى ، وإذا استعمل في الواحد منّا فإنّما يستعمل على طريقة التوسّع والمجاز. فهذا هو حقيقة التكليف (ق ، ش ، ٥١٠ ، ١٠)

ـ قد ذكر" أبو هاشم" أنّه الأمر بما على المرء فيه كلفة ، وذكر في بعض البدل أنّه إرادة فعل ما على المكلّف فيه كلفة ومشقّة. وفي" العسكريات" أنّه الأمر والإلزام للشيء الذي فيه كلفة ومشقّة على المأمور به. وكأنّه جرى في ذلك على طريقة اللغة ، فإنّ التكليف مأخوذ من الكلفة التي هي المشقّة. واقتضى هذا التحديد أن لا تكون العقليّات داخلة في قبيل التكليف لأنّ الأمر فيها مفقود من حيث كان الأمر قولا مخصوصا ، وذلك إنّما يتناول الشرعيّات. وقد نذكر في تحديده إعلام المكلّف فعلا شاقّا وإرادته منه وفي هذا كلام. فقد يتناول التكليف ما لا يجوز تعلّق الإرادة به مثل أن لا يطالب بدينه وكذلك في كل ما يتعلّق بالنفي. ثم قد يصحّ وجود ما هذه صفته مع الإلجاء ولا يكون تكليفا لأنّه تعالى لو أعلمنا فعلا شاقّا وأراده منّا ونحن ملجئون إليه لما كان مكلّفا لنا بذلك. فألخّص ما فيه والله أعلم أنّه إعلام المكلّف أنّ عليه في أن يفعل أو لا يفعل نفعا أو ضررا مع مشقّة تلحقه بذلك إذا لم تبلغ الحال به حدّ الإلجاء. وهذا الإعلام قد يكون تارة يخلق العلم وتارة ينصب الدلالة ، فلهذا لا يكون أحدنا مكلّفا لغيره على الحقيقة وإنّما يختصّ القديم جلّ وعزّ بالتكليف. وإذا أردنا بالإعلام ما ذكرناه صحّ في الكافر أنّه مكلّف ، فإنّه وإن لم يعرف ما كلّف فهو معرّض للمعرفة بنصب الأدلّة. وعلى هذا يصير الصبي عند البلوغ مكلّفا للممكن في هذه الحال من المعرفة (ق ، ت ١ ، ١ ، ٧)

ـ إنّ التكليف يتناول الفعل وأن لا يفعل ، وهذا على" مذهبنا" في أنّ القادر يجوز أن يخلو من الأخذ بالترك ، وإلّا فعلى مذهب من خالف في ذلك تتناول الأفعال أبدا ، ولكنّا بيّناه على الوجه الصحيح. وقصر ما التكليف على ذلك لأنّ المشقّة لا تكون إلّا في أحد هذين ، ولا بدّ في التكليف من مشقّة. ولأنّه لا بدّ من تردّد الدواعي ولا تثبت الدواعي والصوارف إلّا إلى الفعل أو إلى أن لا نفعل (ق ، ت ١ ، ٢ ، ١٦)

ـ لو لا التكليف كان لا يثبت شيء من الواجبات واجبا عليه تعالى فكأنّه وإن يفصّل بابتداء التكليف يصير من بعد مما يجب عليه أفعال بكون سبب وجوبها فما كان منه تفصيلا ، ونحو هذا هو من يكفل بحفظ وديعة ، فإنّ ذلك تبرّع

٣٥٣

منه ، ثم يلزمه صونها من الآفات ونحو من يتطوّع بالنذر ثم يصير واجبا عليه. وأمّا ما كان من فعله على طريق الوجوب المخيّر إن شاء بعث هذا وإن شاء بعث ذلك. وكذلك فلو علم أنّ اللذّة تقوم مقام الألم في الصلاح لكان في حكم المخيّر فيهما وإن كان إذا ألم فهو أدخل في النفع من حيث يستحقّ به عوض آخر. وما يتعيّن في فعله هو كإعادة من يستحقّ الثواب أو العوض ، فإنّ غير تلك الأجزاء لا تقوم مقامها أصلا ، بل تجب إعادتها بأعيانها. وأمّا ما هو في حكم المباح فهو العقاب فإنّه لا صفة له زائدة على حسنه وإنّما يراعي هذا عند الوقوع ، وهو في وقوعه لا يختصّ بأمر زائد على الحسن. وما يقال من أنّه تعالى إذا لم يفعله استحقّ الشكر فليس برجوع إلى صفة الفعل بل هو رجوع إلى حال الفاعل إذا لم يفعل. فكونه مباحا أو قبيحا أو واجبا يعتبر عند الوجود ، وقد بيّنا أنّه في وجوده لا يختصّ بأمر زائد على الحسن والحال في إرادة العقاب أظهر ، فإنّ هذا الإشكال زائل عنها ، فهذا هو حكم أفعاله جلّ وعزّ. والذي يدخل تحت التعبّد من هذه الأحكام ليس إلّا الواجب والندب فعلا والقبيح تركا ، فأمّا المباح وسائر ما عدّدناه فخارج عن التكليف (ق ، ت ١ ، ٢٣٢ ، ٤)

ـ قد ذكرنا في أوّل الكتاب ما يصلح أن يكون حدّا للتكليف. لكن ما قاله (عبد الجبّار) هاهنا هو أن يجعل التكليف الإعلام والإرادة. ثمّ فصّل حال الإعلام ، فبيّن أنّ الغرض به أن يعلم تعالى المكلّف حال الأفعال التي قد تدخل تحت التكليف من وجوب ما يجب منه وقبح ما يقبح منه وغير ذلك. وبيّن أنّ الإعلام ليس بمقصور على وجه واحد. فقد يصحّ أن يثبت الإعلام بالتعريف الضروريّ ويصحّ نصب دلالة عقليّة كانت أو سمعية ، لأنّ كل ذلك يعدّ من أقسام الإعلام. وبيّن أنّ العبد إذا علم وجوب هذه الأفعال عليه فقد صار مكلّفا إذا انضمّ إلى ذلك الشرائط التي نذكرها من بعد. وبيّن أنّه إنّما ضمّت الإرادة إلى الإعلام لمّا كان التكليف لا يثبت على الحقيقة إلّا من جهة الله تعالى ، ولا يصحّ أن يفعله إلّا على وجه يحسن ، ولا يحسن إلّا مع الإرادة فيريد منه فعل ما قرّر في العقل وجوبه. بل لا يكفي في الحسن ذلك إلّا بعد أن يكون كارها منه فعل ما قرّر في العقل قبحه. وإن كان العلم الحاصل بوجوب ما يجب على المكلّف قد يصحّ حصوله من جهته بأن يكون مكتسبا له ، وإن كان الدليل قد نصبه الله. والإرادة بكل حال يجب أن تكون من فعله تعالى. فصار ذلك بمنزلة القدرة التي لا تصلح أن تكون إلّا من جهته فتفارق الآلة التي قد يقدر العبد على تحصيلها بنفسه. فإذا كان تعالى لو أعلم وجوب هذا الفعل على المكلّف ولم يرده منه لم يحسن ، ولو أراده ولا إعلام لم يحسن ، فيجب أن يجتمع الأمران ليتكامل حسن التكليف. وإن كان لمجرّد الإعلام يثبت العبد مكلّفا ، إذ لا فائدة تحت قولنا إنّه مكلّف إلّا أنّه يجب عليه فعل ويقبح منه فعل آخر ، سواء قدّر أنّ مريدا أراد ذلك منه أو لم يقدّر ذلك. وعلى هذا يعلم المرء وجوب النظر عليه في أوّله تكليفه. وإن لم يعلم أنّ الله تعالى قد أراد ذلك منه (ق ، ت ٢ ، ١٨٩ ، ٨)

ـ إن قيل : إن كان التكليف موقوفا على الإعلام الذي فسّرتموه فقد علم أنّ أحدنا لا يقدر على أن يعلم غيره في الحقيقة لا بأن يفعل فيه علما

٣٥٤

ضروريّا ولا بأن يقدر على نصب دلالة ، فيجب أن لا يسمّى مكلّفا لغيره. وإذا لم يثبت أحدنا مكلّفا لم يثبت ما هو بصورة التكليف في الشاهد. فكيف يجرى هذا الوصف على الغائب مع أنّ الأسامي حكمها أن تؤخذ من الشاهد فتجرى على الغائب؟ قيل له : إذا كنّا نعلم أنّ هذا المعنى إنّما يصحّ في الله تعالى ولا يصحّ في غيره ، جاز منّا أن نصفه بما ينبئ عن هذه الفائدة وإن لم نجد له نظيرا في الشاهد ، إذ ليس كل ما يجرى عليه تعالى يجب أن يكون حكمه هذا الحكم بل هو موقوف على الدلالة. وبعد فقد يصحّ في الشاهد ما يتصوّر بهذه الصورة وإن لم يكن تكليفا في الحقيقة ، نحو أمر الواحد منّا ولده وغلامه وأجيره بفعل من الأفعال فينبّه المأمور على ما يريده منه فيسمّى ذلك تكليفا. فكذلك إذا دلّ الله جلّ وعزّ على ما يريده من المكلّفين جاز أن يوصف بهذا الوصف ، لأنّ في الشاهد إنّما أجري هذا الاسم على من اعتقد لزوم طاعته ، وهذه صفته تعالى. وليس يجب فيما يجرى على الغائب إلّا أن يكون له شبه ما بما يجرى على الشاهد. فأمّا المساواة من كل وجه فلا. وعلى هذا صحّ أن يوصف تعالى بأنّه قديم فيفاد به أن لا أوّل لوجوده ، وإن كان أهل اللغة إنّما يتعارفون هذه اللفظة فيما تقادم وجوده على طريقة سبق بها غيره (ق ، ت ٢ ، ١٩٠ ، ٢٠)

ـ اعلم أنّ التكليف لا بدّ فيه من مشقّة. وظاهر اللفظ ينبئ عن ذلك على ما قاله أبو هاشم من اعتبار الكلفة. وإنّما وجب اعتبار المشقّة لأنّه لولاها لم يحصل التعريض للثواب ، فإنّه لا يستحقّ إلّا على طريق الإعظام والمدح وهما يتبعان فعل ما يشقّ على الواحد منّا. ولو كلّفنا الله تعالى ما لا يشقّ علينا لم نستحقّ ثوابا. فلهذا وجب اعتبار المشقّة في سائر ما يدخل تحت التكليف ، وإن كانت المشقّة تتفاوت وتختلف حالها ، فربّما تظهر وربّما لا تظهر في الأوّل حتى يجتمع الشيء منه إلى غيره (ق ، ت ٢ ، ١٩١ ، ١٣)

ـ اعلم أنّ التكليف إذا لم يتمّ إلّا بأمور من جهة الله تعالى نحو الإعلام على اختلاف أحواله ونحو الإرادة والكراهة ونحو جعله الفعل شاقّا على المكلّف إلى ما أشبه ذلك ، فمعلوم أنّ بعض هذه الأشياء لا بدّ من تقدّمه والبعض الآخر إنّما يجب مقارنته فقط ولا يجب تقدّمه (ق ، ت ٢ ، ١٩٩ ، ٢)

ـ ثمّ ذكر (عبد الجبّار) رحمه‌الله في آخر هذه الفصول أنّ التكليف إذا لم يوجد له مثال في الشاهد على التحقيق فيجب أن تعتبر حاله بنفسه من دون مراعاة المثال. وذلك لأنّ صورة التكليف على ما ذكرناه أن يمكّن المكلّف ويزيح علله ويعرّضه للثواب الذي يعلم توفّره عليه إذا أطاع على الشروط التي نذكرها في هذا الباب. والمعلوم أن مثل ذلك لا يحصل في الشاهد وإنّما يحصل ما يقاربه من الاستدعاء إلى الدين وتقديم الطعام إلى الجائع إلى ما أشبه ذلك. وما خرج عن هذا الباب فهو أمور يفعلها الواحد منّا لأغراض مخصوصة (ق ، ت ٢ ، ٢٣٠ ، ٢١)

ـ اعلم أنّ المكلّف لا بدّ من أن يختصّ بشرائط وأوصاف لو لم يكن عليها لم يحسن تكليفه. فأوّل ذلك أن يكون قادرا على ما كلّف فعله أو تركه. وليس يخلو التكليف من أحد هذين الوجهين إمّا أن يكلّف الفعل أو يكلّف أن لا يفعل. وعلى كلي الوجهين فلا بدّ من كونه

٣٥٥

قادرا لأنّه مع القدرة يصحّ أن يوصف بأنّه فعل أو لا يفعل. وإن كنّا لا نقول إنّ عدم الفعل يتعلّق بالقادر ، ولكنّه ما لم يكن قادرا على أن يوجد الفعل لم يصحّ أن ينهى عنه فيقال : لا يفعله. وقد لا يتكامل كونه قادرا على ما كلّف فعله إلّا بأمور زائدة على القدرة نحو الآلات والجوارح وغيرهما ، على ما سيجيء تفصيله. ولكن الحاجة إلى الآلات تختلف. فربّما لم يحتج إليها في كثير من الأفعال وربّما احتيج إليها في بعض الأفعال. والذي تشيع الحاجة فيه هو القدرة التي لا يصحّ الفعل بحال لولاها. فلا بدّ لهذا الشرط من حصوله للمكلّف حتى يتوجّه التكليف عليه ، وعند زواله يزول التكليف عنه ، على ما مضى في باب الاستطاعة. والمجبرة تذهب إلى العكس من ذلك لأنّ عندهم أنّ شرط كونه مكلّفا بالفعل أن لا يكون قادرا عليه وإن كان قادرا عليه فهو فاعله ، ومن كان فاعلا للفعل لا يوصف بوجوب الفعل عليه وتوجّه التكليف عليه ، وهذا كما ترى مخالف لعقول العقلاء. فهذا هو الشرط الأول (ق ، ت ٢ ، ٢٥٩ ، ٤)

ـ قد ثنّى رحمه‌الله ذلك (شرط التكليف) بكونه عالما أو متمكّنا من العلم. فيدخل تحت الأوّل ما يحصل علمه به على جهة الضرورة ، ويدخل تحت الثاني ما يعلمه باستدلال. والحاجة إلى كونه عالما بما كلّف هو لأحد وجهين قد سبق ذكرهما في أوّل الكتاب (ق ، ت ٢ ، ٢٦٠ ، ١)

ـ إنّه تعالى متفضّل بما خلق ، جواد به ، ولا يجب إذا كان قادرا على ما لا يتناهى به أن يكون بخيلا ، لأنّ البخل هو منع الواجب ، ولذلك يذمّ بالبخل ، وهو تعالى ممّن لا يجب عليه في الابتداء فعل شيء ، وإنّما يلزمه ذلك بعد التكليف من حيث اقتضى التكليف وجوبه عليه ، ولا يجب كونه ضنينا ؛ لأنّ الضنين هو المستمسك بالشيء لمنفعة أو ما يجري مجراها ، والقديم تعالى يستحيل ذلك عليه (ق ، غ ١١ ، ١٢٧ ، ٩)

ـ قد ثبت أنّ الواحد منّا يحسن منه أن يعرّض غيره للمراتب العالية ؛ بأن يمكّنه ممّا يصل به إليه فذلك في بابه بمنزلة إيصال نفس المنفعة إليه ؛ بل ربما يكون أعظم في النعمة. وثبت أنّ الثواب مستحقّ على وجه التعظيم والتبجيل ، ولا يحسن فعله إلّا بأن يكون مستحقّا ، فإذا أراد تعالى وصول المكلّف إلى هذه المنزلة حسن منه أن يعرّضه لما به يصل إليها ، وليس ذلك إلّا بالتكليف (ق ، غ ١١ ، ١٣٤ ، ١٣)

ـ إنّ التكليف إنّما يحسن متى كان للفعل صفة الواجب والندب ليصحّ أن يستحقّ به الثواب. ولذلك لا يحسن منه تعالى أن يكلّف زيدا القيام والقعود ؛ كما يكلّف ردّ الوديعة والإنصاف وشكر المنعم ، متى لم يكن فيهما مصلحة ولذلك اختلفت الشرائع بحسب المصالح. فإذا ثبت ما قلناه وكان الواحد منّا إذا كلّف غيره فإنّما يكلّفه ما لا يختصّ بهذه الصفة ، ويجب أن يقبح تكليفه إيّاه كقبحه من القديم تعالى (ق ، غ ١١ ، ١٤٩ ، ١٠)

ـ إنّ التكليف هو تعريف المكلّف حال ما كلّف إذا جعله بالصفة التي معها يحسن تكليفه ، وإرادة ذلك الفعل منه ، فمتى فعل تعالى ذلك ، وعلم أنّه سيشيبه إذا أطاع ، وكان قصده بذلك أن ينفعه بالتكليف بعد ، صحّ كونه مكلّفا وحسن التكليف ، وإن لم يرد الإثابة (ق ، غ ١١ ، ١٥٣ ، ١)

ـ إنّ التكليف من الباب الذي إنّما يحسن للمنافع

٣٥٦

التي تؤدّي إليه ، وإن قبح فإنّما يقبح لأنّه في حكم الضرر. فيجب أن تكون غلبة الظنّ فيه كالعلم (ق ، غ ١١ ، ٢٠٤ ، ١٤)

ـ نقول في التكليف : إنّه يكون تفضّلا ، وفي الثواب : إنّه واجب ، وإن كان القديم متفضّلا به ، من حيث تفضّل بسببه على وجه مخصوص (ق ، غ ١١ ، ٢١٨ ، ٢١)

ـ لا يمتنع أن يقال : إنّ القبيح لا يجوز كونه لطفا في التكليف أصلا ، كان من فعله تعالى أو من فعل غيره ؛ لأنّ اللطف هو ما يختار عنده الواجب ، والحسن على وجه لا يخرج التكليف عن الصحّة ، ومتى جوّز أن يفعل تعالى القبيح خرج التكليف عن الصحّة ولم يوثق بوعده ووعيده ، ولا أنّه يثيب على الطاعة. وذلك يوجب فساد كلّ تكليف وتدبير (ق ، غ ١١ ، ٢٢٠ ، ١٣)

ـ قدّمنا أنّ تكليف من يعلم الله تعالى من حاله أنّه يكفر يحسن متى لم (يعقب) مفسدة ، وانتفى سائر وجوه القبح عنه ، وبيّنا أنّ علمه تعالى بأنّه يكفر لا يقتضي قبحه ، ولا العلم بأنّه يؤمن شرط في حسنه. وشرحنا القول فيه. وبيّنا أن تكليفه تعالى الرسول أداء الرسالة مع العلم بأنّه يعصى فيه يقبح ؛ لأنّه يقتضي ألا يكون تعالى مزيحا لعلّة المبعوث إليه. وبيّنا أنّ التكليف إذا كان لطفا في القبيح فلا بدّ من أن يقبح (ق ، غ ١١ ، ٢٢٦ ، ٤)

ـ إنّ الفعل لا يكون مؤدّيا إلى غيره إلّا على وجوه معقولة. منها أن يعلم أنّ ذلك الغير يجب عليه أو يستحقّ به أو يحصل عنده بالعادة ، فيكون كالموجب عنه. فأمّا إذا عري من كل ذلك لم يجز أن يقال : إنّه يؤدّي إليه. وقد علمنا أنّ التكليف نفسه لا يؤدّي إلى العقاب ، وإنما يستحقّه بسوء اختياره وبفعل مبتدأ يستحقّه ، وإن كان ذلك الفعل لا يصحّ إلّا بعد تقدّمه. فلا يصحّ أن يقال : إن التكليف قد أدّى إليه فيجعل وجها لقبحه (ق ، غ ١١ ، ٢٦٨ ، ٢٠)

ـ قال شيخنا أبو هاشم ـ رحمه‌الله ـ في بعض البدل : التكليف : هو إرادة فعل ما على المكلّف فيه كلفة ومشقّة. وقال في العسكريّات : هو الأمر والإرادة للشيء الذي فيه كلفة على المأمور به. ولهذا لا يوصف أحد بأنّه كلّف القديم ـ تعالى ـ وإن وصف بأنّه سأله. وقال في بعض الاستطاعة : ولذلك لا يقال : كلّفت زيدا أكل شيء طيّب ، كما يقال : كلّفته المشي. وقال في بعض الإلهام : من وجب عليه النظر يصحّ وصفه بأنّه مكلّف ، من حيث أوجب ـ الله تعالى ـ في عقله ما عليه فيه كلفة فقام ذلك مقام أمره إيّاه بذلك. وذكر في البغداديّات أن الموجب للشيء هو الآمر به والمريد له. وإنّما يستعمل ذلك مجازا ؛ لأنّ الواجب لم يكن واجبا للأمر أو للإرادة وأنشد في ذلك قول الشاعر : تكلّفنا المشقّة آل بكر ومن لي بالمرقّق والصّناب ، بيّن أن الشاعر وصف مسألة جاريته له تكليفا لمّا سألته ما يشقّ. فجملة هذا الكلام تدلّ على أن التكليف عنده ـ رحمه‌الله ـ هو إرادة ما فيه كلفة ومشقّة والأمر به. وهذا ظاهر في الاستعمال ؛ لأنّ الواحد منّا إذا أراد من غيره ما هذا حاله وصف بأنه كلّفه ، ومتى أراد منه ما لا مشقّة فيه من أكل الطيّب لم يوصف بذلك (ق ، غ ١١ ، ٢٩٣ ، ٥)

ـ أمّا وصفه ـ تعالى ـ بأنّه كلّفه فمتى أريد به أنّه أراد منه فعل ما عليه فيه كلفة ومشقّة فغير ممتنع إطلاقه. وقد بيّنا أن هذا معنى التكليف ، وأنّه لا معتبر بكون المكلّف في حال الإرادة ممكّنا ،

٣٥٧

وإنّما يعتبر بكونه ممكّنا في حال الفعل ، وإن أريد بوصفه ـ تعالى ـ بأنّه كلّفه أنّه ألزمه الفعل الشاقّ في الثاني فيجب ألا يوصف بذلك المعدوم. والصحيح عندنا هو الوجه الأول ، وإن لم يبعد ألّا يطلق لما فيه من الإيهام (ق ، غ ١١ ، ٣٦٨ ، ٢٠)

ـ فإن قيل : فما الذي يقتضي التكليف وجوبه على القديم ـ تعالى ـ؟ قيل له : ثلاثة أشياء. منها التمكين لأنّ التمكين بالإقدار وغيره إذا تأخّر عن حال التكليف لم يجز أن يقال إنّ تقدّمه شرط في حسن التكليف. فلا بدّ إذا من القول بأنّ التكليف يقتضي وجوبه عليه. ومنها الألطاف لأنّها تنقسم. فما قارن التكليف يكون تفضّلا ، من حيث كان له ألّا يفعله ـ تعالى ـ بألّا يفعل التكليف معه ولم يتقدّم ما يقتضي وجوبه ، فكما أنّ التكليف تفضّل فكذلك اللّطف المقارن له ، ويفارق التمكين الذي يتقدّم التكليف. فأمّا التمكين الذي يفارق التكليف فالقول فيه كالقول في الألطاف ، وإن ثبت في اللطف ما يجب تقدّمه لحال التكليف حلّ محلّ التمكين في أنّه شرط في حسن التكليف ، وما تأخّر عن حال التكليف فلا بدّ من القول بوجوبه عليه. وسنذكر القول في ذلك في موضعه إن شاء الله. ومنها الثواب لأنّ التكليف يقتضي وجوبه بشرط أن يؤدّي المكلّف ما يجب عليه ولا يحبط ثوابه ، وكلّ ما لا تتمّ هذه الأمور الواجبة إلّا به فلا بدّ من وجوبه ؛ لأنّه قد ثبت أنّ ما لا يصح أداء الواجب إلّا معه على كل وجه فيجب أن يكون واجبا. ولذلك قلنا بوجوب الإعادة إذا أفنى الله ـ سبحانه ـ العالم (ق ، غ ١١ ، ٤٣١ ، ٩)

ـ سنبيّن أنّ من قال من أصحابنا البغداديّين : إنّ التكليف لا يزول عن أهل الآخرة غلّط فيما بعد ، وإن تعلّقهم بأنّه ـ تعالى ـ لا يصحّ أن يضطرّ العباد إلى العلم به ـ سبحانه ـ لاستحالة كونه مدركا ، ولأنّه لو جاز أن يفعل العلم به لغيره لجاز أن يفعل العلم به لنفسه ، لا يصحّ من حيث ثبت أنّ العلوم وإن اختلفت في الحسن فإنّ ذلك غير مؤثّر في كون القادر قادرا على جميعه (ق ، غ ١١ ، ٤٩٤ ، ٢١)

ـ اعلم أنّ الغرض بالتكليف تعريض المكلّف للمنزلة العالية التي لا تنال إلّا به ؛ على ما بيّناه من قبل. وذلك يقتضي انقطاعه ، لأنّه لو دام لم تؤل الحال بالإنسان إلى نيل المنزلة الملتمسة وذلك يوجب قبح التكليف (ق ، غ ١١ ، ٥١٦ ، ١٤)

ـ أمّا أبو عثمان الجاحظ ، رحمه‌الله ، فإنّه ظنّ لقوة هذه الدواعي من الوجه الذي بيّنا أنّها تقع منه بالطبع ، ويخرج عن باب الاختيار ، فلم يجز دخولها تحت التكليف إلّا عند تساوي الخواطر والدواعي ، فإنّه يجوز عندهما دخول النظر تحت التكليف دون المعرفة. وفي سائر الأحوال يقول بأنّه إنّما كلّف الإرادة دون ما سواها ، لأنّ غلبة الدواعي عليه في الفعل عند الإرادة تخرجه من باب الاختيار إلى باب الطبع. وذكر مع ذلك أكثر الشبه التي أوردناها من قبل ، مستدلّا بها على أنّها ليست من فعل العبد ، ولا يجوز دخولها تحت التكليف. وأكثر من تكلّم في هذا الباب عنه أخذوا ، وببعض ما أورده تعلّقوا (ق ، غ ١٢ ، ٢٣٥ ، ٧)

ـ إن قيل : أتقولون ، في الفعل الذي إنّما يلزمه إذا قدّم قبله النظر والمعرفة : إنّه قد كلّف في الحال ، أو إنّما كلّف بعد الفراغ من المعرفة بأحواله؟ قيل له : إنّ التكليف عنده إذا أريد به

٣٥٨

الأمر والإرادة ، فقد يتقدّم بأوقات كثيرة ، بل لا يمتنع عندنا أن يأمر ، تعالى ، بالفعل من هو في الحال غير موجود ، بشرط أن يوجد ويمكّن فيفعل. وقد بيّنا ذلك من قبل ، وذكرنا أنّه لا معتبر في كونه مكلّفا ، بأن يكون في الحال قادرا عاقلا موجودا. وإنّما يجب ذلك أجمع في حال الحاجة إلى الفعل ، حتى يتمكّن من أن يفعله على الحدّ الذي لزمه. وعلى هذا ، صحّ ما نقوله من أن قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (النور : ٥٦) ، أمر بهما لكل من يوجد إلى يوم القيامة. وعلى هذا الوجه ، يصحّ القول بأن كل مكلّف يحصل بصلاته مطيعا للرسول ، صلى الله عليه ، من حيث دعا جميع الخلق ، وأراد ذلك منهم ، وإن كانوا في وقته معدومين ، على الشرط الذي بيّناه (ق ، غ ١٢ ، ٣١٤ ، ١٥)

ـ يعجب ، رحمه‌الله (أبو علي) ، من قوله (الجاحظ) : إنّ التكليف لا يلزم إلّا مع شرائط : منها ، أن تكون الأدلّة قائمة ، وأن يكون المكلّف عارفا بالعادات ومختبرا لها وممارسا لمن تذاكر بالأدلّة ويتفاوض فيها ويكون قد تقدّم له المعرفة بالفصل بين المعجز والحيلة ، إلى غير ذلك مما تذكره. فقال : إذا كانت تقع بالطبع ، فما الحاجة بالمكلّف في هذه المقدّمات؟ وهلا كفى منه أن يريد أن ينظر فيما شاهده من الأدلّة ، فيقع النظر وتقع المعرفة بعده طباعا ، كما يكفي في إيلام المضروب أن يضرب فيألم ، ولا يحتاج إلى مقدّمات (ق ، غ ١٢ ، ٣٢١ ، ١٤)

ـ إنّه لا يجوز أن يستمرّ العاقل على صفات التكليف ويزول التكليف عنه ، لما بيّناه من قبل في بابه. فإذا صحّ ذلك وأخلّ بالنظر الأول ، فإن كان ممن لا يبقى ولا يكلّف إلّا التكليف الأوّل فلا بدّ من أن يختلّ بعض الشروط التي لا يتمّ التكليف إلّا معه. ومتى استمرّ على حالته ، فالمعلوم أنّه تعالى سيكلّفه غير التكليف الأوّل ويبقيه أكثر مما يقتضيه التكليف الأوّل. فيجب ، إذا كان الحال هذه ، أن تلزمه معاودة النظر في معرفة الله ، تعالى (ق ، غ ١٢ ، ٤٥٢ ، ١٩)

ـ صحّة التكليف ؛ وقد بيّنا أنّ من شرائط صحّته تقدّم التمكين ، فلا يعدّ ذلك في الألطاف ، وإنما الذي يدخل فيها ما يقتضي إيثار بعض ما يمكن منه على بعض (ق ، غ ١٣ ، ١٧ ، ٦)

ـ إنّه تعالى إذا جعل المكلّف على الأوصاف التي معها لا بدّ من أن يكلّفه ، وجعله ممن سبق الإقدام عليه والامتناع منه ، وأراد منه ما كلّفه لكي يعرّضه للمنفعة ، فلا بدّ ـ إذا كان هذا قصده ـ من أن يفعل ما به يتمّ الأمر الذي قصده. وقد علمنا أنّ ذلك لا يتمّ إلّا بسائر وجوه التمكين ، فلا بدّ من أن تمكينه بها أجمع ، وإلّا كان ذلك ناقضا للتكليف ومؤثّرا في حكمة المكلّف. وكذلك إذا علم أنّ التمكين مع المعرفة بالأفعال والتمكّن من إيجادها ، فقد تقدّم على الواجب ، وقد يعدل عنه ، وكل ذلك صحيح فيه. ومتى خلق له ، وله اختيار الإقدام دون العدول ، فقد صار ذلك يتضمّنه التكليف من جهة الحكمة ، ولكن لا ينتقض الغرض فيه بمنزلة نفس التمكين (ق ، غ ١٣ ، ١٧ ، ١٨)

ـ أنّه يحسن تكليف من لا لطف له (ق ، غ ١٣ ، ٦٤ ، ٢)

ـ إنّما نحكم بأنّ اللطف كالتمكين إذا كان هناك لطف نتكلّم عليه. فأمّا إذا لم يكن له لطف

٣٥٩

أصلا ، فسبيله سبيل الفعل الذي لا يحتاج إلى تمكين زائد على ما يحتاج إليه كثير من الأفعال في أنّه قد يحسن التكليف وإن لم يحتج إلى تمكين محدّد (ق ، غ ١٣ ، ٦٥ ، ١٩)

ـ إنّ التكليف يتضمّن وجوب الألطاف (ق ، غ ١٣ ، ٦٥ ، ٢٠)

ـ اعلم أنّ شيخنا أبا هاشم ، رحمه‌الله ، نصّ على أنّه متى كان المعلوم من حال زيد أنّه لا يؤمن إلّا بأن يقع منه تعالى ظلم أو كذب أو تكليف ما لا يطاق ، أنّه يحسن تكليفه ، ويكون بمنزلة من لا لطف له (ق ، غ ١٣ ، ٦٧ ، ٦)

ـ أمّا ما يقوله الفقهاء في بعض الكفّارات إنّها عقوبات ، وإن كان داخلا في التكليف ، فليس المراد بذلك أنّه كلّف من حيث كان عقوبة ؛ لكنّهم أجروه مجرى ما يستحقّ عليه من العقوبات في أنّه لا يتعلّق إلّا بالأفعال التي يصحّ فيها (ق ، غ ١٣ ، ١٠٣ ، ٢)

ـ إنّ التكليف من الله تعالى إنّما هو تعريف ونصب أدلّة وأمر وإرادة ، وكل ذلك لا مدخل له فيما معه يصحّ في المكلّف أن يلتذّ ويألم (ق ، غ ١٣ ، ٣٨٤ ، ١٢)

ـ إنّ أوّل ما نقوله إنّ التكليف لا يحسن إلّا تعريضا للثواب ، ولا يجوز أن يعرّض تعالى للثواب بما لا يستحقّونه ، وإنّما يستحقّ ذلك بما يشق فعله أو اجتنابه : لأنّ ما لا يشقّ من هذين الأمرين لا يصحّ استحقاق الثواب به ، فلا يجوز أن يكون له مدخل في التكليف (ق ، غ ١٣ ، ٤٢٠ ، ٨)

ـ إنّ التكليف المبتدأ غير واجب (ق ، غ ١٤ ، ١١٥ ، ١٥)

ـ إنّ التكليف لا يقع به خلق العبد على وجه مخصوص ، وإنّما هو أمر زائد ، يحدثه تعالى ، ويفعل ما يكون شرطا فيه ، ليتميّز به المكلّف من البهيمة ، وما هذا حاله لا يكون وجها للفعل الأول ، بل يكون فعلا مستأنفا (ق ، غ ١٤ ، ١١٦ ، ٤)

ـ قد نعلم للفعل بعض الأحكام من جهة السّمع ، وإن كان لا يتعلّق التكليف به ، لدخوله في باب المباح ؛ وإنّما يتعلّق التكليف بمقدّمته وهذا كإباحة ذبح البهائم ، إلى ما شاكل ذلك ؛ لأنّ الأمور المحظورة ، لو لا السمع لا نعلمها مباحة إلّا به. فالسمع يكشف عن ذلك. لكنّه لمّا كان المقصد به الانتفاع بهذه المباحات ، لم يدخل الفعل في التكليف ؛ وإنما وقف على السمع ، من حيث لا نعلم وجه حسنه إلّا به (ق ، غ ١٥ ، ٦١ ، ٦)

ـ إنّ قولنا ، في التكليف ، إنّه ليس بواجب إنّما نعني به أنّه لا يجب عليه ، تعالى ، أن يجعله على الصفات التي لا بدّ عندها من أن يكلّف. فلمّا كان له أن يفعل ذلك ، وألّا يفعل ، كان التكليف تفضّلا. وفارق قولنا في ذلك قول أصحاب الأصلح الذين يوجبون خلق العبد ، وجعله بالصفات التي معها يكلّف ، كما قد يوجبون نفس التكليف على بعض الوجوه (ق ، غ ١٥ ، ٦٤ ، ١٧)

ـ قد بيّنا ، في علّة التكليف ، ما لا يلزم المرض عليه ؛ لأنّ التكليف يتضمّن إلزام الشاقّ من الفعل. وإلزام ما ليس له وجه ، يجب لأجله ، لا يحسن. ولا تفترق أحوال الأفعال في هذا الباب. وليس كذلك المرض ، لأنّه من فعله تعالى فيه ؛ فإنّما يجب أن يكون صلاحا لبعض المكلّفين ، فيخرج من كونه عبثا ، ويعوض المؤلم فيه ، ليخرج من أن يكون ظلما ، وإن كنّا قد بيّنا أنّه يبعد ، فيما ينزل بالبالغ ، ألّا يكون

٣٦٠