لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

فأمّا من دونهم فتنوّع أحوالهم من حيث الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة. ومن فوق الجميع فأصحاب البقاء والفناء ، والصحو والمحو ووراءهم أرباب الحقائق مثبتون فى أوطان التمكين ، فلا تلوّن لهم ولا تجنّس لقيامهم بالحق ، وامتحائهم عن شواهدهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

أثبت لهم عندية الكرامة ، وحفظ عليهم أحكام العبودية لئلا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم (١) ، وهذه سنّة الله تعالى مع خواص عباده ؛ يلقاهم بخصائص عين الجمع ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة (٢).

السورة التي تذكر فيها الأنفال

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بسم الله إخبار عن قدرته على الإبداع والاختراع ، الرحمن الرحيم إخبار عن تصرفه بالإقناع وحسن الدّفاع ؛ فبقدرته أوجد ما أوجد من مراده ، وبنصرته وحّد من وحّد

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)

الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين ، وكان سؤالهم عن حكمها ، فقال الله تعالى : قل لهم إنها لله ملكا ، ولرسوله ـ عليه‌السلام ـ الحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا.

__________________

(١) وردت فوقهم بالواو والصواب (فرقهم) بالراء ، فالكلام عن الجمع والفرق.

(٢) لاحظ هنا كيف يلح القشيري دائما على عدم الإخلال باى شرط من شروط الشريعة مهما أوغل العبد فى الفناء ، بل يعتبر حفظ الله لعبده في هذه المرحلة الحاسمة علامة صدق العبد وآية خصوصيته.

٦٠١

قوله جل ذكره : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ).

أي أجيبوا لأمر الله ، ولا تطيعوا دواعى مناكم والحكم بمقتضى أحوالكم ، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس ، وأصلحوا ذات بينكم ، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس ، وإيثار حقّ الغير على ما لكم من النصيب والحظّ ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد.

قوله جل ذكره : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) :

أي فى الإجابة إلى ما يأتيكم من الإرشاد.

قوله جل ذكره : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أي سبيل المؤمن ألا يخالف هذه الجملة.

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢))

الوجل شدّة الخوف ، ومعناه هاهنا أن يخرجهم الوجل عن أوطان الغفلة ، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أودية التفرقة وفاءوا إلى مشاهد الذكر نالوا السكون إلى الله ـ عزوجل ؛ فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق ، وتحقيقا على تحقيق. فإذا طالعوا جلال قدره ، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه ، توكلوا عليه فى إمدادهم بالرعاية فى نهايتهم ، كما استخلصهم بالعناية فى بدايتهم.

ويقال سنّة الحقّ ـ سبحانه ـ مع أهل العرفان أن يردّدهم بين كشف جلال ولطف جمال ، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم ، (وإذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم ، قال الله تعالى : (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ) بذكر الله». ويقال وجلت قلوبهم) (١) بخوف فراقه ، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروح وصاله. وذكر الفراق يفنيهم وذكر الوصال يصحيهم ويحييهم.

__________________

(١) ما بين القوسين مذكور فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.

٦٠٢

ويقال الطالبون فى نوح رهبتهم ، والواصلون فى روح قربتهم ، والموحّدون فى محو غيبتهم ؛ استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقت مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع ، ولا لهم إحساس فتملكهم لذة ؛ إذ لمّا (١) اصطلموا ببواده ما ملكهم فهم عنهم محو ، والغالب عليهم سواهم.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

لا يرضون فى أعمالهم بإخلال ، ولا يتصفون بجمع مال من غير حلال ، ولا يعرّجون فى أوطان التقصير بحال ، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير ، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل.

(فهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي حققوا حقا وصدقوا صدقا. ويقال حق لهم ذلك حقا.

قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) على حسب ما أهّلهم له من الرّتب ؛ فبسابق قسمته لهم استوجبوها ، ثم بصادق خدمتهم ـ حين وفّقهم لها ـ بلغوها.

ولهم مغفرة فى المآل ، والسّتر فى الحال لأكابرهم ؛ فالمغفرة الستر ، والحق سبحانه يستر مثالب العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم ، وفرق بين ستر وستر ، وشتّان ما هما!

وأمّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يحتسب ، ويحتمل أنه الذي لا ينقص بإجرامهم ، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق ، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات.

قوله جل ذكره : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥))

__________________

(١) وردت (لم) والسياق يقتضى (لما).

٦٠٣

بيّن ـ سبحانه ـ أن الجدال منهم عادة وسجيّة ، ففى كل شىء لهم جدال واختيار ؛ فكرهوا خروجه إلى بدر ، كما جادلوا فى حديث الغنيمة ، قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقرب إلى الصفح عنه والتجاوز ، فأمّا إذا صار ذلك عادة فهو أصعب.

ويقال ما لم تباشر خلاصة الإيمان القلب لا يوجد كمال التسليم وترك الاختيار ، ومادام يتحرك من العبد عرق فى الاختيار فهو بعيد عن راحة الإيمان.

ولقد أجرى الله سنّته مع أوليائه ، وكذلك كانت سنّته مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمال النّعمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان ، والتجرد عن مساكنة ما فيه (١) حظ ونصيب من كل معهود ويقال إن فى هجرة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن أوطانهم أمانا لهم من عادية الأعادى ، وإحياء لقلوب قوم تقاصرت أقدامهم عن المسير (٢) إليهم.

وكذلك هجرة الأولياء من خواصه ؛ فيها لهم خلاص من البلايا ، واستخلاص للكثيرين من البلايا.

قوله جل ذكره : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

جحود الحقّ بعد وضوح برهانه علم (٣) لاستكبار صاحبه ، وهو ـ فى الحال ـ فى وحشة غيّه ، معاقب بالصّد وتنغّص العيش ، يملّ حياته ويتمنى وفاته ؛ (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

قوله جل ذكره : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ

__________________

(١) وردت (ما لم فيه) وربما كانت (ما لهم فيه)

(٢) وردت (المصير) والصحيح (مسير) الذين لم تتح لهم فرصة الانتقال إلى أماكن الأنبياء.

(٣) ضبطنا (علم) هكذا لكى تؤدى معنى (علامة) على الاستكبار ، فهكذا يتطلب السياق.

٦٠٤

يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧))

التعريج فى أوطان الكسل ، ومساكنة مألوفات الراحة من خصائص أحكام النّفس. فهى بطبعها تؤثر فى كل حال نصيبها ، وتتمجل لذّة حظّها. ولا يصل أحد إلى جلائل النّعم إلا بتجرّع كاسات الشدائد ، والانسلاخ عن معهودات النصيب. (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إذا أراد الله ـ سبحانه ـ تخصيص عبد بولايته قضى على طوارق نفسه بالأفول ، وحكم لبعض شهواته بالذبول ، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها ، ولجوامع الموانع باستحقاقها.

قوله جل ذكره : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

ليحق الحقّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود ، والتحقيق لما يظهر من عين الجود.

ويقال ليحقّ الحقّ بنشر أعلام الوصل ، ويبطل الباطل بقهر أقسام الهزل.

قوله جل ذكره : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة ، والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسير للمسئول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتعجّل الإجابة حصلت الآمال وقضيت الحاجة .. بذلك جرت سنّته الكريمة.

ويقال بشّرهم بالإمداد بالملك ، ثم رقّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من الملك ، ولم يذرهم فى المساكنة إلى الإمداد بالملك فقال : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) فالنجاة من البلاء حاصلة ، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة ، والدعوات مسموعة ، والإجابة غير ممنوعة ، وزوائد الإحسان متاحة ، ولكن الله عزير

٦٠٥

الطالب واجد ولكن بعطائه ، والراغب واصل ولكن إلى مبارّه. والسبيل سهل ولكن إلى وجدان لطفه ، فأمّا الحقّ فهو عزيز وراء كل وصل وفصل ، وقرب وبعد ، وما وصل أحد إلا إلى نصيبه ، وما بقي أحد إلا عن حظه ، وفى معناه أنشدوا :

وقلن لنا نحن الأهلّة إنما

نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى

فلا بذل إلا ما تزوّد ناظر

ولا وصل إلا بالجمال الذي يسرى

قوله جل ذكره : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ)

غشيهم النّعاس تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم (١) ونفوسهم كدّ الأغيار والكلال ، وأنزل على قلوبهم روح الأمن ، وأمطرت السماء فاغتسلوا بعد ما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام ، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام فى رملها ، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناء بسلوك رملها وبالانتفاء عن الغسل ، فلمّا (....) (٢) الإحساس ، واستمكن منهم النّعاس ، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قبل الله لا بسكونهم وحركتهم ، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية

وكما طهّر ظواهرهم بماء السماء طهّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلّ غير وكلّ غير وكلّ علّة ، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس ، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجرى الحقّ من فنون التصريف.

قوله جل ذكره : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).

__________________

(١) وردت (زواهرهم) والصواب أن تكون (ظواهرهم) لتتلاءم مع (نفوسهم)

(٢) مشتبهة وربما كانت (زايلهم)

٦٠٦

أقدام الظاهر فى مشاهد القتال ، وأقدام السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجارى التقدير.

قوله جل ذكره : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)

(١) عرّفنا أنّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد وتثبيت الملائكة للمؤمنين : قيل كانوا يظهرون للمسلمين فى صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم ، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة.

وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون فى قلوبهم ذلك من جهة الخواطر ، ثم إن الله يخلق لهم فيها ذلك ، فكما يوصّل الحق سبحانه ـ وساوس الشيطان إلى القلوب يوصل خواطر الملك ، وأيّدهم بإلقاء الخوف والرعب فى قلوب الكفار.

قوله جل ذكره : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

وذلك بأمر الله وتعريفه من جهة الوحى والكتاب ، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم. ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضربا يوجب قتلهم ؛ لأنه لا حياة بعد ضرب العنق ، ولفظ فوق يكون صلة.

(وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي ضربا يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين ؛ لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بيّن أنهم فى مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم.

والمنشئ ـ بكلّ وجه ـ الله ؛ لانفراده بقدرة الإيجاد

__________________

(١) أخطا الناسخ فكتبها (فثبت).

٦٠٧

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

يمهل المجرم (١) أياما ثم لا يهمله ، بل يذيقه بأس فعله ، ويزيل عنه شبهة ظنّه

قوله جل ذكره : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

(٢) ذلكم العذاب فذوقوه ـ أيها المشركون ـ معجّلا ، واعلموا أن للكافرين عذابا مؤجّلا ، فللعاصين عقوبتان محصّل بنقد ومؤخّر بوعد.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

(٣) يقول إذا لقيتم الكفار فى المعركة زحفا مجتمعين فاثبتوا لقتالهم ، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب ، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفى الجهاد مع العدو ، فالواجب الثبات عند الصولة ـ هذا فى الظاهر ، وفى الباطن جهاد مع الشيطان ، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزّلة ؛ فمن وقف على حدّ الإمساك عن إجابته ، بلا إنجاز لما يدعوه بوساوسه فقد وفّى الجهاد حقّه.

وكذلك فى مجاهدة النّفس ، فإذا وقف العبد عن إجابة النّفس فيما تدعوه بهواجسها ،

__________________

(١) وردت (المحرم) بالحاء وهى خطأ فى النسخ.

(٢) أخطأ الناسخ إذ جعلها (عذابا أليما).

(٣) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها

٦٠٨

ولم يطع (١) شهوته فيما تحمله النفس عليه من البلاء إلى ابتغاء حظّه فقد وفّى الجهاد حقّه.

والإشارة فى قوله : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) بإيثار بعض الرّخص ليتقوّى على ما هو أشد ؛ كأكله مثلا ما يقيم صلبه ليقوى على السّهر ، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش ، أو نفى مقاساة جوع أو برد أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه ، ولاستدامة اتصال قلبه به ، فإن ترك بعض أوراد الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة فى أحكام واردات السرائر أخذ فى حقّ الجهاد بحزم.

والإشارة فى قوله : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه فى المجاهدة ، ويبقى شهود ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته. ثم باستمداده من همم الشيوخ ؛ فإن المريد ربيب همّة شيخه ، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم ؛ يجبرون (٢) كسرهم ، ويتوبون منهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم. ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه ، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه فقد باء من الله بسخط ، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه.

قوله جل ذكره : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

الذي نفى عنهم من القتل هو إماتة الروح وإثبات الموت ، وهو من خصائص قدرته ـ سبحانه ، والذي يوصف به الخلق من القتل هو ما يفعلونه فى أنفسهم ، ويحصل ذهاب الروح عقيبه.

وفائدة الآية قطع دعاواهم فى قول كل واحد على جهة التفاخر قتلت فلانا ، فقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ (٣) هو الله عزوجل. وصانهم بهذه الآية وصان نبيّه ـ عليه‌السلام ـ عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم.

__________________

(١) وردت (لم يطلع) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت (يخبرون) والمناسب للكسر (يجبرون).

(٣) وردت (المهدى) بالهاء وقد جعلناها (المبدى) لأن الكلام متجه إلى الإنشاء والإيجاد والإبداع والخلق.

٦٠٩

وكذلك قال جل ذكره : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

أي ما رميت بنفسك ولكنك رميت بنا ، فكان منه (صلوات الله عليه) (١) قبض التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب ، وكسبه موجد من الله بقدرته ، وكان التبليغ والإصابة من قبل الله خلقا وإبداعا ، وليس الذي أثبت ما نفى ولا نفى ما أثبت إلا هو ، والفعل فعل واحد ولكن التغاير فى جهة الفعل لا فى عينه.

فقوله : (إِذْ رَمَيْتَ) فرق ، وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) جمع. والفرق صفة العبودية ، والجمع نعت الربوبية ، وكلّ فرق لم يكن مضمّنا بجمع وكلّ جمع لم يكن ـ فى صفة العبد ـ مؤيّدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة.

وإن الحقّ ـ سبحانه ـ يكل الأغيار إلى ظنونهم ، فيتيهون فى أودية الحسبان ، ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم ، وذلك منه مكر بهم.

قال الله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢) وأما أرباب التوحيد فيشهدهم مطالع التقدير ، ويعرّفهم جريان الحكم ، ويريهم أنفسهم فى أسر التصريف ، وقهر الحكم. وأمّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيجرى عليهم ما يجرى و (ما) (٣) لهم إحساس بذلك ، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير ، ويتولّى حفظهم عن مخالفة الشرع.

قوله جل ذكره : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً).

البلاء الاختبار (٤) ، فيختبرهم مرة (٥) بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم ، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم ، أو ذكرهم أو نسيانهم.

__________________

(١) أضفنا (صلوات الله عليه) ليتضح اتجاه المعنى.

(٢) آية ١٠٤ سورة الكهف.

(٣) سقطت (ما) من الناسخ والمعنى يتطلبها إذ هم لا إحساس لهم بما يجرى عليهم من حكم وتصريف.

(٤) وردت (الاختيار) بالياء وهى خطأ فى النسخ.

(٥) وردت (مر) بدون تاء مربوطة والصواب أن تكون بها.

٦١٠

«البلاء الحسن» : توفيق الشكر فى المنحة ، وتحقيق الصبر فى المحنة ، وكل ما يفعله الحقّ فهو حسن من الحقّ لأنّ له أن يفعله. وهذه حقيقة الحسن : وهو ما للفاعل أن يفعله (١) ويقال حسن البلاء لأنه منه و (...) (٢) البلاء لأنه فيه.

ويقال البلاء الحسن أن تشهد المبلى فى عين البلاء.

ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إن كان نعمة ، ولا شكوى إن كان محنة.

ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إن كان عسرا ، ولا بطر إن كان يسرا.

ويقال بلاء كلّ أحد على حسب حاله ومقامه ؛ فأصفاهم ولاء أوفاهم بلاء ، قال عليه‌السلام : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (٣)

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

تنفيس لقوم وتهديد لقوم ؛ أصحاب الرّفق يقول لهم إن الله (سَمِيعٌ) لأنينكم ؛ فيروّح عليهم بهذا وقتهم ، ويحمل عنهم ولاءهم (٤) ، وأنشدوا :

إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة

تمنيت أن أشكو إليك فتسمعا

وقالوا :

قل لى بألسنة التّنفس

كيف أنت وكيف حالك؟

وأمّا الأكابر فلا يؤذن لهم فى التّنفّس ، وتكون المطالبة متوجّهة عليهم بالصبر ، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهار ولا شكوى ، فيقول : لو ترشح منك ما كلّفت بشربه توجّهت عليك الملامة ، فإن لم يكن منك بيان فإنّى سميع لقالتك ، عليم بحالتك.

__________________

(١) لاحظ الفرق بين (وهو ما للفاعل أن يفعله) في مسألة الحسن فقد جعل فعل الحسن حقا لله وبين (عليه أن يفعله) عند المعتزلة إذ جعلوه واجبا عليه.

(٢) مشتبهة.

(٣) رواه الترمذي ، وقال حسن صحيح ، وابن ماجه ، والحاكم عن سعد بن أبى وقاص. والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي من حديث عاصم. والطبراني من حديث فاطمة.

(٤) ربما كانت فى الأصل (بلاءهم) فذلك يناسب التنفيس والترويح والرفق.

٦١١

ويقال فى قوله (عَلِيمٌ) تسلية لأرباب البلاء ؛ لأنّ من علم أنّ مقصودة يعلم حاله سهل عليه ما يقاسيه فيه ، قال ـ سبحانه ـ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (١).

قوله جل ذكره : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

موهن كيدهم : بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين ، والثبات على انتظار الفضل من قبل الله ، وموهن كيدهم : بأن يأخذ الكافرين من حيث لا يشعرون ، ويظفر جند المسلمين عليهم.

قوله جلّ ذكره : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ)

قال المشركون ـ يوم بدر ـ اللهم انصر أحبّ الفئتين إليك ، فاستجاب دعاءهم ونصر أحبّ الفئتين إليه. وهم المسلمون ، فسألوا بألسنتهم هلاك أنفسهم ، وذلك لانجرارهم فى مغاليط ما يعلّقون من ظنونهم ، فهم توهّموا استحقاق القربة ، وكانوا فى عين الفرقة وحكم الشّقوة ، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم ، والوقوع فى شقائهم ؛ فباختيارهم منوا ببوارهم.

ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فزلّوا ، فلما كشف الستر خابوا وذلّوا ، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا فى ظنهم وضلوا.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢).

فيغفر لكم ما قد سلف من خلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ليس المراد منه المبالغة ؛ لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس فيه شر ، وترك موافقتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكل وجه ـ هو شرّ لهم ، ولكنه أراد به فى الأحوال الدنيوية ، وعلى موجب ظنّهم.

__________________

(١) آية ٩٧ سورة الحجر.

(٢) أخطا الناسخ فى كتابة الآية إذ جاءت هكذا و (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ).

٦١٢

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ).

يعنى إن عدتم إلى الجميل من السيرة عدنا عليكم بجميل المنّة ، وإن عاودتم الإقدام على الشّرّ أعدنا عليكم ما أذقناكم من الضّرّ.

قوله جل ذكره : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

من غلبته قدرة الأحد لم تغن عنه كثرة العدد.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

الناس فى طاعة الله على أقسام : فمطيع لخوف عقوبته ، ومطيع طمعا فى مثوبته ، وآخر تحققا بعبوديته ، وآخر تشرفا بربوبيته.

وكم بين مطيع ومطيع! وأنشدوا :

أحبك يا شمس النهار وبدره

وإن لامنى فيك السّها والفراقد

وذاك لأنّ الفضل عندك زاخر

وذاك لأنّ العيش عندك بارد

قال تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ولم يقل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وفى ذلك نوع تخصيص ، وحزب تفضيل يلطف عن العبارة ويبعد عن الإشارة (١)

قوله جل ذكره : (وَلا) (٢) (تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ).

أي تسمعون دعاءه إياكم ، وتسمعون ما أنزل عليه من دعائى إياكم.

قوله جل ذكره : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١))

لا تكونوا ممن يشهد جهرا ، ويجحد سرّا.

__________________

(١) هذا من المواضع التي يشعر فيها القارئ أن القشيري يريد أن يقول شيئا ولكنه يتركه لفطنة القارئ يستشف ما وراء السطور.

(٢) أخطأ الناسخ فكتبها (ولو تولوا).

٦١٣

ويقال لا تقرّوا بلسانكم ، وتصرّوا على كفرانكم.

ويقال من نطق بتلبيسه تشهد الخبرة بتكذيبه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢))

دواعى الحق بحسن البيان ناطقة ، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة ، وخواطر الغيب بكشف ظلم الريب مفصحة ، وزواجر التحقيق عن متابعة التموية للقلوب ملازمة. فمن صمّ عن إدراك ما خوطب به سرّه ، وعمى عن شهود ما كوشف به قلبه ، وخرس ـ عن إجابة ما أرشد إليه من حجة ـ فهمه وعقله فدون رتبة البهائم قدره ، وفوق كل (....) (١) من حكم الله ذلّه وصغره.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

من أقصته سوابق القسمة لم تدنه لواحق الخدمة ، ومن علمه الله بنعت الشّقوة حرمه ما يوجب عفوه.

ويقال لو كانوا فى متناولات الرحمة لألبسهم صدار العصمة ، ولكن سبق بالحرمان حكمهم ، فختم بالضلالة أمرهم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ)

أجاب واستجاب بمعنىّ مثل أوقد واستوقد ، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية (٢) بأنها تكون طوعا لا كرها ، وفرق بين من يجيب لخوف أو طمع وبين من يستجيب لا بعوض ولا على ملاحظة غرض. وحقّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أن تذر من المستطاع بقية.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) لاحظ كيف يتفق مذهب القشيري فى المصطلح مع القاعدة اللغوية : زيادة المبنى فيها زيادة المعنى.

٦١٤

والمستجيب لربه محو عن كلّه باستيلاء الحقيقة ، والمستجيب للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ـ قائم بشريعته من غير إخلال بشىء من أحكامها. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستجابة له ـ سبحانه ، وبالاستجابة للرسول ؛ فالعبد المستجيب ـ على الحقيقة ـ من قام بالله سرّا ، واتصف بالشرع جهرا ، فيفرده الحقّ ـ سبحانه ـ بحقائق الجمع و (....) (١) فى مشاهدة الفرق ، فلا يكون للحدثان فى مشرب حقائقه تكدير ، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير.

قوله جل ذكره : (لِما يُحْيِيكُمْ).

إذ لمّا أفناهم عنهم أحياهم به.

ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته ، وأما العالمون فأحياهم بدلائل ربوبيته ، بعد ما أفناهم عن الجهل وظلمته. وأمّا المؤمنون فأحياهم بنور موافقته بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمّا الموحّدون فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير ، والملاحظة لكل حدثان.

قوله جل ذكره : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

يصون القلوب عن تقليب أربابها فيقلّبها كما يشاء هو ، من بيان هداية وضلال ، وغيبة ووصال ، وحجبة وقربة ، ويقين ومرية ، وأنس ووحشة.

ويقال صان قلوب العبّاد عن الجنوح إلى الكسل ، فجدّوا فى معاملاتهم ، وصان قلوب المريدين عن التعريج فى أوطان الفشل فصدقوا فى منازلاتهم ، وصان قلوب العارفين ـ على حدّ الاستقامة ـ عن الميل فتحققوا بدوام مواصلاتهم.

ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله ، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلى الأغيار سبيل ، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدى إلى شىء إلا إلى ربّه! كما قيل :

__________________

(١) مشتبهة ، ولكن حسبما نعلم فى مواضع سبقت أن المقصود أن الحق (يتولى) العبد أثناء الفرق الثاني. حيث يعود بالعبد المأخوذ ليقوم بفرائض الشرع ، حتى لا يكون فى تحققه مقصرا في شىء من مطالبات الشريعة ، ولذا نرجح أن الكلمة الناقصة هى : (ولا يتركه) أو ما فى معناها.

٦١٥

لا يهتدى قلبى إلى غيركم

لأنه سدّ عليه الطريق

ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم ، قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ).

والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم.

قوله جل ذكره : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها ، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطها.

وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب ، ولكن قد ينفرد أحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم ، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم ؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال بل إنها تصيب أيضا ظالما فى المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه ، ورضاه به ، وهذا معنى التفسير من حيث الظاهر. فأمّا من جهة الإشارة : فإن العبد إذا باشر رلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهى العقوبة المعجلة ، وتصيب النّفس منها العقوبة المؤجلة ، والقلب إذا حصلت منه فتنة الزلة ـ عند ما يهم بما لا يجوز ـ تعدّت فتنته إلى السّر وهى الحجبة.

والمقدّم فى شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى متّبعيه وتلامذته ، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعلموا ذنبا. ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تركهم الأذكار أصابتهم فتنة ما فعلوه ؛ فلقد قيل إنّ السفيه (١) إذا لم ينه مأمور. فعلى هذا تصيب فتنة الزّلة مرتكبها ومن ترك النّهى عن المنكر ـ مثل من ترك الأمر بالمعروف ـ يؤخذ بجرمه. (٢)

__________________

(١) وردت (السفينة) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت هذه العبارة حافلة بالكثير من الأخطاء التي سببت فى غموض المعنى فقومناها حسبما يقتضى السياق ـ دون أن يكون اقتحامنا خطيرا على النص.

٦١٦

ويقال إنّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع فى أخذ الزيادة من الدنيا مما فوق الكفاية ـ وإن كان من وجه حلال ـ تؤدى فتنته إلى من يخرج به من المبتدئين ، فبجملة ما أبدى من الرغبة فى الدنيا ، وترك التقلل يؤدى إلى الانهماك فى أودية الغفلة والأشغال الدنيوية.

والعابد إذا جنح عن الأشقّ وترك الأولى (١) تعدّى ذلك إلى من كان ينشط فى المجاهدة ؛ فيستوطنون الكسل ، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل :

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أي مفسدة

وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة.

والعارف إذا رجع إلى ما فيه حظ له ، نظر إليه المريد ، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة ، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف.

وفى الجملة إذا غفل الملك ، وتشاغل عن سياسة رعيته تعطّل الجند والرعية ، وعظم فيهم الخلل والبليّة ، وفى معناه أنشدوا :

رعاتك ضيّعوا ـ بالجهل منهم ـ

غنيمات فساستها ذئاب

و (اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) بتعجيله ذلك ، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبدا ليعاقبه لا يمكّنه من تلافى موجب تلك العقوبة.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)

يذكرهم ما كانوا فيه من القلّة والذّلة وصنوف (...) (٢) ثم ما نقلهم إليه من الإمكان والبسطة ، ووجوه الأمان والحيطة ، وقرّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القسم،

__________________

(١) وردت (الأولاد) وهى خطأ فى النسخ ، والجنوح عن الأشق وترك الأولى تعبيران مألوفان عند ما يتحدث القشيري عن إيثار الصوفي للرخص.

(٢) مشتبهة وربما كانت (الحطّة) أي نقصان المنزلة ، فإنها قريبة للسياق ، ومنسجمة مع الموسيقى اللفظية.

٦١٧

وإدامة الحمد على جميل تلك النّعم ، فمهّد لهم فى ظل أبوابه مقيلا ، ولم يجعل للعدوّ إليهم ـ بيمن رعايته ـ سبيلا.

قوله جل ذكره : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

رزق الأشباح والظواهر من طيبات الغذاء ، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق فى شهود المنعم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

الخيانة الاستبطان بخلاف ما يؤمّل منك بحق التعويل ، فخيانة الله بتضييع ما ائتمنك عليه ، وذلك بمخالفة النّصح فى دينه ، وخيانة الرسول بالاتصاف بمخالفة ما تبدى من مشايعته.

والخيانة فى الأمانات بترك الإنصاف ، والاتصاف بغير الصدق.

وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة ، فمن اؤتمن فى مال فتصرّف فيه بغير إذن صاحبه ـ خيانة ، ومن اؤتمن على الحرم فملاحظته إياهن ـ خيانة. فعلى هذا : الخيانة فى الأعمال الدعوى فيها بأنها من قبلك دون التحقيق بأنّ منشئها الله.

والخيانة فى الأحوال ملاحظتك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك فى شهود الحق ، إن لم يكن استهلاكك فى وجود الحق. وإذا أخللت بسنّة من السّنن أو أدب من آداب الشّرع فتلك خيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والخيانة فى الأمانات ـ بينك وبين الخلق ـ تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين ، بإرادة القلب فضلا عن المعاملة بالفعل.

قوله جل ذكره : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

٦١٨

أموالكم وأولادكم سبب فتنتكم لأن المرء ـ لأجل جمع ماله ولأجل أولاده ـ يرتكب ما هو خلاف الأمر ، فيورثه فتنة العقوبة.

ويقال الفتنة الاختبار ؛ فيختبرك بالأموال .. هل تؤثرها على حقّ الله؟

وبالأولاد .. هل تترك لأجلهم ما فيه رضاء الله؟

فإن آثرتم حقّه على حقّكم ظهرت به فضيلتكم ، وإن اتصفتم بضدّه عوملتم بما يوجبه العكس من محبوبكم.

ويقال المال فتنة إذا كان عن الله يشغلكم ، والأولاد فتنة إذا لأجلهم قصّرتم فى حقّ الله أو فرّطتم.

ويقال المال ـ ما للكفاف والعفاف (١) ـ نعمة ، وما للتقاصر والتفاخر فتنة ، وفى الجملة ما يشغلك عن الله فهو فتنة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

(٢) الفرقان ما به يفرق بين الحق والباطل من علم وافر وإلهام قاهر ، فالعلماء فرقانهم مجلوب برهانهم ، والعارفون فرقانهم موهوب (٣) عرفانهم ؛ فأولئك مع مجهود أنفسهم ، وهؤلاء بمقتضى جود ربّهم.

العرفان تعريف من الله ، والتكفير (٤) تخفيف من الله ، والغفران تشريف للعبد من الله.

__________________

(١) وردت (والعقاب) وهى خطا من الناسخ إذ لا تؤدى المراد ، ونظن أن (العفاف) تنسجم مع السياق ، ومع التركيب الداخلى للأسلوب.

(٢) أخطأ الناسخ إذ جعل خاتمة الآية (والله سميع عليم).

(٣) وردت (موهوم) وهى خطأ من الناسخ ، والصواب أن تكون (موهوب) فهكذا يتطلب السياق.

(٤) (التكفير) هنا تشير الى ما ورد فى الآية : (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

٦١٩

قوله جل ذكره : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

ذكره عظيم منّته عليه حيث خلّصه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة ، وهمّوا بقتله ، وحاولوا أن يمكروا به فى السّر ، فأعلمه الله ذلك.

والمكر إظهار الإحسان مع قصد الإساءة فى السّر ، والمكر من الله الجزاء على المكر ، ويكون المكر بهم أن يلقى فى قلوبهم أنه محسن إليهم ثم ـ فى التحقيق ـ يعذّبهم ، وإذا شغل قوما بالدنيا صرف همومهم إليها حتى ينسوا أمر الآخرة ، وذلك مكر بهم ، إذ يوطّنون نفوسهم عليها ، فيتيح لهم من مأمنهم سوءا ، ويأخذهم بغتة.

ومن جملة مكره اغترار قوم بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس ، وإجراء كثير من الطاعات عليهم ، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطة ، وهم عن الله غافلون ، وعند الناس أنهم مكرمون ، وفى معناه قيل :

وقد حسدونى فى قرب دارى منكم

وكم من قريب الدار وهو بعيد

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

فرط جهلهم ، وشؤم جحدهم ستر على عقولهم قبح دعاويهم فى القدرة على معارضة القرآن فافتضحوا عند الامتحان بعدم البرهان ، والعجز عما وصفوا به أنفسهم من الفصاحة والبيان ، وقديما قيل :

من تحلّى بغير ما هو فيه

فضح الامتحان (١) ما يدّعيه

__________________

(١) وردت (الامتهان) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء.

٦٢٠