لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

(ب) موقفا فيه الخطأ شبه مؤكد وعند ذلك نكتب فى المتن ما نراه صوابا دون أن نترك الأمر على عواهنه بل نثبت فى الهامش ما جاء فى النسخة ، موضحين أسباب رفضنا لما كتبه الناسخ حتى نضع أمام القارئ صورة أمينة لما نقوم به من عمل ، وكان المفروض أن نكتب كل ما كتب الناسخ فى المتن وأن نصوّب ما نراه فى الهامش ولكن هذه الأخطاء كثيرة جدا بحيث تعوّق القراءة ، وتشق على الدارس.

(ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل ، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن ، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا ... أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب.

أمّا المشتبهات فنضع مكانها نقطا بين أقواس ونشير إليها فى الهامش ، وليس لنا فيها حيلة إلا إذا ظهرت لنا نسخة من الكتاب أكثر وضوحا.

وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش.

وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر ، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا ، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له ، وله أن يرفض.

ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية ، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة ، على أننا نعد ـ إن أعاننا الله ـ أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة ، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة.

٢١

النسخة المصرية

تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ...) حتى نهاية الكتاب ، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور ، كما أنها ساعدت ـ نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها ـ على التقليل من المشتبهات ، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني.

ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها ، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء.

منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته

صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى ، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن ، وسائله وغاياته.

أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج ٢ ص ٢٥٧ ط ثالثة سنة ١٣٣٩ غير صحيحة حيث يقول : «لطائف الإشارات فى حقائق العبارات».

ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ ـ مفردة أو مركبة ـ دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية ، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي ، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم ـ بفضل من الله ـ العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر.

وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل ؛ إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة ، وصفّى نفسه من كل كدورة ، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة : دراسة كلام الحق جلّ ذكره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

٢٢

وفى ذلك يقول القشيري فى مقدمته : «أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضمنه من دقيق إشاراته وخفّى رموزه ، بما لوّح لأسرارهم من مكنونات ، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم ، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم ، والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يلهمهم بما به يكرمهم ، فهم به عنه ناطقون ، وعن لطائفه مخبرون ، وإليه يشيرون ، وعنه يفصحون ، والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون».

ويتضح ـ بادئ ذى بدء ـ أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة ، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله ، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك ، وكان لديك استعداد ملائم ، وخصصته بعنايتك ، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل ، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق ، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية ، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة.

وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق ، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير ، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه ـ زورا أو خطأ ـ عن التفسير الإشارى السديد.

فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل ، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل ، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية ، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء ، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم

٢٣

افتيات الإشارة على العبارة ، فلا تخرج بها عن مألوف ما ينسجم مع الأسلوب العربي سواء من حيث اللغة أو النحو أو الاشتقاق أو الفنون الأدبية ، ولا تخرج بها عن الدلالات التي توافق أسباب النزول والأخبار الموثوقة وعلوم الحديث والأصول والفقه ، فكأن الإشارة ليست انبعاثا تلقائيا محضا ولكنها مقيدة ـ منذ البداية ـ بالكثير من العلوم العقلية والنقلية فما أشبه موقف اللفظة القرآنية فى هذا المجال بموقف من يتهيأ لارتياد الطريق الصوفي فكلاهما يتعرّى عن ظاهره ، وكلاهما يخضع لما تتطلبه المعارف العقلية والنقلية من شرائط البداية ، وكلاهما يصبح صافيا رائقا يشف درجة بعد درجة كلما زاد الصعود وارتقى القصود .. فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو ، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب.

قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها ، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها ، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها ، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد.

ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله ، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل ، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم ، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا ، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء ، ولا عقيدة باطنية مستورة ، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله ـ جل ذكره ، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟!

وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة»

٢٤

فهو منذ الصفحة الأولى فى «رسالته» يحاول أن يعرّف بأن عقيدة الشيوخ «الذين بهم اقتداء» عقيدة سليمة لا تخرج في قليل أو كثير عن عقيدة التوحيد الرائقة الصافية ، ثم يسير فى تراجم الشيوخ ليختار لك من أقوالهم وأخبارهم وأفعالهم ما يؤيد ذلك ، ثم يبوّب رسالته إلى التوبة والزهد والتوكل والرضا والمحبة ... إلخ. ولا ينثنى عند استفتاح كل باب عن ذكر آيات من كتاب الله الكريم بعدها أحاديث وأخبار عن الرسول صلوات الله عليه .. لما ذا كل ذلك؟ لكى يثبت أن هناك لقاء بين الشريعة والحقيقة ، وأنهما وجهان لشىء واحد .. تلك هى الغاية القصوى التي يطمح إليها هذا الإمام الجليل ، والتي من أجلها نذر عمره ، وخصص جهده ، ولم يضن عليها بشىء في استطاعته ، ولم يفارقه الطموح إليها فى مصنّف من مصنفاته ... وما أعظمها وما أشرفها من غاية!

فإذا كنّا أخرجنا من نطاق التفسير الإشارى هذه التفاسير المنسوبة لبعض المنتسبين للتصوف فأولى أن نخرج من هذه التأويلات الاعتزالية والشيعية والبدعية والإلحادية وغيرها مما تعتمد فى مباحثها على أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدّامة ، وارتكبت فى حق الظاهر القرآنى جرائم خطيرة حين أريد له أن يؤول لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة ، وفى ذلك يقول التفتازانيّ فى شرح العقائد النسفية : «سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم ، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية» ، ويستدرك التفتازانيّ قائلا : «وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان ومحض الإيمان» (شرح العقائد النسفية ط الحلبي سنة ١٣٢ ه‍).

والذي نحمده للقشيرى وينبغى أن نشيد به فى هذا التقديم أنه حرص أشد الحرص على النص القرآنى ، وأنه التزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس ، وكان عمله أشبه بمن يقبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الزهاد والعارفين ، دون أن يتورط فى تعسّف أو ينزلق فى درب من دروب الشطط ، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج

٢٥

أنه سني حريص على سنيته بقدر ما هو صوفى حريص على صوفيته ، فكان عليه أن يرضى أوساط أهل السنة فى الوقت الذي كان عليه أن ينفع الصوفية ، وأن يوضح لكلا الطرفين أن الأصول والفروع فى الحالين مستمدة من كتاب الله الكريم.

ولقد أعان القشيري فى عمله أنه صنّف قبل «اللطائف» كتابا كاملا فى تفسير القرآن على نحو تقليدى هو «التيسير فى التفسير» ـ الذي حصلنا على مصورة للجزء الخامس منه من أكاديمية العلوم السوفيتية ـ ونجده فى «التيسير» يعنى أشد العناية باللغة والاشتقاق والنحو وأسباب النزول والأخبار والقصص. وقد صنّفه قبل أن يلتقى بشيخه الدقاق أي قبل أن يسلك المسلك الصوفي ، فأعانه ذلك على أن يفقه العبارة من معظم زواياها المتصلة بالظاهر ، حتى إذا بدأ يكتب «اللطائف» كان طريقه إلى الإشارة وإلى فقه الباطن ممهدا ، ومناله ميسورا ، وآفاقه مفتّحة.

* * *

سار القشيري فى «اللطائف» على خطة واضحة محددة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره ، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة ، وأحيانا حرفا حرفا ، والبسملة تتكرر بلفظها فى مفتتح كل سورة ، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر ؛ إذ هى تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه ، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلّما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلّها ، فالله والرحمن والرحيم لها دلالات خاصة فى سورة القارعة ، ولها دلالات أخرى فى سورة النساء ولها دلالات خاصة فى الأنفال وهكذا ...

ونستنتج من ذلك عدّة نتائج :

أولا : أنه يعتبر البسملة قرآنا ؛ وليست كما يقول البعض ـ شيئا يستفتح به للتبرك ، شأن ما نصنع فى بداية أقوالنا وأفعالنا (انظر «المغني» للقاضى عبد الجبار المتوفى سنة ٤١٥ ه‍ ج ١١ ط وزارة الثقافة (تراثنا) ص ١٦١).

ثانيا : أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا ، ومادام يجد لها مقاصد متجددة ، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار فى القرآن ، وفى ذلك يقول فى الورقة الثالثة من

٢٦

اللطائف : «فلمّا أعاد الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذه الآية ـ أعنى بسم الله الرّحمن الرّحيم ـ فى كل سورة ، وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة وإشارات غير معادة».

ثالثا : أن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا عند استبطان الظاهر ، لأننا نجده أمام أربع كلمات تتكرر بلفظها ومعناها من بداية القرآن إلى نهايته ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه سار على هذه السّنّة فى «التيسير» ازداد إعجابنا به وعجبنا له.

ومن الخير أن نضرب هنا مثلين لما صنع فى بسملة «اللطائف» لنستوضح مقاصده من هذا الاتجاه.

يقول فى بسملة سورة «الحجر» : «سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة ، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة ، ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة ؛ فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة ، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب (لاستحقاق) علة. فإن قيل العلة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء فى بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود. فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة ؛ يرفع من يشاء ويمنع من يشاء».

ويتضح من هذا أن استنباط الإشارة ليس ـ كما قلنا من قبل ـ مسألة عشوائية إنما هو خاضع لقواعد وأصول ، وإلى تفنيد لمختلف الآراء ، ومحاولة للإقناع.

وليس هذا فقط .. بل إنك لو تعمقت داخل السورة لأدهشك ـ كما أدهشنى ـ أن هناك صلة وثيقة محكمة بين هذا الذي فسرت به البسملة وبين كلام فى داخل السورة عن رفع الخلق بلا علة ، وخفضهم بلا علة ، وذلك كما ورد فى قصة خلق آدم ، وكيف أن الملائكة (كانوا فى حال سترهم لأنهم نظروا إلى القوالب مع أن الاعتبار بالمعاني التي يودعها ، فالملائكة استصغروا قدر آدم وحاله وتعجبوا من الأمر لهم بالسجود فكشف لهم شظيّة مما اختصه فسجدوا للأمر وكذا حال من ادّعى الخيرية) أما إبليس فلم يفطن للمشيئة الإلهية

٢٧

العليا ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون (بعد ما لاحت لهم المعرفة) وبقي هو على عناده متأبيا أن يسجد لبشر مخلوق من صلصال من حمأ مسنون (لأنه لا يعرف أن مشيئة الله تجرى على غير علة).

وفى سورة براءة ـ التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة ، استمع إليه يقول : «الحقّ ـ سبحانه ـ جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء ، ويفرد من يشاء بما يشاء ، لا لصنعه سبب ، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو ـ وإن كان وجها فى الإشارة ـ إلا أنه ضعيف ، وفى التحقيق كالبعيد ، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ومثل قوله (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) وقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ...) فهذه كلها مفاتح السور ، والبسملة مثبتة فى أوائلها ، وهى متضمنة ذكر الكفار.

وقد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة ، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة ، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق».

...... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية ، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة ، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته.

ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير ، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات». وربما كان أفضل

٢٨

ما يورده هنا قول القشيري فى (الم) التي افتتحت بها سورة البقرة لأنها كانت أول حروف مقطعة يقابلها أثناء عمله. يقول : «هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم. ولكل كتاب سر ، وسرّ الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه ؛ فالألف من اسم «الله» واللام يدل على اسم «اللطيف» ، والميم يدل على اسم «المجيد» و «الملك».

وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه ، وقيل إنها أسماء السور ، وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد (ص).

والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط ، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة ، فلينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع.

ويقال (١) يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدّس الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن التخصص ؛ ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج ، غير الألف فإنها هويته لا تضاف إلى محل.

ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه ؛ فيكون كالألف لا يتصل بحرف ، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.

ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى ، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب ، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة ، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالمرتبة العليا ، وفاز بالدرجة القصوي ، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير

__________________

(١) عند ما يقول القشيري «ويقال ...» فليس معنى ذلك دائما أن يورد بعدئذ رأيا لغيره فربما ـ وهذا هو الغالب ـ أنه يقصد إلى توضيح وجهة نظره من زوايا مختلفة.

٢٩

مركبة على سنّة الأحباب فى ستر الحال ، وإخفاء الأمر على الأجنبى من هذه القصة ، قال شاعرهم :

قلت لها قفى قالت قاف

ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب ، ومراعاة لقلب الحبيب ، وهكذا تكثر العبارات للعموم ، والرموز والإشارات للخصوص ؛ أسمع موسى كلامه فى ألف موطن ، وقال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم :

قال لى مولاى ما هذا الدنف

قلت تهوانى قال : لام ألف

 ...... ويمضى القشيري بعد ذلك فيستخرج للصوفية إشارات ثمينة مما يصادفه فى الآية من حكم تشريعى يتصل بالقتال والغنيمة والأسر والكيل والميزان والدين والشهادة ونحو ذلك أو كلام فى العبادات كالصوم والصلاة والحج والزكاة أو ما يعود بالآية إلى أسباب نزولها والأخبار والقصص التي رويت من حولها ، أو ما تحتوى من مظاهر قدرة المولى ـ جل وعلا ـ فى خلق الإنسان والكون.

وينبغى ألا ننتظر من القشيري إسهابا فى الأحكام الفقهية والقواعد التعبدية والأسانيد ونحو ذلك فما لهذا ألّف كتابه ، ولا يصح للقارئ أن يتوقع منه ذلك فهناك تفاسير مخصوصة وضعت للوفاء بهذه الأمور ، إنما قصد القشيري إلى استمداد شىء نافع للصوفية يتدعم به رأى من آرائهم أو عمل من أعمالهم ، فهذا هو مقصوده ، وتلك مراميه ، ونحن من أجل ذلك نقول بلا تحفظ إن «لطائف الإشارات» يمثل تمثيلا صادقا مذهب القشيري فى التصوف أكثر مما تمثله «الرسالة» فهو يغنى عنها وهى لا تغنى عنه.

وعلينا الآن أن نسوق أمثلة قليلة توضح موقف القشيري فى تلك الأمور حتى يعرف القارئ منذ البداية أي نوع من التفسير ذلك الذي نضعه بين يديه. ففيما يختص بالأحكام التشريعية نراه مثلا عند الآية الكريمة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) يقول : الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولمّا كان الجهاد قسمين : جهاد الظاهر مع الكفّار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان ، وكما أن للجهاد

٣٠

الأصغر غنيمة عند الظفر كذلك للجهاد الأكبر غنيمة وهو أن يملك نفسه التي كانت فى يد عدوّيه : الهوى والشيطان ، وبعد أن كانت ظواهره مقرا للأعمال الذميمة وباطنه مستقرّا للأحوال الدنيئة يصير محلّ الهوى مسكن الرضا ، ومقرّ الشهوات والمنى محلّا لما يرد عليه من مطالبات المولى ، وتصير النّفس مستلبة من إصرار الشهوات ، والقلب مختطفا من وصف الغفلات ، والروح منزوعة من أيدى العلاقات ، والسرّ مصونا من الملاحظات. وكما أنّ من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول وهو الخمس فما هو غنيمة ـ على لسان الإشارة ـ سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب لا من كرائم العقبى ولا من ثمرات التقريب ولا من خصائص الإقبال ، فيكون العبد عند ذلك محررا عن رقّ كل نصيب ، خالصا لله بالله ، يمحو ما سوى الله».

ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى ، وهى : النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر ، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية ، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج ... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب ، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته ، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي ، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه.

ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ ...) «حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع ، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة ، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات ، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر».

أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه ، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه

٣١

منها ، كذلك نراه يهتم اهتماما ملحوظا بالحث على التغلغل فى بواطنها ، ومعرفة جواهرها ، فهى ليست رسوما ظاهرية يؤديها البدن وحسب ولكنها ذات مقاصد بعيدة.

فاستقبال القبلة عند الصلاة له عند القشيري إشارة : (لتكن القبلة مقصود نفسك ، وسبحانه مقصود مشهود قلبك ؛ لا تعلّق قلبك بأحجار وآثار ، وأفرد قلبك لى) وعند قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يقول : «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته ، وإراقة الدماء التي تجب فيه ، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد ، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق ، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص ، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق ، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح ، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره ، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى ، وما فى هذا المعنى ، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية ، وأفضل الحج الشجّ والعجّ ؛ فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها ، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامى والصفات (أسماء الله الحسنى وصفاته) ، وطواف القلوب حول مشاهد العز ، والسعى بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال ، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه».

وتسمع القشيري عند : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ...) يقول : «الصوم على ضربين : صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية ، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات ، ثم صون الروح عن المساكنات ، ثم صون السر عن الملاحظات ....

ونهاية الصوم إذا هجم الليل ، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه‌السلام فالرؤية عائدة على الهلال ، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق ؛ فصومهم لله حتى شهودهم ، وفطرهم لله ، وإقبالهم على الله ، والغالب عليهم الله».

٣٢

هذا عن العبادات أما عن أسباب النزول فينظر إليها القشيري كما ينظر إلى مورد المثل ومضربه ، فالآية (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) يقول عندها القشيري : «نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود : أي فائدة فى هذا؟ أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟

فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم ، فأنزل الله تعالى الآية ، وأن ذلك بإذن الله ، وانقطع الكلام ؛ وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة ، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل ، وسكتت الألسنة عن المطالبة : بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه : لم؟ لم يفلح ، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء ، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى ، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله ـ بسرّه وقلبه ـ فليس من الله فى شىء».

وفى قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يقول : «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة ، وكان يتصدّق منها للمساكين ، فلما ورثه أهله قالوا : لن نفعل فعله ، وأقسموا ألا يعطوا شيئا ، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة ، ويجد التوفيق على التوالي ، ويجتنب المعاصي ، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا ، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى ، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال ، ويقع فى فترة ، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله ، وردّ عن الوصال إلى البعاد ، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب ، وصارت صفوته قسوة ، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف ، وندامة على ما فات من أمره ، فقلّما يصل إلى حاله ، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله ، فيقبله بعد ذلك ، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله ، فإن الله تعالى رءوف بعباده».

ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : «مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم ، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم ، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله ،

٣٣

كان نطفة وفى انتهائه إلى جيفة ، وفى وسائط حاله كنيف فى قميص ، فبالحرىّ ألا يدل ولا يفخر ... ثم صوّره فأحسن صورته ؛ فهو قادر على أن يرقيك من الأحوال الخسيسة إلى المنازل الشريفة النفيسة.

والإنسان أفضل من الجان لأن الجان من نار ، والنار بالماء تنطفىء وتصبح رمادا ولا يجىء منها شىء. أمّا الطين (الإنسان) فإذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه ، ولذلك العدو (إبليس) انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة ، ولكن آدم عليه‌السلام لما اغترّ جبره ماء العناية فقال تعالى : ثم اجتباه ربه».

«خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «رضى الله عنهم ورضوا عنه» خلق الإنسان من طين ولكنه يقول (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) خلق الإنسان من طين ولكن :

فكم أبصرت من حسن ولكن

عليك من الورى وقع اختياري

* * *

وبعد ... فهذه أمثلة سريعة أردنا أن نقدمها للتدليل على المواقف التي يتخذها القشيري فى ظلال القرآن من زوايا مختلفة وفى ظروف متنوعة ، ومن مجموع هذه المواقف يتحصل مذهبه فى التصوف فضلا عن مذهبه فى الكلام ، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حاول أن يحل بطريق العلم الصوفي ما عجز المتكلمون عن حلّه ، فحين حلّ القلب محلّ العقل ليصعد ويقصد نحو الملأ الأعلى ، وأصبح الحقّ مناط الأمل لم يعد هناك معنى لأى حديث فى الجبر والاختيار والحسن والقبيح والثواب والعقاب ـ على النحو الذي اشتجر من حوله الخلاف بين المتكلمين. الله ـ فى عرف هذا الصوفي وفى عرف الصوفية الخلّص ـ مشهود ومحبوب لا معبود فقط ، وكلّ كلام عن جبر الحب وعذاب الحب يسمج ويسخف ، وهل هناك أجمل من أن يتعذب الإنسان فى حبه حتى يهلك؟ ألا ما أروعها من غاية! وما أجدر من أن يضيع العمر بين فقد ووجد! وما أعظم أن يكون الحقّ خلفا لك عن كل حطام الدنيا وأن تكون مشاهدته بديلا لك عن كل نعيم الجنان!

* * *

٣٤

بقيت مسألة هامة لا أحب أن أنهى هذا التقديم دون أن أوضحها ، وهى قيمة هذا الكتاب من الناحية الأدبية.

والواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها ، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما ، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية ، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها ، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة.

وإنى لأتساءل : إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب ، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف ، لأن الإنتاج الصوفي ـ فى كثير من الأحوال ـ درر من المنظوم والمنثور ، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان ، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان ، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل ، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها ، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن ، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق ، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية ، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا.

وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة ، فهذا له مكان آخر ، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء.

وفى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى ، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة ـ مفردة ومركبة ـ تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة ، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية ، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية ، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا ، حيث استكمل ناحيتين : أدب المفسّر وأدب المفسّر.

٣٥

حقا إن القرآن كتاب دين وهداية وتشريع وعلم وغير ذلك مما يمكن أن تحج إليه المقاصد الإنسانية تلتمس فيه زادا ينمى المعارف ، ويثرى العلوم ، ويفتح مغاليق الأمور. ولكنه قبل كل ذلك معجزة فنية بهرت سامعيها أول ما بهرتهم بالبيان ، والنظم ، والقول ، فوجدوا لذلك حلاوة ، وعليه طلاوة ، وهم أهل لسن وفصاحة ، فنحن نعلم أن المعجزة تكون من جنس معجزات المخاطبين ولكنها من حيث الدرجة أعلى قدرا وأصعب دركا وأعزّ منالا.

تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف ـ راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر ـ إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية.

ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى.

فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا ؛ كأن يقول عند قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب ، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص ، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته».

والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد ، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة».

والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر».

ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة ؛ فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» : كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب ، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا ، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء ، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها ...».

٣٦

وإذا ضرب القرآن مثلا بالكلب أو الذبابة أو البعوضة أو التي نقضت غزلها من بعد قوة ، فإن هذا التصوير القرآنى الأخاذله على وجدان القشيري الأديب وقع مؤثر ، يقول مثلا (.... وضرب المثل بالبعوضة لأنها إذا جاعت فرّت وطارت ، وإذا شبعت تشققت وتلفت ، كذلك الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. «وما فوقها» أي الذباب ، وجهة الإشارة فى أن للذباب وقاحة حيث يعود عند البلاغ فى الذبّ ، والله سبحانه خلق القوة فى الأسد ولكنه خلق فيه النفور من الناس ، وخلق الضعف فى الذباب ، ولكنه خلق فيه الوقاحة ، وتلك حكمة الله).

والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر ، والليل والنهار ، والجبال والبحار ، والسحب والأمطار .... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح ، وعلم اليقين وحق اليقين ، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية .... إلى آخره.

يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة ، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة ، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس).

وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى ، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة ، وشاعر له حس دقيق مرهف ، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية ، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد.

نفعنا الله بعلمه وبركته.

دكتور ابراهيم بسيونى

٣٧

نرمز للنسخة السوفيتية المصوّرة بالحرف (ص)

ونرمز للنسخة المصرية بالحرف (م)

ونرمز للرسالة القشيرية ط الحلبي سنة ١٩٥٩ (بالرسالة)

٣٨

٣٩
٤٠