لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً)

الأمر بالدعاء إذن ـ فى التسلّى ـ لأرباب المحنة ، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روح المناجاة فى حال الدعاء ؛ والدعاء نزهة لأرباب الحوائج ، وراحة. لأصحاب المطالبات ، ومعجل من الأنس بما (....) (١) إلى القلب عاجل التقريب. وما أخلص عبد فى دعائه إلا روّح ـ سبحانه ـ فى الوقت قلبه.

ويقال علّمهم آداب الدعاء حيث قال : (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وهذا أدب الدعاء ؛ أن يدعوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكك عن دعائه ـ الذي لا بد منه ـ اعتداء منك.

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

من الإفساد بعد الإصلاح إحمال النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعد ما كبحت لجامها مدة عن العدو فى ميدان الخلاف ، ومن ذلك إرسال القلب فى أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة ، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق ، ومن ذلك استشعار محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه ، ومن ذلك الجنوح إلى تتبع الرّخص فى طريق الطلب بعد حمل النّفس على ملازمة الأولى والأشق ، ومن ذلك الانحطاط بحظّ إلى طلب مقام منه أو إكرام ، بعد القيام معه بترك كل نصيب

وفى الجملة : الرجوع من الأعلى إلى الأدنى إفساد فى الأرض بعد الإصلاح.

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

يقال المحسنين عملا والمحسنين أملا ، فالأول العابدون والثاني العاصون (٢)

ويقال المحسن من كان حاضرا بقلبه غير لاه عن ربّه ولا ناسيا لحقّه.

ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) تأمل كيف يفسح الصوفية صدورهم ويفتحون أبواب الأمل أمام العصاة

٥٤١

ويقال المحسن الذي لم يخرج (....) (١) عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)

تباشير القرب تتقدم فيتأدى نسيمه إلى مشام الأسزار ، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض فى الباطن ، فظلّ الوحشة يتقدمها ، ونسيم الوصلة بعدها ، وفى قريب منه قال قائلهم :

ولقد تشمّمت القضاء لحاجتى

فإذا له من راحتيك نسيم

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويبرّح به الوجد وينحل به الجسم ، بل يبطل كلّه البعد ، فيأتيه القرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طريا ، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا ، كما قال بعضهم :

كنّا كمن ألبس أكفانه

وقرّب النعش من اللّحد

فجالت الروح فى جسمه

وردّه الوصل إلى المولد

قوله جل ذكره : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

إذا زكا الأصل نما الفرع ، وإن خبث الجوهر لم يطب ما تحلّل منه ، وإن طاب العنصر

__________________

(١) مشتبهة.

٥٤٢

فالجزء يحاكى أصله ، والأسرّة تدل على السريرة ، فمن صفا باطن قلبه زكا ظاهر فعله ، ومن كان بالعكس فحاله بالضد.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩))

بلّغ الرسالة فلم ينجع فيهم ما أظهر من الآلاء ، لأنّ محزوم القسمة لا ينفعه مجهود الحيلة.

قوله جل ذكره : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١))

قوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) : نسبوا نوحا ـ عليه‌السلام ـ إلى الضلالة ، فتولّى إجابتهم بنفسه فقال (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ، ونبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نسب إليه فتولّى الحق ـ سبحانه ـ الردّ عنه فقال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (١) فشتّان بين من دافع عن نفسه ، وبين من دافع عنه ونفى عنه ربّه (٢)!

قوله جل ذكره : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢))

إنى أعلم أنّى وإن بالغت فى تبليغ الرسالة فمن سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحى ، ولا يؤثّر فيه قولى ، فمن أسقطته القسمة لم تنعشه النصيحة.

قوله جل ذكره : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ

__________________

(١) آية ٢ سورة النجم.

(٢) من عادة القشيري أن يلتمس نوعا من المقارنة بين المصطفى صلوات الله عليه وبين سائر الأنبياء عليهم‌السلام ليظهر علو مقامه ورفعة مرتبته بينهم.

٥٤٣

عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣))

عجبوا من كون شخص رسول الله ، ولم يتعجبوا من كون الصنم شريكا لله ، هذا فرط الجهالة وغاية الغباء!

قوله جل ذكره : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

تسر بلوا غبّ التكذيب لمّا ذاقوا طعم العقوبة ، فلم يسعدوا بما حملوه ولم يصلوا إلى ما أمّلوه.

قوله جل ذكره : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ)

أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم ، فوقعوا فى وهدتهم ، ومنوا بمثل حالتهم. فلا خير فيمن آثر هواه على رضاء الله ، ولا ربح من قدّم هواه على حقّ الله.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)

٥٤٤

جعل الله الخلق بعضهم خلفا عن بعض ، فلا يفنى فوجا منهم من جنس إلا أقام فوجا منهم من ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوم ، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم ، ولا ينبغى للعبد أن يسمو طرف (١) تأميله إلى محل الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله ، فما لم تنته نوبة أولئك لا تنتهى النوبة إلى هؤلاء.

قوله جل ذكره : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً).

كما زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق زاد قوما على من تقدمهم فى بسطة الخلق ، وكما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المبانى أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.

قوله جل ذكره : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

النّعماء عام ، والآلاء خاص ، فتلك تتضمن ترويح الظواهر ، وهذه تتضمن التلويح فى السرائر ، تلك بالترويح بوجود المبار ، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار.

قوله جل ذكره : (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠))

طاحوا فى أودية التفرقة فلم يجدوا قرارا فى ساحات التوحيد ، فشقّ عليهم الإعراض عن الأغيار ، وفى معناه قال قائلهم :

أراك بقية من قوم موسى

فهم لا يبصرون على طعام

ويقال شخص لا يخرجه من غش التفرقة ، وشخص لا يحيد لحظة عن سنن التوحيد [فهو لا يعبد إلا واحدا ، وكما لا يعبد إلا واحدا لا يشهد إلا واحدا ، قال قائلهم :

لا يهتدى قلبى إلى غيركم

لأنه سدّ عليه الطريق

قوله جل ذكره : (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

__________________

(١) وردت (طرق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.

٥٤٥

رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١))

إذا أراد الله هوان عبد طرحه فى مفازات التفرقة ؛ وإنّ من علامات غضبه وإعراضه ردّ العبد إلى شهود الأغيار ، وتغريقه إياه فى بحار الظنون ، إذ لا تحصيل للأغيار فى معنى الإثبات.

قوله جل ذكره : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

لا رتبة فوق رتبة النبوة ، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة.

وأخبر ـ سبحانه ـ أنه نجّى هودا برحمته ، وكذلك نجّى الذين آمنوا معه برحمته ، ليعلم أنّ النجاة لا تكون باستحقاق العمل ، وإنما تكون بابتداء فضل من الله ورحمته ؛ فما نجا من نجا إلا بفضل الحق سبحانه.

قوله جل ذكره : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣))

غاير الحقّ ـ سبحانه ـ بين الرسل من حيث الشرائع ، وجمع بينهم فى التوحيد ؛ فالشرائع (١)] التي هى العبادات مختلفة ، ولكن الكل مأمورون بالتوحيد على وجه واحد.

__________________

(١) كل هذه المساحة فيما بين القوسين موجودة فى الهامش بخط دقيق جدا.

٥٤٦

ثم أخبر عن إمضاء سنّته تعالى بإرسال الرسل عليهم‌السلام ، وإمهال أممهم ريثما ينظرون فى معجزات الرسل.

ثم أخبر عما درجوا عليه فى مقابلتهم الرسل بالتكذيب تسلية للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ـ فيما كان يقاسى من بلاء قومه.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤))

أزاح علتهم فى بسط الدلالة ، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتهم ... فلا الدليل تأمّلوه ، ولا السبيل لازموه ، ولا النعمة عرفوا قدرها ، ولا المنّة قدّموا شكرها ، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم.

قوله جل ذكره : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

٥٤٧

أجرى الله ـ سبحانه ـ سنّته ألا يخص بأفضاله ، وجميل صنعه وإقباله ـ فى الغالب من عباده ـ إلّا من يسمو إليه طرفه بالإجلال ، وألّا يوضح له قدره بين الأضراب والأشكال ؛ فأنصار كلّ نبى إنما هم ضعفاء وقته ، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار ، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام ، ولا كما يعتقد فيهم الأنام ، بل الجواهر مستورة فى معادتها ، وقيمة المحالّ بساكنيها ، قال قائلهم :

وما ضرّ نصل السيف إخلاق غمده

إذا كان عضبا حيث وجهته وترا

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» (١)

قوله تعالى : (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) الحيلة تدعو إلى وفاق الهوى ؛ فتستثقل النّفس قول الناصحين ، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم العائبون ، قال قائلهم :

وكم سقت فى آثاركم من نصيحة

وقد يستفيد البغضة المتنصح

قوله جل ذكره :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

__________________

(١) فى رواية الترمذي (كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء ابن مالك). الجامع الصغير ص ٢٣٧

٥٤٨

أباح الحقّ ـ سبحانه ـ فى الشرع ما أزاح به العذر ، فمن تخطّ هذا الأمر وجرى على مقتضى الهوى استقبل هوانه ، واستوجب إذلاله ، واستجلب ـ باختياره ـ صغره.

قوله جل ذكره : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥))

خسّت همم قوم شعيب فقنعوا بالتطفيف فى المكيال والميزان عند معاملاتهم ، ثم إن الحق ـ سبحانه ـ لم يساهلهم فى ذلك ليعلم أنّ الأقدار ليست من حيث الأخطار.

قوله جل ذكره : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً)

من المعاصي ما لا يكون لازما لصاحبه وحده بل يكون متعدّيا عنه إلى غيره. ثم بقدر الأثر فى التعدّى يحصل الضر للمبتدىء (١)

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا

__________________

(١) مثلما يحدث فى حالة البدعة ، فصاحب البدعة يحمل وزر ابتداعه ووزر من اقتدى به (انظر رأى القشيرى فى كتاب التحبير تحت «البديع») وهنا قد تكون (المبتدى) أى البادى بالابتداع وقد تكون (المقتدى) ويقصد بها من اقتدى به ، فكلاهما يناله الضر هذا جزاء اتباعه وذاك لابتداعه.

٥٤٩

فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

منّ عليهم بتكثير العدد لأن بالتناصر والتعاون تمشى الأمور ويحصل المراد.

ويقال كما أن كل أمر بالأعوان والأنصار (خيرا أو شرا ، فلا نعمة فوق اتفاق الأنصار فى الخير ، ولا محنة فوق اتفاق الأعوان) (١) فى الشر.

قوله جل ذكره : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨))

كما أن (أهل) (٢) الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم ، والأوحد فى بابه من باين نهج أضرابه.

قوله جل ذكره : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) ، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) ، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) يعنى إن يلبسنا لباس الخذلان نردّ إلى الصغر والهوان.

ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي به وثقنا ، ومنه الخير أمّلنا.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن.

(٢) وضعنا (أهل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى المتن.

٥٥٠

ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) فتداركهم الحقّ ـ سبحانه ـ عند ذلك بجميل العصمة وحسن الكفاية (١)

قوله جل ذكره : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١))

تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيّهم ، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته ، وكانوا مخطئين فى حكمهم ، مبطلين فى ظنهم ، فعلم أنّ كل نصيحة لا يجب قبولها ، وكل إشارة (٢) لا يحسن اتباعها.

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) كانت لهم غلبتهم فى وقتهم ، ولكن لما اندرست أيامهم سقط صيتهم ، و (خمد) (٣) ذكرهم ، وانقشع سحاب من توهّم أنّ منهم شيئا.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).

الحقّ غالب فى كل أمر ، والباطل زاهق بكل وصف ، وإذا كانت العزّة نعت من هو أزلىّ الوجود ، وكان الجلال حقّ من هو الملك فأى أثر للكثرة مع القدرة؟ وأي خطر للعلل مع الأزل؟ ولقد أنشدوا فى قريب من هذا :

استقبلني وسيفه مسلول

وقال لى واحدنا معذول

قوله جل ذكره : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ

__________________

(١) لاحظ من هذه الفقرة ترتيب السلوك : صحة العزم ثم الشكر ثم التبري عن الحول والقوة ثم التوكل ثم التفويض.

(٢) إشارة هنا معناها مشورة أي نصيحة.

(٣) وردت (خمر) بالراء ، وقد صوبناها (خمد) ذكرهم وليس بمستبعد أن تكون (خمل) ذكرهم فحمود الذكر وخموله بمعنى متقارب.

٥٥١

رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

(١) بيّن أنه راعى حدّ الأمر ؛ فإذا خرج عن عهدة التكليف فى التبليغ فما عليه من إقرارهم أو إنكارهم ، من توحيدهم أو جحودهم ؛ إن أحسنوا فالميراث الجميل لهم ، وإن أساءوا فالضرر بالتألم عائد عليهم ، ومالك الأعيان أولى بها من الأغيار ، فالخلق خلقه والملك ملكه ؛ إن شاء هداهم ، وإن شاء أغواهم ، فلا تأسّف على نفى وفقد ، ولا أثر من كون ووجود (٢)

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

حرّكهم بالبلاء الأهون تحذيرا من البلاء الأصعب ، فإذا تمادوا فى غيهم ، ولم ينتبهوا من غفلتهم مدّ عليهم ظلال الاستدراج ، ووسّع عليهم أسباب التفرقة مكرا بهم فى الحال ، فإذا وطّنوا ـ على مساعدة الدنيا ـ قلوبهم ، وركنوا إلى ما سوّلت لهم من امتدادها ، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نغّص عليهم طيب الحياة ، واندق بغتة عنق السرور ، وشرفوا بما كانوا ينهلون من كاسات المنى ، فتبدّل ضياء نهارهم بسدفة الوحشة ، وتكدّر صافى مشربهم بيد النوائب ، كما سبقت به القسمة.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ كتبها (عسى) بالعين.

(٢) ربما كان (ووجد) فالوجد يقابل الفقد ، ولكن حيث هو هنا لا يتحدث عن طائفة الصوفية ، وإنما يتحدث عموما ، فالوجود مرادف للكون.

٥٥٢

لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧))

لو آمنوا بالله ، واتّقوا الشرك لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض بأسباب العطاء ـ ولكن (١) سبق بخلافه القضاء ـ وأبواب الرضاء ، والرضاء أتمّ من العطاء.

ويقال ليست العبرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة فى النعمة ، ولذا لم يقل أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال : باركنا لهم فيما خوّلنا.

قوله جل ذكره : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨))

أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأة على غفلة من أهله ، ويقال من حذر البيات لم يجد روح الرّقاد.

ويقال ربّ ليلة مفتتحة بالفرح مختتمة (بالترح) (٢). ويقال ربّ يوم تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة.

قوله جل ذكره : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

يقال من عرف علوّ قدره ـ سبحانه ـ خشى خفىّ مكره ، ومن أمن خفىّ مكره نسى عظيم قدره.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ

__________________

(١) وردت (وإن سبق ...) وعند ذلك يضطرب السياق فوجدنا ان الأوفق ان تكون (ولكن سبق ...) لأنهم فى الآية كذبوا ... ، ثم وضعنا الجملة المبدوءة بلكن بين علامتى جملة اعتراضية ، فانتظم السياق ، ونرجح ان ما صنعناه قريب من الأصل او هو الأصل.

(٢) وردت (بالطرح) بالطاء ، وهى خطأ من الناسخ فالترح ضد الفرح.

٥٥٣

مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

أو لا يعلم المغترون بطول سترنا أن لو أردنا لعجّلنا لهم الانتقام ، أو بلغنا فيهم الاصطلام ، ثم لا ينفعهم ندم ، ولا يشكى عنهم ألم.

قوله جل ذكره : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١))

سلكوا طريقا واحدا فى التمرد ، واجتمعوا فى خط واحد فى الجحد والتّبلّد ؛ فلا للإيمان جنحوا ، ولا عن العدوان رجعوا ، وكذلك صفة من سبقت بالشقاء قسمته ، وحقت بالعذاب عليه كلمته.

قوله جل ذكره : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

نجم فى الغدر طارقهم ، وأفل من سماء الوفاء شارقهم ، فعدم أكثرهم رعاية العهد ، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.

ويقال : شكا من أكثرهم إلى أقلّهم ، فالأكثرون من ردّتهم القسمة ، والأقلون من قبلتهم الوصلة.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣))

لما انقرضت أيامهم ، وتقاصر عن بساط الإجابة إقدامهم (١) بعث موسى نبيّه ، وضمّ

__________________

(١) ويجوز أن تكون (أقدامهم) فالقشيرى يستعمل وطء القدم للبساط كثيرا

٥٥٤

إليه هارون صفيّه ، فقوبلا بالتكذيب والجحود ، فسلك بهم مسلك إخوانهم فى التعذيب والتبعيد.

قوله جل ذكره : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦))

الرجوع إلى دعاء فرعون إلى الله بعد سماع كلام الله بلا واسطة صعب شديد ، ولكنه لمّا ورد الأمر قابله بحسن القبول ، فلما ترك اختيار نفسه أيّده الحق ـ سبحانه ـ بنور التأييد حتى شاهد فرعون محوا فى التقدير فقال : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ). فإذا لم يصح له أن يقول على الخلق ؛ فالخلق محو فيما هو الوجود الأزلى فأىّ سلطان لآثار التفرقة فى حقائق الجمع؟

قوله : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : من المعلوم أن مجرّد الدعوى لا حجة فيه ، ولكن إذا ظهر برهان لم يبق غير الانقياد لما هو الحق ، فمن استسلم (...) (١) ، ومن جحد الحقائق بعد لوح البيان سقط سقوطا لا ينتعش.

قوله جل ذكره : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧))

إنما أظهر له المعجزة من عصاه لطول (مقارنته) (٢) إياها ، فالإنسان إلى ما ألفه أسكن بقلبه. فلمّا رأى ما ظهر فى العصا من الانقلاب أخذ موسى عليه‌السلام فى الفرار لتحققه بأن ذلك من قهر الحقائق ، وفى هذا إشارة إلى أنّ السكون إلى شىء غرّة وغفلة (ايش) (٣)

__________________

(١) لا بد ان كلمة هنا سقطت من الناسخ مثل (سلم) او (نجا) او نحوهما.

(٢) (مقارنته) هنا معناها مصاحبته لها بدليل قوله فيما بعد (إلى ما ألفه).

(٣) (إيش) هذه كلمة دارجة استعملها القشيري كثيرا فى رسالته ومعناها (اى شىء).

٥٥٥

ما كان ، فإنّ تقلب العبد فى قبض القدرة ، وهو فى أسر التقلّب ، وليس للطمع فى الكون مساغ بحال.

قوله جل ذكره : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨))

العصا ـ وإن كانت معه من زمن ـ فيده أخص به لأنها عضو له ، فكاشفه أولا (١) برسم من رسمه ثم أشهده من ذاته فى ذاته ما عرف أنه أولى به منه ، فلما رأى انقلاب وصف فى يده علم أنه ليس بشىء من أمره بيده.

قوله جل ذكره : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠))

إذا أراد الله هوان عبد لا يزيد الحقّ حجّة إلا ويزيد لذلك المبطل فيه شبهة ؛ فكلّما زاد موسى ـ عليه‌السلام ـ فى إظهار المعجزات ازدادوا حيرة فى التأويلات.

قوله جل ذكره : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

توهّم الناس أنهم بالتأخير ، وتقديم التدبير ، وبذل الجهد والتشمير يغيّرون شيئا من التقدير بالتقديم أو بالتأخير ، ولم يعلموا أن القضاء غالب ، وأنّ الحكم سابق ، وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم ، والتسرع (٢) والحلم .. كلا ، بل هو الله الواحد القهار العلّام.

__________________

(١) فى هذه الإشارة نلحظ تأثر القشيري بالمكاشفة ، فالحق سبحانه يتجلى للعبد اولا بنعت من نعوت صفاته ثم يتجلى له بنعت من نعوت ذاته.

(٢) وردت (التشرع) حيث التبست علامة التضعيف التي على السين على الناسخ ، والتسرع مقبول فى السياق لأنه يقابل الحلم.

٥٥٦

قوله جل ذكره : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

ظنوا أنهم يغلبون بما يسحرون ، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم ، وأنه لا يرد عنهم ما زوّروه فى أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكيد لهم ، فهو كما قيل :

ورمانى بأسهم صائبات

وتعمدته بسهم فطاشا

فبيناهم فى توهّم أنّ الغلبة لهم فتح عليهم ـ من مكامن القدرة ـ جيش ، فوجدوا أنفسهم ـ فى فتح القدرة ـ مقهورين بسيف المشيئة.

قوله جل ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

موّهوا بسحرهم أنهم غلبوا ، فأدخل الله ـ سبحانه ـ على تمويهاتهم قهر الحق وطاشت تلك الحيل ، وخاب منهم الأمل ، وجذب الحقّ ـ سبحانه ـ أسرارهم على الوهله فأصبحوا فى صدر العداوة ، وكانوا ـ فى التحقيق ـ من أهل الود. فسبحان من يبرز

٥٥٧

العدوّ فى نعت الولي ؛ ثم يقلب الكتاب ويظهر الولىّ فى نعت العدو ، ثم يأبى الحال إلا حصول المقضىّ.

قوله جل ذكره : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤))

(١) خاطبهم معتقدا أنهم هم الذين كانوا (٢) ، وهم يعلمون أن تلك الأسرار قد خرجت عن رقّ الأشكال ، وأن قلوبهم طهرت عن تو التفرقة ، وأن شمس العرفان طلعت فى سماء أسرارهم ، فأشهدوا الحقّ بنظر صحيح ، ولم يبق لتخويفات النفس فيهم سلطان ، ولا لشىء من العلل بينهم مساغ.

قوله جل ذكره : (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥))

لمّا كان مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا فى مسيرهم إلى الله.

قوله جل ذكره : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

لما عملوا لله ، وأوذوا فى الله ، صدقوا القصد إلى الله ، وطلبوا المعونة من قبل الله ، كذا سنّة من كان لله أن يكون كلّه على الله.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ

__________________

(١) اخطأ الناسخ إذ كتبهما (أيديهم وأرجلهم).

(٢) نعرف من عبارات القشيري : «كانوا لكنهم بانوا» و «العارف كائن بائن».

٥٥٨

أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧))

لما استزادوا من فرعون فى التمكين من موسى وقومه استنكف أن يقر بعجزه ، ويعترف بقصور قدرته ، فتوعد موسى وقومه بما عكس الله عليه تدبيره ، وغلب عليه تقديره.

قوله جل ذكره : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨))

أحالهم على الله فإن رجوعه إليه ، فقال لهم : إن رجوعى ـ عند تحيري فى أمورى ـ إلى ربى ، فليكن رجوعكم إليه ، وتوكّلكم عليه ، وتعرّضوا لنفحات يسره ، فإنه حكم لأهل الصبر بجميل العقبى.

قوله جل ذكره : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

خفى عليهم شهود الحقيقة ، وغشى على أبصارهم حتى قالوا توالت علينا البلايا ؛ ففى حالك بلاء ، وقبلك شقاء ... فما الفضل؟ فأجابهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بما علق رجاءهم بكشف البلاء فقال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) فوقفهم على الانتظار. ومن شهد ببصر الأسرار شهد تصاريف الأقدار.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠))

شدّد عليهم وطأة القدرة بعد ما ضاعف لديهم أسباب النعمة ، فلا الوطأة أصلحتهم شدّتها ولا النعمة نبهتهم كثرتها ، لا بل إن مسّهم يسر لاحظوه بعين الاستحقاق ، وإن مسّهم عسر حملوه على التّطيّر بموسى ـ عليه‌السلام ـ بمقتضى الاغترار.

٥٥٩

قوله جل ذكره : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)

الكفور لا يرى فضل المنعم ؛ فيلاحظ الإحسان بعين الاستحقاق ، ثم إذا اتصل به شىء مما يكرهه تجنّي وحمل الأمر على ما يتمنّي :

وكذا الملول إذا أراد قطيعة

ملّ الوصال وقال كان وكانا

إن الكريم إذا حباك بودّه

ستر القبيح وأظهر الإحسانا

قوله جل ذكره : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

المتفرد بالإيجاد هو الواحد ولكن بصائرهم مسدودة ، وعقولهم عن شهود الحقيقة مصدودة ، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة

قوله جل ذكره : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

(١) جعلوا الإصرار على الاستكبار شعارهم ، وهتكوا بألسنتهم ـ فى العتوّ ـ أستارهم.

قوله جل ذكره : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

جنّس عليهم العقوبات لمّا نوّعوا وجنّسوا فنون المخالفات ، فلا إلى التكفير عادوا ، ولا إلى التطهير تصدوا ، وعوقبوا بصرف قلوبهم عن شهود الحقائق

__________________

(١) سقطت (من) فى النسخ فأثبتناها.

٥٦٠