لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

واحد لا شريك له ، ثم ترك الاعتماد ونفى الاستناد ، لا على (حركاته) (١) يعتمد ، ولا إلى سكناته يستند ، (بل) (٢) ينتظر ما يفتح به التقدير ، فإن زاغ صاحب الاستقامة لحظة ، والتفت يمنة أو يسرة سقط سقوطا لا ينتعش.

قوله جل ذكره : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

دار السلام أي دار السلامة ، ومن كان في رقّ شىء من (الأغراض) (٣) والمخلوقات لم يجد السلامة ، وإنما يجد السلامة من تحرر عن رقّ المكوّنات ، والآية تشير إلى أنّ القوم فى الجنة لكنهم ليسوا فى أسر الجنة ، بل تحرروا من رقّ كل مكوّن.

ويقال من لم يسلّم ـ اليوم ـ على نفسه وروحه وكلّ ماله من كل كريمة وعظيمة تسليم وداع لا يجد ـ غدا ـ ذلك الفضل ، فمن أراد أن يسلّم عليه ربّه ـ غدا ـ فليسلّم على (الكون) (٤) بجملته ، وأولا على نفسه وروحه.

ويقال دار السلام غدا لمن سلم ـ اليوم ـ لسانه عن الغيبة ، وجنانه عن الغيبة ، وأبشاره وظواهره من الزّلّة ، وأسراره وضمائره من الغفلة ، وعقله من البدعة ، ومعاملته من الحرام والشبهة ، وأعماله من الرياء والمصانعة ، وأحواله من الإعجاب.

ويقال شرف قدر تلك الدار لكونها فى محل الكرامة ، واختصاصها بعندية الزّلفة ، وإلا فالأقطار كلها ديار ، ولكن قيمة الدار بالجار ، قال قائلهم :

إنّى لأحسد دارا فى جواركم

طوبى لمن أضحى لدارك جارا

يا ليت جارك يعطينى من داره شبرا

إذا لأعطيه بشبر دارا (٥)

ويقال : وإن كانت الدار منزهة عن قبول الجار ، وليس القرب منه بتدانى الأقطار ، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنس ؛ بل لو جاز القرب فى وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا

__________________

(١) وردت (حرقاته) والصواب أن تكون (حركاته) لتتلاءم مع (سكتاته).

(٢) أضفنا (بل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى النص.

(٣) (الأغراض) جمع غرض ، وليس بمستبعدان تكون (الأعراض) بالعين جمع عرض ، وكلاهما مقول.

(٤) وردت (السكون) وهى خطأ من الناسخ.

(٥) البيت الثاني مكسور ولكننا حرصنا على إثباته كما جاء فى النسخة.

٥٠١

كبير أثر ، وإنما حياة القلوب بهذا ، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات ؛ فهو لأجل قلوب الأحباب يطلق هذا ويقع العلماء فى كد التأويل ، وهذا هو أمارة الحب ، قال قائلهم :

أنا من أجلك حمّلت الأ

ذى الذي لا أستطيع

قوله جل ذكره : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) لأنه إذا كان ـ سبحانه ـ هو وليّهم فإنّ المنازل بأسرها طابت كيفما كانت ، قال قائلهم :

أهوى هواها لمن قد كان ساكنها

وليس فى الدار لى همّ ولا وطر

هو وليّهم فى دنياهم ، ووليّهم فى عقباهم ، هو وليهم فى أولاهم وفى أخراهم وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم ، فلم يدع فيها لغيره نصيبا ولا سوى وليهم الذي هو أولى بهم منهم وليّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه فى جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم ، وليهم الذي لم (يكلهم) (٢) إلى هواهم ، ولا إلى دنياهم ، ولا إلى عقباهم.

وليهم الذي بأفضاله يلاطفهم ، وبجماله وجلاله يكاشفهم.

وليّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب ، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب ، فحرّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب ، وليّهم الذي هو مؤنس أسرارهم.

مشاهده معتكف أبصارهم ، وحضرته مرتع أرواحهم.

وليّهم الذي ليس لهم سواه ، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه ، ولا يجدون إلا إياه ، لا فى بدايتهم يقصدون غيره ، ولا فى نهايتهم يجدون غيره ، ولا فى وسائلهم يشهدون غيره (٣)

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ)

__________________

(١) وقع الناسخ فى ثلاثة أخطاء كتابية ونقلية فى هذه الآية إذ كتبها (فهو وليهم اليوم بما كانوا يكسبون) إذ التبست عليه مع آية اخرى.

(٢) وردت (يكلمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ.

(٣) لاحظ هنا هذا الترتيب : قصود تم شهود تم وجود.

٥٠٢

بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)

يعتذرون فلا يسمع ، ويحتجون بما لا ينفع ، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلّ منه قبل منهم ، لكن سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩))

يعنى نجمع بين الأشكال ، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض ، والأعداء مجموعون يفرّ بعضهم من بعض.

قوله جل ذكره : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠))

عرّفهم أنه أزاح لهم العلل من حيث التزام الحجة ، لكنه حكم لهم بالشقوة فى الأزل ، (فلبّس) (١) عليهم المحجة.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١))

متى يصحّ فى وصفه توهم الظلم والملك ملكه والخلق خلقه؟

ومتى يقبح منه تصرّف فى شخص بما أراد ، والعبد عبده والحكم حكمه؟

__________________

(١) وردت (فليس) وهى خطأ من الناسخ.

٥٠٣

قوله جل ذكره : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

المحسن فى روح الثواب متنعّم ، والمذنب فى نوح العذاب متألم.

قوله جل ذكره : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣))

(الْغَنِيُّ) يشير إلى كشفه ، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يشير إلى لطفه.

أخبرهم بقوله (الْغَنِيُّ) عن جلاله ، وبقوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) عن أفضاله ؛ فبجلاله يكاشفهم فيفتيهم ، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.

ويقال سماع غناه يوجب محوهم ، وسماع رحمته يوجب صحوهم ، فهم فى سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناء ، وبين إكرام وبين اصطلام ، وبين تقريب وبين تذويب ، وبين اجتياح وبين ارتياح.

قوله جل ذكره : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))

الإشارة من هذه الآية إلى قصر الأمل ، ومن قصر أمله حسن عمله ، وكل ما هو آت فقريب أجله.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان فى صيغة الأمر.

قوله جل ذكره :ء(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ

٥٠٤

إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦))

لما بنوا قاعدة أمرهم على موجب الهوى صارت فروعهم لائقة بأصولهم ؛ فهو كما قيل.

إذا كان القضاء إلى ابن آوى

فتعويل الشهود إلى القرود

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))

وسوست إليهم شياطينهم بالباطل فقبلت نفوسهم ذلك ؛ إذ الأشكال يتناصرون ، فالنّفس لا تدعو إلا إلى الأجنبية ، لأنها مدّعية تتوهم أن منها شيئا ، وأصل كلّ شرك الدعوى ، والشيطان لا يوسوس إلا بالباطل والكفر ، فهم أعوان يتناصرون.

ثم قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) صرّح بأن المراد على المشيئة ، والاعتبار (بسابق) (١) القضية.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩))

__________________

(١) وردت (بسائق) وهى خطأ من الناسخ إذ المقصود بما سبق من القضاء.

٥٠٥

أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا ، وأمور شرعوها على الوجه الذي اعتادوا ، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل ، وشرعوها بلا حجة من إذن رسول ، والاشارة فيه أن من (نحانحوهم) (١) فى زيادة شىء فى الدين ، أو نقصان شىء من شرع المسلمين فمضاه لهم فى البطلان ، ينخرط فى سلكهم فى الطغيان.

قوله جل ذكره : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد ، ولذلك قال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)

يعنى كما أنشأ فى الظاهر جنات وبساتين كذلك أنشأ فى السّر جنات وبساتين ، ونزهة القلوب أثم من جنات الظاهر ؛ فأزهار القلوب مونقة ، وشموس الأسرار مشرقة ، وأنهار المعارف زاخرة.

ويقال كما تتشابه الثمار كذلك تتماثل الأحوال ، وكما تختلف طعومها وروائحها مع تشاكلها من وجه ، فكذلك الأحوال مختلفة القضايا ، وإن اشتركت فى كونها أحوالا.

قوله جل ذكره : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).

__________________

(١) وردت (تجاتجوهم) وهى خطأ من الناسخ.

٥٠٦

حقّ الواجب يوم الحصاد إقامة الشكر ، فأمّا إخراج البعض فبيانه على لسان العلم (١) ، وشهود المنعم فى عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.

قوله جل ذكره : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

الإسراف ـ على لسان العلم ـ مجاوزة الحد.

وعلى بيان الإشارة فالإسراف كلّ ما أنفقته فى حظّ نفسك ـ ولو كانت سمسمة ، وما أنفقته فى سبيله ـ سبحانه ـ فليس بإسراف ، ولو أربى على الآلاف.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)

يعنى تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية فى الفضيلة على المخلوقات. وكما سخّر الأعيان للإنسان كذلك سخّر الأزمان فى تصريف الحدثان لخواصّ الإنسان (٢).

قوله جل ذكره : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ......) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائع فى جميع ما يحصل به الانتفاع.

وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر ، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكرم بل الخمود فى وجود القدم.

وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان ، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان ، وللسّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.

__________________

(١) أي إخراج مقدر على حسب المعروف فى الزكاة.

(٢) يشير بذلك إلى ما يحدث على أيدى الأولياء من كرامات

٥٠٧

قوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الإشارة من ذكر الضأن أن يتأدّب العبد باستدامة السكون والتزام حسن الخلق ، فإنّ الضانية مستسلمة لمن يلى عليها ، فلا بصياحها تؤذى (١) ولا (ب ... وها) (٢) ، يعنى كذلك سبيل من وطئ هذا البساط.

وكذلك «فى الإبل آيات» منها انقيادها لمن جرّ زمامها ، واستناختها حيثما تناخ بلا نزاع ولا اختيار. ومنها ركوبها عند الحمل ، ومنها صبرها على مقاساة العطش ، وذوبانها فى السير.

قوله جل ذكره : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))

بيّن أنّ الشارع الله ، والمانع عن الخلق هو الله ، وما كان من غير الله فضائع باطل عند الله. بيّن أنه إذا جاء الاضطرار زال حكم الاختيار.

قوله جل ذكره : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

__________________

(١) فى هذه الإشارة الدقيقة نلمح أن القشيري يدعو إلى إيثار الكتمان وعدم البوح بالأسرار ، وعلى ذلك كبار الشيوخ. يقول الشبلي. على أثر محنة الحلاج «كنت وابن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت».

(٢) مشتبهة ، وربما كانت (بعدوّها) ، وعندئذ قد تكون العبارة فلا بصاحبها تؤذى ولا بعدوها.

٥٠٨

بيّن أن ما حرّم عليهم ضيّعوه ؛ إذ لما لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مكره العظيم فيما ابتدعوه من قبل نفوسهم ـ فأهملوه ولم يحافظوا عليه ، فاستوجبوا عظيم الوزر وأليم الهجر.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

الإشارة منه بيان تخصيص الأولياء بالرحمة ، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة. والصورة الإنسانية جامعة (لهم) (١) ولكن القسمة الأزلية فاصلة بينهم.

قوله جل ذكره : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨))

كذبت قالتهم لأنها لم تصدر عن تصديق ، فذمّوا على جهالتهم وإن كانت (....) (٢) فى التحقيق.

قوله جل ذكره : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩))

صرّح بأن إرادته ـ سبحانه ـ لا تتقاصر عن مراد ، وليس عليه اعتراض.

قوله جل ذكره : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا

__________________

(١) وردت (له) والصواب أن تكون (لهم) لتشمل الأولياء والأعداء.

(٢) مشتبهة.

٥٠٩

فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

أشار إلى أنّ من تجرّد عن برهان يصرّحه وبيان (يوضّحه) (١) فغير مقبول من فاعله.

قوله جل ذكره : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

__________________

(١) وردت (يوضعه) والصواب أن تكون بالحاء ليقوى المعنى والموسيقى اللفظية ونرجح أن الناسخ اشتبه عليه شكل الحاء فظنها عينا.

٥١٠

هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشرك فإنه رأس المحرمات ، والذي لا يقبل معه شىء من الطاعات ، وينقسم ذلك إلى شرك جلىّ وشرك خفىّ ؛ فالجلىّ عبادة الأصنام ، والخفىّ ملاحظة الأنام ، بعين استحقاق الإعظام.

والثاني من هذه الخصال ترك العقوق ، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.

وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق ، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.

ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وما بدا وما استتر ، ويدخل فى ذلك جميع أقسام الآثام.

ثم قتل النّفس بغير الحق ، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.

ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.

ثم بذل الإنصاف فى المعاملات والتوقي من جميع التبعات (١) ثم الصدق فى القول والعدل فى الفعل.

ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.

فمن قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد فى داريه وحظى بعظائم منزلته.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))

يهوّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنّ الذين كانوا قبلنا كانوا فى الضعف والعجز مثلنا ، ثم صبروا فظفروا ، وأخلصوا فخلصوا.

__________________

(١) أي الاحتراز عما فيه تبعة.

٥١١

قوله جل ذكره : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥))

إنزال الكتاب عليهم تحقيق للإيجاب ، وإذا بقي العبد عن سماع الخطاب تسلى بقراءة الكتاب ، ومن لم يجد فى قراءة القرآن كمال العيش والأنس فلأنّه يقرأ ترسما لا تحققا (١)

قوله جل ذكره : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ)

أزاح كلّ علّة ، وأبدى كل وصلة ، فلم يبق لك تعللا ، ولا فى آثار الالتجاء إلى العذر موضعا.

قوله جل ذكره : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ).

عقوبة كلّ جرم مؤجلة ، وعقوبة التكذيب معجلة ، وهى ما يوجب بقاءهم فى أسر الشك حتى لا يستقر قلبهم على شىء.

قوله جل ذكره : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ

__________________

(١) يمكن ان يصلح هذا الرأى لتحديد موقف القشيري من قضية «السماع» ومدى تأثير القرآن والشعر فى الوجدان الصوفي. أنظر قصة يوسف بن الحسين الرازي (الرسالة ص ١٧١).

٥١٢

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

أخبر أنه بعد ما (أزاح) (١) لهم العلل اقترحوا ما ليس لهم ، و (اغتروا) (٢) بطول السلامة لهم ، ثم بيّن أنه إذا أمضى عقوبة عبد حكما فلا معارض لتقديره ، ولا مناقض لتدبيره.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم ، (فكانوا) (٣) مجتمعين جهرا بجهر ؛ متفرقين ـ فى التحقيق ـ سرّا بسرّ.

قوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). لا نجمعك وإياهم ، يعنى شقّك شقّ الحقائق ، وشقّهم شقّ الباطل ، و (لا اجتماع) (٤) للضدين.

قوله جل ذكره : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

هذه الحسنات للظاهر ؛ وأمّا حسنات القلوب فللواحد مائة إلى أضعاف مضاعفة.

ويقال الحسنة من فضله تعالى تصدر ، وبلطفه تحصل ، فهو يجرى ، ثم يقبل ويثنى ، ثم يجازى ويعطى.

ويقال إحسانه ـ الذي هو التوفيق ـ يوجب إحسانك الذي هو الوفاق ، وإحسانه ـ الذي هو خلق الطاعة ـ يوجب لك نعت الإحسان الذي هو الطاعة ؛ فالعناء منك فعله والجزاء لك فضله (٥).

__________________

(١) وردت (ذبح) وذبج العلة وإزاحتها كلاهما مقبول ولكننا آثرنا أزاح لأنه استعملها فى هذا السياق قبل قليل.

(٢) وردت (اعتروا) بالعين والصواب (اغتروا) بالغين.

(٣) وردت (فكا ...) فأكملناها.

(٤) وردت و (الاجتماع) والمعنى يرفضها ويقبل و (لا اجتماع).

(٥) تعبر هذه الفقرة عن موقف القشيري بالنسبة لقضية وجوب المثوبة والعقوبة على الله بالنسبة للمطيع والعاصي ، فبينما يقول المعتزلة بهذا الوجوب ، يرفض القشيري كل وجوب على الله ، ويعود بالأمر كله إلى الفضل الإلهى.

٥١٣

ويقال إحسان النفوس توفية الخدمة ، وإحسان القلوب حفظ الحرمة ، وإحسان الأرواح مراعاة آداب الحشمة.

ويقال إحسان الظاهر يوجب إحسانه فى السرائر ، فالذى منك مجاهدتك ، والذي إليك مشاهدتك.

ويقال إحسان الزاهدين ترك الدنيا ، وإحسان المريدين رفض الهوى ، وإحسان العارفين قطع المنى ، وإحسان الموحدين التخلّي عن الدنيا والعقبى ، والاكتفاء بوجود المولى.

ويقال إحسان المبتدئين الصدق فى الطلب ، وإحسان أصحاب النهاية حفظ الأدب ، فشرط الطلب ألا يبقى ميسور إلّا بذلته ، وشرط الأدب ألا تسمو لك همّة إلى شىء إلا قطعته وتركته.

ويقال للزهاد والعبّاد ، وأصحاب الأوراد وأرباب الاجتهاد جزاء محصور معدود ، ولأهل المواجيد لقاء غير مقطوع ولا ممنوع.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

يعنى (يكال) (١) عليه بالكيل الذي يكيل ، ويوقف حيث يرضى لنفسه بأن يكون له موقفا.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى ما سواه. ومن وجد سبيلا إلى مخلوق عرج في أوطان الحسبان لأن الأغيار ليس لها من الإبداع شظية ، ومن سلك إلى مخلوق سبيلا وأبرم فيهم تأميلا أو قدّم عليهم تعويلا ، فقد استشعر تسويلا ، وجرّع تضليلا.

__________________

(١) وردت (يقال) وهى خطأ فى النسخ.

٥١٤

و «الصراط المستقيم» ألّا ترى من دونه مثبتا لذرة ولا سنة.

و «الدين القيم» ما لا تمثيل فيه ولا تعطيل ، ولا نفى للفرق الذي يشير إلى العبودية ، ولا رد للجمع الذي هو شهود الربوبية (١).

والحنيف المائل إلى الحق ، الزائغ عن الباطل ، الحائل عن ضد الحقيقة.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

من كوشف بحقائق التوحيد شهد أن القائم عليه والمجرى عليه والممسك له والمنقّل إياه من وصف إلى وصف ، و (....) (٢) عليه فنون الحدثان ـ واحد لا يشاركه قسيم ، وماجد لا يضارعه نديم.

ويقال من علم أنه بالله علم أنه لله ، فإذا علم أنه لله لم يبق فيه نصيب لغير الله ؛ فهو مستسلم لحكم الله ، لا معترض على تقدير الله ، ولا معارض لاختيار الله ، ولا معرض عن اعتناق أمر الله.

قوله جل ذكره : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

__________________

(١) من اقوال القشيري التي توضح مقصوده هنا : ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق ، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع ، فمن أشهده الحق ـ سبحانه ـ أفعاله من طاعاته ومخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة ، ومن أشهده الحق ـ سبحانه ـ ما يوليه من أفعال نفسه ـ سبحانه ـ فهو عبد يشاهد الجمع ؛ فإثبات الخلق من باب التفرقة ، واثبات الحق من نعت الجمع ، ولا بد للعبد من الجمع والفرق ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ، ومن لا جمع له لا معرفة له (الرسالة ص ٣٨).

(٢) مشتبهة وهى قريبة من (المجرى).

٥١٥

كيف أوثر عليه بدلا وإنى لا أجد عن حكمه حولا ، وكيف أقول بغير أو ضد أو شريك؟ أو أقول يدونه معبود أو مقصود؟ وإن لاحظت يمنة ما شاهدت إلا ملكه ، وإن طالعت يسرة ما عاينت إلا ملكه! بل إنى إن نظرت يمنة شهدت يمنه ، وإن نظرت يسرة وجدت نحوى يسره (١)!

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

صير التوبة إليكم ، وقصر حكم عصركم عليكم ، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافا ، وخلقكم أخيافا (٢) فمن مسخّر له ، مرفّه ، مروّح ، يتعب لأجله كثير. ومن معنّي ، وذى مشقة أدير عليه رأسه. وجاء البلاء ليختبركم فيما آتاكم ، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنّ حسابه لكم لاحق ، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم.

السورة التي يذكر فيها الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الباء مكسورة فى نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء ، وهى صغيرة القامة فى الخط ، ونقطها الذي تتميز به عن غيرها واحد وهو نهاية القلّة ، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف ، فهى تشير إلى التواضع والخضوع بكل وجه.

والسين «من بسم الله» حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر ـ فى الخضوع والتذلل ، والجهد والتوسل ـ ميسورا ، ثم تسكن منتظرا للتقدير ، فإن منّ القبول بفضله

__________________

(١) وردت (يمنه ويسره) بتاء مربوطة والصواب أن تكونا (اليمن واليسر) مضافتين لله ـ سبحانه.

(٢) يقال هم إخوة أخياف : أي أنّ أمهم واحدة والآباء شتى فهم مختلفون (المنجد)

٥١٦

فذلك المأمول ، وإن ردّ بحكم فله الحكم ، فتوافق تقديره بالموافقة فى الرضا به ، إذا الميم تشبر إلى منته إن شاء ، ثم إلى موافقتك لتقديره بالرضا به إن لم يمنّ.

ويقال الباء تشير إلى بيان قلوب أهل الحقائق بلطائف المكاشفات بما يختصهم الحق ـ سبحانه ـ بذلك من دون الخلق ، فهم على بيان مما يخفى على الخلق ، فالغيب لهم كشف ، والخبر لهم عيان ، وما للناس علم فلهم وجود.

والسين تشير إلى سرور قلوبهم عند تقريبات البسط بما (....) (١) فيه من وجوه المراعاة! وصنوف لطائف المناجاة ، فهم فى جنات النعيم ، وعيش بسط وتكريم ، ودوام روح مقيم.

والميم تشير إلى محبة الحق ـ سبحانه ـ لهم بدءا فإنها هى الموجبة لمحابّهم ، إذ عنها صدر كلّ حب فبمحبته لهم أحبوه ، وبقصده إليهم طلبوه ، وبإرادته لهم أرادوه.

ويقال نزهة أسرار الموحدين فى الإناخة بعقوة بسم الله ، فمن حلّ تلك الساحة رتع فى حدائق القدس ، واستروح إلى نسيم الأنس.

ويقال بسم الله موقف الفقراء بقلوبهم ؛ فللأغنياء موقفهم عرفات ، وللفقراء موقفهم المكاشفات والمشاهدات.

ويقال قالة (بِسْمِ اللهِ) ربيع الأحباب ؛ أزهارها لطائف الوصلة ، ونورها زوائد القربة.

قوله جل ذكره (المص (١))

هذه الحروف من المتشابه فى القرآن على طريقة قوم من السلف ، والحق ـ سبحانه ـ مستأثر بعلمها دون خلقه. وعلى طريقة قوم فلها معان تعرف ، وفيها إشارات إلى أشياء توصف : فالألف تشير إلى ألفة الأرواح العطرة أصابت الشكلية مع بعض الأرواح العطرة ، فهى ـ فى التحقيق ـ فى ذلك المعنى كالمتحدة ؛ فمنه تقع الألفة بين المتشاكلين ، ولأجل اتحاد المقصود يتفق القاصدون.

ويقال ألف القلب حديثه فلم يحتشم من بذل روحه.

__________________

(١) مشتبهة.

٥١٧

ويقال الألف تجرّد من قصده عن كل غير فلم يتصل بشىء ، وحين استغنى عن كل شىء اتصل به كل شىء على جهة الاحتياج إليه.

ويقال صورة اللام كصورة الألف ولكن لما اتصلت بالحروف تعاقبتها الحركات كسائر الحروف ؛ فمرة أصبحت مفتوحة ، ومرة (مسكونة) (١) ، ومرة مرفوعة ، وأمّا الألف التي هى بعيدة عن الاتصال بالعلاقات (فباقية على وصف التجرد عن تعاقب الحركات عليها فهى على سكونها الأصلى) (٢).

وأمّا الصاد فتشير إلى صدق أحوال المشتاقين فى القصد ، وصدق أحوال العارفين فى الوجد ، وتشير إلى صدق قلوب المريدين وأرباب الطلب ، إذ العطش نعت كلّ قاصد ، كما أن الدهشة وصف كل واجد.

ويقال الصاد تبدى محبة للصدور وهو بلاء الأحباب.

ويقال الصاد تطالبك بالصدق فى الود ، وأمارة الصدق فى الود بلوغ النهاية والكمال ، حتى لا يزيد بالبر ، ولا ينقص بالمنع.

قوله جل ذكره : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

كتاب الأحباب تحفة الوقت ، وشفاء لمقاساة ألم البعد ، وهو لداء الضنى مزيل ، ولشفاء الشكّ مقيل ، وقال تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) ولم يقل : فى قلبك ؛ فإن قلبه ـ عليه‌السلام ـ فى محل الشهود ، ولذلك قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (٣) وكذلك قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٤). وقال للمصطفى صلوات الله

__________________

(١) وردت (مسكوه) بسقوط النون وهى خطأ فى النسخ.

(٢) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من المتن حسب العلامة المميزة.

(٣) آية ٩٧ سورة الحجر.

(٤) آية ٢٥ سورة طه.

٥١٨

عليه : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١). فإن القلب فى محل الشهود ، وهو أبدا بدوام أنس القرب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عينى ولا ينام قلبى» (٢) وقال : «أسألك لذة النظر» (٣) وصاحب اللذة لا يكون له حرج.

قوله جل ذكره : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

استسلموا لمطالبات التقدير ، قفوا حيثما وقفتم ، وتحققوا بما عرفتم ، وطالعوا بما كوشفتم ، ولا تلاحظوا غيرا ، ولا تركنوا إلى علّة ، ولا تظنوا أن لكم من دونه وسيلة.

قوله جل ذكره : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

يعنى كم من قرية ركنوا إلى الغفلة ، واغتروا بطول المهلة ؛ باتوا فى (خفض) (٤) الدعة وأصبحوا وقد صادفتهم البلايا بغتة ، وأدركتهم القضية فجأة ، فلا بلاء كشف عنهم ، ولا دعاء سمع لهم ، ولا فرار نفعهم ، ولا صريخ أنقذهم. فما زالوا يفزعون إلى الابتهال ، ويصيحون : الويل! ويدعون إلى كشف الضر ، ويبكون من مسّ السوء؟! بادوا وكأنه لا عين ولا أثر ، ولا لأحد منهم (خبر) (٥). تلك سنّة الله فى الذين خلوا من الكافرين ، وعادته فى الماضين من الماردين.

__________________

(١) آية ١ سورة الشرح.

(٢) فى رواية سعيد بن منصور فى سننه عن ابن سعد بن الحسن مرسلا : (تنام عيناى ولا ينام قلبى) ص ١٢٠ الجامع الصغير.

(٣) وردت ضمن وعاء طويل رواه النسائي فى سننه والحاكم فى مستدركه عن عمار بن ياسر ـ هكذا (... وأسألك لذة النظر الى وجهك).

(٤) وردت (حفض) بالحاء والصواب أن تكون (خفض العيش) بالخاء.

(٥) وردت (خير) بالياء والصواب أن تكون (خبر) بالباء.

٥١٩

قوله جل ذكره : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦))

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) : سؤال تعنيف وتعذيب.

(وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) : سؤال تشريف وتقريب.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) عن القبول فيتقنّعون بذل الخجل.

(وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن البلاغ فيتكلمون ببيان الهيبة ، فالكلّ بسمة العبودية والتوقير ، والحقّ بنعت الكبرياء والتقدير.

قوله جل ذكره : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

فلنخبرنهم يوم الفصل ما هم عليه اليوم ، ونوقفهم على ما أسلفوه ، ونقيمنهم فى مقام الصّغار ومحل الخزي ، وسيعلمون أنه لم يغب عن علمنا صغير ولا كبير.

ويقال أجرى الحقّ ـ سبحانه ـ سنّته بتخويف العباد بعلمه مرة كما خوّفهم بعقوبته تارة ؛ فقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً) (١) يعنى العذاب الواقع فى ذلك اليوم ، وقال فى موضع آخر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٢) وهذا أبلغ فى التخويف ، وقال (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (٣).

قوله جل ذكره : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

يزن أعمالهم بميزان الإخلاص ، وأحوالهم بميزان الصدق. فمن كانت أعمالهم بالرياء

__________________

(١) آية ٤٨ سورة البقرة.

(٢) آية ٢٨ سورة آل عمران.

(٣) آية ١٤ سورة العلق.

٥٢٠