لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

قوله جل ذكره : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))

تعليق القلوب ـ بدون الرب ـ فى استدفاع الشر واستجلاب الخير بمحيق للوقت فيما لا يجدى ، وإذهاب للعمر فيما لا يغنى ؛ إذ المتفرد بالإيجاد برىء عن الأنداد.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))

التعمق فى الباطل قطع لآمال الرجوع ؛ فكلما كان بعد المسافة من الحقّ أتمّ كان اليأس من الرجعة أوجب ، ومتّبع الضلالة شرّ من مبتدعها ؛ لأن المبتدع يبنى والمتّبع يتمّ البناء ، ومن به كمال الشرّ شرّ ممن منه ابتداء الشر.

قوله جل ذكره : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨))

أمر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ حتى ذكروا الكفار بالسوء ، وأمّا الأولياء فخصّهم بذكر نفسه فقال : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) (١) ؛ فلعنة الكفار بلسان الأنبياء ، وذكر المؤمنين بالجميل بلسان الحقّ ـ سبحانه ، ولو كان ذلك ذكرا بالسوء لكان فيه استحقاق فضيلة ، فكيف وهو ذكر بالجميل!؟ ولقد قال قائلهم :

لئن ساءنى أن تلقني بمساءة

فقد سرّنى أني خطرت ببالكا

قوله جل ذكره : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ

__________________

(١) آية ٤٣ سورة الأحزاب.

٤٤١

فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩))

(١) الرضاء بمخالفة أمر الحبيب موافقة للمخالف ، ولا أنفة بعد تميز الخلاف. والسكوت عن جفاء تعامل به كرم ، والإغضاء عما يقال فى محبوبك دناءة.

قوله جل ذكره : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠))

شرّ خصال اللئام مطابقة من يضاد الصديق ، فإذا كان سخط الله فى موالاة أعدائه ، فرحمته ـ سبحانه فى معاداة أعدائه.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

صرّح بأنّ موافق من ناوءك (٢) آثر التباعد عنك ؛ إذ لو كانت بينكما شهرة غير منقطعة لأخلصت (٣) فى موالاته ، وأخلص فى مصافاتك.

قوله جل ذكره : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢))

بيّن أنّ صفة العداوة وإن كانت تجمعهم فمعاداة بعضهم تزيد على بعض ، وبقدر

__________________

(١) سقطت (فعلوه) من الناسخ فاثبتناها.

(٢) وردت (ناولك) وربما كانت فى الأصل (ناواك) والتبست على الناسخ فظنها لاما.

(٣) أخطأ الناسخ فكتبها (لأخصلت).

٤٤٢

ما للنصارى من التّرهّب أثر فيهم (بالمقاربة) (١) من أهل الحق ؛ فإنهم وإن لم ينتفعوا بهم من حيث الخلاص فقد ذكرهم الله سبحانه ـ بمقاربة أهل الاختصاص.

قوله جل ذكره : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣))

هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول ، فإذا قرعت سمعهم دعوة الحقّ ابتسمت البصيرة فى قلوبهم ، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق.

قوله جل ذكره : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤))

وأي عذر لنا فى التعريج فى أوطان الارتياب ، وقد تجلّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حسن العاقبة. متى بدونه يمكن أن نطلبه؟

قوله جل ذكره : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥))

لمّا صدقت آمالهم قابلها بالتحقيق ، سنّة منه ـ سبحانه ـ ألا يخيب راجيه ، ولا يرد مؤمليه (٢) ، وإنما علّق الثواب على قول القلب الذي هو شهادة عن شهوده ، فأمّا النظر المنفرد عن البصيرة فلا ثواب عليه ولا إيجاب (٣).

__________________

(١) وردت (بالمقارنة) والصواب أن تكون (المقاربة) فقد وردت كذلك فيما بعد إشارة إلى ما فى الآية (أقربهم مودة ...). وربما قبلنا (المقارنة) على أساس مقارنة النصارى باليهود.

(٢) وردت (مؤلميه) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) لاحظ هنا قيمة الإيمان النظري بالقياس إلى الإيمان القلبي ومغزى ذلك فى التسامح الديني.

٤٤٣

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

(هذا) أثر الإعراض عن الأعداء فى مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجّلا ومؤجلا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧))

من أمارات السعادة الوقوف على حد الأمر ؛ إن أباح الحقّ شيئا قبله ، وقابله بالخشوع ، وإن حظر شيئا وقف ولم يتعرض للجحود.

ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب فى أوطان الخلوة ، وتحريم ذلك : إن استبدل تلك الحالة بالخلطة دون العزلة ؛ والعشرة دون الخلوة ، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين.

قوله جل ذكره : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

الحلال الصّافى بأن يأكل العبد ما يأكل على شهوده ـ سبحانه ـ فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره ـ سبحانه ـ فإنّ الأكل على الغفلة حرام فى شريعة الإرادة.

قوله جل ذكره : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا

٤٤٤

أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

الإشارة منه إلى وقت يغلب على قلبك التعطش إلى شىء من إقباله أو وصاله ، فتقسم عليه بجماله أو جلاله أن يرزقك شظية من إقباله ، فكذلك فى شريعة الرضا نوع من اليمين ، فيعفو عنك رحمة عليك لضعف حالك. والأولى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت ما يجرى عليك من أحكامه فى الردّ والصد ، وأن تؤثر استقامتك فى أداء حقوقه على إكرامك بحسن تقريبه وإقباله ، كما قال قائلهم :

أريد وصاله ويريد هجرى

فأترك ما أريد لما يريد

ومن اللغو فى اليمين ـ عندهم ـ ما يجرى على لسانهم فى حال غلبات الوجد من تجريد العهد وتأكيد العقد ، فيقول :

وحقّك ما نظرت إلى سواكا ، ولا قلت بغيرك .. ولا حلت عن عهدك ، وأمثال هذا ...

وكلّه فى حكم التوحيد لغو ، وعن شهود عهد الأحدية سهو ... ومن أنت فى الرّفعة حتى تعدم نفسك؟ وأين فى الدار ديّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره؟ كلا ... بل هو الله الواحد القهار (١).

وكما أن الكفّارة الشرعية إمّا عتق أو إطعام وإما كسوة فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام : فكفّارتهم ـ على موجب الإشارة ـ إمّا بذل الروح بحكم الوجد ، أو بذل القلب بصحة القصد ، أو بذل النفس بدوام الجهد ، فإن عجزت فإمساك وصيام عن المناهي والزواجر.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ

__________________

(١) وشبيه بذلك قول الشبلي حين سئل عن التوحيد (من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد ، ومن أشار إليه فهو ثنوى ، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن ، ومن نطق فيه فهو غافل ... وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم ، محدث مصنوع مثلكم» الرسالة ص ١٤٩.

٤٤٥

وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠))

الخمر ما خامر العقول ، والخمر حرام.

والإشارة فيه أنه يزيد نفاد العقل بما يوجب عليه من الالتباس.

ومن شرب من خمر الغفلة فسكره أصعب ؛ فشراب الغفلة يوجب البعد عن الحقيقة.

وكما أن من سكر من خمر الدنيا ممنوع عن الصلاة فمن سكر من خمر الغفلة فهو محجوب عن المواصلات.

وكما أنّ من شرب من خمر الدنيا وجب عليه الحدّ فكذلك من شرب شراب الغفلة فعليه الحدّ إذ يضرب بسياط الخوف.

وكما أنّ السكران لا يقام عليه الحدّ ما لم يفق فالغافل لا ينجح فيه الوعظ ما لم ينته.

وكما أن مفتاح الكبائر شرب الخمر (فالغفلة) (١) أصل كلّ زلّة ، وسبب كلّ ذلّة وبدء كل بعد وحجبة عن الله تعالى.

ويقال لم يحرم عليه الشراب فى الدنيا إلا وأباح له شراب القلوب ؛ فشراب الكبائر محظور (وشراب الاستئناس مبذول ، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب) (٢) ، وحيثما كان الشراب كان السكر ، وفى معناه أنشدوا :

فما ملّ ساقيها وما ملّ شارب

عقار لحاظ كأسه يسكر اللّبّا

فصحوك من لفظى هو الوصل كله

وسكرك من لحظى يبيح لك الشربا

وحرّم الميسر فى الشرع ، وفى شريعة الحب القوم مقهورون ؛ فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة فى شوارع التقدير ، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير ، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر ، عليها خرجت القرعة من (...) (٣) الحكم ، قال تعالى (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (٤).

__________________

(١) أضفنا (الغفلة) وليست موجودة فى النص ليتضح المعنى.

(٢) ما بين القوسين مثبت فى الهامش نقلناه إلى موضعه حسب العلامات.

(٣) مشتبهة.

(٤) آية ١٤١ سورة الصافات.

٤٤٦

قوله جل ذكره : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١))

طال بعدهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان فى مطارح الغربة ، وصاروا سخرة للشيطان ؛ فبقوا الصلاة التي هى محل النجوى وكمال الراحة ، وفسدت ذات بينهم بما تولد من الشحناء والبغضاء.

قوله جل ذكره : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

كلما كان العبد أعرف بربه كان أخوف من ربه ، وإنما ينتفى الحذر عن العبد عند تحقيق الموعد بقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) (١) وذلك عند دخول الجنة. وحقيقة الحذر نهوض القلب بدوام الاستغاثة مع مجارى الأنفاس.

قوله جل ذكره : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

من حافظ على الأمر والنهى فليس للقمة يتناولها من الخطر ما يضايق فيها ، وإنما المقصود من العبد التأدب بصحبة طريقه سبحانه ، فإذا اتّقى الشرك تعرّف ، ثم اتقى الحرام فما تصرّف ، ثم اتقى الشحّ فآثر وما أسرف.

__________________

(١) آية ٨٢ سورة الأنعام.

٤٤٧

وقوله (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا ...) يعنى اتقوا المنع (١) وأحسنوا للخلق ـ وهذا للعموم. ثم اتقوا شهود الخلق ؛ فأحسن الشهود الحقّ ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ـ وهذا للخواص.

والله يحب المحسنين أعمالا والمحسنين (آمالا) (٢) والمحسنين أحوالا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥))

أباح الصيد لمن كان حلّالا (٣) ، وحرّم الصيد على المحرم الذي قصده زيارة البيت. والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغى أن يكون الصيد منه فى الأمان ، لا يتأذى منه حيوان بحال ، لذا قالوا : البرّ من لا يؤذى الذر ولا يضمر الشر.

ويقال الإشارة فى هذا أن من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة ، ولا ينبغى أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال.

__________________

(١) أي منع الإحسان.

(٢) نرجح أنها فى الأصل (أموالا).

(٣) الحلال ـ الخارج من الإحرام (المنجد : مادة حل).

٤٤٨

وكما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار ـ على الواجد ـ حرام ما دام محرما بقلبه.

ويقال العارف صيد الحق ، ولا يكون للصيد صيد.

وإذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة ، وإذا لاحظ العارف الأغيار ، أو طمع أو رغب فى شىء أو اختار لزمته الكفّارة ، ولكن لا يكتفى منه بجزاء المثل ، ولا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع ، ولكن كفّارته تجرده ـ على الحقيقة ـ عن كل غير ، قليل أو كثير ، صغير أو كبير.

قوله جل ذكره : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

حكم البحر خلاف حكم البر. وإذا غرق العبد فى بحار الحقائق سقط حكمه ، فصيد البحر مباح له لأنه إذا غرق صار محوا ، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محو ، والله غالب على أمره.

قوله جل ذكره : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

حكم الله سبحانه ـ بأن يكون بيته ـ اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل ، ويستقيم ببركات زيارته كلّ مائل عن نهج الاستقامة ، ويستنجح بابتهاله هنا لك كلّ ذى أرب.

والبيت حجر والعبد مدر ، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليعلم أنه الذي لم يزل لا سبيل إليه للحدثان والغير.

٤٤٩

قوله جل ذكره : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨))

شديد العقاب للأعداء ، غفور رحيم للأولياء.

ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إن زاغوا عن الشهود لحظة ، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة.

قوله جل ذكره : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

المتفرّد بالإلهية الله. والرسول ـ وإن جلّ قدره ـ فليس عليه إلا البلاغ وهو أيضا (بتسييره) (١).

قوله : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) : الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى فى حالة اكتسابه ، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق.

ويقال الخبيث ما لم يخرج منه حقّ الله تعالى ، والطيب ما أخرج منه حقه ـ سبحانه. ويقال الخبيث ما ادخرته لنفسك ، والطيب ما قدّمته لأمره.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١))

__________________

(١) لا نستبعد ايضا انها ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) ، وكلاهما مقبول فى السياق.

٤٥٠

إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أخفى عنكم ، فيتنغص (بالتج ...) (١) ـ عليكم ـ عيشكم.

ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر ـ حيث لا تستوجبون ذلك ـ فيسوءكم تقاصر رتبتكم.

ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجها من (التفال) (٢) ولا تطلبوا أسرار الباري ، واركنوا إلى روح المنى فى استدفاع ما (ظلكم) (٣) ولا تبحثوا عن سر ذلك ، وراعوا الأمر مجملا.

قوله جل ذكره : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

يعنى توهّم قوم أنهم محررون عن التأثر فيما يصادفهم من فجاءة التقدير ، وذلك منهم ظنّ ، كما يقول بعضهم :

تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه

على الصبر من إحدى الظنون الكواذب

قوله جل ذكره : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

هذه أحكام ابتدعوها ، فردّهم الحقّ ـ سبحانه ـ عن الابتداع ، وأمرهم بحسن الاتّباع ، وأخبر أنّ ما صدر من عاداتهم لا يعدّ من جملة عباداتهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) بقية الكلمة مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (التجسس) وهى مقبولة هكذا فى السياق ؛ أي لا تجعلوا التجسس ومحاولة معرفة الأسرار ينغص عليكم عيشكم.

(٢) هكذا فى النسخ ونرجح أنها فى الأصل (التأويل) وإن كانت بعيدة فى الرسم.

(٣) أي ما غشيكم من سحب الإعراض.

٤٥١

وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

إذا هتفت بهم دواعى الحقّ بالجنوح إلى وصف الصدق صدّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة (التقليد) (١) ، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلّا فى ضلال.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

يكفى للفقير أن يمشى وقد جبر بعض (كسره) (٢) ، فأمّا إذا ادّعى التقدم أو الطمع فى إنجاد من سواه فمحال من (الحدث) (٣) والظن.

ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه ، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرّغ إلى غيره.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ

__________________

(١) وردت (التقليل) والصواب (تقليد) ابائهم وأسلافهم كما فى الآية.

(٢) وردت (كثره) بالثاء والصواب : جبر (كسره) بالسين.

(٣) ربما كانت فى الأصل (الحدس) لتتمشى مع الظن.

٤٥٢

الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع ونسخ ، وفى بيان التفسير تفصيله.

والنسخ هو الإزالة ، وذلك جائز فى العبادات.

ومعنى النسخ يوجد فى سلوك المريدين ؛ فهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات. فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر ، فهو كالنسخ من حيث الصورة.

قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١). واتصافهم بمراعاة الثلوب أتمّ بتأديبهم بأحكام المعاملات (٢).

قوله جل ذكره :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

يكاشفهم بنعت الجلال فتنخنس فهومهم وعلومهم حتى ينطقوا بالبراءة عن التحقيق

__________________

(١) آية ١٠٦ سورة البقرة.

(٢) أي أن مراعاة الحقيقة تتم بمراعاة الشريعة.

٤٥٣

ويقولون : (لا عِلْمَ لَنا) ، وهكذا تكون الحالة غدا : من قال لشىء ، أو مال لشىء مما يكون نعتا بمخلوق فعند ظهور وابل التعزّز تتلاشى الجملة ، فالملائكة يقولون : «ما عبدناك حق عبادتك» والأنبياء يقولون : (لا عِلْمَ لَنا).

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

التذكير بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحب والهيمان فى المذكور (١) ، وكلّ وقت للأحباب يمضى يصير لهم حديثا يتلى من بعدهم : إما عليهم وإمّا عنهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

__________________

(١) أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور وفيها ينتقل العبد من مرتبة ذكر النعم إلى ذكر المنعم. فكأن القشيري يقصد بإشارته إلى ان تذكير عيسى وامه بالنعم التي وردت فى الآية حث لهما على الارتقاء من مرحلة النظر إلى النعم إلى مرحلة النظر إلى صاحبها سبحانه وتعالى ، وحبه والهيمان فيه.

٤٥٤

وإنما خصّهم بالوحى إليهم إلهاما وإكراما لانبساط ضياء عيسى عليهم (١) ، وفى الأثر : «هم القوم لا يشقى بهم جليس».

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))

طلبوا المائدة لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة ، فعذروا وأجيبوا إليها ؛ إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة.

ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته ، فمنهم من كان سكونه فى مائدة من الطعام يجدها ، ومنهم من يكون سكونه فى (فائدة) (٢) من الموارد يردها ، وعزيز منهم من يجد الفناء (٣) عن برهان يتأمله ، أو بيان دليل يطلبه.

قوله جل ذكره : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤))

شتّان بين أمة طلب لهم نبيّهم سكونا بإنزال المائدة عليهم ، وبين إمة بدأهم ـ سبحانه ـ

__________________

(١) وهذا يطابق فكرة القشيري فى الولاية وكيف انها ملحقة بالمعجزة ، فما يظهر على الولي من كرامة هو بركة النبي الذي الولي من أمته وعصره.

(٢) ربما كانت (مائدة) ليتم التقابل بين المائدتين الحسية والمعنوية.

(٣) ربما كانت (الغناء) اى يجد الاستغناء عن كل برهان ودليل ، وتصح (الفناء) بالفاء على معنى أن فناءه فى الله لا يحوجه إلى برهان أو دليل ..

٤٥٥

بإنزال السكينة عليهم ، من غير سؤال أحد ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (١)

وقال فى صفتهم (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٢)

وفرق بين من زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم.

قوله جل ذكره : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

أجابه إلى سؤاله لهم ، ولكن توعدهم (٣) بأليم العقاب لو خالفوا بعده ليعلم السالكون أنّ المراد إذا حصل ، وأن الكرامة إذا تحققت ـ فالخطر أشدّ والحال من الآفة أقرب ، وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى ، ومحن الأكابر إذا حلّت جلّت.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))

المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث ، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف.

__________________

(١) آية ٤ سورة الفتح.

(٢) آية ٢ سورة الأنفال.

(٣) وردت (يوعدهم).

٤٥٦

ثم إن عيسى ـ عليه‌السلام ـ حفظ أدب الخطاب فلم يزكّ نفسه ، بل بدأ بالثناء على الحق ـ سبحانه ـ فقال : تنزيها لك! إننى أنزهك عما لا يليق بوصفك.

ثم قال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي إنى إن كنت مخصوصا من قبلك بالرسالة ـ وشرط النبوة العصمة ـ فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لى؟.

ثم إنى (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ). كان واثقا بأن الحقّ ـ سبحانه ـ عليم بنزاهته من تلك القالة.

(تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) : أي علمك محيط بكل معلوم.

(وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تعرّفني بإعلامك. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الذي لا يخرج معلوم عن علمك ، ولا مقدور عن حكمك.

قوله جل ذكره : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧))

ما دعوتهم إلا لعبادتك ، وما أمرتهم إلا بتوحيدك وتقديسك ، وما دمت حيا فيهم كنت (....) (١) على هذه الجملة ، فلما فارقتهم كان تصرفهم فى قبضتك على مقتضى مشيئتك ، فأنت أعلم بما كانوا عليه من وصفي وفاقهم وخلافهم ، ونعمتى اقتصادهم (٢) وإسرافهم.

قوله جل ذكره : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) الاقتصاد هنا معناها الاعتدال.

٤٥٧

بيّن أن حكم المولى فى عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه ، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم.

ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم.

ويقال (الْعَزِيزُ) القادر على الانتقام منهم فالعفو (عند) (١) القدرة سمة الكرم ، وعند العجز أمارة الذّلّ.

ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن (تتجمل) (٢) بطاعة مطيع أو تنتقص (٣) بزلّة عاص. وقوله (الْحَكِيمُ) ردّ على من قال : غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة.

قوله جل ذكره : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)

من تعجّل ميراث صدقه فى دنياه من قبول حصل له من الناس ، أو رياسة عقدت له ، أو نفع وصل إليه من جاه (٤) أو مال. فلا شىء له فى آجله من صواب صدقه ، لأن الحقّ ـ سبحانه ـ نصّ بأنّ يوم القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم.

قوله جل ذكره : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ورضاء الحق ـ سبحانه ـ إثبات محلّ لهم ، وثناؤه عليهم ومدحه لهم ، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق ـ سبحانه ـ فى الآخرة وصولهم إلى مناهم ؛ فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.

__________________

(١) وردت (عن) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت (تتحمل) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وردت (تنتقض) بالضاد وهى خطأ فى النسخ.

(٤) وردت (جاره) وهى خطأ فى النسخ.

٤٥٨

قوله جل ذكره : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ)

تمدّح الحقّ ـ سبحانه ـ بقدرته القديمة الشاملة لجميع المقدورات ، الصالحة لإيجاد المصنوعات ، ولم يتجمل بإضافة غير إلى نفسه من اسم أو أثر ، أو عين أو طلل.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

من الإبعاد والإسعاد ، والصد والرد ، والدفع والنفع ، والقمع والمنع.

السورة التي تذكر فيها الأنعام

«بسم الله الرحمن الرحيم»

باسمه استنارت القلوب واستقلّت ، وباسمه زالت الكروب واضمحلت ، وبرحمته عرفت الأرواح وارتاحت ، وبا (...) (١) انخنست العقول فطاحت.

ويقال باسم الله نال كلّ مؤمّل مأموله ، وبرحمة الله وجد كل واجد وصوله.

قوله جل ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

بدأ الله ـ سبحانه ـ بالثناء على نفسه ، فحمد نفسه بثنائه الأزلىّ وأخبر عن سنائه الصمدى ، وعلائه الأحدى فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

وقوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : ف (الَّذِي) إشارة و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) عبارة. استقلت الأسرار بسماع (الَّذِي) لتحققها بوجوده ، ودوامها لشهوده ، واحتاجت القلوب عند سماع (الَّذِي) إلى سماع الصلة لأن (الَّذِي) من الأسماء الموصولة بكون القلوب تحت ستر الغيب فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

__________________

(١) مشتبهة.

٤٥٩

قوله جل ذكره (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

خلق ظلمة الليل وضياء النهار ، ووحشة الكفر والشرك ، ونور العرفان والاستبصار.

ويقال جعل الظلمات نصيب قوم لا لجرم سلف ، والنور نصيب قوم لا لاستحقاق سبق ، ولكنه حكم به جرى قضاؤه.

ويقال جعل ظلمات العصيان محنة قوم ، ونور العرفان نزهة قوم.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

أثبت الأصل من الطين وأودعها عجائب (السير) (١) ، وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق ، فالعبرة بالوصل لا بالأصل ؛ فالوصل قربة والأصل تربة ، الأصل من حيث النّطفة والقطرة ، والوصل من حيث القربة والنّصرة.

قوله (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) : جعل للامتحان أجلا ، ثم جعل للامتنان أجلا ، فأجل الامتحان فى الدنيا ، وأجل الامتنان فى العقبى.

ويقال ضرب للطلب أجلا وهو وقت المهلة ، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة ؛ فالمهلة لها مدى ومنتهى ، والوصلة بلا مدى ولا منتهى ؛ فوقت الوجود له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد (٢) فلا غروب لها بعد الطلوع.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

__________________

(١) إما ان تكون (السير) جمع سيرة او تكون (السير) مصدر سار يسير ، ولا نستبعد. انها فى الأصل (السر) فالسر ـ كما يقول صاحب اللمع ـ هو خفاء بين العدم والوجود (اللمع ص ٤٣٠)

(٢) وفى ذلك يقول الشبلي :

تسرمد وقتى فيك وهو مسرمد

وأفنيتني عنى فصرت مجردا

(اللمع ص ٤٤٢)

٤٦٠