لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

قوله جل ذكره : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

أي بعد ما أزحتم عن قلوبكم آثار الحسبان ، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن ، فلا تلاحظوا سواى ، ولا يظلّلن قلوبكم إشفاق من غيرى.

ويقال إذا كانت البصائر متحققة بأن النّفع والضر ، والخير والشر لا تحصل شظية منها إلا بقدرة الحق ـ سبحانه ، فمن المحال أن تنطوى ـ من مخلوق ـ على رغب أو رهب.

قوله جل ذكره : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

إكماله الدين ـ وقد أضافه إلى نفسه ـ صونه العقيدة عن النقصان ؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده ، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.

ويقال إكمال الدّين تحقيق القبول فى المآل ، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول فى الحال ؛ فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول ، ولو لا تحقيقه لم يكن للدين قبول.

ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شىء يعلمه الحق ـ سبحانه ـ من أوصافه وقد علّمك.

ويقال إكمال الدين أن ما تقاصر عنه عقلك من تعيين صفاته ـ على التفصيل ـ أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار.

وإنما أراد بذكر (الْيَوْمَ) وقت نزول الآية. وتقييد الوقت فى الخطاب بقوله (الْيَوْمَ) لا يعود إلى عين إكمال الدّين ، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.

والدّين موهوب ومطلوب ؛ فالمطلوب ما أمكن تحصيله ، والموهوب ما سبق منه حصوله.

قوله جل ذكره : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).

النعمة ـ على الحقيقة ـ ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه ، والنعمة المذكورة

٤٠١

هاهنا نعمة الدّين ، وإتمامها وفاء المآل ، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة ، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين ، ولا شك فى مغفرة جميع المؤمنين ، وإنما الشك يعترى فى الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟

قوله جل ذكره : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وذلك لما قسم للخلق أديانهم ؛ فخصّ قوما باليهودية ، وقوما بالنصرانية ، إلى غير ذلك من النّحل والملل ، وأفرد المسلمين بالتوحيد والغفران.

وقدّم قوم الإكمال على الإتمام ، فقالوا : الإتمام يقبل الزيادة ، فلذلك وصف به النعمة لقبول النّعم للزيادة ، ولا رتبة بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.

ويقال لا فرق بين الدّين والنعمة المذكورة هاهنا ، وإنما ذكر بلفظين على جهة التأكيد ، ثم أضافه إلى نفسه فقال : (نِعْمَتِي) وإلى العبد فقال : (دِينِكُمْ). فوجه إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب ، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخلق. فالدين من الله عطاء ، ومن العبد عناء (١) ، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاع فى السّرّ.

قوله جل ذكره : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالك فترة ، أو لمريد فى السلوك وقفة ، ثم تنبّه لعظيم واقعه فبادر إلى جميع الرّجعة باستشعار التحسّر على ما جرى تداركته الرحمة ، ونظر الله ـ سبحانه ـ إليه بقبول الرجعة.

والإشارة من قوله (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير معرّج على الفترة ، ولا مستديم لعقدة الإصرار ، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده فى الحال فربما تجرى معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.

__________________

(١) هذه العبارة تساوى فى المعنى ما سبق ذكره ان «الدين موهوب ومطلوب» والمقصود بالعناء أن الدين معاناة وممارسة من جانب العبد.

٤٠٢

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

لما علموا أن الحسن من أفعالهم ما ورد به الأمر وحصل فيه الإذن تعرّفوا ذلك من تفصيل الشرع ، فقال : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) ثم قال :

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهو الحلال الذي تحصل من تناوله طيبة القلوب فإنّ أكل الحرام يوجب قسوة القلب ، والوحشة مقرونة بقسوة القلب ، وضياء القلوب وطيب الأوقات متصل بصون الخلق عن تناول الحرام والشبهات.

وقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) : ولمّا كان الكلب المعلّم ترك حظّه ، وأمسك ما اصطاده على صاحبه حلت فريسته ، وجاز اقتناؤه ، واستغرق فى ذلك حكم خساسته فكذلك من كانت أعماله وأحواله لله ـ سبحانه ـ مختصة ، ولا يشوبها حظّ تجلّ رتبته وتعلو حالته.

ويقال حسن الأدب يلحق الأخسّة برتبة الأكابر ، وسوء الأدب يردّ الأعزّة إلى حالة الأصاغر.

ثم قال : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) : بيّن أنّ الأكل ـ على الغفلة ـ غير مرضىّ عنه (فى القيمة) (١) (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، وسريع الحساب ـ اليوم ـ مع الأحباب والأولياء ، فهم لا يسامحون فى (الخطوة) (٢) ولا فى اللحظة ، معجّل حسابهم ، مضاعف ـ فى الوقت ـ ثوابهم وعقابهم.

__________________

(١) وضعت (فى القيمة خطأ) بعد سريع الحساب وقد أثبتناها فى موضعها الصحيح.

(٢) ربما كانت فى الأصل (الخطرة) بالراء فالأكابر يحاسبون على أدق خاطر يخطر على قلوبهم.

٤٠٣

قوله جل ذكره : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

ليس الطّيّب ما تستطيبه النفوس ، ولكن الطيب ما يوجد فيه رضاء الحق ـ سبحانه ـ فتوجد عند ذلك راحة القلوب.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) : القدر الذي بيننا وبينهم من الوفاق فى إثبات الربوبية لم يعر من أثر فى القربة فقال الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) (١)

وكذلك الأمر فى المحصنات من نسائهم. وأحل الطعام والذبيحة بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم ، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا ، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا ، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يعلى.

ثم قال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) يعنى إنهم وإن كانوا كفارا فلا تجب صحبتهن بغير نكاح تعظيما (٢) لأمر السّفاح ، وتنبيها على وجوب مراعاة الأمر من الحق. وكذلك (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) لأنه إذا لم يجز تعلق قلبك بالمؤمنين على وجه المخادنة فمتى يسلم ذلك مع الكفار الذين هم الأعداء؟

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

__________________

(١) آية ٨٢ سورة المائدة.

(٢) تعظيما هنا معناها تهويلا واستبشاعا.

٤٠٤

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)

كما أنّ فى الشريعة لا تصحّ الصلاة بغير الطهور فلا تصحّ ـ فى الحقيقة ـ بغير طهور.

وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر أيضا طهارة ، وطهارة الأبدان بماء السماء أي المطر ، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل ، ثم بماء الحياء والوجل.

وكما يجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة يجب ـ فى بيان الإشارة ـ صيانة الوجه عن التبذّل للأشكال عن طلب خسائس الأعراض.

وكما يجب غسل اليدين فى اليدين فى الطهارة يجب قصرهما عن الحرام والشبهة.

وكما يجب مسح الرأس يجب صونه عن التواضع والخفض لكل أحد.

وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة يجب صونهما فى الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).

كما يقتضى غسل جميع البدن فى الطهارة ، كذلك فى الطهارة الباطنة ما يوجب الاستقصاء ؛ وذلك عند ما تقع للمريد فترة فيقوم بتجديد عقد ، وتأكيد عهد ، والتزام عزامة ، وتسليم وقت ، واستدامة ندامة ، واستشعار خجل.

وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التّيمم فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته ، ويغسله ببركات إشارته ، ويعينه بما يئوب به من زيادة حالته ـ اشتغل بما تيسّر له من اقتفاء آثارهم ، والاستراحة إلى ما يجد من سالف سيرهم ، وما ورد من حكاياتهم

٤٠٥

وكما أن فرض التيمم على الشطر والنقصان فكذلك المطالبات على إصفاء هذه الحالة تكون أخف لأنه وقت الفترة وزمان الضعف.

قوله جل ذكره : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).

وتلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة ، فإذا عدم اللطائف فى سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره ، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق بآداب الشريعة ، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة.

قوله جل ذكره : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).

أي يطهر ظواهركم عن الزلة بعصمته ، ويطهر قلوبكم عن الغفلة برحمته.

ويقال يطهر سرائركم عن ملاحظة الأشكال ، ويطهر ظواهركم عن الوقوع فى شباك الأشغال.

ويقال يطهر عقائدكم عن أن تتوهموا تدنّس المقادير بالأعلال.

قوله جل ذكره : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

إتمام النعمة على قوم بنجاة نفوسهم ، وعلى آخرين بنجاتهم عن نفوسهم ، وشتّان بين قوم وقوم!.

ويقال إتمام النعمة فى وفاء العاقبة ؛ فإذا خرج من الدنيا على وصف العرفان والإيمان فقد تمّت سعادته ، وصفت نعمته.

ويقال إتمام النعمة فى شهود المنعم ؛ فإنّ وجود النعمة لكل أحد ولكنّ إتمامها فى شهود المنعم.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ)

الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمت أنه من هو.

ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القسم وهم فى كتم العدم ، فلا للأغيار عنهم خبر ،

٤٠٦

ولا لهم عين ولا أثر ، ولا وقع عليهم بصيرة ، وقد (سماهم) (١) بالإيمان ، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان ، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرّفهم التوحيد قبل أن كلّفهم الحدود ، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة ، فقابلوا قوله بالتصديق ، ووعدوا من أنفسهم الوفاء بشرط التحقيق ، فأمدّهم بحسن التوفيق ، وثبّتهم على الطريق ، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ) : يعنى فى نقض ما أبرمتم من العقود ، والرجوع عمّا قدمتم من العهود ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ)

لا يعوّقنّكم حصول نصيب لكم فى شىء عن الوفاء لنا ، والقيام بما يتوجّب عليكم من حقنا.

ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه ، ولم يمح عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يف لواجباته بشرط.

قوله جل ذكره : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنّ مرتع الظلم وبيء ، ومواضع الزيغ مهلكة.

ثم صرّح بالأمر بالعدل فقال : (اعْدِلُوا) ولا تكون حقيقة العدل إلا (بالعدول) (٢) عن كل حظ ونصيب.

__________________

(١) نرجح أنها فى الأصل (وسمهم) فالوسم فى الاصطلاح تتعلق بالأزل وهذا يتفق مع السياق.

(٢) وردت (بالعدوان) والصواب أن تكون (بالعدول) كما هو واضح.

٤٠٧

والعدل أقرب إلى التقوى ، والجور أقرب من الرّدى ، ويوقع عن قريب فى عظيم البلوى.

قوله جل ذكره : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩))

والمغفرة لا تكون إلا للذنب ، فوصفهم بالأعمال الصالحات ، ثم وعدهم المغفرة ليعلم أن العبد تكون له أعمال صالحة وإن كانت له ذنوب تحتاج إلى غفرانها ، بخلاف ما توهّم من قال إن المعاصي تحبط الطاعات.

ويقال بيّن أن العبد وإن كانت له أعمال صالحة فإنه يحتاج إلى عفوه وغفرانه ، ولو لا ذلك لهلك ، خلافا لمن قال إنه لا يجوز أن يعذّب البريء ويجب أن يثيب المحسنين (١).

ويقال لو كان ثواب المحسنين واجبا ، وعقوبة البريء غير حسنة لكان التجاوز عنه واجبا عليه ، ولم يكن حينئذ فضل يمن به عليهم.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

لهم عقوبتان : معجلة وهى الفراق ، ومؤجلة وهى الاحتراق.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

يذكّرهم ما سلف لهم من نعم الدفع (٢) وهو ما قصر عنهم أيدى الأعداء ، وذلك من أمارات

__________________

(١) يشير القشيري بذلك إلى أقوال المعتزلة بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي ـ على الله ، فلا وجوب ـ فى نظره ـ على الله ، وإنما كل شىء منه فضل ، ولا قيمة لعمل العبد بجانب هذا الفضل.

(٢) يميز القشيري بين نعمتين : نعمة دفع ونعمة نفع.

٤٠٨

العناية. ولقد بالغ فى الإحسان إليك من كان يظهر لك الغيب من غير التماس أو سبق شفاعة فيك ، أو رجاء نفع من المستأنف (١) منك ، أو حصول ربح فى الحال عليك ، أو وجود حق فى المستأنف لك.

ثم قال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعنى كما أحسنت إليكم فى السالف من غير استحقاق فانتظروا جميل إحسانى فى (الغابر) (٢) من غير (استيجاب) (٣).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ)

يذكرهم حسن أفضاله معهم ، وقبح (فعلهم) (٤) فى مقابلة إحسانه بنقضهم عهدهم.

وعرف المؤمنين ـ تحذيرا لهم ـ ألا ينزلوا منزلتهم فيستوجبوا مثل ما استوجبوه من عقوبتهم.

قوله جل ذكره : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ).

أي لئن قمتم بحقي لأوصلن إليكم حظوظكم ، ولئن أجللتم أمرى فى العاجل لأجلّن قدركم فى الآجل.

وإقامة الصلاة أن تشهد من تعبده ، ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعبد الله كأنّك تراه».

ويقال إقامة الصلاة شرطها أن تقبل على من تناجيه بأن تستقبل القطر الذي الكعبة فيه.

وأمّا إيتاء الزكاة فحقّه أن تكسب المال من وجهه ، وتصرفه فى حقه ، ولا تمنع الحق

__________________

(١) أي ما يمكن أن نقدمه من طاعات فى المستقبل ، فالله غنى عنه.

(٢) نرجح أنها (الحاضر) حتى ينسجم السياق فإن (الغابر) و (السالف) بمعنى (الماضي).

(٣) يعنى استحقاق.

(٤) وردت (فعلهم) بميم زائدة من الناسخ.

٤٠٩

الواجب فيه عن أهله ، ولا تؤخر الإيتاء عن وقته ، ولا تحوج الفقير إلى طلبه فإنّ الواجب عليك أن توصل ذلك إلى مستحقه.

وتعزير (١) الرسل الإيمان بهم على وجه الإجلال ، واعتناق أمرهم بتمام الجد والاستقلال ، وإيثارهم عليك فى جميع الأحوال.

قوله جل ذكره : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

الأغنياء ينفقون أموالهم فى سبيل الله ، والفقراء يبدلون مهجتهم وأرواحهم فى طلب الله ، (فأولئك) (٢) عن مائتى درهم يخرجون خمسة ، وهؤلاء لا يدخرون عن أمره نفسا ولا ذرّة.

قوله جل ذكره : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

التكفير هو الستر والتغطية ، وإنه يستر الذنوب حتى عن (العاصي) (٣) فيمحو من ديوانه ، وينسى الحفظة سوالف عصيانه. وينفى عن قلبه تذكر ما أسلفه ، ولا يوقفه فى العرصة على ما قدّم من ذنبه ، ثم بعد ذلك يدخله الجنة بفضله كما قال : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، كما قيل :

ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة

حتى أنالوا كفّه وازدادوا

قوله جل ذكره : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

فمن جحد هذه الأيادى بعد اتضاحها فقد عدل عن نهج أهل الوفاء ، وحاد عن سنن أصحاب الولاء.

قوله جل ذكره : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ)

جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة فى العصيان.

__________________

(١) وردت (وتعزم) والصحيح (وتعزير) والعزر في اللغة الرد ومعناها هنا رددتم عنهم أعداءهم ونصرتموهم.

(٢) وردت (فهؤلاء) وقد جعلناها أولئك إشارة إلى البعيد ليتميز كل فريق.

(٣) وردت (المعاصي) بالميم والصواب بدونها فهكذا يتطلب السياق.

٤١٠

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

وتحريفهم الكلم عن مواضعه نوع عصيان منهم ، وإنما حرّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم من قبل الله تعالى على ما نقضوه من العهود ، ونقض العهد أعظم وزر يلم به العبد ، والعقوبة عليه أشد عقوبة يعاقب بها العبد ، وقسوة القلب عدم التوجع مما يمتحن به من الصدّ ، وعن قريب يمتحن بمحنة الرد بعد الصدّ (١) ، وذلك غاية الفراق ، ونهاية البعد.

ويقال قسوة القلب أولها فقد الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة ، فإن لم يتفق إقلاع عن هذه الجملة فهو تمام الشقوة.

ومن تحريف الكلم ـ على بيان الإشارة ـ حمل الكلم على وجوه من التأويل مما تسوّل لصاحبه نفسه ، ولا تشهد له دلائل العلم ولا أصله (٢).

قوله جل ذكره : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

أوّل آفاتهم نسيانهم ، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا ، فالنسيان أول العصيان ، والنسيان حاصل من الخذلان.

قوله جل ذكره : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

الخيانة أمرها شديد وهى من الكبار أبعد ، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوّد اتباع الشهوات ، وأشرب فى قلبه حبّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخلق إلى آخر عمره ، اللهم إلا أن يجود الحقّ ـ سبحانه ـ عليه بجميل اللطف.

قوله جل ذكره : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحد أهلا للعقاب. وللصفح

__________________

(١) من هذا نفهم أن (الرد) عند القشيري أقرب وأشد وقعا من (الصد).

(٢) هذا أصل من أصول التأويل المقبول فى نظر القشيري ، وهو في الوقت نفسه يوضح صفة في التفسير الإشارى.

٤١١

على العفو مزية وهى أن فى العفو رفع الجناح ، وفى الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب ، فمن تجاوز عن الجاني ، ولم يلاحظه ـ بعد التجاوز ـ بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح.

والإحسان تعميم ـ للجمهور ـ بإسداء الفضل.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

الإشارة فى هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال : (قالُوا إِنَّا نَصارى). وسموا نصارى لتناصرهم ، وبدعواهم حرّفوا وبدّلوا ، وأما المسلمون فقال : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (١).

كما قال : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢) فلا جرم ألا يسموا بالتناصر. ولمّا سمّاهم الحقّ بالإسلام ورضى لهم به صانهم عن التبديل فعصموا.

ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم ، وفساد ذات البين ؛ فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون كنفس واحدة» (٣) ، وقال تعالى فى صفة أهل الجنة : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤).

__________________

(١) آية ٧٨ سورة الحج.

(٢) آية ٢ سورة المائدة.

(٣) فى رواية الإمام مسلم عن النعمان بن بشير.

المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكى عينه اشتكى كله ...» صحيح مسلم ج ٤ ص ٢٧١.

(٤) آية ٤٤ سورة الصافات.

٤١٢

قوله جل ذكره : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)

وصف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بإظهار بعض ما أخفوه ، وذلك علامة على صدقه ؛ إذ لو لا صدقه لما عرف ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم ، وذلك من أمارات خلقه ؛ إذ لو لا خلقه لما فعل ذلك ؛ فإظهار ما أبداه دليل علمه ، والعفو عما أخفى برهان حلمه.

قوله جل ذكره : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغنى عند فقد البصيرة ، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار ، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

من اشتملت عليه أرحام الطوامث متى يفارقه نقص الخلقة؟

ومن لاحت عليه شواهد التغيّر أنّى يليق به نعت الربوبية؟

٤١٣

ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد فأى نقص يعود إلى الصمد؟

قوله جل ذكره : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨))

البنوة (١) تقتضى المجانسة ، والحقّ عنها منزّه ، والمحبة بين المتجانسين تقتضى الاحتظاظ والمؤانسة ، والحق سبحانه عن ذلك مقدّس.

فردّ الله ـ سبحانه ـ عليهم فقال تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضا للقديم ؛ فالقديم لا بعض له لأن الأحدية حقه ، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز ـ على الوجه الذي اعتقدوه ـ بينهم وبينه محبة.

ويقال فى الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ).

ويقال بيّن فى هذه الآية أن قصارى الخلق إمّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شىء وراء ذلك.

قوله جل ذكره : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

__________________

(١) وردت (النبوة) وهى خطا فى النسخ لأن الإشارة عائدة إلى ما جاء فى الآية :

(نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ)

٤١٤

يقال فى : كل زمان تقع فترة فى سبيل الله ثم تتجدد الحال ، ويعمّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العدم ، ولقد كان زمان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أكثر الأزمنة بركة ، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل ، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل ، وبذلك منّ عليهم ، وذكّرهم عظيم نعمته فيهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠))

كان الأمر لبنى إسرائيل ـ على لسان نبيّهم ـ بأن يتذكروا نعمة الله عليهم ، وكان الأمر لهذه الأمة (١) ـ بخطاب الله لا على لسان مخلوق ـ بأن يذكروه فقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢) وشتان بين من أمره بذكره ـ سبحانه ـ وبين من أمره بذكر نعمته! ثم جعل جزاءهم ثوابه الذي هو فضله ، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

قوله جل ذكره : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).

الملك من المخلوقين من عبد الملك الحقيقي.

ويقال الملك من ملك هواه ، والعبد من هو فى رقّ شهواته.

ويقال (جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) : لم يخرجكم إلى أمثالكم ، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالكم ، وسهّل إليه سبيلكم فى عموم أحوالكم.

قوله جل ذكره : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

لئن آتى بنى إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده ، والاستقلال بوجوده أتمّ من الاستغناء بمقتضى جوده.

__________________

(١) يقصد أمة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) آية ١٥٢ سورة البقرة.

٤١٥

قوله جل ذكره : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)

من الفرق بين هذه الأمة وبين بنى إسرائيل أنه أباح لهم دخول الأرض المقدسة على الخصوص فقال : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة ، وبعد جهد وشدة ، وقال فى شأن هذه الأمة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١) فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابة تكليف ثم قصروا ، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف ، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا.

وقال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .....) وقال لهذه الأمة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (٢) فهؤلاء ذلّل لهم وسهّل عليهم ، وأولئك صعّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.

قوله جل ذكره : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ).

الارتداد على قسمين : عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل ، وعن الإرادة وذلك يوجب الشّقوة ـ التي هى الفراق ـ على القلوب.

قوله جل ذكره : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢))

لاحظوا الأغيار بعين الحسبان فتوهموا أن شيئا من الحدثان ، وداخلتهم هواجم الرعب فأصروا على ترك الأمر. ومن طالع الأغيار بأنوار البصائر شاهدهم فى أسر التقدير قوالب متعرية عن إمكان الإيجاد ، ولم يقع على قلبه ظلّ التّوهم.

قوله جل ذكره : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ

__________________

(١) آية ١٠٥ سورة الأنبياء.

(٢) آية ١٥ سورة الملك.

٤١٦

اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ)

أنعم الله (عليهما) (١) بأنوار العرفان فلم يحتشما من المخلوقين ، وعلما أن من رجع إليه بنعت الاستكفاء تداركته عواجل الكفاية ثم قال :

(وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا ، وينبغى للمؤمن أن يتوكل.

ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادّ له ، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومن الله ولله ، فإنّ من فقد ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.

قوله جل ذكره : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها)

من أقصته سوابق التقدير لم يزده تواتر (العظة) (٢) إلا نفورا وجحودا.

قوله جل ذكره : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

تركوا آداب الخطاب فصرّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥))

لما ادّعى أنّه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه حيث أخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

ويقال لا أملك إلا نفسى أي لا أدخرها عن البذل فى أمرك. لا أملك إلا أخى فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه من قبلك.

__________________

(١) (عليهما) زيادة أضفناها ليتضح المعنى.

(٢) وردت (العظمة) والمعنى يرفضها ويتطلب (العظة) التي وردت فى الآيات السابقة.

٤١٧

قوله جل ذكره : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

مجاهرة الرد تعجّل العقوبة ؛ فإن من ماكر الحقيقة أبدت الحقيقة له من مكامن التقدير ما يلجئه إلى التطوّح فى أوطان الذّلّ.

ويقال حيّرهم فى مفاوزهم حتى عموا عن القصد ؛ فصاروا يبيتون حيث يصبحون ، بعد طول التعب وإدامة السير ، وكذلك من حيّره الله فى مفاوز القلب يتقلب ليلا ونهارا فى مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة ، فيحطون بحيث يرحلون عنها ، فلا وجه للرأى الصائب يلوح لهم ، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم ، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره ، ووقع فى روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم.

قوله جل ذكره : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ)

كانت الدنيا بحذافيرها فى أيديهما فحسد أحدهما صاحبه ، فلم يصبر حتى أسرع فى شىء بإتلافه ، وحين لم يقبل قربانه اشتد حسده على صاحبه ، ورأى ذلك منه فهدّده بالقتل.

فأجابه بنطق التوحيد.

قوله جل ذكره : (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

يعنى إنما يتقبّل القربان ممّن (١) طالع فى القربان مساعدة القدرة ، وألقى توهّم كونه باستحقاقه واستيجابه.

قوله جل ذكره : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨))

__________________

(١) وردت (من) وهى خطأ فى النسخ.

٤١٨

لئن بدأتنى بالإثارة (١) لم أقابلك كأوصاف أهل الجهل بل أكل أمرى إلى من بيده مقاليد الأمور.

قوله جل ذكره : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩))

تحقّق بأنّ العقوبة لاحقة به على ما يسلفه من الذّنب فرضى بانتقام الله دون انتقامه لنفسه.

وقوله : (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) الذي تستوجبه بسبب قتلك إياى ، فأضافه إلى نفسه ، وإذا رأى المظلوم ما يحلّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه.

قوله جل ذكره : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠))

لا تستولى هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق ، فإذا توالت العزائم الرديئة ، واستحكمت القصود الفاسدة من العبد صارت دواعى الحق خفية مغمورة. والنّفس لا تدعو إلا (إلى) (٢) اتباع الشهوات ومتابعة المعصية (٣) ، وهى مجبولة على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك.

قوله جل ذكره : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

__________________

(١) وردت (الإشارة) والملائم أن تكون (الإثارة).

(٢) سقطت (إلى) من الناسخ والمعنى يستلزمها.

(٣) وردت (العصيبه) ولا معنى لها هنا وإنما الملائم (المعصية).

٤١٩

إرادة الحق ـ سبحانه ـ وصول الخلق إلى لطف الاحتياط فى أسباب التعيش ، فإذا أشكل عليهم وجه من لطائف الحيلة سبّب الله شيئا يعرّفهم ذلك به.

قوله جل ذكره : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

هذا قريب مما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (١)».

قوله جل ذكره : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣))

السعى فى الفساد على ضربين : بالظاهر وعقوبته معلومة فى مسائل الفقه بلسان العلم ، وفى الباطن وعقوبته واردة على الأسرار ، وذلك بقطع ما كان متصلا من واردات الحق ، وكسوف شمس العرفان ، والستر بعد الكشف ، والحجاب بعد البسط. والحجاب استشعار

__________________

(١) فى رواية مسلم عن جرير بن عبد الله : (.. من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا) ج ٤ ص ٢٠٥٩ ط ع الحلبي.

٤٢٠