لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال (١) الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم.

ويقال لله ـ سبحانه وتعالى ـ أمانات وضعها عندك ؛ فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله ـ سبحانه ـ سالمة من خيانتك فيها ؛ فالخيانة فى أمانة القلب ادعاؤك فيها ، والخيانة فى أمانة السّرّ ملاحظتك إياها.

والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب والبعيد فى العطاء والبذل ، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

قرن طاعته بطاعة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تفخيما لشأنه ورفعا لقدره.

وأمّا أولوا الأمر ـ فعلى لسان العلم ـ السلطان ، وعلى بيان المعرفة العارف ذو الأمر على المستأنف ، والشيخ أولو الأمر على المريد ، وإمام كل طائفة ذو الأمر عليهم.

__________________

(١) وردت (أحوال) والصواب أنها (أموال) لأن الأحوال لا تكون ودائع للناس عندك بل أموالهم

٣٤١

ويقال الولي أولى بالمريد (من المريد) (١) للمريد.

قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) على لسان العلم ـ إلى الكتاب والسّنّة ، وعلى بيان التوحيد فوّض ذلك ووكل علمه إلى الله سبحانه ، وإذا اختلف الخاطران فى قلب المؤمن فإن كان له اجتهاد العلماء تأمل ما يسنح لخاطره بإشارة فهمه ، ومن كان صاحب قلب وكل ذلك إلى الحق ـ سبحانه ـ وراعى ما خوطب به فى سرائره ، وألقى ـ بلا واسطة (٢) ـ فى قلبه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠))

أظهروا الإخلاص ، ونافقوا فى السّر ، ففضحهم ـ سبحانه ـ على لسان جبريل عليه‌السلام بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي يرفضوه. فمن حاد عن طريقه ورجع إلى غير أستاذه استوجب الحرمان والذم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))

كل شىء سوى كلمة الحق فهو خفيف على المنافقين ، فأمّا التوحيد فلا يسمع كلمته إلا مخلص ، وأهل الفترة فى الله وأصحاب النفرة لا يسمعون ما هو الحق ؛ لأن خلاف الهوى يشقّ على غير الصديقين. وكما أن ناظر الخلق (٣) لا يقوى على مقابلة الشمس فكذلك

__________________

(١) هذا استدراك موجود فى هامش الصفحة أثبتناه فى موضعه من النص.

(٢) تأمل جيدا (بلا واسطة) فهذا وصف هام للمعرفة عند الصوفية ، يميزها ويكشف جوهرها.

(٣) أي العين.

٣٤٢

المنافقون لم يطيقوا الثبات له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلذلك كان صدودهم.

قوله جل ذكره : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢))

تضرّع غير المخلص عند هجوم الضّر (١) لا أصل له ، فلا ينبغى أن يكون به اعتبار لأن بقاءه إلى زوال المحنة ، والمصيبة العظمى ترك المبالاة (بما يحصل من التقصير) (٢).

ويقال من المصيبة أن يمحقك وقتك فيما لا يجدى عليك (٣).

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

أبسط لهم لسان الوعظ بمقتضى الشفقة عليهم ، ولكن انقبض بقلبك عن المبالاة بهم والسكون إليهم ، واعلم (٤) أن من لا نكون نحن له لا يغنى عنه أن تعينه (٥) شيئا.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤))

ما أمرنا الرسل إلّا بدعوة الخلق إلينا.

__________________

(١) وردت (الضرورة) والصواب (الضر) فالمعنى يقتضى ذلك ويؤيد أن الخطأ في النسخ.

(٢) ما بين قوسين تكملة وجدناها ضرورية لتوضيح المعنى فاستفدنا مما جاء فى موقف مشابه فى الرسالة ص ٣٤ حيث يقول (وترك المبالاة بما يحصل منك من التقصير خروج عن الدين).

(٣) من أقوالهم فى الوقت : الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك ، والوقت سيف فكما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.

(٤) وردت (ما علم) وهى خطأ فى النسخ ، وربما كانت (فاعلم) فى الأصل واشتبهت على الناسخ.

(٥) (أن تعينه) المصدر المؤول من ان والفعل (أي عونك له) يقع فاعلا للفعل (يغنى).

٣٤٣

وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ). لو جعلوك ذريعتهم لوصلوا إلينا ، ويقال لو لازموا التذلل والافتقار وركبوا مطية الاستغفار لأناخوا بعقوة المبار.

قوله جل ذكره : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

سدّ الطريق ـ إلى نفسه ـ على الكافة إلا بعد الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لم يمش تحت رايته فليس له من الله نفس.

ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضات بالكلية بقلبك.

قوله : (ثُمَّ لا يَجِدُوا ...) : فلا بدّ لك من (...) (١) تلك المهالك بوجه ضاحك ، كما قال بعضهم :

وحبيب إن لم يكن منصفا كنت منصفا

أتحسّى له الأمرّ وأسقيه ماصفا

إن يقل لى انشقّ

اخترت رضا لا تكلّفا

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

أخبر عن سقم إخلاصهم وقوة إفلاسهم ، ثم أخبر الله بعلمه بتقصيرهم.

خلاهم عن كثير من الامتحانات ثم قال ولو أنهم جنحوا إلى الخدمة ، وشدّوا نطاق الطاعة

__________________

(١) هنا كلمة ناقصة ربما كانت (مواجهة) أو (مقابلة) تلك المهالك بوجه ضاحك.

٣٤٤

لكان ذلك خيرا لهم من إصرارهم على كفرهم واستكبارهم. ولو أنهم فعلوا ذلك لآتيناهم من عندنا ثوابا عظيما ، ولأرشدناهم صراطا مستقيما ولأوليناهم عطاء مقيما.

والأمر ـ على بيان الإشارة ـ يرجع إلى مخالفة الهوى وذبح النفوس بمنعها عن المألوفات ، والخروج من ديار (تقبّل النّفس) (١) ، ومفارقة أوطان (إرادة) (٢) الدنيا.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

جعل طاعة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مفتاح الوصول إلى مقامات النبيين والصديقين والشهداء على الوجه الذي يصحّ للأمة وكفى له عليه‌السلام بذلك شرفا.

ثم قال : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) : جرّد عليهم محلّهم عن كل علة واستحقاق وسبب ؛ فإن ما لاح لهم وأصابهم صرف فضله وابتداء كرمه.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))

__________________

(١) وضع الناسخ (تقبل النفس) فى مكان خاطئ يبهم المعنى إذ وضعها قبل (على بيان الإشارة) والصواب أن تكون في مكانها الذي اخترناه حتى يستقيم السياق.

(٢) وردت (أراد) بدون همز للألف وبدون تاء مربوطة فاخترنا (إرادة) لملاءمتها للسياق.

٣٤٥

الفرار إلى الله من صفات القاصدين ، والفرار مع الله من صفات الواصلين ؛ فلا يجد القرار مع الله إلا من صدق فى الفرار إلى الله. والفرار من كل غير شأن كل موحّد.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ...) الآية : أي لم تستقر عقائدهم على وصف واحد ، فكانوا مرتبطين بالحظوظ ؛ فإذا رأوا مكروها يظلّ المسلمين شكروا وقالوا : الحمد لله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم ، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم ، وتمنوا أن لو كانوا معكم ، خسروا فى الدنيا والآخرة : فهم لا كافر قبيح ولا مؤمن مخلص.

قوله : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) : يعنى طرحوا حشمة الحياة فلم يراعوا حرمتكم.

قوله جلّ ذكره : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤))

من لم يقتل نفسه فى نفسه لا يصحّ جهاده بنفسه ؛ فأولا (إخراج خطر الروح) (١) من القلب ثم تسليم النفس للقتل.

وقوله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعنى بقاؤنا بعده خير له من حياته بنفسه لنفسه ، قال قائلهم :

ألست لى عوضا منى؟ كفى شرفا

فما وراءك لى قصد ومطلوب

قوله جل ذكره : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥))

__________________

(١) هكذا فى النسخة (ص) وربما كان المقصود أنك لا تستطيع أن تبذل نفسك إلا إذا قويت على قهرها والتهوين من خطرها.

٣٤٦

أي شىء يمنعكم عن القتال فى سبيل الله؟ وما الذي لا يرغّبكم فى بذل المهجة (١) لله؟ وماذا عليكم لو بذلتم أرواحكم فى الله ولله؟ أتخافون أن تخسروا على الله؟ أم لا تعلمون أنكم تحشرون إلى الله؟ فلم لا تكتفون ببقائه بعد فنائكم فى الله؟

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

المخلصون لله لا يؤثرون شيئا على الله ، ولا يضنون بشىء عن الله ، فهم أبدا على نفوسهم لأجل الله ، والذين كفروا على العكس من أحوال المؤمنين. ثم قوّاهم وشجّعهم بقوله : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أي لا تضمروا لهم مخافة ، فإنى متوليكم وكافيكم على أعدائكم.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)

أخرجوا أيديكم عن أموركم ، وكلوها إلى معبودكم.

ويقال اقصروها عن أخذ الحرام والتصرف فيه.

ويقال امتنعوا عن الشهوات.

ويقال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) إلا عن رفعها إلى الله فى السؤال بوصف الابتهال.

__________________

(١) وردت (المحجة) بالحاء وهذا خطا فى النسخ وصوابها (المهجة) لملاءمتها للسياق.

٣٤٧

فلمّا كتب عليهم القتال استثقلوا أمره ، واستعجلوا لطفه. والعبودية فى ترك الاستثقال ، ونفى الاستعجال ، والتباعد عن التبرم والاستثقال.

قوله جل ذكره : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

مكنّك من الدنيا ثم قال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) ، فلم يعدّها شيئا لك ثم لو تصدّقت منها بشقّ تمرة لتخلّصت من النار ، وحظيت بالجنة ، وهذا غاية الكرم.

واستقلال الكثير من نفسك ـ لأجل حبيبك ـ أقوى أمارات صحبتك.

ويقال لما زهّدهم فى الدنيا قلّلها فى أعينهم ليهون (عليها (١)) تركها.

ويقال قل متاع الدنيا بجملتها قليل ، والذي هو نصيبك منها أقلّ من القليل ، فمتى يناقشك لأجلها (بالتخليل) (٢) ، لو سلم عهدك من التبديل؟

وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخسّ من الخسيس من رضى بالخسيس بدلا عن النفيس.

وقد اختلع المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولا : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) (فأحفظهم) (٣) عن الدنيا بالعقبى ، ثم سلبهم عن الكونين بقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

قوله جل ذكره : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨))

__________________

(١) الضمير فى (عليها) يعود على أعينهم ، وربما كانت فى الأصل (عليهم) فيعود الضمير على الزهاد.

(٢) نرجح أنها فى الأصل (التحليل) إشارة إلى قوله (ص) حلالها حساب وحرامها عقاب.

(٣) نرجح أنها فى الأصل (فاختطفهم) عن الدنيا بالعقبى ثم سلبهم ... فهذا أقرب إلى مراحل تدرج الفناء الصوفي.

٣٤٨

الموت فرح للمؤمن ، فالخبر عن قربه بشارة له ، لأنه سبب يوصله إلى الحق ، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.

ويقال إذا كان الموت لا بد منه فالاستسلام لحكمه طوعا خير من أن يحمل كرها.

ثم أخبر أنهم ـ لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم ـ إذا أصابتهم حسنة فرحوا بها ، وأظهروا الشكر ، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرق المجوسىّ (١) فأضافوه (٢) إلى المخلوق ، فردّ عليهم وقال : قل لهم يا محمد كلّ من عند الله خلقا وإبداعا ، وإنشاء واختراعا ، وتقديرا وتيسيرا.

قوله جل ذكره : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا (٣)

قوله جل ذكره : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠))

هذه الآية تشير إلى الجمع لحال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال سبحانه طاعته طاعتنا ، فمن تقرّب منه تقرّب منا ، ومقبوله مقبولنا ، ومردوده مردودنا.

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ

__________________

(١) لعل القشيري يقصد بذلك إلى أنهم بنسبتهم شيئا لغير الله يشركون ، وينأون عن التوحيد.

(٢) أخطأ الناسخ فنقلها (فاذاقوه) فصوبناها بما يلائم السياق.

(٣) هذا تلخيص دقيق لرأى القشيري فيما يصيب العباد.

٣٤٩

عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

يعنى إذا حضروك (١) استسلموا فى مشاهدتك ، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك ، فعادوا إلى ظلمات ، كما قالوا :

إذا ارعوى عاد إلى جهله

كذى الضنى عاد إلى نكسة

قوله جل ذكره : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

تدبر إشارة المعاني بغوص الأفكار ، واستخراج جواهر المعاني بدقائق الاستنباط.

قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ ...) : لمّا كانوا غافلين عن الحق لم يكن لهم من ينقل إليه أسرارهم فأظهروا السرّ بعضهم لبعض. فأمّا المؤمنون فعالم أسرارهم مولاهم ، وما يسنح لهم خاطبوه فيه فلم يحتاجوا إلى إذاعة السّر لمخلوق ؛ فسامع نجواهم الله ، وعالم خطابهم الله.

قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ...) أي لو بثّوا (٢)

__________________

(١) أخطأ الناسخ فنقلها (حقروك) فصوبناها بما يلائم السياق.

(٢) كتبها الناسخ (ثبوا) فصوبناها بما يلائم السياق : (بثوا أسرارهم).

٣٥٠

أسرارهم عند من هو (....) (١) ومن هو من أهل القصد لأزالوا عنهم الإشكال ، وأمدوهم بنور الهداية والإرشاد (٢).

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) مع أوليائه لهاموا فى كل واد من التفرقة كأشكالهم فى الوقت.

قوله جل ذكره : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

استقم معنا بتسليم الكلّ منك إلى أمرنا ؛ فإنّك ـ كما لا يقارنك أحد فى رتبتك لعلوّك على الكل ـ فنحن لا نكلّف غيرك بمثل ما تكلفت ، ولا نحمّل غيرك ما تحملت لانفرادك عن أشكالك فى القدوة (٣).

قوله جل ذكره : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥))

الشفيع يخلّص للمشفوع له حاله. ويستوجب الشفيع ـ من الله سبحانه على شفاعته ـ عظيم الرتبة ، ومن سعى فى أمرنا بالفساد تحمّل الوزر واحتقب الإثم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ

__________________

(١) مشتبهة ، وما بعدها قد يكفى عنها.

(٢) فى هذا الخصوص بحث القشيري فى إحدى وصاياه على ألا يقضى المريد بذات نفسه إلا لأوباب الطريقة من الشيوخ ؛ إذ يقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب غير هذه الطريقة. فحجج أهلها ـ فى مسائلهم ـ أظهر من حجج كل أحد ، وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب ، والذي للناس غيب فهو لهم ظهور فهم من أهل الوصال ، والناس أهل استدلال الرسالة ص ١٩٧ ، ١٩٨.

(٣) لا نستبعد أيضا أنها فى الأصل (القدرة) لتلائم التكليف والتحمل ؛ والمعنى يتقبل (القدوة) و (القدرة).

٣٥١

مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))

تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة. وإن من حمّلك فضلا صار ذلك ـ فى ذمتك ـ له قرضا ، فإمّا زدت على فعله وإلّا فلا تنقص عن مثله.

قوله جل ذكره : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

هذا الخطاب يتضمن نفيا وإثباتا ؛ فالنفى يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه ، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته.

قوله جل ذكره : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨))

(....) (١) العهد فيهم أنهم أعدائى ، لا ينالون منّى فى الدنيا والعقبى رضائى ، وإنكم لا تنقذون بهممكم من أقمته بقسمتي (٢) فإن المدار على القسم دون (....) (٣).

قوله جل ذكره : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) أي ما قسمته له فى سابق الآزال لا قدرة لمخلوق على تغييره.

(٣) سقطت كلمة من الناسخ ربما كانت (الاحتيال) وربما كانت (الهمم) فكلاهما يفيد أنه لا منجاة لإنسان بعمله وحده بل المدار على القسمة.

٣٥٢

إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

الإشارة إلى أرباب التخليط والأحوال السقيمة يتمنون أن يكون الصديقون منهم ، وهيهات أن يكون لمناهم تحقيق! ومادام المخالفون لكم غير موافقين فبائنوهم وخالفوهم ولا تطابقوهم بحال ، ولا تعاشروهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ؛ وموافق لك فى قصدك خير لك من مخالف على الكره تعاشره.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ...) الإشارة من هذه الآية أن عند الاعذار أذن فى معاشرة فى الظاهر (١) رفقا بالمستضعفين.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ...) الإشارة منه أنه إذا عاشركم من ليس من أهل القصة معرجين فى أوطان نصيبهم فلا تدعوهم إلى طريقتكم وسلّموا لهم أحوالهم. فإن أمكنكم أن تلاحظوهم بعين الرحمة بحيث تؤثر فيهم همتكم (٢) وإلا فسلّموا لهم أحوالهم.

قوله جل ذكره : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ

__________________

(١) أي أن الصحبة والمعاشرة ينبغى ألا يصل أمرهما الى حد المساكنة ، لأن صحبة الحق أولى من كل غير ... وهذا مبدأ نادى به القشيري وطبقه على نفسه إبان محنته الأليمة.

(٢) وردت (همتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن المعنى يتطلب (همتكم).

٣٥٣

ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيه ، ولم يرتفع عزمه ، فكما لا يكون شخص واحد منافقا ومسلما لا يكون شخص واحد مريدا للحق ومقيما على أحكام أهل العادة. فإن الإرادة والعادة ضدان (١) ، والواجب مباينة الأضداد ، ومجانبة الأجانب.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))

خفف أمر الخطأ على فاعله حتى حمّل موجب قتل الخطأ على العاقلة ؛ فالخواص عاقلة المستضعفين من الأمة ، وأهل المعرفة عاقلة المريدين ، والشيوخ عاقلة الفقراء ؛ فسبيلهم أن يحملوا أثقال المستضعفين فيما ينوبهم.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

كما يحرّم قتل غيرك عليك يحرّم قتل نفسك عليك ، ومن اتّبع هواه سعى فى دم نفسه ، ومن لم ينصح مريدا بحسن وعظه ولم يعنه بهمته فقد سعى فى دمه ، وهو مأخوذ بحاله

__________________

(١) الناس ـ عند القشيري ـ إما أهل العادة أو أهل الإرادة.

٣٥٤

وخليق (١) بأن تكون له عقوبة الأذية بألا يتمتع بما ضنّ به على المريدين من أحواله : ولقد قال ـ سبحانه ـ : يا داود إذا رأيت لى طالبا فكن له (خادما) (٢)

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

(٣) عاشروا الناس على ما يظهرون من أحوالهم ، ولا تتفرّسوا فيهم بالبطلان ؛ فإنّ متولّى الأسرار الله (٤). هذا إذا كان غرض فاسد يحملكم عليه من أحكام النّفس ، فأمّا من كان نظره بالله ولم ينستر عليه شىء فليحفظ سرّ الله فيما كوشف به ، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه.

قوله جل ذكره : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ

__________________

(١) وردت (وحقيقة بأن) وصوابها وحقيق بان ولكننا آثرنا (وخليق بأن) حتى يمتنع اللبس.

(٢) مشتبهة هنا ولكنها واضحة فى موضع سبق (انظر تفسير آية وأنبتها نباتا حسنا ص ٢٣٧

(٣) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها.

(٤) تدل هذه النظرة على سماحة الصوفية واتساع صدورهم ، فالأصل عندهم أن كل الناس طيبون ، ويجب أن تحسن الظن بهم جميعا ، ونتقبل ظواهرهم تاركين أسرارهم للمولى سبحانه.

٣٥٥

مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

الحقّ سبحانه جمع جميع أوليائه فى أفضاله لكنه غابر بينهم فى الدرجات ، فمن غنيّ ومن عبد هو أغنى منه (١) ، ومن كبير ومن هو أكبر منه ، هذه الكواكب درّية ولكن القمر فوقها ، وإذا طلعت الشمس بهرت الجميع بنورها!

قوله جل ذكره :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧))

الإشارة منه إلى من أدركه الأجل وهو فى أسر نفسه وفى رقّ شهواته ـ ليس له عذر حيث لم يهاجر إلى ظلّ قربته ليتخلّص من هوى نفسه (٢) إذ لا حجاب بينك وبين هذا الحديث إلا هواك.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

الإشارة منه إلى الذين ملكتهم المعاني فأفنتهم عنهم ، فبقوا مصرّفين له ، لا لهم حول ولا قوة ، يبدو عليهم ما يجريه ـ سبحانه ـ عليهم ، فهم بعد عود نفوسهم بحق الحقّ محو عنهم ، فلا يهتدون إلى غيره سبيلا ، ولا يتنفّسون لغيره نفسا.

__________________

(١) واضح أن القشيري يقصد الغنى فى الأحوال لا الغنى فى الأموال فليس لهذه كبير قيمة.

(٢) وردت هكذا (هوى نفسه) فصوبناها.

٣٥٦

ويقال على موجب ظاهر الآية إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضّل الحقّ ـ سبحانه ـ عليهم بالعفو.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

من هاجر فى الله عما سوى الله ، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة فى عفوة الكرم ، ومقيلا فى ذرى القبول ، وحياة وسعة فى كنف القرب.

والمهاجر ـ فى الحقيقة ـ من هجر نفسه وهواه ، ولا يصحّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته ، ومن قصده ثم أدركه الأجل قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله ، ولا يكون محطّ روحه إلا أوطان قربه.

قوله جل ذكره : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

القصر فى الصلاة سنّة فى السفر ، وكان فى ابتداء الشرع عند الخوف (١) ، فأقرّ ذلك مع زوال الخوف رفقا بالعباد ، فلما دخل الفرض القصر لأجل السفر عوضوا بإباحة النّفل فى السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال ، فكذلك الماشي ؛ ليعلم أنّ الإذن

__________________

(١) لأن فى مبدا الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو فى سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ... ويرى ابن عمر أن هناك فرقا بين صلاة السفر وصلاة الخوف ، وهو يحتج على قصر الصلاة فى السفر ويراه فى صلاة الخوف.

(تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٤٦) لابن كثير.

٣٥٧

فى المناجاة مستديم فى كل وقت ؛ فإن أردت الدخول فمتى شئت ، وإن أردت التباعد مترخصا فلك ما شئت ، وهذا غاية الكرم ، وحفظ سنّة الوفاء ، وتحقق معنى الولاء.

قوله جل ذكره : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد مادام فيه نفس من الاختيار لا فى الخوف ولا فى الأمن ، ولا عند غلبات أحكام الشرع إذا كنت بوصف التفرقة ، ولا عند استيلاء سلطان الحقيقة إذا كنت بعين الجمع :

قوله جلّ ذكره : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

الوظائف الظاهرة موقته (١) ، وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع ؛ أمّا بالرسوم

__________________

(١) أي حسب ميقات.

٣٥٨

فوقتا دون وقت ، وأمّا بالقلوب فإياكم والغيبة عن الحقيقة لحظة كيفما اختلفت بكم الأحوال .. الذكر كيفما كنتم وكما كنتم ، وأما الصلاة فإذا اطمأننتم.

قوله جل ذكره : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

قوموا بالله وليكن (١) استنادكم فى جهادكم إلى الله.

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) : القوم شاركوكم فى إحساس الألم ، ولكن خالفوكم فى شهود القلب ، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون ، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون ، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم فى الجد والجهد.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))

(٢) لم يأمرك (٣) بالحكم بينهم على عمّى ولكن بما أراك الله (٤) أي كاشفك به من أنوار البصيرة حتى وقفت عليه بتعريفنا إياك وتسديدنا لك ، وكذلك من يحكم بالحق من أمتك.

قوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) : أي لا تناضل عن أرباب الحظوظ ولكن مع

__________________

(١) أخطأ الناسخ إذ كتبها (ولا يكن).

(٢) أخطأ الناسخ إذ كتبها واستغفروا.

(٣) وردت (لم يأمركم) والصواب (لم يأمرك) لأن الخطاب كله موجه إلى الرسول (ص).

(٤) يحتج من ذهب من علماء الأصول بهذه الآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له أن يحكم بالاجتهاد ، وفيما رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد عن رجلين من الأنصار اختصما إلى الرسول (ص) فى مواريث بينهما قد درست وليس عندهما بينة .. ينتهى الحديث على النحو التالي.

«إنى إنما أقضى بينكما يرأى فيما لم ينزل علىّ فيه».

٣٥٩

أبناء الحقوق ، ومن جنح إلى الهوى خان فيما أودع نفسه من التقوى ، ومن ركن إلى أنواع نوزاع المنى خان فيما طولب به من الحياء لاطلاع المولى (١).

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) لأمتك ؛ فإنا قد كفيناك حديثك بقولنا : ليغفر لك الله نما تقدم من ذنبك.

قوله جل ذكره : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨))

هم المؤثرون حظوظهم على حقوقه ، والراضون بالتعريج فى أوطان هواهم دون النقلة إلى منازل الرضا ، إن الله لا يحب أهل الخيانة فيذلهم ـ لا جرم ـ ولا يكرمهم.

قوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنّ الحق مطّلع على قلوبهم أولئك الذين وسم الله قلوبهم بوسم الفرقة.

قوله جل ذكره : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))

أي ندفع عنهم ـ بحرمتك ـ لأنك فيهم ، فكيف حالهم يوم القيامة إذ زالت عنهم بركاتكم أيها المؤمنون؟!

__________________

(١) (يقال إن سبب نزول هذه الآية أن رجلا شكا أن طعمة بن أبيرق سرق درعه ، فلما رأى السارق ذلك ألقى الدرع فى بيت رجل برىء ، وقال لنفر من عشيرته إنى غيبت الدرع فى بيت فلان ، فانطلقوا إلى النبي (ص) ليلا فقالوا : يا نبىّ الله إن صاحبنا برىء. وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله (ص) فبراه وعذره على رءوس الناس ، فأنزل الله هذه الآية) وقد حرصنا على إثبات سبب نزولها لأن ما بعدها من الآي مرتبط بهذه الواقعة.

٣٦٠