لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

وفيه أيضا إشارة إلى الدعاء إلى الخلق ، والتجاوز عن الخصم ، فإن الله ـ سبحانه ـ لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير فى حقوقه.

قوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) : هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة ؛ يعنى أنهم وإن نسوا أحوالهم وأقوالهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم :

صحائف عندى للعتاب طويتها

ستنشر يوما والعتاب يطول

سأصبر حتى يجمع الله بيننا

فإن نلتق يوما فسوف أقول

قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هذا لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : «عبدى : هذا الذي تلقاه ـ اليوم ـ من العقوبة لأن الذنب لك ، ولو لم تفعله لما عذّبنك».

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣))

تقوّلوا على الله ـ سبحانه ـ فيما تعللوا به من ترك الإيمان ، فقالوا : لقد أمرنا ألا نصدّق أحدا إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء ، وتنزل نار من السماء ، فتأخذ القربان عيانا ببصر ، فقال تعالى : قل لهم إن من تقدّمنى من الأنبياء عليهم‌السلام أتوكم بما اقترحتم على من القربان ، ثم لم تؤمنوا ، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضا ؛ فإن من أقصته السوابق ـ فلو خاطبته الشمس بلسان فصيح ، أو سجدت له الجبال فرآها بلحظ صحيح ـ لم يلج العرفان فى قلبه ، وما ازداد إلا شكا على شك.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

٣٠١

أي عادة الكفار تكذيب الرسل : وعلى هذا النحو درج سلفهم ، ويهديهم اقتدى خلفهم.

قوله جل ذكره :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

أي كأس الموت توضع على كفّ كلّ حىّ فمن تحلّاها طيّبة نفسه أورثته سكر الوجد ، ومن تجرّعها على وجه التعبس ، وقع فى وهدة الرّدّ ، ووسم بكىّ الصّدّ ، ثم يوم القيامة : فمن أجير من النار وصل إلى الراحة الكبرى ، ومن صلّى بالسعير وقع فى المحنة الكبرى.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) : لأن ما هو آت فقريب.

قوله جل ذكره : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم ، وعرّفهم أن خير الأمرين لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجارى الأقدار.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

٣٠٢

أخبر أنهم أبرموا عهودهم أن لا يزولوا (١) عن وفائه ، ولكنهم نقضوا أسباب الذّمام بما صاروا إليه من الكفران ، ثم تبيّن أنّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يبارك لهم فيه.

قوله جل ذكره : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))

إن من باشر رؤية الخلق قلبه ، ولاحظهم بسرّه فلا تظننّ أنّ عقوبتهم مؤخرة إلى يوم القيامة ، بل ليسوا من العذاب ـ فى الحال ـ بمفازة ، وأىّ عذاب أشدّ من الردّ إلى الخلق والحجاب عن الحق؟

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

الإشارة من هذه الآية هاهنا إلى غناه ـ سبحانه ـ عمّا فى الكون ، وكيف يحتاج إليهم؟! ولكنهم لا يجدون عنه خلفا ، ولا عليه بدلا.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ)

الآيات التي تعرّف الحق سبحانه وتعالى بها إلى العوام هى التي فى الأقطار من العبر والآثار ، والآيات التي تعرّف بها إلى الخواص فالتى فى أنفسهم. قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ

__________________

(١) وردت (ان لا يزالوا) ونرجح انها فى الأصل (ان لا يزولوا) لأن هذه مناسبة للمراد من الآية ، ومن سياق المعنى ، ولو كان حرف الجر (على) بعدها لقبلنا (لا يزالوا).

٣٠٣

آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ؛ فالآيات الظاهرة توجب علم اليقين ، والآيات الباطنة توجب عين اليقين.

والإشارة من اختلاف الليل والنهار إلى اختلاف ليالى العباد ؛ فليالى أهل الوصلة قصيرة ، وليالى أهل الفراق طويلة ؛ فهذا يقول :

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار

ويقول :

صباحك سكر والمساء خمار

فنمت وأيام السرور قصار

والثاني يقول :

ليالى أقر الظاعنين (....)

شكوت وليل العاشقين طويل

وثالث ليس له خبر عن طول الليل ولا عن قصره فهو لما غلب عليه يقول :

لست أدرى أطال ليلى أم لا؟

كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟!

لو تفرّغت لاستطالة ليلى

ورعيت النجوم كنت محلّا

قوله تعالى : (لِأُولِي الْأَلْبابِ) : أولو الألباب هم الذين صحت عقولهم عن سكر الغفلة. وأمارة من كان كذلك أن يكون نظره بالحق ؛ فإذا نظر من الحقّ إلى الحقّ استقام نظره ، وإذا نظر من الخلق إلى الحق انتكست نعمته ، وانقلبت أفكاره مورّثة للشبهة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً ...) الآية :

استغرق الذكر جميع أوقاتهم ؛ فإن قاموا فبذكره ، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة فى حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها (١).

ويذكرون الله قياما على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة.

ومن لم يسلم فى بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعود فى نهايته بوصف الحضور.

__________________

(١) القشيري هنا مستفيد من رآى استاذه الإمام ابن فورك فى (قِياماً وَقُعُوداً) فى الآية الكريمة (الرسالة ص ١١١).

٣٠٤

والذكر طريق الحق ـ سبحانه ـ فما سلك المريدون طريقا أصحّ وأوضح من طريق الذكر ، وإن لم يكن فيه سوى قوله : «أنا جليس من ذكرنى» لكان ذلك كافيا.

والذاكرون على أقسام ، وذلك لتباين أحوالهم : فذكر يوجب قبض الذاكر لما يذكره من نقص سلف له ، أو قبح حصل منه ، فيمنعه خجله عن ذكره ، فذلك ذكر قبض.

وذكر يوجب بسط الذاكر لما يجد من لذائذ الذكر ثم من تقريب الحقّ إيّاه بجميل إقباله عليه.

وذاكر هو محو فى شهود مذكوره ؛ فالذكر يجرى على لسانه عادة ، وقلبه مصطلم فيما بدا له.

وذاكر هو محل الإجلال يأنف من ذكره ويستقذر وصفه (١) ، فكأنه لتصاغره عنه لا يريد أن يكون له فى الدنيا والآخرة (ثناء) (٢) ولا بقاء ، ولا كون ولا بهاء ، قال قائلهم :

ما إن ذكرتك إلا همّ يلعننى

قلبى وروحى وسرى عند ذاكراكا

حتى كأنّ رقيبا منك يهتف بي

إياك ويحك والتذكار إياكا

والذكر عنوان الولاية ، وبيان الوصلة ، وتحقيق الإرادة ، وعلامة صحة البداية ، ودلالة صفاء النهاية ، فليس وراء الذكر شىء ، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ، ومنشأة عن الذكر.

قوله جل ذكره : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً)

التفكر نعمة كل طالب ، وثمرته الوصال بشرط العلم ، فإذا سلم الذكر عن الشوائب

__________________

(١) هذا النوع من الذكر يلتقى بتعاليم أهل الملامة النيسابورية الذين لا ينظرون لأى عمل إلا من حيث رؤية التقصير فيه.

(٢) ربما كانت (فناء) وإن كان المعنى يتقبل كليهما.

٣٠٥

ورد صاحبه على مناهل التحقيق ، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر ، فالذكر سرمد (١).

ثم فكر الزاهدين فى فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابّها فيزدادون بالفكرة زهدا فيها.

وفكر العابدين فى جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه.

وفكر العارفين فى الآلاء والنعم فيزدادون محبة للحق سبحانه.

قوله جل ذكره : (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

التسبيح يشير إلى سبح الأسرار فى بحار التعظيم.

قوله جل ذكره : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))

من ابتليته فى الآجل بالحرقة فقد أخزيته ، ومن ابتليته بالفرقة فى العاجل فقد أشقيته ، ومن أوليته بيمن الوصلة فقد آويته وأدنيته.

قوله جل ذكره : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣))

يعنى أجبنا الداعي ولكن أنت الهادي ، فلا تكلنا إلينا ، ولا ترفع ظلّ عنايتك عنّا.

والإيمان الدخول فى موجبات الأمان ، وإنما يؤمن بالحق من أمّنه الحق ، فأمان الحق للعبد ـ الذي هو إجارته ـ يوجب إيمان العبد بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.

__________________

(١) [سأل أبو عبد الرحمن السلمى الشيخ الدقاق. آلذكر أتم أم الفكر؟

فقال الدقاق : ما الذي يقع لك منه؟

فأجاب السلمى : عندى الذكر أتم من الفكر لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق فاستحسنه الدقاق] الرسالة ص ١١١.

وقد ذكرنا هذه الرواية هنا : اولا لتوضح الفرق بين الذكر والفكر وثانيا لتبرز قول القشيري : (الذكر سرمد) أي مستدام.

٣٠٦

(وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) : وهم المختصون بحقائق التوحيد ، القائمون لله بشرائط التفريد ، الواقفون مع الله بخصائص التجريد.

قوله جل ذكره : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

حقّق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط (١) من إكمال النّعمى (.....) (٢) وغفران كل ما سبق منا من متابعات الهوى.

قوله جل ذكره : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

كيف لا يستجيب لهم وهو الذي لقّنهم الدعاء ، وهو الذي ضمن لهم الإجابة ، ووعده جميل الثواب على الدعاء زائد على ما يدعون لأجل الحوائج.

(فَالَّذِينَ هاجَرُوا) : يعنى الديار والمزار ، وجميع المخالفين والموافقين من الأغيار.

(وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) : إلى مفارقة معاهدهم من مألوفاتهم.

(وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) : عيّروا بالفقر والملام ، وفتنوا بفنون المحن والآلام.

__________________

(١) يقصد الرسل عليهم‌السلام.

(٢) مشتبهة.

٣٠٧

(وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) : ذاقوا من اختلاف الأطوار الحلو والمر.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : يعنى لنعطينّهم فوق آمالهم وأكثر ، مما استوجبوه بأعمالهم وأحوالهم.

قوله جل ذكره : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧))

لا تتداخلنك تهمة بأنّ لهم عندنا قدرا وقيمة إنما هى أيام قلائل وأنفاس معدودة ، ثم بعدها حسرات مترادفة ، وأحزان متضاعفة.

قوله جل ذكره : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

الذين وسمناهم بذلّ الفرقة بئست حالتهم ، والذين رفعوا قدما لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة ؛ وصلوا إلى الثواب المقيم ، وبقوا فى الوصلة والنعيم ، وما عند الله مما ادّخرنا لهم خير مما أمّلوه باختيارهم.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

يريد من ساعدتهم القسمة بالحسنى فهم مع أولياء الله نعمة كما كانوا معهم قسمة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا

٣٠٨

وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

الصبر فيما تفرد به العبد ، والمصابرة مع العدو.

والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.

ويقال أول الصبر التصبر ، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية (١).

ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات ، وتصابروا فى ترك الهوى والشهوات ، وقطع المنى والعلاقات ، ورابطوا بالاستقامة فى الصحبة فى عموم الأوقات والحالات.

ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم ، ورابطوا بأسراركم.

ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب ، وصابروا على ابتغاء القربة ، ورابطوا فى محل الدنوّ والزلفة ـ على شهود الجمال والعزّة.

والصبر مرّ مذاقه إذا كان العبد يتحسّاه على الغيبة ، وهو لذيذ طعمه إذا شربه على الشهود والرؤية.

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : الفلاح الظّفر بالبغية ، وهمّتهم اليوم الظفر بنفوسهم ، فعند ذلك يتم خلاصهم ، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة ، وصلبوها على عيدان المكابدة ، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاؤهم بالله.

__________________

(١) يمكن أن يجد القارئ فى صنيع القشيري حول مادة (ص ب ر) انه ـ وهذا شأنه دائما ـ يحاول أن يؤسس المصطلح الصوفي على دعائم لغوية تعتمد على الفروق الدقيقة بين صيغ الاشتقاق المختلفة من المادة الواحدة ؛ فصيغة المفاعلة فيها المشاركة ، وصيغة التفعل فيها تكلف يلائم البداية ... وهكذا.

٣٠٩

السورة التي يذكر فيها النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

اختلفوا فى الاسم عن ما ذا اشتقّ ؛ فمنهم من قال إنه مشتق من السموّ وهو العلوّ. ومنهم من قال إنه مشتق من السّمة وهى الكيّة.

وكلاهما فى الإشارة : فمن قال إنه مشتق من السمو فهو اسم من ذكره سمت رتبته ، ومن عرفه سمت حالته ، ومن صحبه سمت همّته ؛ فسمو الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبارّ ، وسمو الحالة يوجب ظهور الأنوار فى الأسرار ، وسمو الهمة يوجب التحرز عن رقّ الأغبار.

ومن قال أصله من السّمة فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة (١) ، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة ، ومن أحبّه وسم بسمة الخواص ، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص. فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمى صاحبها بشررها ، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع فى استرقاق صاحبها ـ مع شرف خطرها ، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة (٢) ، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.

ويقال اسم من واصله سما عنده (عن) الأوهام قدره (سبحانه) (٣). ومن فاصله وسم بكىّ الفرقة قلبه.

__________________

(١) هنا حدث اضطراب من الناسخ فاخطأ فى النقل وقد رتبنا الكلام فى النصف الأول من الفقرة حسب الترتيب الوارد فى النصف الثاني منها والذي يبدأ «قسمة العبادة توجب .... إلخ».

ذلك الترتيب الذي يتمشى مع المذهب العام للقشيرى فى كل مصنفاته.

(٢) يقصد تشريف الإنسان على جملة المخلوقات ، فالانسان وحده ـ دون سائر الكائنات ـ هو الذي خوطب بتبادل الذكر والمحبة مع الحق جل شأنه.

(٣) وضعنا (عن) و (سبحانه) ليمتنع اللبس ، وهما غير موجودين فى النص (يقول القشيري فى رسالته : ما يصوره وهمك فالله بخلاف ذلك).

٣١٠

وعلى هذه الجملة يدل اسمه.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

الناس اسم جنس ، والاشتقاق فيه غير قوى. وقيل سمى الإنس إنسا لظهوره (١) فعلى هذه الإشارة : يا من ظهرتم عن كتم العدم بحكم تكليفى ، ثم خصصت من شئت منكم بتشريفى ، وحرمت من شئت منكم هدايتى وتعريفى. ونقلتكم إلى ما شئت بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفى.

ويقال لم أظهر من العدم أمثالكم ، ولم أظهر على أحد ما أظهرت عليكم من أحوالكم.

ويقال سمّيت إنسانا لنسيانك ، فإن نسيتنى فلا شىء أخسّ (٢) منك ، وإن نسيت ذكرى فلا أحد أحطّ (٣) منك.

ويقال من نسى الحق فلا غاية لمحنته ، ومن نسى الخلق فلا نهاية لعلوّ حالته.

ويقال يقول للمذنبين : يا من أنسيت عهدى ، ورفضت ودى ، وتجاوزت حدّى حان لك أن ترجع إلى بابى ، لتستحقّ لطفى وإيجابى. ويقول للعارفين ، يا من نسيت فينا حظّك ، وصت عن غيرنا لحظك ولفظك ـ لقد عظم علينا حقّك ، ووجب لدينا نصرك (٤) ، وجلّ عندنا قدرك ..

__________________

(١) حتى يقابل (الجن) لاختفائه. ربما كان قصد القشيري إلى ذلك.

(٢) وردت (أخص) بالصاد ، وربما نقبلها على أساس أن الله يعاتب عبده : إن نسيتنى فأنت رغم ذلك (أخص الكائنات بمحبتى).

(٣) وردت (أحض) بالضاد وربما كانت أحصن.

(٤) وجب واستوجب والإيجاب عند القشيري ترد بمعنى الاستحقاق ، وعلينا أن نتأمل الدقة فى استعمال (لدينا) ولم يقل (علينا) فلا وجوب على الله ـ بخلاف المعتزلة.

٣١١

ويقال يا من أنست (١) بنسيم قربى ، واستروحت إلى شهود وجهى ، واعتززت بجلال قدرى ـ فأنت أجلّ عبادى عندى.

قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) : التقوى جماع الطاعات ، وأوله ترك الشّرك وآخره اتقاء كل غير ، وأول الأغيار لك نفسك ، ومن اتّقى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال ، و (وقف) لله ... لا لشهود حظّ فى الدنيا والعقبى.

قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : وهو آدم عليه‌السلام ، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضا كذلك ، لمّا ظهرت مزية آدم عليه‌السلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفنا ، قال تعالى : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

ولفظ «النفس» للعموم والعموم يوجب الاستغراق.

قوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) : حكم الحقّ ـ سبحانه ـ بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل ، ولردّ المثل إلى المثل فربط الشكل بالشكل.

قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) : تعرّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة ؛ حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد ، على اختلاف هيئتهم ، وتفاوت صورهم ، وتباين أخلاقهم ، وإن اثنين منهم لا يتشابهان ، فلكل وجه فى الصورة والخلق ، والهمة والحالة ، فسبحان من لا حدّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.

ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ) تكرير الأمر بالتقوى يدلّ على تأكيد حكمه.

وقوله : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فمن قطع الرحم قطع ، ومن وصلها وصل.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) : مطلعا شهيدا ، يعد عليك أنفاسك ، ويرى حواسك ، وهو متوّل خطراتك ، ومنشىء حركاتك وسكناتك. ومن علم أنه رقيب عليه فبالحرى أن يستحيى منه.

__________________

(١) لاحظ كيف يربط القشيري بين الناس (والأنس) بعد أن ربطها (بالإنس) فمدار الكلام كله على لفظة (الناس) التي وردت فى الآية الكريمة.

٣١٢

قوله جل ذكره : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

من أقيم بمحلّ الرعاية فجاء على رعيّته فخصمه ربّه ؛ فإنه ـ سبحانه ـ ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فولىّ اليتيم إن أنصف وأحسن فحقّه على الله ، وإن أساء وتعدّى فخصمه الله.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)

أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع فى حالة واحدة ، وأوجب العدل بينهن ، فيجب على العبد أن يراعى الواجب فإن علم أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المباح ، وإن علم أنه يقصّر فى الواجب فلا يتعرّض لهذا المباح ، فإنّ الواجب مسئول عنه.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

دلّ هذا على أن طعام الفتيان (١) والأسخياء مرىء لأنهم لا يطعمون إلا عن طيب نفس ، وطعام البخلاء ردىء (٢) لأنهم يرون أنفسهم ، وإنما يطعمون عن تكلّف لا عن طيب نفس. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طعام السخىّ دواء وطعام البخيل داء».

__________________

(١) الفتيان جمع فتى. والفتوة أصل من أصول الصوفية عماده الإيثار والبذل والصفح والعفو ، والأنفة عما فى الكونين إلى غير ذلك من محاسن السلوك التي ينبغى للنفس أن ترتاضها ، وأن تتحلى بها حتى يتهيأ العبد لما هو أجل وأعظم ، وأن يكون إيثاره لله وبذله لله وروحه لله ، لأن من يؤمر بالتزام ذلك بالنسية للمخلوق لا يضن بأضعافه بالنسبة إلى الحق.

(٢) مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (ردىء) وقد وضعناها مع التحفظ ، والمعنى بتقبلها.

٣١٣

قوله جل ذكره : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

السّفيه من يمنعك عن الحقّ ، ويشغلك عن الربّ.

والسّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظهم على حقوق الله تعالى.

قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) : حفظ التجمل فى الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال ، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيرا من الإمساك عند تحرّر القلب والثقة بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كلّا على الناس فحفظك ما جعله الله كفاية لنفسك أولى ، ثم الجود بفاضل كفايتك.

قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) : إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويفضل (١) فلا تدّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشية فقر فى الغد ، فإن ضاقت يدك عن الإنفاق فلا يتّسعنّ (٢) لسانك بالقبيح من المقال.

ويقال إذا دعتك نفسك إلى الإنفاق فى الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تطع نفسك.

قوله جل ذكره : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

__________________

(١) يفضل وفاضل هنا بمعنى يزيد وزيادة.

(٢) لاحظ المقابلة الجميلة فى تعبير القشيري بين (ضاقت يدك) و (يتسع لسانك)

٣١٤

إيناس الرشد العفة والديانة ، والسخاء والصيانة ، وصحبة الشيوخ ، والحرص على مشاهدة الخير ، وأداء العبادات على قضية الأمر.

ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربّه ، وعند ما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتّكل على حوله وقوّته ، وتدبيره واختياره.

قوله جل ذكره : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة ، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب ؛ فلو مات رجل وخلف ابنين تساويا فى الاستحقاق وإن كان أحدهما برا تقيا والآخر فاجرا عصيّا ، فلا للتقى زيادة لتقواه ، ولا للفاجر بخس لفجوره ، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّة من قبل الله ، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطية للمسلمين : قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، ثم قال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ ...) الآية.

قوله جل ذكره : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان (١) والمستحقون ، وحضر من لا نصيب لهم فى الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحق مولّى عليه ، فعدوهم وعدا جميلا وقولوا : «إذا بلغ الصبى قلنا له حتى يعطيك شيئا» وهذا معنى قوله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). وفى هذا إشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غدا ، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم ، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران

__________________

(١) السهمان ج سهم.

٣١٥

إن شاء الله بعد ما كانوا من أهل الإيمان ، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضرا ، ولا لك استحقاق سابق فبفضله ما أهّلك لمعرفته مع علمه بما يحصل منك فى مستأنف أحوالك من زلتك.

قوله جل ذكره : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

بيّن فى هذه الآية أن الذي ينبغى للمسلم أن يدخره لعياله (١) التقوى والصلاح لا المال ؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فانه يتولى الصالحين.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

إنما تولّى الحق سبحانه خصمية اليتيم ، لأنه لا أحد لليتيم غيره ، وكلّ من وكل أمره إليه فتبرّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه (٢).

قوله جل ذكره : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ)

__________________

(١) وردت (العبارة) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) هذه إشارة موجهة إلى الأولياء ، فهم لا سند لهم من جاء أو سلطان أو مخلوق فإذا تعرضوا للأذى تولى الله عنهم خصومة المؤذى.

٣١٦

الوصية هاهنا بمعنى الأمر ، فانه سبحانه جعل الميراث بين الورثة مستحقا بوجهين :

١ ـ الفرض ٢ ـ التعصيب ، والتعصيب أقوى من الفرض لأن العصبة قد تستغرق جميع المال أما أكثر الفروض فلا يزيد على الثلثين ، ثم إن القسمة تبدأ بأصحاب الفروض وهم أضعف استحقاقا ، ثم العصبة وهم أقوى استحقاقا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر» (١) كذلك أبدا سنته ، كما فى قوله تعالى :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أعطاهم الكتاب بلفظ الميراث ثم قدّم الظالم على السابق ، وهو أضعف استحقاقا إظهارا للكرم مع الظالم لأنه منكسر القلب ولا يحتمل وقته طول المدافعة.

وقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). لو كان الأمر بالقياس لكانت الأنثى بالتفضيل أولى لضعفها ، ولعجزها عن الحراك ، ولكنّ حكمه ـ سبحانه ـ غير معلّل (٢).

قوله جل ذكره : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

الأبناء ينفعونكم بالخدمة ، والآباء بالرحمة ؛ الآباء فى حال ضعفك فى بداية عمرك ، والأبناء فى حال ضعفك فى نهاية عمرك.

قوله جل ذكره : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦٩ «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»

(٢) تحتاج هذه العبارة إلى بعض توضيح. وربما كان أفضل تحديد لها ما يذكره ذو النون المصري : «علة كل شىء صنعه ، ولا علة لصنعه» ثم ما يوضحه أبو نصر السراج فى اللمع حيث يقول : «معنى هذا القول ـ والله أعلم ـ أن وجود النقصان فى كل شىء مصنوع كائن ، لأنه لم يكن فكان ، وليس فى صنع الصانع لمصنوعاته علة ، وقال بعضهم :

يا شقامى من السّقا

م وإن كنت علّتى (اللمع ص ٤٤٠)

٣١٧

مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

الإشارة فى ثبوت الميراث للأقربين من الورثة بالنّسب ؛ والسبب أنّ الميت إذا مات تحمّل القريب أحزانه فعوّض الله الوارث على ما يقاسيه ويخامر قلبه من التوجّع مال الموروث .. وكذا سنّته ـ سبحانه ـ التعويض على مقاساة الأذى ـ جودا منه لا وجوبا عليه (١) ـ كما توهّم قوم. وكلّ من كان أقرب نسبا أو أقوى سببا من الميت كان أكثر استحقاقا لميراثه ، وفى معناه أنشدوا :

وما بات مطويا على أريحية (...

 ...) عقب النوى موت الفتى ظل مغرما (٢)

قوله جل ذكره : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

__________________

(١) يلح القشيري دائما فى نفى كل وجوب على الله ، كما لاحظنا ذلك فى مواضع شتى بينما لا يمنع المعتزلة من وجوب المثوبة للمطيع ـ عليه ، ووجوب العقوبة للعاصى ـ عليه.

(٢) توجد فى البيت كلمات فارسية (آنگه شاد شود در عطاء ادن) أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء. ومعنى البيت غير واضح.

٣١٨

تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣))

حدوده : أوامره ونواهيه ، وما تعبّد به عباده.

وأصل العبودية حفظ الحدود ، وصون العهود ، ومن حفظ حدّه لم يصبه مكروه ولا آفة ، وأصل كلّ بلاء مجاوزة الحدود.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

وإنما هما عقوبتان : معجلة ومؤجلة ، ويقترن بهما جميعا الذّلّ ؛ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا (١) عليها : لذلك قال قائلهم : من بات (٢) مسلما (٣) بذنب أصبح وعليه مذلته ، فقلت ومن أصبح مبرّا ببر ظلّ وعليه مهابته.

قوله جل ذكره : (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥))

إنما اعتبر فى ثبوت الفاحشة ـ التي هى الزنا ـ زيادة الشهود إسبالا لستر الكرم

__________________

(١) وردت (لم يقدروا) والملائم للمعنى أن تكون (لم يقدموا) مما يرجح أن الناسخ قد أخطا.

(٢) وردت (من مات) والسياق يقتضى (بات) ، (وأصبح) ، وظلّ ..

(٣) وردت (مسلما) وهى خطأ من الناسخ.

٣١٩

على إجرام العباد ، فإنّ إقامة الشهود ـ على الوجه الذي فى الشرع لإثبات تلك الحالة ـ كالمتعذّر (١).

وفى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما عز لما قال له : يا رسول الله ـ صلوات الله عليك ـ إنّى زنيت فطهّرنى. فقال : لعلّك قبّلت .. ثم قال فى بعض المرات : «استنكهوه» (٢).

ففى هذا أقوى دليل لما ذكرت من إسباله الستر على الأعمال القبيحة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

الأمر بفنون العقوبات لهم على فعل ذلك أبلغ (٣) شىء فى الردع والمنع منه بالرفع ، لعلّ العبد يحذر ذلك فلا يستحق التعذيب الأعظم.

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)). (٤)

لا استغفار مع الإصرار (٥) ؛ فإن التوبة مع غير إقلاع سمه الكذّابين.

وقوله : (السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : يعنى عمل عمل الجهّال.

__________________

(١) يدل هذا الرأى ـ فى نظرنا ـ أولا على فهم صائب لما وراء الحدود الشرعية من مرام بعيدة ، ويدل ثانيا على سعة صدر الصوفية فى الصفح عن أرباب الخطايا ، وستر معايب الخلائق ، ولقد أحسن الحسن البصري حين قال : النصيحة على الملأ فضيحة.

(٢) وفى صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٩٨ عن ابن عباس : لما أنى ماعز بن مالك النبي (ص) قال له لعلك قبلت او غمزت أو نظرت ... إلخ قال نعم فعند ذلك أمر يرجمه (ومعنى استنكهوه : أي ابحثوا فى فمه عن نكهة الخمر فربما يكون ثملا).

(٣) وردت (بلغ) وهى خطأ فى النسخ.

(٤) أخطأ الناسخ فى كتابة الآية فجاءت (من قريبة) ، (السوء بحجالة).

(٥) أخطأ الناسخ فكتبها (الاسرار) بالسين والمعني يرفضها.

٣٢٠