لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقاما ، ولا شاهد لنفسه قدرا. ولما أخلص فى تواضعه لله بكل وجه رقّاه على الجملة ، وجعله سيدا للجميع.

وقوله (وَحَصُوراً) أي معتقا من الشهوات ، مكفيا أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر. ويقال متوقيا عن المطالبات ، مانعا نفسه عن ذلك تعززا وتقربا ، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فضل لحظّ.

(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي مستحقا لبلوغ رتبتهم.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

قيل كان بين سؤاله وبين الإجابة مدة طويلة ولذلك قال : أنّى يكون لى غلام؟

ويحتمل أنه قال : بأى استحقاق منى تكون لى هذه الإجابة لو لا فضلك؟

ويحتمل أنه قال أنّى يكون هذا : أعلى وجه التبني أم على وجه التناسل؟

ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت فى السن أو من جهة التّسرّى بمملوكة؟ أم من هذه؟

فقيل له : لا بل من هذه ؛ فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معا ، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعا.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً)

طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لشك له فى أصل الإجابة.

وجعل آية ولايته (١) فى إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح ، أي لا تمتنع عن خطابى فإنى لا أمنع أوليائى من مناجاتى.

__________________

(١) وردت (دلالته) وقد تكون مقبولة فى المعنى أيضا.

٢٤١

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً).

بقلبك ولسانك فى جميع أوقاتك.

(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ).

فى الصلاة الدائبة.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢))

يجوز أن يكون هذا ابتداء خطاب من الملائكة على مريم من قبلهم رفعا بشأنها ، ويجوز أن تكون قد سمعت كلامهم وشاهدتهم ، ويجوز أنها لم تشاهدهم وأنهم هتفوا بها : إن الله اصطفاك بتفضيلك ، وإفرادك من أشكالك وأندادك ، وطهّرك من الفحشاء والمعاصي بجميل العصمة ، وعن مباشرة الخلق (١) ، واصطفاك على نساء العالمين فى وقتك.

وفائدة تكرار (٢) ذكر الاصطفاء : الأول اصطفاك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة والثاني اصطفاك بأن حملت بعيسى عليه‌السلام من غير أب ، ولم تشبهك امرأة ـ ولن تشبهك ـ إلى يوم القيامة ، ولذلك قال (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).

قوله جل ذكره : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

لازمى بساط العبادة ، وداومى على الطاعة ، ولا تقصّرى فى استدامة الخدمة ، فكما أفردك الحقّ بمقامك ، كونى فى عبادته أو حد زمانك.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ

__________________

(١) ربما يقصد القشيري من ذلك أنه أبعدها عن أن يباشرها الزوج شأن نساء العالمين.

(٢) لاحظ كيف يلتمس القشيري معنى متجددا لكلمة تتكرر بلفظها ـ لأنه لا يرى أن فى القرآن تكرارا إلا لداع متجدد.

٢٤٢

وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

أي هذه القصص نحن عرفنا كهاو (خا) طبناك بمعانيها ، وإن قصصنا نحن عليك هذا ـ فعزيز خطابنا ، وأعزّ وأتم من أن لو كنت مشاهدا لها.

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

لم يبشرها بنصيب لها فى الدنيا ولا فى الآخرة من حيث الحظوظ ، ولكن بشّرها بما أثبت فى ذلك من عظيم الآية ، وكونه نبيا لله مؤيّدا بالمعجزة.

ويقال عرّفها أن من وقع فى تغليب القدرة ، وانتهى عند حكمه يلقى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدة بجميل الصيت ، والاشتهار بالعفة ، فشوّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام ، ولكن ـ فى التحقيق ـ ليس كما ظنّه الأغبياء (١) الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير.

وقيل إنه (........) (٢) عرّفها ذلك بالتدريج والتفصيل ، فأخبرها أن ذلك الولد يعيش حتى يكلّم الناس صبيّا وكهلا ، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه.

وقيل كهلا بعد نزوله من السماء.

ويقال ربط على قلبها بما عرّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة ساحتها ينطق الله عيسى عليه‌السلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها.

__________________

(١) وردت (الأغنياء) والمعنى والسياق يرفضاتها.

(٢) مشتبهة.

٢٤٣

قوله جل ذكره : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ)

كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة فى رزقنا فكذلك ننقض العادة فى خلق ولد من غير مسيس بشر.

قوله جل ذكره : (إِذا قَضى أَمْراً).

أي أراد إمضاء حكم.

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.

ولما بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه‌السلام وهو ابن يوم حتى قال :

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

قوله جل ذكره : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

وتلك آياته الظاهرة ، ودلالاته القاهرة الباهرة من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عمّا عملوه مسرّين به ، إلى غير ذلك من معجزاته. وأخبر أنه

٢٤٤

مصدّق لما تقدمه من الشرائع ، ومختص بشريعة تنسخ بعض ما تقدمه ، وأقرهم على البعض ـ على ما نطق به تفصيل القرآن.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ .......) الآية.

حين بلّغهم الرسالة واختلفوا ـ فمنهم من صدّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون ـ علم أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء ، فقطع عنهم قلبه ، وصدق إلى الله قصده ، وقال لقومه : من أنصارى إلى الله ليساعدونى على التجرد لحقّه والخلوص فى قصده؟ فقال من انبسطت عليهم آثار العناية ، واستخلصوا بآثار التخصيص : نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد علينا بالصدق ، وليس يشكل عليك (١) شىء مما نحن فيه.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

وأما الباقون فجدّوا فى الشقاق ، وبالغوا فى العداوة ، ودسّوا له المكائد ، ومكروا ولكن أذاقهم الله وبال مكرهم ، فتوهموا أنهم صلبوا عيسى عليه‌السلام وقتلوه ، وذلك جهل منهم ، ولبس عليهم. فالله ـ سبحانه ـ رفع عيسى عليه‌السلام نبيّه ووليّه ، وحقّ الطرد واللّعن على أعدائه ، وهذا مكره بهم :

(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ).

الإشارة (٢) فيه إنى متوفيك عنك ، وقابضك منك ، ورافعك من نعوت البشرية ، ومطهرك من إرادتك بالكلية ، حتى تكون مصرّفا بنا لنا ، ولا يكون عليك من

__________________

(١) نرجح أنها فى الأصل : «يشكل (علينا) شىء مما نحن فيه» ، لأن هذا الترجيح يقوى المعنى ، إذ يفصح عن مدى صحة إيمانهم ، أما إذا كانت (عليك) فيكون المعنى أن أنصاره طمأنوه عن أنفسهم ، وطلبوا إليه ألا يستشكل (عليه) أمر من أمورهم ، بدليل ما أفصحوا عنه فى الآية التالية.

(٢) تخدم هذه الإشارة فى إبراز وتدعيم واحدة من أخطر قضايا الفكر الديني.

٢٤٥

اختيارك شىء ، ويكون إسبال التولي عليك قائما عليك. وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى ، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة ـ جلّت.

ويقال طهّر قلبه عن مطالعة الأغيار ، ومشاهدة الأمثال والآثار ، فى جميع الأحوال والأطوار.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

بالنصرة والقهر والحجة.

ومتبعوه من لم يبدّل دينه ومن هو على عقيدته فى التوحيد ـ وهم المؤمنون ، فهم على الحقّ ، إلى يوم القيامة لهم النصرة ، ثم إن الله سبحانه يحكم ـ يوم القيامة ـ بينه وبين أعدائه. فأمّا الكفار ففى الجحيم وأمّا المؤمنون ففى النعيم.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

ذلك نتلوه عليك يا محمد ، نعرفك معانيه بما نوحى إليك ، لا بتكلفك ما تصل إلى علمه ، أو بتعلّمك من الأمثال ، أو استنباطك ما تنزع من الاستدلال.

قوله جل ذكره : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)) الآية

خصّهما (١) بتطهير الروح عن التناسخ فى الأصلاب وأفرد آدم بصفة البدء ؛ وعيسى عليه‌السلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز ، وهما وإن كانا كبيرى الشأن فنقص الحدثان والمخلوقية لازم لهما :

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

قوله جل ذكره : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ....) الآية

__________________

(١) وردت (خصها) والصحيح خصهما لعودة الفعل على آدم وعيسى عليهما‌السلام.

٢٤٦

الحق من ربك يا محمد ، فلا تشكّنّ فى أنه ـ سبحانه ـ لا يماثله فى الإيجاد أحد ، ولا على إثبات بينه لمخلوق قدرة. والموجودات التي (.....) (١) وجودها عن كتم العدم ـ من الله مبدؤها وإليه عودها.

قوله جل ذكره : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ....) الآية

يعنى بعد ما ظهرت على صدق ما يقال لك ، وتحقّقت بقلبك معرفة ما خاطبناك ، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة ، وثق بأن لك القهر والنصرة ، وأنّا توليناك ، وفى كنف قربنا آويناك ، ولو أنهم رغبوا فى هذه المباهلة لأحرقت الأودية عليهم نيرانا مؤججة ، ولكن أخّر الله ـ سبحانه ـ ذلك عنهم لعلمه بمن فى أصلابهم من المؤمنين (٢).

والإشارة فى هذه الآية لمن نزلت حالته عن أحوال الصديقين ، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار ، ولا عنهم آثار.

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)

لا يتسلط على شواهد التوحيد غبار شبهة ، ولا يدرك سر حكمه وهم (٣) مخلوق ، ولا يدانيه معلوم يحصره الوجود ، أو موهوم يصوره التقدير (٤).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)

فإن تولوا ـ يا محمد ـ فإنه لا ثبات عند شعاع أنوارك لشبهة مبطل.

(فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) إمّا يجتاحهم (٥) ، أو يحلم (٦) حتى إذا استمكنت ظنونهم يأخذهم بغتة وهم لا ينصرون.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) هذا تعليل ممتع لإمهال المخالفين.

(٣) وردت (وهو) وهى خطأ من الناسخ ، ونظن أن الأصل (وهم) وهى مناسبة للسياق.

(٤) للقشيرى عبارة فى نفس الموضوع وردت فى مستهل رسالته : «وكل ما تصوره الأوهام فالله بخلاف ذلك».

(٥) وردت (يحتاجهم) وهى خطأ من الناسخ.

(٦) وردت (ويحكم) والملائم للمعنى (أو يحلم) من الحلم ، ويكون المعنى على هذا الأساس أنه إما أن يعجل بانتقامه فيجتاحهم أو يمهلهم بحلمه ثم يبغتهم.

٢٤٧

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) الآية

هى كلمة التوحيد وإفراد الحق سبحانه فى إنشاء الأشياء بالشهود.

وقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) : لا تطالع بسرّك مخلوقا. وكما لا يكون غيره معبودك فينبغى ألا يكون غيره مقصودك ولا مشهودك ، وهذا هو اتّقاء الشرك ، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم.

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً) ويظهر صدق هذا بترك المدح والذم لهم.

ونفى الشكوى والشك عنهم ، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد».

ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل (١)

فإنّ الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأمّا أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد ، فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب ، لفراغهم بقلوبهم من المعاني (٢) ، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط.

والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله جل ذكره :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) ... الآية.

ضرب على خليله ـ صلوات الله ـ نقاب الضنّة وحجاب الغيرة ، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادّعاء الكل فيه ، وحكم بتعارض شبهاتهم ، وكيف يكون إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على دين من أتى بعده؟! إن هذا تناقض من الظن.

ثم قال :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ

__________________

(١) رواه الشيخان عن أبى هريرة.

(٢) المقصود من (المعاني) هنا كل ما تميل إليه النفس ، والنفس محل المعلولات.

٢٤٨

بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦))

يعنى ما كان فى كتابكم له بيان ، ويصح أن يكون لكم عليه برهان ، فخصّهم فى ذلك إمّا بحق وإما بباطل ، فالذى ليس لكم البتة عليه دليل ولا لكم إلى معرفته سبيل فكيف تصديتم للحكم فيه ، وادّعاء الإحاطة به؟!

قوله جل ذكره : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً)

الحنيف المستقيم على الحق ، والأحنف هو المستقيم فى حلقة الرّجل ، ويسمى مائل القدم بذلك على التفاؤل (١). وإبراهيم عليه‌السلام كان حنيفا لا مائلا عن الحق ، ولا زائغا عن الشرع ، ولا معرّجا على شىء فيه نصيب للنفس ، فقد سلّم ماله ونفسه وولده ، وما كان له به جملة ـ إلى حكم الله وانتظار أمره.

قوله جل ذكره : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر ، بقي أهل الحقّ فى كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى ، فكانوا حزبا واحدا ، فبعضهم أولى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق ، ومن دان بدينه ـ كمثل رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ـ على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه‌السلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم تولّوا دينه ، ووافقوا توحيده ، وولاية الله إنما تكون بالعون والنصرة والتخصيص والقربة.

قوله جل ذكره : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ)

من حلّت به فتنة ، وأصابته محنة ، واستهوته غواية ـ رضى لجميع الناس ما حلّ به ،

__________________

(١) فكلمة حنيف من الأضداد مستقيم ومائل.

٢٤٩

فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق ، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره ، وأن يعود إليهم وبال فعلهم.

قوله جل ذكره : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠))

قبل (١) بعثه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على صحة نبوته (٢) ، فما الذي يحملكم على غيكم حتى جحدتم ما علمتم؟

قوله جل ذكره : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

تكتمون الحق فى شأن محمد عليه‌السلام وأنتم تعلمون أنه النبي الصادق ، وهل هذا إلا حكم الخذلان وقضية الحرمان ، ثم أخبر أنّ منهم من ينافق فى حالته ، فيريد أن يدفع عنه أذى المسلمين ، ولا يخالف إخوانه من الكافرين ، فتواصوا فيما بينهم بموافقة الرسول عليه‌السلام والمسلمين جهرا ، والخلوص فى عقائدهم الفاسدة بعضهم مع بعض سرّا.

قوله جل ذكره : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢))

فبين الله سبحانه أن نفاقهم كشف للمسلمين ، وأن ذلك لا ينفعهم أمّا فى الدنيا فلإطلاع الله نبيّه عليه‌السلام والمؤمنين ـ عليه ، وأمّا فى الآخرة فلفقد إخلاصهم فيه.

قوله جل ذكره : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) الآية.

__________________

(١) فى ص (قيل) وهى خطأ في النسخ ، ويكون المعنى أنتم ـ يا أهل الكتاب ـ تشهدون قبل بعثه على صحة نبوته ...

(٢) فى ص (نبوية) وهى خطأ فى النسخ.

٢٥٠

يحتمل أن يكون هذا ابتداء أمر من الله سبحانه للمسلمين ، والإشارة فيه ألا تعاشروا الأضداد ، ولا تفشوا أسراركم للأجانب.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ).

فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف ، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان.

قوله جل ذكره : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

يختص من يشاء بفنون إنعامه ، فالرحمة على هذا سبب لتخصيص النعمة لمن أراده. ولا بدّ من إضمار فيحتمل أن يختص بالرحمة من يشاء فلا تجرى الرحمة مجرى السبب فالرحمة على هذا التأويل تكون بمعنى النبوة وتكون بمعنى الولاية.

وبمعنى العصمة وجميع أقسام الخيرات التي يختصّ ـ بشىء منها ـ عبدا من عباده ، فيدخل تحت قوله : يختص برحمته ، أي بنعمته.

فقوم اختصهم بنعمة الأخلاق وقوم اختصهم بنعمة الأرزاق ، وقوم اختصهم بنعمة العبادة وآخرين بنعمة الإرادة ، وآخرين بتوفيق الظواهر وآخرين بعطاء الأبشار ، وآخرين بلقاء الأسرار ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

ويقال لمّا سمعوا قوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) ، علموا أن الوسائل ليست بهادية (١) ، وإنما الأمر بالابتداء والمشيئة.

ويقال يختص برحمته من يشاء بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ويلقيه إليه من فنون التعريفات.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) ... الآية

__________________

(١) وصدق الرسول الكريم حين قال : «إنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا. إلا أن يتغمدنى الله برحمته» رواه الشيخان عن عائشة

٢٥١

أخبر أنهم ـ مع ضلالتهم وكفرهم ـ متفاوتون فى أخلاقهم ، فكلّهم خونة فى أمانة الدّين ، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة ؛ ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك فى إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب ؛ إذ الكفار مطالبون بتفصيل الشرائع ، فإذا كانوا فى كفرهم أقلّ ذنبا كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلّ عذابا ، وإن كانت عقوبتهم أيضا مؤبّدة.

ثم بيّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا :

(قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).

فلا تجرى عليهم هذه الحالة ، أو تنفعهم هذه القالة ، بل الحكم لله تعالى.

قوله جلّ ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

الذين آثروا هواهم على عقباهم ، وقدّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم فى الآخرة ؛ فللاستماع بما اختاروا من العاجل خسروا فى الدارين.

بقوا عن الحق ، وما استمتعوا بحظّ ، جمع عليهم فنون المحن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم : لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ثم مع هذا يخلّدهم فى العقوبة الأبدية.

قوله جل ذكره :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

٢٥٢

الإشارة من هذه الآية إلى المبطلين فى الدعاوى فى هذه الطريقة.

يزيّنون العبارات ، ويطلقون ألسنتهم بما لا خبر فى قلوبهم منه ، ولا لهم بذلك تحقيق ، تلبيسا على الأغبياء والعوام وأهل البداية ؛ يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم. قال تعالى فى صفة هؤلاء (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) ، كذلك أرباب التلبيس والتدليس ، يروّجون قالتهم على المستضعفين ، فأمّا أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة.

قال الله تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، أي يعلمون أنهم كاذبون ، كذلك أهل الباطل والتلبيس فى هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خربة ، وأسرار محجوبة ، نعوذ بالله من استحقاق المقت!

قوله جل ذكره : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩))

أي ليس من صفة من اخترناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه ، أو يقول بإثبات نفسه وحظّه ، لأن اختياره ـ سبحانه ـ إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عمّا لا يجوز ، فتجويز ذلك فى وصفهم مناف لحالهم ، وإنما دعاء الرسل والأولياء ـ للخلق ـ إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين ، والرّبانى منسوب إلى الرب كما يقال فلان دقيانى ولحيانى ... وبابه.

وهم العلماء بالله الحلماء فى الله القائمون بفنائهم عن غير الله ، المستهلكة حظوظهم ، المستغرقون فى حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم ، ينطقون بالله ويسمعون بالله ، وينظرون بالله ، فهم بالله محو عمّا سوى الله.

٢٥٣

ويقال الرباني من ارتفع عنه ظلّ نفسه ، وعاش فى كنف ظلّه ـ سبحانه.

ويقال الربّاني الذي لا يثبت غير ربّه موحّدا ، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو من غيره.

ويقال الربّاني من هو محق فى وجوده ـ سبحانه ـ ومحو عن شهوده ، فالقائم عنه غيره ، والمجرى لما عليه سواه.

ويقال الرّبانى الذي لا تؤثّر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها.

ويقال الربّاني الذي لا تغيّره محنة ولا تضرّه نعمة ـ فهو على حالة واحدة فى اختلاف الطوارق.

ويقال الرّبانى الذي لا يتأثر بورود وارد عليه ، فمن استنطقته رقة قلب ، أو استماله هجوم أمر ، أو تفاوتت عنده أخطار حادث ـ فليس بربانى.

ويقال إنّ الربّاني هو الذي لا يبالى بشىء من الحوادث بقلبه وسرّه ، ومن كان لا يقصر فى شىء من الشرع بفعله.

(بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) من توالى إحسانى إليكم ، وتضاعف نعمتى لديكم.

قوله جل ذكره : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

أي لا تنسبون إليهم ذرة من الإثبات فى الخير والشر.

ويقال يعرفكم حدّ البشرية وحقّ الربوبية.

ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة ، وتحقير قدر الخلق ـ بالإضافة (١) إلى الربوبية. (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق؟

__________________

(١) وتحقير قدر الخلق (بالإضافة إلى الربوبية) معناها (بالنسبة إلى) جلال الربوبية وعظمتها.

٢٥٤

ويقال «أيأمركم بمطالعة الأشكال ، ونسبة الحدثان إلى الأمثال ، بعد أن لاحت فى أسراركم أنوار التوحيد ، وطلعت فى قلوبكم شموس التفريد.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...) الآية

أخذ الله ميثاق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، كما أخذ ميثاقهم فى الإقرار بربوبيته ـ سبحانه ، وهذا غاية التشريف للرسول عليه‌السلام ، فقد قرن اسمه باسم نفسه ، وأثبت قدوه كما أثبت قدر نفسه ، فهو أوحد الكافة فى الرتبة ، ثم سهّل سبيل الكافة فى معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

الإشارة فيه : فمن حاد عن سنّته ، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله ، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خبثت درجتهم ، ووجب المقت عليهم لجحدهم ، وسقوطهم عن تعلّق العناية بهم.

قوله جل ذكره : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ...)

من لاحظه على غير الحقيقة ، أو طالع سواه فى توهم الأهلية (١) كراء السراب ظنّه ماء فلمّا أتاه وجده هباء. ومغاليط الحسبانات مقطّعة مشكلة فمن حلّ بها نزل بواد قفر.

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم.

قوله جل ذكره : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا

__________________

(١) الأهلية معناها الاستحقاق ، استحقاق كل تقديس ، ولا نستبعد أنها فى الأصل الألوهية لأن السياق يسير متحدثا عن البشر الذين يقولون للناس كونوا عبادا لنا ، وعن الملائكة والنبيين ووجوب عدم اتخاذهم أربابا.

٢٥٥

وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))

آمنا بالله لا بنفوسنا أو حولنا أو قوتنا.

وآمنا بما أنزل علينا بالله ، وأنّا لا نفرّق بين أحد منهم ـ بالله سبحانه ـ لا بحولنا واختيارنا ، وجهدنا (١) واكتسابنا ، ولو لا أنه عرّفنا أنه من هو ما عرفنا وإلا فمتى علمنا ذلك؟! (٢).

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

من سلك غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلا زلّت قدمه فى وهدة (٣) من المغاليط لا مدى لقعرها.

ويقال من توسّل إليه بشىء دون الاعتصام به فخسرانه أكثر من ربحه.

ويقال من لم يفن عن شهود الكل لم يصل إلى من به الكل.

ويقال من لم يمش تحت راية المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعظّم فى قدره ، المعلّى فى وصفه ، لم يقبل منه شىء ولا ذرة.

قوله جل ذكره : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ

__________________

(١) وردت (وجحدتا) وهى خطأ من الناسخ.

(٢) قارن ذلك بعبارة ذى النون المصري : عرفت ربى بربي ولو لا ربى ما عرفت ربى. (الرسالة ص ١٥٦).

(٣) أخطأ الناسخ حين كتبها (وحدة) بالحاء.

٢٥٦

إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ......... الآية)

من أبعده عن استحقاق الوصلة فى سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله فى وقته؟ ويقال : الذي أقصاه (١) حكم (الأول) (٢) متى أدناه صدق العمل؟ والله غالب على أمره.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧))

أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه فى ابتداء أمرهم ، ابتداؤهم ردّ القسمة ، ووسائطهم الصدّ عن الخدمة ، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة.

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

خالدين فى تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة ، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة ، ولم يكونوا فى شق السبق من تلك الجملة ، وإن كانوا فى توهم الخلق من تلك الزمرة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠))

الإشارة منه : أن الذين رجعوا إلى أحوال أهل العادة بعد سلوكهم طريق الإرادة ،

__________________

(١) وردت (أقضاه) ونحن نرجح أن تكون (أقصاه) بالصاد حتى تتلاءم مع (أدناه) التي جاءت بعدها ـ فذلك أقرب إلى طبيعة أسلوب القشيري فى هذا السياق.

(٢) هكذا كتبها الناسخ ، ونحن نميل إلى أنها فى الأصل (الأزل).

فالقشيرى يعتقد أن الأقسام سبقت فى الأزل وأن قيمة الإنسان مرتهنة بذلك.

٢٥٧

وآثروا الدنيا ومطاوعة الهوى على طلب الحق سبحانه وتعالى ، ثم أنكروا على أهل الطريقة ، وازدادوا فى وحشة ظلماتهم ـ لن تقبل توبتهم ، (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) عن طريق الحق فإنه لا يقبل الأمانة بعد ظهور الخيانة. وعقوبتهم أنهم على ممر الأيام لا يزدادون إلا نفرة قلب عن الطريقة ، ولا يتحسرون على ما فاتهم من صفاء الحالة. ولو أنهم رجعوا عن إصرارهم لها لقبلت توبتهم ، ولكن الحق سبحانه أجرى سنته مع أصحاب الفترة فى هذه الطريقة إذا رجعوا إلى أصول العادة ألا يتأسّفوا على ما مضى من أوقاتهم.

قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وإن المرتدّ عن الإسلام لأشدّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلى ، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكارا لها وأكثر إعراضا عن أهلها من الأجنبىّ عنها.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

الإشارة منه : لمن مات بعد فترته ـ وإن كانت له بداية حسنة ـ فلا يحشر فى الآخرة مع أهل هذه القصة ، ولو تشفع له ألف عارف ، بل من كمال المكر به أنه يلقى شبهه فى الآخرة على غيره حتى يتوهم معارفه من أهل المعرفة أنه هو ـ فلا يخطر ببال أحد أنه ينبغى أن يشفع له.

قوله جل ذكره : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

لمّا كان وجود البرّ مطلوبا ذكر فيه «من» التي للتبعيض فقال : (مِمَّا تُحِبُّونَ) ؛ فمن أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض ، ومن أراد البارّ فلينفق جميع ما يحبه. ومن أنفق محبوبه من الدنيا وجد مطلوبه من الحق تعالى ، ومن كان مربوطا بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربّه.

ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء

٢٥٨

والعوض ، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحزن ، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ، قال قائلهم :

ويهتز للمعروف فى طلب العلى

لتذكر يوما ـ عند سلمى ـ شمائله

قوله جل ذكره : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤))

الأصل فى الأشياء ألا يشرع فيها بالتحليل والتحريم ، فما لا يوجد فيه حدّ فذلك من الحق ـ سبحانه ـ توسعة ورفقة إلى أن يحصل فيه أمر وشرع ؛ فإنّ الله ـ سبحانه ـ وسّع أحكام التكليف على أهل النهاية (١) ، فسبيلهم الأخذ بما هو الأسهل لتمام ما هم به من أحكام القلوب ، فإن الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأما أهل البداية فالأمر مضيّق عليهم فى الوظائف والأوراد ؛ فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب لفراغهم بقلوبهم من المعاني ، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط.

والإشارة من هذه الآية أيضا فى قوله : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط ؛ فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله ـ سبحانه ـ هواجسها ، والله برئ عنها. وعزيز عبد يفرّق بين الخواطر والهواجس.

قوله جل ذكره : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

ملّة إبراهيم الخروج إلى الله بالكلية ، والتسليم لحكمه من غير أن تبقى بقية ؛ فإثبات ذرة فى الحسبان من الحدثان شرك ـ فى التحقيق.

قوله جل ذكره : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي

__________________

(١) أهل النهاية هم العوام ، وأهل البداية هم الخواص.

٢٥٩

بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)

البيت حجرة والعبد مدرة ، فربط المدرة بالحجرة ، فالمدر مع الحجر. وتعزّز وتقدّس من لم يزل.

ويقال البيت مطاف النفوس ، والحق سبحانه مقصود القلوب!

البيت أطلال وآثار وإنما هى رسوم وأحجار ولكن :

تلك آثارنا تدلّ علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

ويقال البيت حجر ، ولكن ليس كل حجر كالذى يجانسه من الحجر.

حجر ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج (١) ، لا بل لقلوب قوم مثلج مبهج ، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.

وهم على أصناف : بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم ، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.

بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسر خراب ، ومن لاحظه بعين الإضافة حظى بكل تقريب وإيجاب ، كما قيل :

إن الديار ـ وإن صمتت ـ فإنّ لها

عهدا بأحبابنا إذ عندها نزلوا

بيت من زاره بنفسه وجد ألطافه ، ومن شهده بقلبه نال كشوفاته.

__________________

(١) نفج الأرب أثاره والنافجة الربح الشديدة ، فيكون معنى منفج شديد الإثارة.

٢٦٠