لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه ، فازداد يقينا على يقين. وسؤال اليقين من الله ، والحيلة فى ردّ الخواطر المشكلة ، ديدن المتعرفين ، ولذلك (.....) (١) الله سبحانه عزيرا فى هذه المقالة حتى قدّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال «واعلم أن الله على كل شىء قدير» من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك ، وأرانى من عظيم الآيات ما ازداد به يقينا ؛ فإنّ طعامه وشرابه لم يتغيرا فى طول تلك المدة ، وحماره مات بلا عظام. والطعام والشراب بالتغيير أولى.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

قيل كان فى طلب فى زيادة اليقين ، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلا من عين اليقين (٢).

وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) كنت أومن ولكنى اشتقت إلى قولك لى أو لم تؤمن ، فإن بقولك لى (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) تطمينا لقلبى. والمحبّ أبدا يجتهد فى أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) من أقوال القشيري التي تتناثر فى كتبه نجد أنه ينظر للمعرفة على أنها ثلاث درجات.

١ ـ عقلية ونورها البرهان أو علم اليقين.

٢ ـ قلبية ونورها البيان أو عين اليقين :

٣ ـ كشفية ونورها العرفان أو حق اليقين ، ويقول : (علم اليقين كالنجوم يطلع عليها بدر عين اليقين ، ولكن كل الأنوار تتبدد أمام شمس حق اليقين).

اللطائف ـ التحبير فى التذكير ص ٧٠ ـ الرسالة ص ٤٣ ، ٤٤ والواقع أن القشيري التزم بهذا الترتيب التزاما دقيقا ولم يتخل عنه فى كل ما كتب.

٢٠١

وقيل إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وإن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما سأل الرؤية جهرا وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فردّ بالجهر صريحا وقيل له «لن ترانى».

وقيل إنما طلب حياة قلبه فأشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور ، وفى الطيور الأربعة طاووس ، والإشارة إلى ذبحه تعنى زينة الدنيا ، وزهرتها ، والغراب لحرصه ، والديك لمشيته ، والبط لطلبه لرزقه.

ولما قال إبراهيم عليه‌السلام : أرنى كيف تحيى الموتى؟ قيل له : وأرنى كيف تذبح الحي؟ يعنى إسماعيل ، مطالبة بمطالبة. فلمّا وفّى بما طولب به وفّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.

وقيل كان تحت ميعاد من الحق ـ سبحانه ـ أن يتخذه خليلا ، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده ، فجرى ما جرى.

ووصل بين (١) قصة الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عزير إذ أراه فى نفسه ؛ لأن الخليل يرجح على عزير فى السؤال وفى الحال ، فإن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يردّ عليه فى شىء ولكنه تلطّف فى السؤال ، وعزير كلمه كلام من يشبه قوله قول المستبعد ، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمّ دلالة حيث أظهر إحياء الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ربى الذي يحيى ويميت ، فقال «أنا أحيى وأميت» أراد إبراهيم أن يريه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادّعى.

وفى هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادة اليقين من الله سبحانه وتعالى فى حال النظر (٢).

ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام ، فقيل له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) يعنى أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شىء رأيته «هذا ربى» فلم تدر كيف بلّغناك إلى هذه الغاية ، فكذلك يوصلك إلى ما سمعت إليه همّتك.

__________________

(١) جميل من القشيري أن يوضح التماسك والالتئام فى السياق القرآنى بين قصة وقصة.

(٢) خصوصا فى مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان.

٢٠٢

والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعنى النفس ؛ فمن لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يحى قلبه بالله.

وفيه إشارة أيضا وهو أنه قال قطّع بيدك هذه الطيور ، وفرّق أجزاءها ، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا ، فما كان مذبوحا بيد صاحب الخلة ، مقطعا مفرّقا بيده ـ فإذا ناداه استجاب له كل جزء مفرّق .. كذلك الذي فرّقه الحق وشتّته فإذا ناداه استجاب :

ولو أنّ فوقى تربة ودعوتني

لأجبت صوتك ، والعظام رفات

قوله جل ذكره : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))

فالخلف لهم الجنة ، والذين ينفقون أرواحهم فى سبيل الله فالخلف عنهم الحقّ سبحانه ، وشتان بين خلف من أنفق ماله فوجد مثوبته ، ومن أنفق حاله فوجد قربته ؛ فإنفاق المال فى سبيله بالصدقة ، وإنفاق الأحوال فى سبيله بملازمة الصدق ، وبنفي كل حظ ونصيب ، فترضى لجريان حكمه عليك من غير تعبيس القلب ، قال قائلهم :

أريد وصاله ويريد هجرى

فأترك ما أريد لما يريد

والإنفاق على ضربين : إنفاق العابدين وإنفاق الواجدين. أمّا العابدون فاذا أنفقوا حبّة ضاعف لهم سبعين إلى ما ليس فيه حساب ، وأما الواجدون فكما قيل :

فلا حسن نأتى به يقبلونه

ولا إن أسأنا كان عندهم محو

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

المنّ شهود ما تفعله ، والأذى تذكيرك ـ لمن أحسنت إليه ـ إحسانك.

٢٠٣

ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون البتة أفعالهم ولا أعمالهم.

ويقال كيف يمنون بشىء تستعذرونه وتستحقونه.

ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم.

قوله جل ذكره : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))

يعنى قول ـ للفقير المجرد ـ يرد به من تعرض له بإظهار العذر خير وأتم من صدقة المعجب بفعله ، وما يتبع من إلزام المنة فيه.

ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجرمك ، وغفران الله لك على تلك القالة ـ خير من صدقة بالمنّ مشوبة ، وبالأذى مصحوبة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

إنما يحمل جميل المنة من الحق سبحانه ، فأمّا من الخلق فليس لأحد على غيره منّة ؛ فإنّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة ، وشهود المنة من الله أعظم نعمة ، قال قائلهم :

ليس إجلالك الكبار بذلّ

إنما الذّلّ أن تجلّ الصّغارا

ويقال أفقر الخلق من ظنّ نفسه موسرا فيبين له إفلاسه ، كذلك أقل الخلق قدرا من ظن أنه على شىء فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه.

٢٠٤

قوله جل ذكره : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق : لمن أنفق فى سبيل الله ، ولمن أنفق ماله فى الباطل ؛ فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف ، وهؤلاء لا يحصل لهم فى الحال إلا الردّ ، وفى المآل (١) إلا التلف. وهؤلاء ظلّ سعيهم مشكورا ، وهؤلاء يدعون ثبورا ويصلون سعيرا هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم ، وهؤلاء حبطت أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وبالهم.

ويقال مثل هؤلاء كالذى أنبت زرعا فزكا أصله ونما (٢) فصله ، وعلا فرعه وكثر نفعه. ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت ـ على كبره (٣) ـ

__________________

(١) وردت (المال) والصحيح أنها (المآل) على عادة القشيري فى المقابلة بين ما يحدث فى الدنيا وفى الآخرة ؛ بين الحال والمآل.

(٢) وردت (نماء) والصحيح أنها فعل (نما) لينسجم التركيب الداخلى للأسلوب.

(٣) إشارة إلى ما فى الآية : (وأصابه الكبر).

٢٠٥

حيلته وتواترت من كل وجه وفى كل وقت محنته .... هل يستويان مثلا؟ وهل يتقاربان شبها؟

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

لينظر كلّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه ، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك : فما كان لحظّك فنفائس ملكك ، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللّقمة لقمته) (١) ، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة.

ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه ، بل أبصر كيف يقبله منك ، بل أبصر كيف بمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك ؛ الكلّ منه فضلا لكنه ينسبه إليك فعلا (٢) ، ثم يونى عليك عطاءه ويسمى العطاء جزاء ، يوسعك بتوفيقه برّا ، ثم يملأ العالم منك شكرا.

قوله جل ذكره : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

يعد الشيطان الفقر لفقره ، والله يعد المغفرة لكرمه.

__________________

(١) وردت هكذا (فلقمته لقمته) ويحتمل أن تكون كما أثبتنا ، أو أن تكون فالقيمة لقيمته بدليل ما بعدها.

(٢) تأمل كيف يرى القشيري قيمة العمل الإنسانى : إنه على الحقيقة فضل من الله ولكن من الناحية النسبية فعل للانسان ... وهذه مسألة هامة تتفرع عنها قضايا كلامية كثيرة يختلف فيها عن المعتزلة.

٢٠٦

الشيطان يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم ، ويقال يشير عليكم ـ بطاعته ـ بالحرص ؛ ولا فقر فوقه.

يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.

يعدكم الفقر بنسيان ما تعوّدتموه من فضله ـ سبحانه (١).

ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.

ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.

ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.

(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي الرغبة فى الدنيا ، ويقال بالأسباب التي تقوى الحرص ، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة ، ويقال بمتابعة الشهوات ، ويقال بإيثار الحظوظ ، ويقال بالنظر إلى غيره ، ويقال بإخطار شىء سواه ببالك.

ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.

ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) : الفضل الموعود ـ فى العاجل ـ القناعة ، وفى الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و (....) (٢) والغفران.

ويقال فى العاجل الظفر بالنفس ، ويقال فتح باب العرفان ، ونشر بساط القرب ، والتلقي لمكاشفات الأنس.

قوله جل ذكره : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

__________________

(١) أضفنا (سبحانه) ليمتنع اللبس وهى غير موجودة فى (ص).

(٢) هنا لفظة مشتبهة أقرب ما تكون إلى (العفو) ولكننا آثرنا عدم إثباتها فى النص لعدم التأكد.

٢٠٧

الحكمة : يحكم عليكم خاطر الحقّ لا داعى النفس ، وتحكم عليكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان.

ويقال الحكمة صواب الأمور.

ويقال هى ألا تحكم عليك رعونات البشرية.

(ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره) (١).

ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى ، والسّفه مخالفة أمره.

ويقال الحكمة شهود الحق والسّفه شهود الغير

قوله جل ذكره : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠))

قوم توعّدهم بعقوبته ، وآخرون توعدهم بمثوبته .. وآخرون توعدهم بعلمه ؛ فهؤلاء العوام (٢) وهؤلاء الخواص. قال تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) فلا شىء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه ، فليحذر المريد من إزلال (٣) نفسه فى ذلك غاية الحذر.

قوله جل ذكره : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

__________________

(١) ربما وقع الناسخ فى خطأ حين وضع هذه الجملة فى هذا المكان ، والأقرب أن تكون بعد كلمة (زواجر الشيطان) فنحن نعرف من مذهب القشيري أنه يرى أن الشيطان لا يملك أن يغرى الخلق (لأنه لو كان قادرا على ذلك لكان يمسك على الهداية نفسه ، ومن عجز أن يحافظ على نفسه كان في إغراء غيره أشد عجزا) قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ).

(٢) العوام هنا تنصرف إلى الموعودين بالمثوبة والمتوعدين بالعقوبة.

(٣) (إزلال) بالزاي معناها الإيقاع فى الزلة والتسبب فى ارتكابها ، أوضحناها حتى لا تلتبس (بإذلال) ومع ذلك فيمكن قبول (إذلال) بالذال إذا فهمنا أن سقوط العبد من عين الله هو (ذلة) لنفسه.

٢٠٨

إن أظهرت صحبتك معنا وأعلنت فلقد جوّدت وأحسنت ، وإن حفظت سرّنا عن دخول الوسائط بيننا صنت شروط الوداد ، وشيّدت من بناء الوصلة العماد.

قوله جل ذكره : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

لك المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والرتب الشريفة ، والمنازل العلية ، والسنن المرضية. وأنت سيد الأولين والآخرين ، ولا يدانيك أحد ـ فضلا عن أن يساميك ، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا ، وليس للأغيار منه شظية. يا محمد : أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم (١).

قوله جل ذكره : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق ، فلا لهم فى الشرق مذهب ، ولا لهم فى الغرب مضرب. كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم :

كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها

عليهم فما تزداد طولا ولا عرضا

__________________

(١) من هذه الفقرة يتضح موقف التصوف الإسلامى الحق في نظرته إلى الرسول صلوات الله عليه وليس في الأمر ـ كما ترى ـ جموح أو شطط (قارن ذلك بنظرة ابن عربى وتلاميذه).

٢٠٩

ولا يسلم لهم نفس مع الخلق ، وأنّى بذلك ولا خلق!! وإذا لم يكن فإثبات ما ليس شرك (سقها) (١) فى التوحيد.

والفقير الصادق واقف مع الله بالله ، لا إشراف للأجانب عليه ، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار فى لبسة سوى ما هو به ؛ قال تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ، فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شىء من أحوالهم. تعرفهم يا محمد ـ أنت ـ بسيماهم ، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة. لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية.

ويقال «تعرفهم بسيماهم» : استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم ، وصياح أسرارهم إلى العرش (نشاطا عنه) عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش (٢).

ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافا ، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال ـ لما يشير إليه دليل الخطاب ـ فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم ، لئلا يلاحظهم الخلق بعين السؤال ، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار (٣).

ويقال : «أحصروا فى سبيل الله» : وقفوا على حكم الله ، وأحصروا نفوسهم على طاعته وقلوبهم على معرفته ، وأرواحهم على محبته ، وأسرارهم على رؤيته.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

ما دام لهم مال لا يفترون ساعة عن إنفاقه ليلا ونهارا ، فإذا تفد المال لا يفترون عن شهوده لحظة ليلا ونهارا.

__________________

(١) مشتبهة وقد أثرنا أن ننقلها كما هى وربما كانت (سقما) أي علة فى التوحيد.

(٢) العبارة فيها شىء من غموض نتيجة اشتباه ما بين القوسين ولكن المراد ـ والله أعلم ـ أنه بينما تبدوا ظواهرهم ذابلة بحكم التواضع والانكسار فإن أسرارهم جادة فى التسبيح من حول العرش.

(٣) هنا يبدو القشيري متأثرا بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.

٢١٠

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

من أعرض عن الأمر ، ورخّص لنفسه بما يسوّله له خاطره من التأويل فلا استقلال لهم فى الحال ولا انتعاش فى المآل ؛ خسروا فى عاجلهم ولم يربحوا فى آجلهم.

ومن انتبه بزواجر الوعظ ، وكبح لجام الهوى ، ولم يطلق عنان الإصرار فله الإمهال فى الحال ، فإن عاد إلى مذموم تلك الأحوال فلينتظروا أوشك الاستئصال وفجاءة النّكال.

قوله جل ذكره : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦))

ما كان بإذن منه ـ سبحانه ـ من التصرّفات فمقرون بالخيرات ، ومصحوب بالبركات. وما كان بمتابعة الهوى يسلّط عليه المحق ، وكانت عاقبة أمره الخسران

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

إن الذين كانوا لنا يكفيهم ما يجدون منّا ، لا نضيع أجر من أحسن عملا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨))

٢١١

الاكتفاء بموعود الربّ خير للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه.

ومقصودك من تسويلات النفس ، وموعودك مما ضمنه الحق.

قوله جل ذكره : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار ، ولا قدر ولا أخطار.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠))

إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حبسه ، وإن ظهرت لذى الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه ، ولكنه فى إمهال وإنظار. والرب لا يحكم بهذا علينا ؛ فمع علمه بإعسارنا وعجزنا ، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له ـ يرحمنا.

قوله «إلى ميسرة» : ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شىء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين ، فأمّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد .. وأنّى للمفلس به؟!

وأمّا الربح فى التجارة من تقليب رأس المال والتصرّف فيه .. فأنّى للمفلس به؟!

ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء (..........) (١) وإن كان ضعيفا ، فذلك لمن بقيت له منة الحراك أما المفلس عن قوته ـ كما هو مفلس عن ماله ـ ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه.

قوله جل ذكره : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

__________________

(١) هنا عبارة مطموسة.

٢١٢

الرجوع على ضربين : بالأبشار والنفوس غدا عند التوفى ، وبالأسرار والقلوب فى كل نفس محاسبة ؛ نقد ووعد ، فنقد مطالبته أحقّ مما سيكون فى القيامة من وعده.

وقال للعوام : «واتقوا يوما» وقال للخواص : «وإياى فاتقون»

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ

٢١٣

اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أو ثمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثيم قلبه والله بما تعملون عليم (٢٨٣))

أمر الله سبحانه الخلق بالقيام بالصدق ، وعلّمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم ، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يجرى ـ بعضهم على بعض ـ حيفا ، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم ، وموجب رفقه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد ، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة.

ومن شرع اليوم ما يقطع الخصومة بينهم فبالحرى أن يجرى ما يرفع فى الآخرة آثار الخصومة (١) بينهم ، وفى الخبر المنقول : تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالى عليكم ، فإن الكريم إذا قدر غفر.

وفيما شرع من الدين (٢) رفق بأرباب الحاجات ، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال ، ويضيق به الصدر عن الاحتمال ، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال ، فأذن له فى الاستدانة ليجبر أمره فى الحال ، وينتظر فضل الله فى المآل ، وقد وعد على الإدانة الثواب الكثير ، وذلك من لطفه تعالى.

قوله جل ذكره : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ

__________________

(١) وردت (الحكومة) ونظن أنها خطأ فى النسخ وأن الأصل (الخصومة).

(٢) ضبطناها هكذا وذلك هو الملائم للسياق.

٢١٤

وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

من المعاني والدعاوى ، ويقال من القصود والرغائب ، وفنون الحوائج والمطالب.

ويقال ما «تبديه» : العبادة ، «وما تخفيه» الإرادة.

ويقال ما «تخفيه» : الخطرات و «ما تبديه» : «العبارات».

ويقال ما «تخفيه» : السكنات والحركات (١) ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة ، فلا تغفل (٢) خطرة ولا تحمل وقتك نفسا (٣).

قوله جل ذكره : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))

هذه شهادة الحق ـ سبحانه ـ لنبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ـ بالإيمان ، وذلك أتمّ له من إخباره عن نفسه بشهادته.

ويقال آمن الخلق كلّهم من حيث البرهان وآمن الرسول ـ عليه‌السلام ـ من حيث العيان.

ويقال آمن الخلق بالوسائط وآمن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغير واسطة.

__________________

(١) ربما كانت فى الأصل «تخفيه» السكنات «وتبديه» الحركات وسقطت تبديه من الناسخ.

(٢) وردت (تعقل وربما صحت على أساس أن تعقل (بمعنى تحبس) أو بمعنى استخدام العقل ، وهو فى هذه الحالة آفة تعترض الفناء الكامل.

(٣) ضبطناها هكذا لأن الانتباه إلى (النّفس) أمارة عدم اكتمال الفناء.

٢١٥

ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر فقال «آمن الرسول» ، ولم يقل آمنت ، كما تقول لعظيم الشأن من الناس : قال الشيخ ، وأنت تريد قلت.

ويقال آمن الرسول والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ولكن شتان بين إيمان وإيمان ، الكلّ آمنوا استدلالا ، وأنت يا محمد آمنت وصالا.

قوله جل ذكره : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)

لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير ، كل ذلك رفق منه وفضل.

(لَها ما كَسَبَتْ)

من الخيرات.

(وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)

ما تكسبه من التوبة التي تنجّى من كسب (١).

قوله جل ذكره : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)

كان إذا وقعت حاجة كلّموه بلسان الواسطة. قالوا (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ) وهذه الأمة قال لهم : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

وكانت الأمم (السالفة) (٢) إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضى مدة لقبول التوبة ، وفى هذه الأمة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة».

وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم ، وخصائصهم أكثر من أن يأتى عليه الشرح.

__________________

(١) قد يبدو للوهلة الأولى ان القشيري فى استخراج إشارته من (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) يتجه اتجاها مخالفا للتفسير التقليدى ، ولكن الواقع ان إشارة القشيري مرتبطة بمذهبه فى أن الله خالق كل شىء حتى أفعال العباد ، فهو خالق التوبة وحين يتقبلها تعود (على) العبد ، انظر مثلا تفسيره (ويتوب عليكم) من سورة النساء .. من هذا الكتاب).

(٢) (السالفة) موجودة فى الهوامش فأثبتناها فى موضعها من المتن.

٢١٦

قوله جل ذكره : (وَاعْفُ عَنَّا)

فى الحال

(وَاغْفِرْ لَنا)

فى المآل

(وَارْحَمْنا ، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

فى جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك ، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.

ولما قالوا (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) خسف الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين ، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم ، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة.

والحمد لله ربّ العالمين.

السورة التي يذكر فيها آل عمران

«بسم الله الرحمن الرحيم»

اختلف أهل التحقيق فى اسم «الله» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا إنه ليس بمشتق من مغني ، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص (١) ، يجرى فى وضعه مجرى أسماء الأعلام فى صفة غيره ، فاذا قرع بهذا اللفظ أسماء أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحقّ هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب فاذا قال بلسانه «الله» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «الله».

وكما لا تدل هذه الكلمة على معنى سوى «الله» لا يكون مشهود قائلها إلا «الله» فيقول بلسانه «الله» ، ويعلم بفؤاده «الله» ، ويعرف بقلبه «الله» ، ويحب بروحه «الله» ،

__________________

(١) وردت (الاقتصاص).

٢١٧

ويشهد بسره «الله» ، ويتملق (١) بظاهره بين يدى الله ، ويتحقق بسرّه الله ، ويخلو بأحواله لله وفى الله ؛ فلا يكون فيه نصيب لغير الله ، وإذا أشرف على أن يصير محوا فى الله لله بالله تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله (٢) الرحمن الرحيم استبقاء لمهجتهم أن تتلف ، وإرادة فى قلوبهم أن تنقى ؛ فالتلطف سنّة منه سبحانه لئلا يفنى أولياؤه بالكلية.

قوله جل ذكره : (الم (١) اللهُ)

أشار بقوله ألف إلى قيامه بكفايتك على عموم أحوالك ، فأنت فى أسر الغفلة لا تهتدى إلى صلاحك ورشدك ، وهو مجر ما يجبرك ، وكاف بما ينصرك ، فبغير سؤالك ـ بل بغير علمك بحالك ـ يكفيك من حيث لا تشعر ، ويعطيك من غير أن تطلب.

والإشارة من اللام إلى لطفه بك فى خفىّ السّر حتى أنه لا يظهر عليك محل المنة فيما يثبتك فيه. والإشارة من الميم لموافقة جريان التقدير بمتعلقات الطّلبة من الأولياء ، فلا يتحرك فى العالم شىء ، ولا تظهر ذرة إلا وهو بمحل الرضا منهم حتى أن قائلا لو قال فى قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) إن ذلك الشأن تحقيق مراد الأولياء ـ لم يكن ذلك ببعيد.

ويقال تفرّق عن القلوب ـ باستماع هذه الحروف المقطعة التي هى خلاف عادة الناس فى التخاطب ـ كلّ معلوم ومرسوم ، ومعتاد وموهوم ، من ضرورة أو حسّ أو اجتهاد ، حتى إذا خلت القلوب عن الموهومات والمعلومات ، وصفىّ الأسرار عن المعتادات والمعهودات يرد هذا الاسم وهو قوله : «الله» على قلب مقدّس من كل غير ، وسرّ مصفىّ عن كل كيف ؛ فقال (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

فهو الذي لا يلهو فيشتغل عنك ، ولا يسهو فتبقى عنه ، فهو على عموم أحوالك رقيب سرّك ؛ إن خلوت فهو رقيبك ، وإن توسطت الخلق فهو رقيبك (٣) ، وفى الجملة ـ كيفما دارت بك الأحوال ـ فهو حبيبك.

__________________

(١) استخدم القشيري هذا الفعل فى موضع مماثل عند قوله (تذكير ما سلف من الإنعام فتح لباب التملق فى اقتضاء أمثاله فى المستقبل) وفى موضع آخر (فيحمله صدق الإرادة على التملق والتضرع ص ٢٤٨ من هذا الجزء.

(٢) وردت (بقو).

(٣) وردت فهو (قريبك) والمعنى يحتملها ولكن الانسجام فى الأسلوب يتطلب (رقيبك) مكررة

٢١٨

قوله جل ذكره : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ)

وما كنت يا محمد تدرى ما الكتاب ، ولا قصة الأحباب ، ولكنما صادفك اختيار أزلىّ فألقاك فى أمر عجيب شانه ، جلىّ برهانه ، عزيز محلّه ومكانه.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ).

أي محققا لموعوده لك فى الكتاب على ألسنة الرسل عليهم‌السلام.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

أي إنا وإن أنزلنا قبلك كتبنا على المرسلين فما أخلينا كتابا من ذكرك ، قال قائلهم :

وعندى لأحبابنا الغائبين

صحائف ذكرك عنوانها

وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).

وهو ذلّ الحجاب ، ولكنهم لا يشعرون.

(وَاللهُ عَزِيزٌ) على أوليائه (ذُو انْتِقامٍ) من أعدائه ، عزيز يطلبه كل أحد ، ولكن لا يجده ـ كثيرا ـ أحد.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥))

لا يتنفس عبد نفسا إلا والله سبحانه وتعالى محصيه (١) ، ولا تحصل فى السماء والأرض ذرة لا وهو سبحانه محدثه ومبديه ، ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه.

هذا على العموم ، فأمّا على الخصوص : فلا رفع أحد إليه حاجة إلا وهو قاضيها ، ولا رجع أحد إليه فى نازلة إلا وهو كافيها.

__________________

(١) وردت (محيصة) وهى خطا من الناسخ.

٢١٩

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)

هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة ، وهو الذي قدّر أحوالكم فى الأزل كيف شاء ، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فلا يعقّب حكمه بالنقض ، أو يعارض تقديره بالإهمال والرفض.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

جنّس عليهم الخطاب ؛ فمن ظاهر واضح تنزيله ، ومن غامض مشكل تأويله. القسم الأول لبسط الشرع واهتداء أهل الظاهر ، والقسم الثاني لصيانة الأسرار عن اطلاع الأجانب عليها ، فسبيل العلماء الرسوخ فى طلب معناه على ما يوافق الأصول ، فما حصل عليه الموقوف فمقابل بالقبول ، وما امتنع من التأثر فيه بمعلول الفكر سلّموه إلى عالم الغيب.

وسبيل أهل الإشارة والفهم إلقاء السمع بحضور القلب ، فما سنح لفهومهم من لائح التعريفات بنوا (عليه) (١) إشارات الكشف.

__________________

(١) فى ص (بنوا على) والأصوب (بنوا عليه) حتى تتماسك العبارة لأن الإشارة تنبنى على التعريف.

٢٢٠