لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

بصلواته (١) عليهم ابتداء وصلوا إلى صبرهم ووقوفهم عند مطالبات التقدير ، لا بصبرهم ووقوفهم وصلوا إلى صلواته ، فلولا رحمته الأزلية لما حصلت طاعتهم بشرط العبودية ، فعنايته السابقة أوجبت لهم هداية خالصة (٢).

قال تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لما رحمهم فى البداية اهتدوا فى النهاية.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)

تلك المشاهد والرسوم ، وتلك الأطلال والرقوم ، تعظّم (٣) وتزار ، وتشدّ إليها الرحال (٤) لأنها أطلال الأحباب ، وهنالك تلوح الآثار :

أهوى الديار لمن قد كان ساكنها

وليس فى الدار هم ولا طرب (٥)

وإن لتراب طريقهم بل لغبار آثارهم ـ عند حاجة الأحباب ـ أقدارا عظيمة ، وكل غبرة تقع على (حافظات طريقهم) (٦) لأعزّ من المسك الأذفر :

وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمة

فى تربها وجرّت به بردا

قوله جل ذكره : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

حظى الصفا والمروة بجوار البيت فشرع السعى بينهما كما شرع للبيت الطواف ، فكما أن الطواف ركن فى النّسك فالسعى أيضا ركن ، والجار يكرم لأجل الجار.

__________________

(١) وردت (بصلواتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن السياق يؤدى إلى (صلاته) سبحانه عليهم فى سابق الأزل ، كذلك تشير الآية الكريمة إلى صلاته لا إلى صلواتهم.

(٢) لاحظ هنا معارضة القشيري لفكرة وجوب إثابة المطيع على الله. فالله فى رأى القشيري تنزه عن أن يجب عليه شىء ، لأن طاعة المطيع أو لا فضل من الله ، وليست بفضل العبد.

(٣) وردت (تعظيم) وهى خطأ فى النسخ.

(٤) وردت (الرجال) وهى خطأ فى النسخ.

(٥) إما أن تكون (همّ) صحيحة ، أي لا حزن ولا فرح ، واما أنها فى الأصل (همس) لتناسب الطرب ، وليتناسبا مع خلو الدار من أقل أثر للحياة.

(٦) هكذا وردت فى (ص).

١٤١

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩))

الإشارة فى هذه الآية لمن كاشفه الحقّ سبحانه بعلم من آداب السلوك ثم ضنّ (١) بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت فى الوقت ، ويخشى عليه نزع البركة عن علمه متى قصّر فيه لما أخّر من تعليم المستحق.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))

تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحسن الرّجعى ، والقيام للمريدين على وجه النصيحة ، وبيّنوا لهم ـ بجميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون ـ حسن قيامهم بمعاملاتهم. فإنّ أظهر الحجج لبيان أفعالك وأصدق الشهادة لتصحيح ما تدعو به الخلق إلى الله ـ ألا يخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك ، قال الله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

الإشارة فيه أن الذين بدا لهم بعد ما سلكوا طريق الإرادة (أن) يرجعوا إلى أحوال العادة ، ثم فى تلك الوحشة قبضوا ، وعلى تلك الحالة من الدنيا خرجوا ، أولئك أصحاب الفرقة ،

__________________

(١) وردت (ضمن) وهى خطأ من الناسخ وقد استندنا فى الوصول إلى أنها (ضنّ) من كلمة (بخل) التي سجلها الناسخ تحتها. والسياق يؤيدها.

١٤٢

فلا على أرواحهم إقبال ولا لمصيبتهم جبران ، ولا لأحد عليهم ترحم ، خسروا فى الدنيا والآخرة ، يلعنهم البقّ فى الهواء والنقع على الماء.

(خالِدِينَ) أي مقيمين أبدا فى هوانهم وصغرهم ، لا تخفيف ولا إسعاف ، ولا رفق ولا ألطاف.

قوله جل ذكره : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))

شرّفهم غاية التشريف بقوله وإلهكم. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا : علامة من يعدّه من خاصّ الخواص أن يقول له : عبدى ، وذلك أتمّ من هذا بكثير لأن قوله : (وَإِلهُكُمْ) : وإضافة نعته أتمّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لك بلا علّة ، وكونك له عبد يعوّض كل نقصك وآفتك. ومتى قال لكم (وَإِلهُكُمْ)؟

حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حين ولا أوان ، ولا رسم ولا حدثان.

و «الواحد» من لا مثل له يدانيه ، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا قديم يؤانسه. لا شريك يعاضده ولا معين يساعده ولا منازع يعانده.

أحدىّ الحق صمدىّ العين ديمومّى البقاء أبدىّ العز أزلىّ الذات.

واحد فى عز سنائه فرد فى جلال بهائه ، وتر فى جبروت كبريائه ، قديم فى سلطان عزّه ، مجيد فى جمال ملكوته. وكل من أطنب فى وصفه أصبح منسوبا إلى العمى (١) (ف) لو لا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبد إذا تعرّض لعرفانه عند أول ساطع من باديات عزّه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ

__________________

(١) وردت (الأعمى) فى ص ويمكن قبولها على أنها اسم جنس.

١٤٣

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

تعرّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته ، وأمارات وجوده ، وسمات ربوبيته التي هى أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهين تلطف عن العبارة ، ووجوه من الدلالات تدقّ عن الإشارة ، فما من عين من العدم محصولة ـ من شخص أو طلل ، أو رسم أو أثر ، أو سماء أو فضاء (١) ، أو هواء أو ماء ، أو شمس أو قمر ، أو قطر أو مطر ، أو رمل أو حجر ، أو نجم أو شجر ـ إلا وهو على الوحدانية دليل ، ولمن يقصد وجوده سبيل.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ)

هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة ، فشغلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هوته أنفسهم ، فرضوا بمعمول لهم أن يعبدوه ، ومنحوت ـ من دونه ـ أن يحبوه.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام ، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم ، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام ، ولكن من أحبّ حبيبا استكثر ذكره ، بل استحسن كل شىء منه.

ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن (هذه) محبة الجنس

__________________

(١) وردت (قضاء) فى ص.

١٤٤

للجنس ، وقد يميل الجنس إلى الجنس ، وتلك محبة من ليس بجنس لهم فذلك أعزّ وأحق.

ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه ، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود ، وأمّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حال بينهم وبين (شهوده) رداء الكبرياء على وجهه.

ويقال الذين آمنوا أشد حبا لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإن عذّبهم. والكافر تبرأ من الصنم والصنم من الكافر كما قال تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ...) الآية.

ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهى أتم ، قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.

ويقال محبة المؤمنين أتمّ وأشدّ لأنها على موافقة الأمر ، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع ، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم ، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناما أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك فى حال فقرهم ؛ فكانوا يتخذون من الفضة ـ عند غناهم ـ أصناما ويهجرون ما كان من الحديد ... وعلى هذا القياس! وأمّا المؤمنون فأشدّ حبا لله لأنهم عبدوا إلها واحدا فى السّرّاء والضراء.

قوله جل ذكره : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦))

إذا بدت لهم أوائل العذاب اتضح أنهم لم يقفوا من الصدق على قدم ، وأمّا المؤمنون فيسلبهم أرواحهم وأملاكهم وأزواجهم وأولادهم ، ويسكن (أولئك) (١) فى القبور سنين ثم يبتليهم فى القيامة بطول الآجال (٢) وسوء الأعمال ثم يلقيهم فى النار.

__________________

(١) أضفنا (أولئك) ليمتنع اللبس.

(٢) فى ص (طول الأحوال) ونرجح أنها فى الأصل (الآجال) لأن وصف الأحوال بالطول غير ملائم فضلا عن أننا نفترض أن القشيري لا يستعمل الأحوال الا لأرباب الأحوال. وطول الآجال فى جهنم معناه تأبيد العذاب.

١٤٥

(أما المؤمنون) (١) فيأتى عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة (على محبة) (٢) ولذلك قال : والذين آمنوا أشدّ حبا لله.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

عند (٣) ذلك يعرفون مرارة طعم صحبة المخلوقين ولكن لا يحصلون إلا على حسرات.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨))

الحرام ـ وإن استلذّ فى الحال ـ فهو وبيء فى المآل ، والحلال ـ وإن استكره فى الحال ـ فهو مرىء فى المآل.

والحلال الصافي ما لم ينس مكتسبه الحقّ فى حال اكتسابه (٤).

ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق فى كل حال.

وكلّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩))

لاجترائه على الله يدعوك به إلى افترائك على الله.

__________________

(١) أضفناها ليستقيم السياق إذ يبدو أنها سقطت أثناء النسخ.

(٢) فى الهامش مستدركة وعليها علامة بموضعها.

(٣) وردت (عن) والأصح (عند).

(٤) القشيري هنا مستفيد من تعريف سهل بن عبد الله التستري للحلال الصافي (الرسالة ص ٥٩).

١٤٦

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))

لا ترفع أبصارهم عن أشكالهم وأصنافهم ، من أضرابهم وأسلافهم ، فبنوا على منهاجهم ، فلا جرم انخرطوا فى النار ، وانسلكوا فى سلكهم ، ولو علموا أن أسلافهم لا عقل يردعهم ، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين ، وعاندوهم مخالفين ، ولكن سلبوا أنوار البصيرة ، وحرموا دلائل اليقين.

قوله جل ذكره : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

عدموا سمع الفهم والقبول ، فلم ينفعهم سمع الظاهر ، فنزلوا منزلة البهائم فى الخلوّ عن التحصيل ، ومن رضى أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢))

الحلال ما لا تبعة عليه ، والطيب الذي ليس لمخلوق فيه منّة ، وإذا وجد العبد (طعاما) يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب.

وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس فى غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام.

قوله جل ذكره :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

١٤٧

حرّم على الظواهر هذه المعدودات وهى ما أهل به لغير الله ، وحرّم على السرائر صحبة. غير الله بل شهود غير الله ، فمن اضطر ـ أي لم يجد إلى الاستهلاك فى حقائق الحق وصولا ـ فلا يسلكنّ غير سبيل الشرع سبيلا ، فإما أن يكون محوا فى الله ، أو يكون قائما بالله ، أو عاملا لله ، والرابع همج لا خطر له.

قوله جل ذكره :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤))

العلماء مطالبون بنشر دلائل العلم ، والأولياء مأمورون بحفظ ودائع السّر فإن كتم هؤلاء براهين العلوم ألجموا بلجام من النار ، وإن أظهر هؤلاء شظية من السر عوجلوا ببعاد الأسرار ، وسلب ما أوتوا (١) من الأنوار. ولكل حدّ ، وعلى كل أمر قطيعة.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

إن الذين آثروا الغير على الغيب ، والخلق على الحقّ ، والنفس على الأنس ، ما أقسى قلوبهم ، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم ، وما أخسّ (٢) قدرهم ، وما أفضح (٣) لذوى الأبصار أمرهم! ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق ، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق ، وأوصلهم إلى ما له أهّلهم ، وأثبتهم على الوجه الذي عليه جبلهم.

__________________

(١) وردت (أتوا) والصواب (أوتوا) لتناسب المعنى.

(٢) وردت (أخص) والصواب أخس لتناسب المعنى.

(٣) وردت ما (أفصح) ونرجح أنها فى الأصل ما (افضح).

١٤٨

قوله جل ذكره : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

(١) والإشارة أن الظواهر ليس لها كثير اعتبار إنما الخبر عن الله عزيز.

وكثرة الأوراد ـ وإن جلّت ـ فحرفة العجائز ، وإخلاص الطاعات ـ وإن عزّ ـ فصفة العوام ، ووصل الليل بالنهار فى وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر فى استحقاق الثواب ، ولكنّ معرفة الحق عزيزة.

وما ذكر فى هذه الآية من فنون الإحسان ، ووجوه قضايا الإيمان ، وإيتاء المال ، وتصفية الأعمال ، وصلة الرحم ، والتمسك بفنون الذّمم والعصم ، والوفاء بالعهود ، ومراعاة الحدود ـ عظيم الأثر ، كثير الخطر ، محبوب الحق شرعا ، ومطلوبه أمرا لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك ، وامتحانك من شاهدك ، واستهلاكك فى وجود القدم ، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك ـ أتمّ وأعلى فى المعنى ؛ لأن التوحيد لا يبقى رسما ولا أثرا ، ولا يغادر غيرا ولا غبرا (٢)

__________________

(١) اخطأ الناسخ فكتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة).

(٢) الغير السوي أما (الغبر) فمعروف.

١٤٩

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨))

حق القصاص مشروع ، والعفو خير ، فمن جنح إلى استيفاء حقه فمسلّم له ، ومن نزل عن ابتغاء حقه فمحسن ، فالأول صاحب عبادة بل عبودية ، والثاني صاحب فتوة بل حرية.

والدم المراق يجرى فيه القصاص على لسان أهل العلم ، وأمّا على لسان الإشارة لأهل القصة (١) فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال :

وإن فؤدا رعته لك حامد

وإنّ دما أجريته بك فاخر

وسفك دماء الأحباب (فوق) (٢) بساط (٣) القرب خلوف أهل الوصال ، قال النبي

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللون لون الدم

والريح ريح المسك»

قوله جل ذكره : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

فى استيفاء القصاص حياة لأنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أمسك عن القتل وفى ذلك حياة القاتل والمقتول.

ولكن ترك القصاص ـ على بيان الإشارة ـ فيه أعظم الحياة لأنه إذا تلف فيه (سبحانه)

__________________

(١) أهل القصة هم أرباب الأحوال.

(٢) وردت (فى) والأصوب فوق.

(٣) وردت (سباط) وقد رجحنا (بساط) القرب لورودها فى مواضع أخرى هكذا.

١٥٠

فهو الخلف عنه ، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه ، وإذا كان الوارث عنهم الله والخلف عنهم الله فبقاء الخلف (١) أعزّ من حياة من ورد عليه التلف.

قوله جل ذكره : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠))

من ترك مالا فالوصية له فى ماله مستحبة ، ومن لم يترك شيئا فأنّى بالوصية!! فى حالة الأغنياء يوصون فى آخر أعمارهم بالثلث ، أمّا الأولياء فيخرجون فى حياتهم عن الكلّ ، فلا تبقى منهم إلا همة انفصلت عنهم ولم تتصل بشىء ؛ لأن الحق لا سبيل للهمة إليه ، والهمة لا تعلّق لها بمخلوق ، فبقيت وحيدة منفصلة غير متصلة ، وأنشدوا :

أحبكم ما دمت حيا فإن أمت

يحبكم عظمى فى التراب رميم

هذه وصيتهم : وقال بعضهم :

(..............) (٢) لا بل كما قال قائلهم :

وأتى الرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا

رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعى صبيبا

قوله جل ذكره : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١))

من حرّف نطقا جرى بحقّه لحقه شؤم ذلك ووباله.

وعقوبته أن يحرم رائحة الصدق أن يشمه. فمن أعان الدين أعانه الله ، ومن أعان على الدين خذله الله.

__________________

(١) وردت (الخلق) والصواب (الخلف).

(٢) هنا شاهد شعرى عجزنا تماما عن قراءته أو إصلاحه ... وما أكثر خطأ الناسخ فى نقل شواهد الشعر!!

١٥١

قوله جل ذكره : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

الإشارة فيه : أن من تفرّس (١) فى بعض المريدين ضعفا ، أو رأى فى بعض (٢) أهل البداية رخاوة قصد أو وجد بعض الناصحين يتكلم بالصدق المحض على من لم يحتمله ـ فرأى أن يرفق بذلك المريد بما يكون ترخيصا له أو استمالة له أو مداراة أو رضا بتعاطى مباح ـ فلا بأس به فإن حمل الناس على الصدق المحض مما لم يثبت له كثير أجر. فالرّفق بأهل البداية ـ إذا لم يكن لهم صارم عزم ، ولا صادق جهد ـ ركن فى ابتغاء الصلاح عظيم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣))

الصوم على ضربين : صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية ، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات ، ثم صون الروح عن المساكنات ، ثم صون السّرّ عن الملاحظات.

ويقال صوم العابدين شرطه ـ حتى يكمل ـ صون اللسان عن الغيبة ، وصون الطرف عن النظر بالريبة كما فى الخبر : (من صام فليصم سمعه وبصره ...) ... الخبر (٣) ، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره.

وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل ، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» : الهاء فى قوله

__________________

(١) وردت بالصاد وهى خطأ من الناسخ.

(٢) وردت (فى أهل بعض البداية) وواضح أنها خطأ من الناسخ.

(٣) (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك : معناه من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه).

رواه البخاري وأصحاب السنن عن أبى هريرة.

١٥٢

عليه‌السلام ـ لرؤيته ـ عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه ، فالعلماء يقولون معناه عندهم صوموا إذا رأيتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال ، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله ، والذي (١) هم به محو ـ الله.

قوله جل ذكره : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)

من شهد الشهر صام لله ، ومن شهد خالق الشهر صام بالله ، فالصوم لله يوجب المثوبة ، والصوم بالله يوجب القربة. الصوم لله تحقيق العبادة والصوم بالله تصحيح الإرادة. الصوم لله صفة كل عابد والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة.

من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك فى جميع أوقاته عن شهود المخلوقات.

من صام بنفسه سقى شراب السلسبيل والزنجبيل ، ومن صام بقلبه سقى شراب المحاب بنعمة الإيجاب.

ومن صام بسرّه فهم الذين قال فيهم الله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

شراب يا له من شراب!! شراب لا يدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف.

شراب استئناس لا شراب كاس.

قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك. الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال ، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة

__________________

(١) وردت (والذين) وهو خطأ من الناسخ.

١٥٣

فليمهل حتى تقوى عزيمته وتشتد إرادته ، فعند ذلك يستدرك منه ما رخّص له بالأخذ بالتأويل ، وتلك سنّة الله سبحانه وتعالى فى التسهيل على أهل البداية ، ثم استيفاء ذلك منهم واجب فى آخر الحال.

قوله جل ذكره : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) (١) (............ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

الإشارة منه أنّ من فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجردا للواحد.

[فصل] ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضى المشقة خففه عليك ذلك بأن قلّل أيام الصوم فى قلبك فقال : «أياما معدودات» أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره ، وهذا كقوله تعالى : وجاهدوا فى الله حق جهاده. ثم قال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي لا يلحقكم كثير مشقة فى القيام بحق جهاده.

قوله جل ذكره : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)

رمضان يرمض ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم ، وشتان بين من تحرق ذنوبه رحمته وبين من تحرق رسومه حقيقته.

__________________

(١) وقع الناسخ فى سهو حين أعاد ثلاثة أسطر مما سبق له أن كتبه ، ووقعت هذه الأسطر المعادة بين كلمتى (فدية ، وطعام) فى الآية الكريمة.

١٥٤

شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب ، شهر إنزال الكتاب ، شهر حصول الثواب ، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة ، شهر تحقيق الزلفة. شهر نزول الرحمة ، شهر وفور النعمة. شهر النجاة ، شهر المناجاة.

قوله جل ذكره : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر.

ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) (١) بطلب اليسر ؛ ولو لم يرد به اليسر لما جعله راغبا فى اليسر ، قال قائلهم :

لو لم ترد نيل ما أرجوا وأطلبه

من فيض جودك ما علمتنى الطلبا

حقّق الرجاء وأكّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال : «ولا يريد بكم العسر» لينفى عن حقيقة التخصيص مجوزات الظنون.

قوله جل ذكره : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ).

على لسان العلم تكملوا مدة الصوم.

وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال (وفاء) (٢) (المآل) (٣)

ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون» فى النّفس الأخير ، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيق فى أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة ـ أعظم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)

__________________

(١) جاءت (أقام) وقد جعلناها (أقامه) ليزداد وضوح المعنى.

(٢) جاءت (ووفاء) ونظن أن الواو الأولى زائدة من الناسخ.

(٣) جاءت (المال) وقد اعتاد الناسخ أن يكتب المال مثل المآل أي بدون علامة على المد ، وآثرنا هنا أن نضعها ، فالمقصود الإعداد لليوم الآخر بالطاعات والعبادات ، وغاية التمام أن تجمع بين الحقيقة والشريعة. هذا فضلا عن أن الإشارة للصوفية ، والصوفية قوم لا مال لهم.

١٥٥

سؤال كل أحد يدلّ على حاله ؛ لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين (١) ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي). وليس هؤلاء من جملة من قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) ، ولا من جملة من قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ، ولا من جملة من قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، ولا من جملة من قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ، ولا من جملة من قال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).

هؤلاء قوم مخصوصون : (وَإِذا سَأَلَكَ) (٢) (.... عِبادِي عَنِّي).

أي إذا سألك عبادى عنى فبما ذا تجيبهم؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد ، فأنت وإن كنت السفير بيننا وبين الخلق فهذا الجواب أنا أتولاه (فَإِنِّي قَرِيبٌ) (رفع الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يقل قل لهم إنى قريب بل قال جل شأنه : فإنى قريب) (٣).

ثم بيّن أن تلك القربة ما هى : حيث تقدّس الحقّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) وإن الحق سبحانه قريب ـ من الجملة والكافة ـ بالعلم والقدرة والسماع والرؤية ، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة ، وجلّ وتقدّس عن أن يكون قريبا من أحد بالذات والبقعة ؛ فإنه أحدىّ لا يتجه فى الأقطار ، وعزيز لا يتصف بالكنه والمقدار.

قوله جل ذكره : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

لم يعد إجابة من كان باستحقاق زهد أو فى زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعانى وكيفما دعانى وحيثما دعانى ثم قال : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) هذا تكليف ، وقوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ

__________________

(١) تكررت كلمة (دنيا) مرتين فرجحنا أن تكون الأولى (دين) وتركنا الثانية (دنيا) لتتقابل مع (عقبى).

(٢) وضع الناسخ علامة تشعر بوجود كلمات زائدة بين (سألك) ... (وعبادى) فحذفنا الزائدة.

(٣) ما بين القوسين تكملة من الهامش استدركها الناسخ فوضعناها فى موضعها.

١٥٦

الدَّاعِ) تعريف وتخفيف ، قدّم التخفيف على التكليف ، وكأنه قال : إذا دعوتنى ـ عبدى ـ أجبتك ، فأجبنى أيضا إذا دعوتك ، أنا لا أرضى بردّ دعائك فلا ترض ـ عبدى ـ بردّى من نفسك. إجابتى لك بالخير تحملك ـ عبدى ـ على دعائى ، ولا دعاؤك يحملنى على إجابتك. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، وَلْيُؤْمِنُوا بِي) : وليثقوا فى ، فإنى أجيب من دعانى ، قال قائلهم :

يا عزّ أقسم بالذي أنا عبده

وله الحجيج وما حوت عرفات (١)

لا أبتغى بدلا سواك خليلة

فثقى بقولي والكرام ثقات

ثم قال فى آخر الآية : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك.

قوله جل ذكره :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)

أخبر أنه ـ فى الحقيقة ـ لا يعود إليه عائد من أوصاف الخلق ؛ إن كنت فى العبادة التي هى حق الحق أو فى أحكام العادة من صحبة جنسك التي هى غاية النفس والحظ ، فسيّان فى حالك إذا أورد فيه الإذن.

__________________

(١) جاءت (عرفان) وهى خطأ فى النسخ.

١٥٧

نزلت الآية فى زلّة بدرت من الفاروق (١) ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع (٢) المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.

ويقال علم أنه لا بدّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار فى هذا الشهر بين حقه وحظّك ، فقال أما حقى ف (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، وأما حظك ف (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

قوله جل ذكره : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

أخبر أن محل القدرة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بكم فيكم ، وإذا كنتم قائمين بنا فلا تعودوا منّا إليكم.

ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يمزج الجدّ بالهزل ، قالت عائشة رضى الله عنها : يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك فقال عليه‌السلام : ذريتى يا ابنة أبى أبكر أتعبد ربى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لى وقت لا يسعنى غير ربى (٣)

قوله جل ذكره : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

__________________

(١) أي عمر بن الخطاب. قال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال : يا رسول الله إنى أردت أهلى البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتلّ فواقعتها فنزل فى عمر (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) وهكذا روى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ١ ص ٢٢٠ ، ٢٢١ ط الحلبي).

(٢) وردت (جميع).

(٣) للحديث صورة أخرى «لى مع الله وقت لا يسعنى فيه شىء غير الله عزوجل» والمعنى صحيح ولكن سنده غير معروف.

١٥٨

إذا تحاكم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم ، وعلمه محيط بكم ، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه ، ولئن كان المخلوقون (١) عالمين بالظواهر فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ متولى السرائر.

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)

الأهلة ـ جمع هلال ـ مواقيت للناس ؛ لأشغالهم ومحاسباتهم.

وهى مواقيت لأهل القصة فى تفاوت أحوالهم ؛ فللزاهدين مواقيت أورادهم ، وأما أقوام مخصوصون فهى لهم مواقيت لحالاتهم ، قال قائلهم.

أعد الليالى ليلة بعد ليلة

وقد كنت قدما لا أعد اللبالبا

وقال آخر :

ثمان قد مضين بلا تلاق

وما فى الصبر فضل عن ثمان

وقال آخر :

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار (٢)

قوله جل ذكره : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

يعنى ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة ، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر.

قوله جل ذكره : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠))

لتكن نفوسكم عندكم ودائع الحق ؛ إن أمر بإمساكها أمسكوها وصونوها ، وإن أمر

__________________

(١) وردت (المخلوقين) وهى خطأ من الناسخ لأن اسم كان مرفوع بالواو.

(٢) سرار النهر وسراره (بالكسر والفتح) آخر ليلة فيه (الوسيط ص ٤٢٨).

١٥٩

بتسليمها إلى القتل فلا تدّخروها عن أمره ، وهذا معنى قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) وهو أن تقف حيثما أوقفت ، وتفعل ما به أمرت.

قوله جل ذكره : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)

يعنى عليكم بنصب العداوة مع أعدائى ـ كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائى ـ فلا تشفقوا (١) عليهم وإن كان بينكم واصد (٢) الرحم ووشائج القرابة.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ). أولا أخرجوا حبّهم وموالاتهم من قلوبكم ، ثم (....) (٣) عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جاريا عليهم.

قوله جل ذكره : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

والإشارة : أنّ المحنة التي ترد على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي ترد على النفوس من بذل الروح ، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النّفس ، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها ، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله.

ويقال الفتنة أشد من القتل : أن (٤) تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك.

قوله جل ذكره : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

الإشارة منه : لا تشوش وقتك (٥) مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك

__________________

(١) ووردت (فلا تشقوا) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.

(٢) الواصد والآصد العهد. مثل الورث والإرث والوحد والأحد وربما كانت أواصر.

(٣) مشتبهة فى ص وربما كانت : ثم (أخرجوهم).

(٤) وردت (تنقى) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.

(٥) قال الدقاق ـ شيخ القشيري ـ فى تعريف الوقت : الوقت ما أنت فيه فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا ، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى ، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور ، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.

ويعلّق القشيري على رأى أستاذه قائلا : يريد بهذا أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان. ويقولون الصوفي ابن وقته يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به فى الحال ، قائم بما هو مطالب به فى الحين. وينبغى ألا يفرط العبد فيما يقتضيه حق الشرع.

١٦٠