لطائف الإشارات - ج ١

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ١

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٥

أخبر أنهم متفاوتون فى نقائص كفرهم ، فقوم منهم أخسّ درجة وأكثر جهلا ركنوا إلى التقليد ، ولم يملكهم استيلاء شبهة بل اغتروا بظنّ وتخمين ، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها ، دون معرفة معانيها. ومنهم من أكثر شأنه ما يتمناه فى نفسه ، ولا يساعده إمكان ، ولا لظنونه قط تحقيق. ثم أخبر عن سوء عاقبتهم بقوله جل ذكره :

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).

أي خسروا فى الحال والمآل ، والإشارة فى هذه الآية لمن عدم الإخلاص فى الصحبة فى طريق الحق ؛ ينضمّ إلى الأولياء ظاهرا ثم لا تصدق له إرادة فهو مع أهل الغفلة مصاحب ، وله مع هذه الطريقة جانب ، كلما دعته هواتف الحظوظ تسارع إلى الإجابة طوعا ، وإذا قادته دواعى الحق ـ سبحانه ـ يتكلف شيئا ، فبئست الحالة حين لم يخلص ، وما أشد ندمه فيما ادّخر عن الله! ثم لا يفلح.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

الإشارة فى هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة ، وغلب عليه حسبانه ، فحكم لنفسه ـ لفرط غفلته ـ بأنه من أهل القصة (١) ، ويخلد إلى هواجس مناه ، فيحكم على الغيب بأنه يتجاوز عنه ؛ نسى قبائح ما أسلفه ، ويذكر مغاليط ما ظنّه ، فهو عبد نفسه ، يغلب عليه حسن ظنه ، وفى الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره ، قال تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

قوله جل ذكره : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

الذي أحاطت به خطيئته هو الكافر ـ على لسان العلم (٢).

__________________

(١) أي من أهل الطريق الصوفي.

(٢) أي على لسان التفسير العادي أي غير الاشارى.

١٠١

ولكنّ الإشارة منه إلى من سكن قلبه على استغاثاته على وجه الدوام ، فإن أصحاب الحقائق كالحبّ (١) على المقلى ـ فى أوقات صحوهم ، فمن سكن فلفرط عزّته ـ لا يفترون (٢).

ومن استند إلى طاعة يتوسّل بها ويظن أنه يقرب بها ينبغى أن يتباعد عن السكون إليها ومن تحقّق بالتوحيد علم ألا وسيلة إليه إلا به.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

فى الحال جنان الوصل .........

(..........) (..........) (.........) (٣).

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)

... أضرابكم وقرنائكم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، الإشارة فيه أن نصرتكم لإخوانكم على ما فيه بلاؤهم نصرة عليهم بما فيه شقاؤهم ، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى (٤) تُفادُوهُمْ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).

أي كما تراعون ـ بالفداء عنهم ـ حقوقهم ، فكذلك يفترض عليكم كفّ أيديكم عنهم ، وترك إزعاجهم عن أوطانهم ، فإذا قمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم

__________________

(١) وردت (كالحسب) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) من الفترة ، وقد أوضحنا رأى المصنف فى الفترة والوقفة فى هامش سبق.

(٣) حدث سقوط فيما بين (الوصل) و ... (أضرابكم) وبذلك لم يصلنا تفسير الآيات الكريمة من رقم ٨٢ إلى ٨٤.

(٤) يستخرج القشيري من لفظة أسارى إشارات معينة بعد قليل.

١٠٢

عن الباقي ، حتى تقوموا به كما أمرتم؟ أما علمتم أن من فرّق بين ما أمر به فآمن ببعض وكفر ببعض فقد حبط ـ بما ضيّعه ـ أجر ما عمله.

قوله جل ذكره : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

أي ظنوا أن ما فعلوه نفعهم ، فانكشف لهم فى الآخرة أن جميع ما فعلوه ـ لمّا مزجوه بالآفات وجرّدوه عن الصدق والإخلاص ـ غير مقبول منهم.

والأسراء أصناف : فمن أسير غرق فى بحار الهوى فإنقاذه بأن تدلّه على الهدى. ومن أسير بقي فى أيدى الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشك والتخمين ، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين. ومن أسير تجده فى أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه ، ففكّ أسره بأن تدلّه على شهود المنن ، بتبرّيه عن حسبان كلّ حول يخلق وغير. ومن أسير تجده فى ربيطة ذاته ففكّ أسره إنشاده (١) إلى إقلاعه ، وإنجاده على ارتداعه. ومن أسير تجده فى أسر صفاته ففكّ أسره أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون (٢) ، ومن أسير تجده فى قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء ، ولا لقتلاهم عود ، ولا لربيطهم خلاص ، ولا عنهم بدّ ، ولا إليهم سبيل ، ولا من دونهم حيلة ، ولا مع سواهم راحة ، ولا لحكمهم ردّ.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

إن الذين آثروا عليه شيئا خسروا فى الدنيا والآخرة كما قالوا :

__________________

(١) إنشاده إلى إقلاعه أي مطالبته والنصح له.

(٢) وردت (المكون) والأصوب الكون لأن المقصود يقتضى ذلك.

١٠٣

أناس أعرضوا عنّا

بلا جرم ولا معنى

فإن كانوا (١) قد استغنوا

فإنّا عنهم أغنى

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)

الإشارة : أوصلنا لهم الخطاب ، وأردفنا رسولا بعد رسول ، والجميع دعوا إلى واحد.

ولكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى ، فما استلذته النفوس قبلوه ، وما استثقلته (٢) أهواؤهم جحدوه (٣) ، فإذا كان الهوى (٤) صفتهم ثم عبدوه ، صارت للمعبود (٥) صفات العابد ، فلا جرم الويل لهم ثم الويل!

قوله جل ذكره : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)

لو كان منهم شىء بمجرد الدعوى لهان وجود المعاني ، ولكن عند مطالبات التحقيق تفترّ أنياب المتلبّسين عن أسنان شاحذة بل (.....) (٦) وقيل :

إذا انسكبت دموع فى خدود

تبيّن من بكى ممن تباكى

__________________

(١) اللفظة ناقصة فى المتن ومصححة فى الهامش على اليسار.

(٢) وردت (استسقلته) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وردت (هجدوه) ثم تصحيح لها فى الهامش (جهدوه) ولا يستبعد أنها : (جحدوه) على أساس نكرانهم للتوحيد.

(٤) وردت (الهوا) والصحيح (الهوى).

(٥) وردت (المعبود) وهى خطأ فى النسخ.

(٦) هنا كلمة مشتبهة.

١٠٤

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)

الإشارة فيه لمن عزم على الصفاء ، ووعد من نفسه تحقيق الوفاء ، ونشر أعلام النشاط عند البروز (١) إلى القتال ، تنادى بالنّزال وصدق القتال ـ انهدم عند التفات (٢) الصفوف ، وانجزل عن الجملة خشية هجوم المحذور ، قال تعالى : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

قوله جل ذكره : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)

أنزلهم التحاسد عن مقر العزّ (٣) إلى حضيض الخزي ، وسامهم ذلّ الصّغر حين لم يرضوا بمقتضى الحكم ، فأضافوا استيجاب مقت آنف إلى استحقاق مقت سالف.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

__________________

(١) وردت (البرود) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) وردت هكذا فى (ص) ، وربما كانت فى الأصل (التقاء) الصفوف أو (التفاف) كذلك يحتمل (انهزم) بدلا من (انهدم).

(٣) وردت (العسر) وهى خطأ فى النسخ.

١٠٥

الإشارة فيه : إذا قيل لهم حقّقوا ما أظهرتم من حكم الوفاق بتحقيق الحال وإقامة البرهان سمحت نفوسهم ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم ، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم ، (....) (١) بعدا عن زمرة الخواص ، غير معدودين فى جملة أرباب الاختصاص.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)

(٢) أي دعاكم إلى التوحيد ، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود ، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عجل اتخذتموه ، وصنم تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم ، لكن بقيت آثاره فى قلوبهم وقلوب أعقابهم ، ولذلك يقول أكثر اليهود بالتشبيه.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

كرّر الإخبار عن غلوّهم فى حبّ العجل ، ونبوّهم عن قبول الحق ، و (.........) (٣) وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل ، فلا النصح نجع فيهم ، ولا العقوبة أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم ، ولا بالذم فيهم احتفلوا (٤) ، ولا بموجب الأمر عملوا.

__________________

(١) هنا لقطة مشتبهة.

(٢) أخطأ الناسخ حين كتبها (جاءهم) فصححناها طبقا للاية ٩٢.

(٣) هنا عبارة غامضة كتابة وبالتالى معنى.

(٤) وردت (اختلفوا ، والملائم للسياق (احتفلوا) أي أظهروا الاهتمام.

١٠٦

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥))

من علامات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافي ؛ فمن وثق بأن له الجنة قطعا ـ فلا محالة ـ يشتاق إليها ، ولمّا لم يتمنوا الموت (١) ـ وأخبر الله سبحانه أنهم لن يتمنوه أبدا ـ صار هذا التعريف معجزة للرسول صلوات الله عليه وعلى آله إذ كان كما قال.

وفى هذا بشارة (٢) للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم ، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة ، وقديما قيل : كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. قال الله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

قوله جل ذكره : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

(٣) حبّ الحياة فى الدنيا نتيجة الغفلة عن الله ، وأشد منه غفلة أحبّهم للبقاء فى الدنيا. وحال المؤمن من هذا على الضدّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم ؛ فالعبد الآبق لا يريد رجوعا إلى سيّده. والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء مع من شرّه غير مأمون ، ثم إن امتداد العمر مع يقين

__________________

(١) فى النسخة (الجنة) ولكن الآية الكريمة والسياق يشيران إلى تمنى الموت ثم إن الضمير فيما بعد في (لن يتمنوه أبدا) ضمير مذكر وليس ضمير مؤنث.

(٢) وردت (وفى هذا إشارة) والمعنى يتطلب (بشارة) مما يرجح هذه على تلك.

(٣) أسقط الناسخ من الآية من أول (وما هو) إلى (أن يعمر) فأثبتناه.

١٠٧

الموت (لا قيمة له) إذا فاجأ الأمر وانقطع العمر. وكلّ ما هو آت فقريب ، وإذا انقضت المدّة فلا مردّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل.

قوله جل ذكره : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))

زعمت اليهود أن جبريل لا يأتى بالخير ، وأنهم لا يحبونه ، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به ، فأكذبهم الحقّ سبحانه فقال : من كان عدوا لجبريل لأنه لا يأتى بالخير فأى خير أعظم مما نزل به من القرآن؟!

ثم قال إن من عادى (١) جبريل وميكائيل فإن الله عدو له ؛ فإنّ رسول الحبيب إلى الحبيب العزيز المورد ـ كريم المنزلة ، عظيم الشرف. وما ضرّت جبريل ـ عليه‌السلام ـ عداوة الكفار ، والحق سبحانه وتعالى وليّه ، ومن عادى جبريل فالحقّ عدوّه ، وما أعزز (٢) بهذا الشرف وما أجلّه! وما أكبر علوه!

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠))

لم يكفر بواضح آياته إلا من سدّت عن الإدراك بصائره ، وسبقت من الله بالشقاوة

__________________

(١) وردت (عبادى) وهى خطأ في النسخ ، فعادى مناسبة لعدم محبتهم لجبريل كما سبق.

(٢) الصحيح ان يقال وأعزز بهذا الشرف أو : ما أعز هذا الشرف فليس فى التعجب ما أفعل به فما حدث هو خطأ من الناسخ لأن القشيري ـ كما تعلم من سيرته ـ حريص أشد الحرص على قواعد النحو.

١٠٨

قسمته ، ولا عقل لمن يجحد أنّ النهار نهار ، وكذلك لا وصل لمن لم تساعده من الحق أنوار واستبصار. أو كلّما عاهدوا عهدا سابق التقدير لهم كان يشوّش عليهم ، وينقض عهدهم لا حق التدبير منهم ، والله غالب على أمره.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

(١) جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر ، وكذّبوا رسلهم الذين أتوهم فى الظاهر ، فيا جهلا ما فيه شظية من العرفان! ويا حرمانا قارنه خذلان!

قوله جل ذكره : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)

من فرّقته الأهواء وقع فى كل مطرح من مطارح الغفلة ، فيستقبله كل جنس من قضايا

__________________

(١) أخطأ الناسخ فكتبها (مصدقا) والصحيح (مصدق) الآية ١٠١.

١٠٩

الجهالة ، ثم إن من طالت به الغيبة صار للناس عبرة ، ولمن سلك طريقه فتنة ، فمن اقتدى به فى غيّه انخرط فى سلكه ، والتحقق بجنسه ، هكذا صفة هاروت وماروت فيما استقبلهما ، صارا للخلق فتنة بل عبرة ، فمن أصغى إلى قيلهما ، ولم يعتبر بجهلهما تعلّق به بلاؤهما ، وأصابه فى الآخرة عناؤهما.

والإشارة من قصتهما إلى من مال فى هذه الطريقة إلى تمويه وتلبيس ، وإظهار دعوى بتدليس ، فهو يستهوى من اتّبعه (١) ، ويلقيه فى جهنم بباطله ، (............) (٢)

ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستاره ، وظهر لذوى البصائر عواره. وإن هاروت وماروت لما اغترّا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بسطا لسان الملامة فى عصاة بنى آدم ، فلما ركّب فيهما من نوازع الشهوات ، ودواعى الفتن والآفات ، اقتحما فى العصيان ، وظهر منهما ما انتشر ذكره على ألسنة القصاص ، وهما منكّسان إلى يوم القيامة ولو لا الرفق بهما وبشأنهما لما انتهى فى القيامة عذابهما ، ولكنّ لطف الله مع الكافة كثير. ولمّا قال الله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) علم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم ـ وإن كان صفة مدح ـ ففيه غير مرغوب فيه ، بل هو مستعاذ منه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعوذ بك من علم لا ينفع.

قوله جل ذكره : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

لو علم المغبون ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسرات ، ولكن سيعلم ـ يوم تبلى السرائر ـ الذي فاته من الكرائم.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

ولو آثروا الإقبال على الله على اشتغالهم عن الله ، لحصّلوا ذخر الدارين ، ووصلوا إلى

__________________

(١) وردت (التبعة) وهى خطأ فى النسخ.

(٢) هنا عبارة غامضة كتابة ومعنى ، ويرجح أن الناسخ قد وقع فى أخطاء نقلية.

١١٠

عزّ الكونين ، ولكن كبستهم سطوات القهر ، فأثبتهم فى مواطن الهجر.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))

قصود الأعداء فى جميع أحوالهم ـ من أعمالهم وأقوالهم ـ قصود خبيثة ؛ فهم ـ على مناهجهم ـ يبنون فيما يأتون ويذرون. فسبيل الأولياء التّحرز عن مشابهتهم ، والأخذ فى طريق غير طريقهم.

قوله جل ذكره : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصلة مستدامة ، ولكن الحسود لا يسود ، ولا يحصل له مقصود وخصائص الرحمة للأولياء كافية ـ وإن زعم من الأعداء أفّاك أنه انهدمت من أوطان فرحهم أكناف وأطراف.

قوله جل ذكره : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))

النسخ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هى فوقها وأعلى منها ، فغصن وصلك أبدا ناضر ، ونجم عزّك أبدا ظاهر ، فلا ننسخ من آثار العبادة شيئا إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية ، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودة (١).

__________________

(١) وردت (من أقمار العبودية) وهى خطأ من الناسخ ، لأن السياق هنا يتطلب (العبودة) ـ

١١١

فأبدا (١) سرّك فى الترقي ، وقدرك فى الزيادة بحسن التّولّي

وقيل ما رقّاك عن محل العبودية إلا سلكك بساحات الحرية ، وما رفع عنك شيئا من صفات (٢) البشرية إلا أقامك بشاهد من شواهد الألوهية.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

سنّته ـ سبحانه ـ أن يجذب أولياءه عن شهود ملكه إلى رؤية ملكه (٣) ، ثم يأخذهم من مطالعة ملكه إلى شهود حقّه ، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته ، ومن رؤية صفاته إلى شهود ذاته.

قوله جل ذكره : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

إنّ بنى إسرائيل آذوا موسى عليه‌السلام ، فنهى المسلمون عن فعل ما أسلفوه ، وأمروا

__________________

ـ فنحن نعرف من مذهب القشيري ان العبادة للعوام من المؤمنين ، والعبودية للخواص ، والعبودة لخاص الخاص.

العبادة لأصحاب المجاهدات ، والعبودية لأرباب المكابدات ، والعبودة صفة أهل المشاهدات ... وهكذا ـ ومن أسانيد كثيرة فى باب العبودية فى «الرسالة» ـ نلحظ أن الدرجة القصوى في الأمر هى (العبودة) ، والترتيب هنا يمشى هكذا آثار العبادة ، أنوار العبودية ، أقمار العبودية ، وهو ترتيب فى غاية الدقة ، يعطى كل درجة قدرها.

(١) وردت (فأبد) بدون تنوين.

(٢) تلقت النظر هنا إلى أهمية كلمة صفات البشرية ، أي أن المقصود ـ حسب مذهب القشيري ـ ليس سقوط البشرية فى حد ذاتها ، وإنما صفاتها المعلولة ، وينبغى أن يكون واضحا تمام الوضوح أن التصوف الإسلامى الحق ـ والقشيري من أفضل المعبرين عنه ـ لا يقول بأدنى تداخل بين البشرية والألوهية فالعبد عبد والرب رب.

(٣) ضبطنا ملك وملك مستفيدين من كلام القشيري فى كتابه «التحبير» ضمن اسم «الملك».

١١٢

بمراعاة أن حشمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغاية ما يتسع فى الإمكان. فكانوا بحضرته كأنّ على رءوسهم الطير. قال تعالى : (تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) وحسن الأدب ـ فى الظاهر ـ عنوان حسن الأدب مع الله فى الباطن.

قوله جل ذكره : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩))

من لحقه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودّ ألا يطلع لأحد بالسلامة نجم ، ومن اعتراه الحسد أراد ألا تنبسط على محسوده شمس.

وكذلك كانت صفات الكفار ، فأرغم الله أنفهم ، وكبّهم على (١) وجوههم.

والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة فى البداية إذا رغبوا فى السلوك ، فمن لم يساعده التوفيق (فى الصحبة ، وعاشر أناسا مترسّمين بالظواهر) (٢) فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح ، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة ، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة ، أولئك أعداء الله حقا ، أدركهم مقت الوقت. وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئا من روائح الصدق.

«فاعفوا واصفحوا ...» فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سرّه ، ويستعمل مع كل أحد ضلة (٣) ، ويبذل فى الطلب رفعة (٤) ، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه.

__________________

(١) فى النسخة ص (وكبهم لوجوههم) وقد آثرنا عليها (على وجوههم).

(٢) أصلحنا فى هذه العبارة قليلا لكى يتضح معناها طبقا لوصايا القشيري للمريدين فى «رسالته»

(٣) هكذا وردت فى (ص) وقد نقلناها كما جاءت ، وربما كانت فى الأصل (خلة) بمعنى الصفة اى أن يحافظ على سره مع ربه عن طريق اتصافه مع صحبته بصفات ملائمة. تضمن أن يكون سره محفوظا

(٤) ربما كانت فى الأصل (ويبذل فى الطلب وسعه).

١١٣

قوله جل ذكره : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

الواجب على المريد إقامة المواصلات ، وإدامة التوسل بفنون (١) القربات ، واثقا بأن ما يقدمه من صدق المجاهدات تدرك (٢) ثمرته فى أواخر الحالات.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١))

(٣) كلّ حزب يمهّد الأمل لنفسه ، ويظنّ النجاة لحاله ، ويدعى الوسل (٤) من سهمه. ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتى بحاصل ، ولا يحوز بطائل.

قوله جل ذكره : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢))

(٥) أسلم وجهه أي أخلص لله قصده ، وأفرد لله وجهه ، وطهّر عن الشوائب عقله.

«وهو محسن». عالم بحقيقة ما يفعله وحقيقة ما يستعمله ، وهو محسن فى المآل كما أنه مسلم فى الحال.

ويقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فتكون مستسلما بظاهرك ، مشاهدا بسرائرك ، فى الظاهر جهد وسجود وفى الباطن كشف ووجود.

__________________

(١) جاءت هكذا فى ص (يقنون) ثم صححها الناسخ فى الهامش.

(٢) جاءت فى ص (تدركوا).

(٣) أخطأ الناسخ إذ كتبها (يدخلوا) والصحيح (يدخل) الآية ١١١.

(٤) الوسل والوسيلة والواسلة الوصلة والقربى من الله (الوسيط ص ١٠٤٤).

(٥) أسقط الناسخ (بلى) والصحيح وجودها الآية ١١٢.

١١٤

ويقال «أسلم وجهه» بالتزام الطاعات ، «وهو محسن» قائم بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور ، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر ، ولا يلحقهم خفىّ المكر ، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غدا عن الرؤية.

قوله جل ذكره : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

الإشارة فى هذه الآية على العكس من حكم الظاهر ؛ فالأعداء يتبرأ بعضهم من بعض اليوم ، والأولياء من وجه كذلك ، ولذا قالوا : لا زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، ولا يقبل بعضهم بعضا لأنه لو قبل بعضهم بعضا بقي بعضهم مع بعض.

لكنّ الأعداء كلهم على الباطل. عند تبرّى بعضهم من بعض أمّا الأولياء فكلّهم على الحق ـ وهذه ما ذكرنا من حكم العكس.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤))

الإشارة فيه أن الظالم من خرّب أوطان العبادة بالشهوات ، وأوطان العبادة نفوس العابدين. وخرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات ، وأوطان المعرفة قلوب العارفين. وخرّب أوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وهى أرواح الواجدين. وخرّب أوطان

١١٥

المشاهدات بالالتفات إلى القربات وهى أسرار الموحدين (١).

قوله جلّ ذكره : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

لأهل الإشارة خزى الدنيا بذل الحجاب ، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات.

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها. وللقلوب شوارق وطوارق. وطوارقها هواجس النفوس تطرق فى ظلمات المنى والشهوات.

وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف.

فما دامت الشوارق طالعة فقبلة القلوب ، واضحة ظاهرة ، فإذا استولت (٢) الحقائق خفى سلطان الشوارق ، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس ، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر ، فلا شهود رسم ، ولا بقاء حسّ وفهم ، ولا سلطان عقل وعلم ، ولا ضياء عرفان. فإن وجدان (٣) هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية ، وإذا صار الموصوف محوا فأنّى لهم ببقاء الصفة!

قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) مادام يبقى من الإحساس والتمييز بقية ـ ولو شظية ـ فالقبلة مقصودة ، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائل بكلّ وجهة ، ولا معرفة بالقبلة تساوت الجهات فى جواز الصلاة إلى كل واحد منها إذا لم يكن للنية ترجيح.

__________________

(١) نعرف من مذهب القشيري أن الأسرار (للموحدين) ولذا نرجح أن الناسخ أخطأ حينما كتبها (الواجدين) وقد أثبتناها هنا على هذا الترجيح.

(٢) وردت (سولت) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وجدان ، ووجود مصدران لوجد ، غير أن القشيري يؤثر استعمال لفظة (الوجود) بمعناها الاصطلاحي الدقيق فى موضعها للائم (التواجد بداية والوجد واسطة والوجود نهاية).

١١٦

قوله جل ذكره : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ (١١٦))

مكر بهم لم يفنهم ـ من الإفناء ـ فى الحال ، بل جعل موجب اغترارهم طول الإمهال ، فنطقوا بعظيم الفرية على الله ، واستنبطوا عجيب المرية فى وصف الله ، فوصفوه بالولد! وأنّي بالولد وهو أحدى الذات؟! لا حدّ لذاته ، ولا تجوز الشهوة فى صفاته.

قوله جل ذكره : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

أي ليس فى الكون شىء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادى عليه آثار الخلقة ، وتفصح منه شواهد الفطرة ، وكل صامت منها ناطق ، وعلى وحدانيته ـ سبحانه ـ دليل وشاهد.

قوله جل ذكره : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

البديع عند العلماء موجد العين لا على مثل ، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شىء مثله. فهذا الاسم يشير إلى نفى المثل عن ذاته ، ونفى المثال عن أفعاله ، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه ، والصمد الذي لا أمد يقطعه ، والحق الذي لا وهم يصوّره ، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمرا فلا يعارض (١) عليه مقدور ، ولا ينفك من حكمه محظور.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))(٢) (٣)

__________________

(١) الصواب أن تكون (فلا يعتاص) ، فهكذا يعبر القشيري فى مثل هذا السياق.

(٢) وردت (لو لا يكلمهم) وهى خطأ ، وقد صححناها طبقا للآية ١١٧.

(٣) وردت خطأ (بيّن) والصحيح (بينا) الآية ١١٧.

١١٧

كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها ، وأمر التكوين (يتناول المكلفين وأفعال المكلفين) (١) ، لكن من عدم سمع الفهم تصامم (٢) عن استماع الحق ، فإنه ـ سبحانه ـ خاطب قوما من أهل الكتاب ، وأسمعهم خطابه (٣) ، فلم يطيقوا سماعه ، وبعد ما رأوا من عظيم الآيات حرّفوا وبدّلوا. وفى الآيات التي أظهرها ما يزيح العلّة من الأغيار ، ويشفى الغلّة من الأخيار ، ولكن ما تغني الدلائل ـ وإن وضحت ـ عمن حقّت لهم الشقاوة وسبقت؟

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))

أفردناك بخصائص لم نظهرها على غيرك ؛ فالجمهور والكافة تحت لوائك ، والمقبول من وافقك ، والمردود من خالفك ، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال ، ولا عنك لأحد (...) (٤).

قوله جل ذكره : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))

لا تبال برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا ، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم ، ودون ذلك لهم حظ القتال فأعلن (٥) التبري منهم ، وأظهر الخلاف معهم ، وانصب العداوة

__________________

(١) العبارة التي فى (ص) مضطربة فى الخط والمعنى ، وقد صحناها طبقا لما نعرف من آراء القشيري الكلامية : إن الله خالق العباد وأفعال العباد (فالله خالق كل شىء ، أما الإنسان فليس له أن يوصف بذلك لأن كل من لحقه وصف التكوين لا يصح منه الإيجاد).

(٢) وردت (تصامح) وهى خطأ فى النسخ.

(٣) وردت أسمعهم (خاطبهم) والأرجح أنها فى الأصل أسمعهم (خطابه).

(٤) مشتبهة.

(٥) وردت (ما علف) وهى خطأ فى النسخ ، وقد جعلناها (فأعلن) لتلائم (وأظهر) بعدها.

١١٨

لهم ، وأعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة ، فاحرص ألا يخطر ذلك ببالك (١) ، وادع ـ إلى البراءة عنهم وعن طريقتهم ـ أمّتك ، وكن بنا لنا ، متبرّيا عمن سوانا ، واثقا بنصرتنا ، فإنّك بنا ولنا.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

الذين فتحنا أبصارهم بشهود حقنا وكلنا أسماع قلوبهم بسماع خطابنا ، وخصصناهم بإسبال نور العناية عليهم ، وأيّدناهم بتحقيق التعريف فى أسرارهم ، يقومون بحق التلاوة ، ويتصفون بخصائص الإيمان والمعرفة فهم أهل التخصيص ، ومن سواهم أصحاب الرد.

قوله جل ذكره : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢))

جرت سنته ـ سبحانه ـ فى الخطاب مع قوم موسى عليه‌السلام أن يناديهم بنداء العلامة فيقول : يا بنى إسرائيل اذكروا ، أي يا بنى يعقوب ، ومع هذه الأمة (٢) أن يخاطبهم بنداء الكرامة فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

قوله جل ذكره : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

أمّا الأعداء فلا يقبل منهم شيئا ، وأما الأولياء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» ، والكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا حكم كل أمة مع نبيّها ، وأمّا المؤمنون ـ فعلى التخصيص ـ تنفعهم شفاعة نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) جاءت الجملة فى ص هكذا (فاحرس عن أخطار ذلك ببالك) وسمحنا لأنفسنا بشىء من التصرف يقبح فهم المعنى ، وربما كان أقرب إلى الأصل.

(٢) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.

١١٩

وكلّ أحد يقول يومئذ نفسى نفسى ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أمتى أمتى (١).

قوله جل ذكره : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (١٢٤))

البلاء تحقيق الولاء ، فأصدقهم ولاء أشدّهم بلاء.

ولقد ابتلى الحق ـ سبحانه ـ خليله عليه‌السلام بما فرض عليه وشرع له ، فقام بشرط وجوبها ، ووفّى بحكم مقتضاها ، فأثنى عليه سبحانه بقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ـ من التوقية ـ أي لم يقصّر بوجه البتة.

يقال حمّله أعباء النبوة ، وطالبه بأحكام الخلّة ، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة ، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شىء ، فقام بتصحيح ذلك مختليا عن جميع ما سواه ، سرّا وعلنا. (٢)

كذلك لم يلاحظ جبريل عليه‌السلام حين تعرض له وهو يقذف فى لجة الهلاك ، فقال : هل من حاجة؟ فقال : أمّا إليك .... فلا.

ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه‌السلام فى تلك الحالة ، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنا من كان؟!

__________________

(١) أخطأ الناسخ حين نقلها «كل عهد يقول ... والصواب» كل أحد ... وقد سمع القشيري هذه العبارة من أستاذه الدقاق ـ كما يقول فى رسالته فى باب الفتوة.

(٢) هذا هو رأى القشيري فى «الخلّة» ، ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى بعض الآراء الأخرى فيها. فالمعتزلة ـ الذين يبتعدون عن كل ما يحمل على التشبيه ـ يبذلون جهدهم فى الاستعانة باللغة للحصول على تأويلات للنص القرآنى تخدم هذه الغاية ، فلما لم يرضهم حمل لفظة الخليل على ظاهرها فى الآية (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (النساء : ١٢٥) استشهدوا ببيت من الشعر القديم لزهير وهو :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالى ولا حرم

(ديوان زهير نشر دار الكتب ص ١٥٣) وفيه خليل بمعنى محتاج ، وقد أورد القشيري هذا الرأى ضمن تفسيره للآية ١٢٤ النساء ، أي أنه لا يعارض أن تحتمل اللفظة هذا المعنى.

ويفسر دكتور عبد الرحمن بدوي قول أبى طالب المكي (إن رابعة قد ارتفعت إلى وصف معنى الخلة) بما يلى : (على أن مقام الخلة هذا يمكن أن يفسر على أساس أنه شعور بتجاوز الخير والشر ، ذلك أن القيم الأخلاقية لا اعتبار لها إلا بالنسبة إلى بنى الإنسان والدنيا. أما ـ رابعة ورباح ـ فقد تجاوزا نطاق البشرية وصارا يلوذان بجوار الألوهية واطرحا الناسوت وشاع فيهما اللاهوت».

شهيد العشق الإلهي ص ٦٣ ، ٦٤

١٢٠