في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

كلها على البشر .. غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح الحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء .. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.

ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه. وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها. وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان!

إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها (كما قلنا في سورة العصر) لكي تحقق ذاتها في عمل صالح. فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا. وهذا ما تقرره هذه السورة نصا ..

* * *

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ..

إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟) وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى إلى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا الذي يكذب بالدين ، والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين .. وإذا الجواب : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)!

وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي .. ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته .. إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعا بعنف ـ أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه. والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته. فلو صدّق بالدين حقا ، ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم ، وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين.

إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان ؛ إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ، المحتاجين إلى الرعاية والحماية. والله لا يريد من الناس كلمات. إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها ، وإلا فهي هباء ، لا وزن لها عنده ولا اعتبار.

وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل.

ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام. فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية. فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه. وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات!!

ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها :

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ، الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون .. فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون!

إنهم (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ..

إنهم أولئك الذين يصلون ، ولكنهم لا يقيمون الصلاة. الذين يؤدون حركات الصلاة ، وينطقون بأدعيتها ، ولكن قلوبهم لا تعيش معها ، ولا تعيش بها ، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات. إنهم يصلون رياء للناس لا إخلاصا لله. ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها.

٧٤١

ساهون عنها لم يقيموها. والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها. وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها.

ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. فهم يمنعون الماعون. يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية. يمنعون الماعون عن عباد الله. ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله ..

وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ، وأمام طبيعة هذا الدين. ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل. لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا. إنما أدوا حركات لا روح فيها. ولم يتجردوا لله فيها. إنما أدوها رياء. ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء. بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء!

* * *

وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد ، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه ...

إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه ـ فهو الغني ـ إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم. يريد الخير لهم. يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم. يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف ، والتكافل الجميل ، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك.

فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير؟ وهذه الرحمة؟ وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم؟ أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق؟

* * *

٧٤٢

(١٠٨) سورة الكوثر مكيّة

وآياتها ثلاث

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

هذه السورة خالصة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كسورة الضحى ، وسورة الشرح. يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر.

ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة. صورة من الكيد والأذى للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه.

كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان. وحقيقة الضلال والشر والكفران .. الأولى كثرة وفيض وامتداد. والثانية قلة وانحسار وانبتار. وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك ..

* * *

ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء. ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنه أبتر. يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده. وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره!

وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا. وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشانئيه ، ولعلها أو جعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا.

ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالرّوح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه.

* * *

٧٤٣

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) .. والكوثر صيغة من الكثرة .. وهو مطلق غير محدود. يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء .. إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير. غير ممنوع ولا مبتور .. فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور.

هو واجده في النبوة. في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير. الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه. وما ذا فقد من وجد الله؟

وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه. وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته!

وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء.

وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض. وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة.

وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه. سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض!

وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها!

إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله. ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد ..

وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول. فهو كوثر من الكوثر! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات.

* * *

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).

بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى شكر النعمة بحقها الأول. حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه .. في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .. غير ملق بالا إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم.

وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه .. ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره. لا تخليص التصور والضمير وحدهما. فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها ؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح. ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه ؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعا ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة

٧٤٤

ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة ..

* * *

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ..

في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر. وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه ، ويؤكد ـ سبحانه ـ أن الأبتر ليس هو محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه.

ولقد صدق فيهم وعيد الله. فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتد ذكر محمد وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم ، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون!

إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر. فهو ممتد الفروع عميق الجذور. وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر ..

إن مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد .. فأين الذين كانوا يقولون عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم ، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر؟!

إن الدعوة الى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر ، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله ، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور ..

وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون ..

* * *

٧٤٥

(١٠٩) سورة الكافرون مكيّة

وآياتها ستّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه. أحد. صمد. فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته. كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء. أو يرمزون بها إلى الملائكة .. وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه ـ سبحانه ـ وبين الجنة نسبا ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ..

ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) .. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) ..

وفي أيمانهم كانوا يقولون : والله. وتالله. وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم .. إلخ.

ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم. حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم. وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا هذا لِلَّهِ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ. وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ، وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ).

٧٤٦

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ. قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١).

وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله. والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله. بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله ـ بزعمهم ـ فكانوا يعدون أنفسهم أهدى. لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى .. وكله شرك. وليس في الشرك خيار. ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا!

فلما جاءهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : إن دينه هو دين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم ، وله فيهم وعليهم ما يشترط!

ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه .. لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، بقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية!

ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وتصور وتصور ، وطريق وطريق .. نزلت هذه السورة. بهذا الجزم. وبهذا التوكيد. وبهذا التكرار. لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك ، وتقيم المعالم واضحة ، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير :

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

نفي بعد نفي. وجزم بعد جزم. وتوكيد بعد توكيد. بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد ..

(قُلْ) .. فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده. ليس لمحمد فيه شيء. إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره ، الحاكم الذي لا راد لحكمه.

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) .. ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم .. إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون. فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق ..

وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب ، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال!

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) .. فعبادتي غير عبادتكم ، ومعبودي غير معبودكم ..

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فعبادتكم غير عبادتي ، ومعبودكم غير معبودي.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) .. توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الاسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) .. تكرار لتوكيد الفقرة الثانية. كي لا تبقي مظنة ولا شبهة ، ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد!

__________________

(١) يراجع تفسير هذه الآيات في سورة الأنعام الجزء الثامن ص ١٢١٧ ـ ١٢٢٢.

٧٤٧

ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه ، والاختلاف الذي لا تشابه فيه ، والانفصال الذي لا اتصال فيه ، والتمييز الذي لا اختلاط فيه :

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .. أنا هنا وأنتم هناك ، ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!!

مفاصلة كاملة شاملة ، وتميز واضح دقيق ..

* * *

ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل ، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق.

إن التوحيد منهج ، والشرك منهج آخر .. ولا يلتقيان .. التوحيد منهج يتجه بالإنسان ـ مع الوجود كله ـ إلى الله وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان ، عقيدته وشريعته ، وقيمه وموازينه ، وآدابه وأخلاقه ، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله ، الله وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس. غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية .. وهي تسير ..

وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية. وضرورية للمدعوين ..

إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان ، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها. وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف. أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا. ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد .. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! إن الجاهلية جاهلية ، والإسلام إسلام. والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.

وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية : تصورا ومنهجا وعملا. الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق. والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.

لا ترقيع. ولا أنصاف حلول. ولا التقاء في منتصف الطريق .. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان!

وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء. لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله طريقه. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!

وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة التامة ، والحسم الصريح .. (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ..

وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم .. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة ، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة ، ثم طال عليهم الأمد (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) .. وأنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ،

٧٤٨

ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج .. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان ، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية .. (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .. وهذا هو ديني : التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه ، وعقيدته وشريعته .. كلها من الله .. دون شريك .. كلها .. في كل نواحي الحياة والسلوك.

وبغير هذه المفاصلة. سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع .. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة. إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح ..

وهذا هو طريق الدعوة الأول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ..

* * *

٧٤٩

(١١٠) سورة النصر مدنيّة

وآياتها ثلاث

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

هذه السورة الصغيرة .. كما تحمل البشرى لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ؛ وكما توجهه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار ..

كما تحمل إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ البشرى والتوجيه .. تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر .. هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام. ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم.

* * *

وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكثر في آخر أمره من قوله : «سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه» وقال : «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا» فقد رأيتها .. (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ..

(ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص) ..

وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة. قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوم (أي تنتظر) بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر

٧٥٠

للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي ... «الحديث» ..

فهذه الرواية هي التي تنفق مع ظاهر النص في السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ...) إلخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة.

وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها ..

قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم. فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس؟ «فقلت لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعلمه له. قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً). فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول (تفرد به البخاري).

فلا يمتنع أن يكون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا. فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعلمه له .. إلخ ..

ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي ـ بإسناده ـ عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) .. دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاطمة وقال : «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت. ثم ضحكت. وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : «اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت.

ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة. فكأنها نزلت والعلامة حاضرة. أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق. فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه أجله .. إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني. وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه .. عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت. قالت : فلما توفي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سألتها عن بكائها وضحكها. قالت : أخبرني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران. فضحكت .. (أخرجه الترمذي).

فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه. من أنه كانت هناك علامة بين الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وربه هي : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ..) فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها.

* * *

٧٥١

ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة .. فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ...

في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث. وعن دور الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر .. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ...) .. فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره. في الصورة التي يريدها. للغاية التي يرسمها. وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد. وليس لأشخاصهم فيه كسب. وليس لذواتهم منه نصيب. وليس لنفوسهم منه حظ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم. وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء .. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا ..

وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم. إن شأنه ـ ومن معه ـ هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار.

التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه. وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران.

والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار.

والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر .. من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١) فمن هذا يكون الاستغفار.

والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان .. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار ..

وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار .. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها ، وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور ..

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٤).

٧٥٢

ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين. ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر. وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو. والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور.

* * *

إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار. الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله!

إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله. ليس لها حظ في شيء إلا رضاه. ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، .. الاتجاه فيها إلى الله.

وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته. عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده.

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما ..

كان هذا هو أدب يوسف ـ عليه‌السلام ـ في اللحظة التي تم له فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ، وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ..

وفي هذه اللحظة نزع يوسف ـ عليه‌السلام ـ. نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر. كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام :

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .. وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده. من فضله ومنه وكرمه ..

وكان هذا هو أدب سليمان عليه‌السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ..

وهذا كان أدب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له .. انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة .. فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة

٧٥٣

الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار. وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين.

* * *

وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق ..

* * *

٧٥٤

(١١١) سورة المسد مكيّة

وآياتها خمس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

أبو لهب ـ (واسمه عبد العزى بن عبد المطلب) هو عم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته «أم جميل» من أشد الناس إيذاء لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وللدعوة التي جاء بها ..

قال ابن إسحاق : «حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : «إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول ، وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القبيلة فيقول «: يا بني فلان. إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به» وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان. هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه. فقلت لأبي : من هذا؟ قال عمه أبو لهب. (ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ).

فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة. (وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان).

ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ منذ اليوم الأول للدعوة. أخرج البخاري ـ بإسناده ـ عن ابن عباس ، أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؟ أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم. قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب. ألهذا جمعتنا؟ تبا لك. فأنزل الله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ...) إلخ. وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله السورة.

٧٥٥

ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان قد خطب بنتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما!

وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة. وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان الأذى أشد. وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ؛ وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة.

* * *

نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته. وتولى الله ـ سبحانه ـ عن رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر المعركة!

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) .. والتباب الهلاك والبوار والقطع. «و (تَبَّتْ) الأولى دعاء. (وَتَبَّ) الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء. ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق ، وتنتهي المعركة ويسدل الستار!

فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) .. لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك. فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار.

ذلك ـ كان ـ في الدنيا. أما في الآخرة فإنه : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) .. ويذكر اللهب تصويرا وتشخيصا للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) .. وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب .. وحالة كونها : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) .. أي من ليف .. تشد هي به في النار. أو هي الحبل الذي تشد به الحطب. على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك. أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة.

وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها ، نقتطف في بيانه سطورا من كتاب : «مشاهد القيامة في القرآن» نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها :

«أبو لهب. سيصلى نارا ذات لهب .. وامرأته حمالة الحطب. ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد» ..

«تناسق في اللفظ ، وتناسق في الصورة. فجهنم هنا نار ذات لهب. يصلاها أبو لهب! وامرأته تحمل للحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه (بمعناه الحقيقي أو المجازي) ... والحطب مما يوقد به اللهب. وهي تحزم الحطب بحبل. فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد. ليتم الجزاء من جنس العمل ، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة : الحطب والحبل. والنار واللهب. يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب!

٧٥٦

«وتناسق من لون آخر. في جرس الكلمات ، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد. اقرأ : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) تجد فيها عنف الحزم والشد! الشبيه بحزم الحطب وشده. والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه. والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة.

«وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي ، مع حركة العمل الصوتية ، بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة ، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير ، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول. ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار ، وفي سورة من أقصر سور القرآن».

* * *

هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد هجاها بشعر. وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة. تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدلة بحسبها ونسبها. ثم ترتسم لها هذه الصورة : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب!

قال ابن إسحاق : فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبوبكر الصديق ، وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من حجارة. فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبابكر. فقالت : يا أبابكر. أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني. والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله وإني لشاعرة! ثم قالت :

مذمما عصينا

وأمره أبينا

ثم انصرفت. فقال أبوبكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ فقال : ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني .. وروى الحافظ أبوبكر البزار ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال : لما نزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أبوبكر. فقال له أبوبكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيحال بيني وبينها» .. فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، فقالت : يا أبابكر ، هجانا صاحبك. فقال أبوبكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق. فلما ولت قال أبوبكر : ما رأتك؟ قال : «لا. ما زال ملك يسترني حتى ولت» ..

فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق ، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعرا (وكان الهجاء لا يكون إلا شعرا) مما نفاه لها أبوبكر وهو صادق! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله ، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا ، والنار في الآخرة جزاء وفاقا ، والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعا ...

* * *

٧٥٧

(١١٢) سورة الإخلاص مكيّة

وآياتها أربع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤)

هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة. قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها. فلما أصبح جاء إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكر ذلك له ـ وكأن الرجل يتقالها ـ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلاث القرآن» ..

وليس في هذا من غرابة. فإن الأحدية التي أمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يعلنها : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) .. هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة .. وقد تضمنت السورة ـ من ثم ـ أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة ..

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) .. وهو لفظ أدق من لفظ «واحد» .. لأنه يضيف إلى معنى «واحد» أن لا شيء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.

إنها أحدية الوجود .. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية.

وهي ـ من ثم ـ أحدية الفاعلية. فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا.

وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا ..

فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية.

خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود ـ إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا! ـ فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية. فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته!

٧٥٨

وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة .. فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق. يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله؟

ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها ـ وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه. ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله. لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله.

كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب. ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت .. وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني. ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) .. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) .. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) .. وغيرها كثير ..

وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود!

وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله. وأن لا وجود إلا وجوده. وأن لا فاعلية إلا فاعليته .. ولا يريد طريقا غير هذا الطريق!

* * *

من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات :

منهج لعبادة الله وحده. الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته.

ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا؟!

ومنهج للتلقي عن الله وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.

ومنهج للتحرك والعمل لله وحده .. ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود!

ومنهج يربط ـ مع هذا ـ بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب. فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها .. فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة. فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب!

٧٥٩

وهو منهج رفيع طليق .. الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية .. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب .. إنما معناه المحاولة المسترة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها .. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما. كما أسلفنا.

إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان. أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه .. وهذا هو الانطلاق. انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية. وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم ..

* * *

من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب. لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة. وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير. إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب.

والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص. ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات.

على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء. وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة. فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة ..

* * *

ومعنى أن الله أحد : أنه الصمد. وأنه لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد .. ولكن القرآن يذكر هذه التفريعات لزيادة التقرير والإيضاح :

(اللهُ الصَّمَدُ) .. ومعنى الصمد اللغوي : السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه. والله ـ سبحانه ـ هو السيد الذي لا سيد غيره ، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات ، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه ، ولا يقضي أحد معه .. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) .. فحقيقة الله ثابتة أبدية أزلية ، لا تعتورها حال بعد حال. صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال. والولادة انبثاق وامتداد ، ووجود زائد بعد نقص أو عدم ، وهو على الله محال. ثم هي تقتضي زوجية. تقوم على التماثل. وهذه كذلك محال. ومن ثم فإن صفة (أَحَدٌ) تتضمن نفي الوالد والولد ..

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .. أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ. لا في حقيقة الوجود ، ولا في حقيقة الفاعلية ، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية. وهذا كذلك يتحقق بأنه (أَحَدٌ) ولكن هذا توكيد وتفصيل .. وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلها يعاكس الله ـ بزعمهم ـ ويعكس عليه أعماله الخيرة

٧٦٠