في ظلال القرآن - ج ٢

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٢

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

١

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نمضي مع سورة النساء في هذا الجزء ، الذي يتضمن معظم أهداف السورة وموضوعاتها ، التي أجملنا الإشارة إليها في مطالعها في الجزء الرابع (١).

ونجد في هذا الجزء من الأهداف الأساسية للسورة والموضوعات الرئيسية عناصر كثيرة :

نجد في الدرس الأول بقية من تنظيم شؤون الأسرة ؛ وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة ؛ وحمايتها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية ؛ وحمايتها كذلك وحماية المجتمع معها من انتشار الفاحشة ، والاستهتار بالحرمات ، ووهن الروابط العائلية.

كذلك نجد بقية من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية. تتناول العلاقات المالية والتجارية ، كما تتناول بعض أحكام الميراث ، وحقوق الملكية للجنسين في المجتمع ..

وهذه التنظيمات وتلك تستهدف ـ كما قلنا في مطالع السورة ـ نقل المجتمع المسلم من النظام الجاهلي إلى النظام الإسلامي للحياة ؛ ومحو الملامح الجاهلية المترسبة ، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة ، والارتفاع بالجماعة المسلمة ـ التي التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية ـ والمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد. إلى القمة السامقة.

ثم نجد في الدرس الثاني عودة إلى تقرير أصول التصور الإسلامي ؛ تبين حد الإيمان وشرط الإسلام .. ليقوم هذا التقرير المستأنف قاعدة لبعض تنظيمات أخرى للتكافل الاجتماعي في الجماعة. التكافل الذي يبدأ من أضيق الحدود في الأسرة ، ثم يمتد ليشمل المحتاجين والضعاف في الجماعة كلها ، ومع الأمر بالبذل والتكافل نجد تقبيح البخل بالمال ، والاختيال بالثراء ، وكتمان النعمة ، والرياء في الإنفاق.

كما نجد في هذا الدرس جانبا من التربية النفسية بالعبادة التي بدأ بها ، والتطهر لأدائها ، واعتبار الخمر دنسا لا يتفق مع حال العبادة .. وذلك كخطوة في طريق تحريمها .. وفق المنهج التربوي الحكيم.

وفي الدرس الثالث نجد من موضوعات السورة الأساسية موقفا مع أهل الكتاب يتضمن كشفا لأهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة بالجماعة المسلمة ، وبيانا لطبيعة كيدهم ومكرهم ، وتعجيبا من أمرهم ، واعتبارهم عدوا للمسلمين. وتهديدهم بسوء المصير والعذاب الأليم.

__________________

(١) من ص ٥٤٤ إلى ص ٥٧١ من الجزء الرابع

٣

أما الدرس الرابع فيستهدف بيان معنى الدين ، وشرط الإيمان ، وحد الإسلام. بيانا حاسما جازما. يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي ، ومنهج المسلمين في الطاعة والاتباع والتلقي من الله وحده ، والتحاكم إلى منهج الله وحده ، واتباع حكم رسوله وطاعته .. كما يكشف عن تكاليف المسلمين في الأرض في أداء الأمانات إلى أهلها ، والحكم بين الناس بالعدل ، وإقامة منهج الله في حياة الناس ـ باعتبار هذا كله شرطا لتحقق الإيمان ـ مع التعجيب من أمر الذين يدعون الإيمان ، ثم لا يحققون شرطه الأول من التحاكم إلى الله ورسوله ، مع الرضى والتسليم المطلق .. والتوكيد بعد التوكيد على أنه لا إيمان ـ مهما ادعاه المدعون ـ إلا بتحقق هذا الشرط الواضح الصريح.

ومن ثم نجد في الدرس الخامس توجيه الجماعة المسلمة لحماية هذا المنهج الواضح بالقتال دونه ، والتنديد بالمعوقين والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد. واستجاشة الضمائر المؤمنة ، ببيان أهداف القتال ، لاستنقاذ الضعاف من المؤمنين من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وتمتيعهم بالحياة في ظل ذلك المنهج الرفيع الكريم ، وبيان حقيقة الأجل والقدر ، لتطهير القلوب من الخوف والفزع .. وينتهي الدرس بأمر للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يمضي إلى الجهاد ، ولو لم يجد إلا نفسه! فلا مناص من المضي فيه للتمكين لهذا الدين ، وللمنهج الإلهي القويم.

وبمناسبة القتال نجد في الدرس السادس بيانا للكثير من قواعد المعاملات الدولية ، بين المعسكر الإسلامي وشتى المعسكرات المناوئة له ، والمهادنة ، والمعاهدة ، فليس الأمر أمر قوة وبطش وغلب ، ولكنه أمر مواجهة للواقع مع إقامة الحدود المنظمة للعلاقات الإنسانية ، في المعسكرات المختلفة الاتجاه ..

وفي الدرس السابع نجد الحديث عن الجهاد بالأموال والأنفس ، في صدد التنديد بالقاعدين عن الهجرة في دار الكفر ، حيث يفتنون عن دينهم ، بينما دار الإسلام قائمة ، وراية الدين فيها عزيزة كريمة .. وينتهي هذا الدرس أيضا بالتحضيض للمؤمنين على القتال ، ومتابعة أعدائهم ، وعدم الوهن في طلبهم ، وبيان حقيقة موقف المؤمنين وموقف أعدائهم ، واختلاف وجهتهم ومصائرهم وجزائهم.

وفي الدرس الثامن نستشرف تلك القمة السامقة في العدل الإسلامي ، في قصة اليهودي الذي اتهم ظلما ، وقامت الشهادات الملفقة ضده ، فنزل القرآن من الملأ الأعلى يبرئ هذا اليهودي .. مع كل ما كانت تكيده يهود للإسلام والمسلمين. ولكن العدل الإسلامي الإلهي هو العدل الذي لا يتأثر بالمودة أو الشنآن. وهو القمة السامقة التي لم تبلغ إليها البشرية قط إلا في ظلال هذا المنهج الرفيع الفريد (١).

والدرس التاسع جولة مع الشرك والمشركين ، وخرافات الشرك وآثاره في إنشاء الشعائر الضالة ، والتصورات السخيفة! مع تصحيح الأوهام والأماني الزائفة عن عدل الله. وتقرير الجزاء على أساس العمل لا الأماني والأوهام. وتوكيد أن الإسلام هو وحده الدين ، وهو ملة إبراهيم.

ويعود الدرس العاشر إلى النساء ؛ وحقوقهن ـ وبخاصة اليتامى منهن ـ وحقوق المستضعفين من الولدان ـ وهو الموضوع الذي بدأت به السورة ـ وإلى الإجراءات التي يعالج بها موقف النشوز والإعراض من جانب الزوج. مع بيان حدود العدل المطلوب في معاشرة الزوجات ، والذي لا تستقيم العشرة بدونه ، ويكون خيرا منها الفرقة ، عند ما يتعذر الإصلاح ..

__________________

(١) يرجع إلى قصة ذلك اليهودي في التمهيد للسورة في الجزء الرابع ص ٥٧٠ ـ ٥٧١.

٤

والتعقيب على هذه الأحكام المتعلقة بالأسرة ، والعدل في المعاشرة يربط هذه الأحكام والتوجيهات بالله ، وملكيته للسماوات والأرض ؛ وقدرته على الذهاب بالناس واستبدال غيرهم بهم ـ فيدل على ضخامة الأمر ، وعلاقته بحقيقة الألوهية الهائلة .. ومن ثم يستجيش تقوى الله في الضمائر ؛ ويستطرد إلى دعوة الذين آمنوا إلى العدل المطلق في معاملاتهم كلها ، وفي أحكامهم جميعها .. على طريقة القرآن في الاستطراد من القطاع الضيق الخاص ، إلى المحيط الشامل العام.

ثم يجيء الدرس الأخير في هذا الجزء. وهو يكاد يكون مقصورا على التنديد بالنفاق والمنافقين ؛ ودعوة المؤمنين إلى الإيمان الجاد الواضح المستقيم ؛ وتحذيرهم من الولاء لغير الجماعة المسلمة وقيادتها الخاصة ، ومن التهاون والتراخي في دينهم مجاملة أو مراعاة للعلاقات الاجتماعية أو المصلحية مع المنافقين وأعداء هذا الدين. فهذه سمة من سمات النفاق ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. والمنافقون هم الذين يتولون الكافرين.

ويختم الدرس ، ويختم الجزء معه بتقرير حقيقة مؤثرة عن صفة الله سبحانه ، وعلاقته بعباده ، والحكمة في عقابه للمنحرفين والضالين. وهو ـ سبحانه ـ لا حاجة به إلى عقاب مخاليقه لو آمنوا وشكروا : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) ..

وهو تعبير عجيب يوحي للقلب برحمة الله ، واستغنائه ـ سبحانه ـ عن تعذيب الناس ، لو استقاموا على منهجه ، وشكروا فضله في هذا المنهج ومنته .. ولكنهم هم الذين يشترون العذاب لأنفسهم بالكفر والجحود ، وما ينشئه الكفر والجحود من فساد في الأرض ، وفساد في النفس ، وفساد في الحياة.

* * *

وهكذا يضم الجزء جناحيه على هذا الحشد من الأهداف والموضوعات ، وعلى هذا المدى من الأشواط والأبعاد .. فنكتفي في التقديم له بهذه الإشارات الخاطفة ، ريثما نستعرض النصوص فيما يلي بتوفيق الله ...

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ

٥

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)

هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة ، على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحياة الإنسانية في مجراها الفطري الهادئ الصالح ، كما يترتب على انحرافها عنه فساد في الأرض كبير.

وهذا الدرس يتضمن تكملة لبيان المحرمات من النساء. ثم يحدد الطريقة التي يحب الله أن يجتمع عليه الرجال والنساء في مؤسسة الأسرة النظيفة. ويكشف عما في هذه الطريقة من تيسير على الناس وتخفيف ، إلى جانب نظافتها وطهارتها. ويقرر القواعد التنظيمية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأساسية ، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق الطرفين المتعاقدين فيها.

وإلى جانب هذا التنظيم في الأسرة يتطرق إلى شيء من التنظيم لبعض علاقات المجتمع المسلم في الأموال ؛ فيبين حقوق الرجال والنساء ، في المال المكتسب ، والمال الموروث. وما يتبع كذلك في تصفية ما كان من عقود التوارث بالولاء بين غير الأقارب.

٦

ومما يلاحظ ـ بوجه عام ـ أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله. وهي مقتضى ألوهيته. فأخص خصائص الألوهية ـ كما كررنا ذلك في مطلع السورة ـ هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم.

والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية. ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم .. وهي إشارة ذات مغزى .. فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة .. هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله!!!

والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التي يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس (١).

وسنرى ـ عند استعراض النصوص بالتفصيل ـ مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لو لا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عند ما ترين الجاهلية على القلوب والعيون!

* * *

«والمحصنات من النساء ـ إلا ما ملكت أيمانكم ـ كتاب الله عليكم ـ وأحل لكم ـ ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليما حكيما. ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ـ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ـ فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ـ ذلك لمن خشي العنت منكم ـ وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم. يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا» ..

* * *

لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية. وذلك في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ـ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ـ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، وَبَناتُكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ ، وَخالاتُكُمْ ، وَبَناتُ الْأَخِ ، وَبَناتُ الْأُخْتِ ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ،

__________________

(١) يراجع بتوسع فصل : «الربانية» في كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وفصل : «تخبط واضطراب» في كتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة». «دار الشروق».

٧

وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ـ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ـ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ـ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ـ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ـ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ـ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

أما هذه التكملة :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ...)

فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين. محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن. لا يحل نكاحهن ... وذلك تحقيقا للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من «شيوعية» الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها.

والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان ـ وهو الحفظ والصيانة ـ هي أكمل نظام يتفق مع فطرة «الإنسان» وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنسانا ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية ـ وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها ـ ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير. وسلم البيت. وسلم المجتمع في نهاية المطاف (١).

والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر. كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادرا على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية ـ التي يتميز بها الإنسان ـ تمتد إلى فترة طويلة أخرى.

وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى ـ بين الرجل والمرأة ـ ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم ـ وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية ـ تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة.

ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان ؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع. ولم يعد «الهوى» الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى. إنما الحكم هو «الواجب» ... واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادرا على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني.

وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح. كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة. والذي يجعل «الواجب» لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع في

__________________

(١) تراجع بتوسع فصول : «سلام الضمير» و «سلام المجتمع» من كتاب «السلام العالمي والإسلام». «دار الشروق».

٨

أثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى.

وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه ـ وهو «الواجب» لإحلال «الهوى» المتقلب ، و «النزوة» العارضة ، و «الشهوة» الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع ؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه.

ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي ، وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة. وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي!

كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللا ذلك بأنه لم يعد يحبها : «ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ وأين التذمم؟» .. مستمدا قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده : «وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» .. وذلك للإمساك بالبيوت ـ ما أمكن ـ ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشئ في هذه البيوت ؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح!

وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة!

إن أقلاما دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى خدين ؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا «رباطا مقدسا»! بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج «عقد بيع للجسد»!

والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : «والمحصنات من النساء» .. فيجعلهن «محرمات».

هذا قول الله. وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه ... «والله يقول الحق وهو يهدي السبيل».

إن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله. ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله. ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله .. والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها .. ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى .. إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله ـ لا المجتمع الإسلامي وحده ـ تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان. وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى. أمانة الحياة الإنسانية المترقية. وذلك بحرمانه من

٩

الأطفال المؤهلين ـ في جو الأسرة الهادئ ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح ـ للنهوض بأمانة الجنس البشري كله. وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس «العواطف» وحدها ، وتنحية «الواجب» المطمئن الثابت الهادئ!

وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه ؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة. لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة. وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه. ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره. إلا أن يرحمه‌الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها ؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم. وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها.

* * *

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ـ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ..).

وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب. حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار. ويصبحن غير محصنات. فلا أزواج لهن في دار الإسلام. ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة ؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل. ويصبح بعدها نكاحهن حلالا ـ إن دخلن في الإسلام ـ أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين. سواء أسلمن أم لم يسلمن.

ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها (١) .. كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ؛ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ؛ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) .. في سورة «محمد» في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما.

ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلا كبيرا. ولم يكن له بد من ذلك. حيث كان استرقاق الأسرى نظاما عالميا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد. وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقا ؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارا. فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة!

ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم. فكيف يصنع بهن؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن. فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات. لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة (٢)

__________________

(١) ص ٢٣٠ ـ ص ٢٣١.

(٢) لا يتحتم النكاح لإحلال السبية إذا دخلت في الإسلام. ولكنه فقط يصير جائزا.

١٠

فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال ووطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات ـ بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن ، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب.

* * *

وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل. المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل ، أو يشرع للناس شيئا في أمور حياتهم جميعا :

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ..

هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه .. فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفا يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم .. إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه .. فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة ؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك.

ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين ـ على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء. وقد كان يسمى عندهم «مقيتا» نسبة إلى المقت! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ..

هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي. فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :

إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه. باعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير. فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف. فالجاهلية بكل ما فيها ـ والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح ـ باطلة بطلانا أصليا. باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها. والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة ؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها ؛ لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف ..

فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي ؛ مستندا إلى هذا الأصل. إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه. أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية.

كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على «العرف» في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو ـ بأمر الله ـ فتصبح للعرف ـ في هذه المسائل ـ قوة الشريعة ، استمدادا من سلطان الشارع ـ وهو الله ـ لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل. فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان .. كلا .. إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل. وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله. وهو وحده مصدر السلطان. وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ؟) فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع. فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله؟

هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تقرره وتؤكده النصوص القرآنية

١١

في كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانا. أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبا بقوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح.

وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي. من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص. فكون الأصل في الأشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه. فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته. إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله. وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان.

* * *

فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج ، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت ، وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ـ ما وَراءَ ذلِكُمْ ـ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ .. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ .. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ـ فَرِيضَةً ـ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ..

ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم ـ أي لأداء صداقهن ـ لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح! ومن ثم قال :

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ..

وجعلها قيدا وشرطا للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث. ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبتة : «محصنين» بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : «غير مسافحين» زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين .. ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها .. علاقة النكاح .. وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها .. علاقة المخادنة أو البغاء .. وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفا بها كذلك من المجتمع!

جاء في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ :

«إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم. يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بيته ، فيصدقها ثم ينكحها .. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته ـ إذا طهرت من طمثها ـ أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .. ونكاح آخر. يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ،

١٢

فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك» (١)

فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه ـ سواء منه المخادنة والبغاء ـ والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه .. أما الثاني فما ندري كيف نسميه!!!

والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله .. فهو إحصان .. هو حفظ وصيانة .. هو حماية ووقاية .. هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة. ففي هذه القراءة «محصنين» بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : «محصنين» بصيغة اسم المفعول. وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة. وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال. إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة.

والآخر : سفاح .. مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطئ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها. فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة. يريقانه في السفح الواطئ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار! وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين. ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة. وذلك من بدائع التعبير في القرآن (٢).

فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال. عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها. فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل ـ وهن ما وراء ذلكم من المحرمات ـ فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان ـ أي عن طريق النكاح (الزواج) لا عن أي طريق آخر ـ وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض. وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل ـ كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية ـ وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية. وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده! كأنهما بهيمتان! أو شيئان!

وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعر هما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها ـ كله أو بعضه ـ بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية ـ ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه. فهذا شأنه الخاص. وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب النكاح.

(٢) يراجع كتاب : «التصوير الفني في القرآن» فصل : «التناسق» وفصل «طريقة القرآن» .. «دار الشروق».

١٣

ثم يجيء التعقيب. يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ..

فهو الذي شرع هذه الأحكام. وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة .. فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته ـ وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه ـ ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ...

* * *

فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة ؛ أو خشي الفتنة : «ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ـ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ـ فانكحوهن بإذن أهلهن ؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف ـ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ـ فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم».

إن هذا الدين يتعامل مع «الإنسان» في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته. وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية .. وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد .. إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه. فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع! إنما هو يعتبر واقع «الإنسان» في فطرته وحقيقته .. واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع .. فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية .. أية جاهلية .. فمن الواقع كذلك مقدرته ـ بما ركب في فطرته ـ على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا! والله ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم «واقع الإنسان» كله ، لأنه يعلم «حقيقة الإنسان» كلها. هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه .. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟

وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ؛ ريثما يتم تدبير أمره .. إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل. وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال ـ حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين ـ وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين ـ كما جاء في الآية السابقة ـ لمن هن ملك يمينه. لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا. مباشرتهن إما بزواج منهن ـ إن كن مؤمنات ـ أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة .. ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج. لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك! وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ..)

إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول ـ أي القدرة على نكاح الحرة ـ ذلك أن الحرة تحصنها الحرية ؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها. فهن «محصنات» هنا ـ لا بمعنى

١٤

متزوجات ، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات ـ ولكن بمعنى حرائر ، محصنات بالحرية ؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة ، وما توفره للحياة من ضمانات. فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها ، وهي تخشى العار ، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة ، فهي تأبى السفاح والانحدار. ولا شيء من هذا كله لغير الحرة. ومن ثم فهي ليست محصنة ، وحتى إذا تزوجت ، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها ، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة. فضلا على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه .. مضافا إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر. فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور .. وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية ..

لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر ، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر. وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول. مع المشقة في الانتظار.

ولكن إذا وجدت المشقة ، وخاف الرجال العنت. عنت المشقة أو عنت الفتنة. فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة. فهو يحل ـ إذن ـ الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين.

ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر ، وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر :

فأولا يجب أن يكن مؤمنات :

(فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ..

وثانيا : يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن. فهذا حقهن الخالص.

(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

وثالثا : يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق : وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح.

لا مخادنة ولا سفاح : والمخادنة أن تكون لواحد. والسفاح أن تكون لكل من أراد.

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ).

وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعا من البغاء. وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر ، لحساب سادتهن. وكان لعبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه ـ أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها ، ويطهرهم ويزكيهم ، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك!

وكذلك جعل الإسلام طريقا واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء «الفتيات» ، هي طريق النكاح ، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة ، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم. وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقا مفروضا ، لا لتكون أجرا في مخادنة أو سفاح .. وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية ، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان ، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان ، لا راية الإسلام!

١٥

ولكن ـ قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية ـ ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عند ما واجهه المجتمع الإسلامي. إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات. ولا جواري. ولا إماء. إنما يسميهن «فتيات».

(فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ..

وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني ـ كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك ـ إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ..

وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة. إنما يسميهم «أهلا» :

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).

وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها. فمهرها إنما هو حق لها. لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له. فهذا ليس كسبا ، إنما هو حق ارتباطها برجل :

(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ..

وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال ، إنما هو النكاح والإحصان :

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) ..

وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية.

وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى «إنسانية» السادة! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه «الإنسانية» .. يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة «الإنسان» وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق.

ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة. وكلنا يعرف حكاية «الترفيه» أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال!

ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة ـ وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة ـ كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة ، وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة ـ بعد إحصانها ـ نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها.

(فَإِذا أُحْصِنَّ. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).

١٦

ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة. وهي عقوبة الجلد. ولا يكون في عقوبة الرجم. إذ لا يمكن قسمتها! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر. أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء. هل تكون هذا الحد نفسه ـ وهو نصف ما على الحرة البكر ـ ويتولاه الإمام؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه.

أما نحن ـ في ظلال القرآن ـ فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف.

إن هذا الدين يأخذ في اعتباره ـ كما قلنا ـ واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع! وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات. تجعل الواحدة ـ ولو كانت متزوجة ـ أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة. فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة. ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة.

قوام وسط. يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات.

كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف.

كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة. فكان يقول : «ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته ـ إن كان من بيئة كريمة ـ مصادرة نصف ماله. وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض» (١).

وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه «منو» وهو القانون المعروف باسم «منوشاستر» أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه. أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده ... إلخ (٢)

وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد (٣).

وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ وليأخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات «الواقع». وليجعل حد الأمة ـ بعد الإحصان ـ نصف حد الحرة قبل الإحصان. فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف. فهذا خلاف الواقع. ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة ـ وواقعها يختلف عن واقع الحرة. ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف!!! وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب إفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف «البيض» ما لا تغفره للضعاف «الملونين» والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت. والإسلام هو الإسلام .. حيث كان ..

ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة. فمن استطاع الصبر ـ في غير مشقة ولا فتنة ـ فهو خير. لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :

__________________

(١) مدونة جوستنيان ترجمة عبد العزيز فهمي.

(٢) كتاب : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي.

(٣) رواه الخمسة.

١٧

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

إن الله لا يريد أن يعنت عباده ، ولا أن يشق عليهم. ولا أن يوقعهم في الفتنة. وإذا كان دينه الذي اختاره لهم ، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي ، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية ، وفي حدود طاقتهم الكامنة ، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك .. ومن ثم فهو منهج ميسر ، يلحظ الفطرة ، ويعرف الحاجة ، ويقدر الضرورة. كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ، ولا يقف أمامهم ـ وهم غارقون في الوحل ـ يبارك هبوطهم ، ويمجد سقوطهم. أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي ، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء!

وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر ؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج ، وان تقوم عليهن البيوت ، وأن ينجبن كرام الأبناء ، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشئ ، وأن يحفظن فراش الأزواج .. فأما إذا خشي العنت : عنت المشقة عند الصبر ، وعنت الفتنة التي لا تقاوم ، فهناك الرخصة ، والمحاولة لرفع مستوى الإماء ، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن. فهن «فتياتكم» وهم «أهلهن». والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان. والله أعلم بالإيمان. ولهن مهورهن فريضة. وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح .. وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة .. ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف :

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر. ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء .. وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك. فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة ، ووراء كل اضطرار.

* * *

ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام ؛ وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي ، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية ؛ وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها. يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات ؛ وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ..

إن الله ـ سبحانه ـ يتلطف مع عباده ؛ فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم ، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم ـ سبحانه ـ وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه ، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم ؛ وليقول لهم : إنه يريد : أن يبين لهم ..

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ..

يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ؛ ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة ، وأن تتدبروها ، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب ؛ فهي ليست معميات ولا ألغازا ؛ وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية ؛ وأنتم أهل لإدراك حكمتها ؛ وأهل لبيان هذه الحكمة لكم .. وهو تكريم للإنسان ، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.

١٨

(وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ..

فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا. وهو منهج ثابت في أصوله ، موجد في مبادئه ، مطرد في غاياته وأهدافه .. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.

بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول ، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه .. إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله ، تجمعها آصرة المنهج الإلهي ، على اختلاف الزمان والمكان ، واختلاف الأوطان والألوان ؛ وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل ، ومن كل قبيل.

(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ..

فهو ـ سبحانه ـ يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ليرحمكم ... ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل ، والتوبة من المعصية. ليمهد لكم الطريق ، ويعينكم على السير فيه ..

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ...

فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات. ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات. العلم بنفوسكم وأحوالكم. والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم. والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء ...

* * *

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) ..

وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته ، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات ، ويحيدون عن منهج الله ـ وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات ـ فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام ، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع ، وشهوة تطاع ، وانحراف وفسوق وضلال.

فماذا يريد الله بالناس ، حين يبين لهم منهجه ، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم. يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.

وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات ، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله ، ولم يشرعها لعباده؟ إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد ، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.

وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة : ميدان تنظيم الأسرة ؛ وتطهير المجتمع ؛ وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة ، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء ؛ وتحريم ما عداها من الصور ، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون .. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟

فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة. وفيها إرادة التنظيم ، وإرادة التطهير ، وإرادة التيسير ، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.

وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال : ديني ، أو أخلاقي ، أو

١٩

اجتماعي .. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح ، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب ، ولا يسكن معه عصب ، ولا يطمئن معه بيت ، ولا يسلم معه عرض ، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم ، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار ، وكل هذا الفساد ، وكل هذا الشر باسم الحرية ، وهي ـ في هذا الوضع ـ ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة!

وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه ، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي ، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي ، الذي لا عاصم منه ، إلا منهج الله ، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله.

* * *

واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان ، فيما يشرعه له من منهج وأحكام. والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه ، ومراعاة اليسر فيما يشرع له ، ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ..

فأما في هذا المجال الذي تستهدفه الآيات السابقة ، وما فيها من تشريعات وأحكام وتوجيهات ، فإرادة التخفيف واضحة ؛ تتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة ، وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المأمون المثمر ، وفي الجو الطاهر النظيف الرفيع ؛ دون أن يكلف الله عباده عنتا في كبتها حتى المشقة والفتنة ؛ ودون أن يطلقهم كذلك ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد ولا قيد.

وأما في المجال العام الذي يمثله المنهج الإلهي لحياة البشر كلها فإرادة التخفيف تبدو كذلك واضحة ؛ بمراعاة فطرة الإنسان ، وطاقته ، وحاجاته الحقيقية ؛ وإطلاق كل طاقاته البانية. ووضع السياج الذي يقيها التبدد وسوء الاستعمال!

وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله ـ وبخاصة في علاقات الجنسين ـ شاق مجهد. والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح! وهذا وهم كبير ... فإطلاق الشهوات من كل قيد ؛ وتحري اللذة ـ واللذة وحدها ـ في كل تصرف ؛ وإقصاء «الواجب» الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والأخير ؛ وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم ؛ والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي ، ومن كل التزام اجتماعي .. إن هذه كلها تبدو يسرا وراحة وانطلاقا. ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة. وعقابيلها في حياة المجتمع ـ بل في حياة كل فرد ـ عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة ..

والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي «تحررت!» من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة ، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب. لو كانت هنالك قلوب!

لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة. حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية. وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة ؛ وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى ؛

٢٠