في ظلال القرآن - ج ٣

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٣

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٥٤

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بقيّة

سورة الأنعام

وأول

سورة الأعراف

الجزء الثّامن

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا الجزء الثامن مؤلف من شطرين : الشطر الأول هو بقية سورة الأنعام ـ التي سبق شطرها الأول في الجزء السابع ـ والشطر الثاني هو من سورة الأعراف ..

ولقد سبق التعريف بسورة الأنعام في الجزء السابع ؛ وسنحاول هنا أن نصل قارئ هذا الجزء بالتعريف الذي تضمنه ذلك الجزء. أما الكلام عن سورة الأعراف فسيجيء في موضعه ـ إن شاء الله ـ عند ما نواجه السورة.

* * *

تمضي بقية سورة الأنعام على منهج السورة الذي أوضحناه في التعريف بها في الجزء السابع. والذي يحسن أن نشير إليه ملخصا في فقرات مجملة :

جاء في التعريف بالسورة هذه الفقرات :

«إنها ـ في جملتها ـ تعرض «حقيقة الألوهية». تعرضها في مجالي الكون والحياة. كما تعرضها في مجالي النفس والضمير .. وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون .. وتعرضها في النشأة الكونية ، والنشأة الحيوية ، والنشأة الإنسانية ؛ كما تعرضها في مصارع الغابرين ، واستخلاف المستخلفين .. وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون ، وتواجه الأحداث ، وتواجه النعماء والضراء ؛ كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة ، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة .. وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق ، وهي موقوفة على ربها الخالق ...

«هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق .. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي ـ الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة (١) ـ وعلى منهج القرآن كله .. إنها لا تهدف إلى تصوير «نظرية» في العقيدة ، ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار .. إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق .. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد .. سلطان الله الذي لا سلطان غيره في الأرض ولا في السماء.

«ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد .. من أولها إلى آخرها .. فالله هو الخالق. والله هو الرازق ، والله هو المالك. والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان. والله هو العليم بالغيوب والأسرار. والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار .. وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة

__________________

(١) إشارة إلى ما سبق في التعريف بالقرآن المكي جملة في الجزء السابع : ص ١٠٠٤ ـ ١٠١٥

٣

العباد ؛ وألا يكون لغيره أمر ولا نهي ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم .. فهذا كله من خصائص الألوهية ، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله ، لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .. وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة ، والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية ، من كل درب ومن كل باب!

«والقضية الكبرى التي تعالجها السورة هي قضية «الألوهية والعبودية» في السماوات والأرض في محيطها الواسع ، وفي مجالها الشامل .. ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك .. المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة .. هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحريم والتحليل في الذبائح والمطاعم ؛ ومن حق تقرير الشعائر في النذور من الذبائح والثمار .. والأولاد .. وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة :

«فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم ـ إلا ما اضطررتم إليه ـ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم. إن ربك هو أعلم بالمعتدين. وذروا ظاهر الإثم وباطنه. إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه لفسق ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ... (١١٨ ـ ١٢١)

«وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فقالوا : هذا لله ـ بزعمهم ـ وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون. وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء ـ بزعمهم ـ وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ـ افتراء عليه ـ سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم. إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله ـ افتراء على الله ـ قد ضلوا وما كانوا مهتدين» ... (١٣٦ ـ ١٤٠).

«هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة ـ والجاهلية من حولها ـ التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة .. قضية التشريع والحاكمية .. ومن ورائها القضية الكبرى .. قضية الالوهية والعبودية التي تواجهها السورة كلها ، ويعالجها القرآن المكي كله ، كما يعالجها القرآن المدني أيضا ، كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.

«والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات ، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور ـ وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق الحاكمية والتشريع ـ وربطها بقضية العقيدة كلها .. قضية الألوهية والعبودية .. وجعلها مسألة إيمان أو كفر ، ومسألة إسلام أو جاهلية .. هذا الحشد ـ على هذا النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة ، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك ـ يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين. وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته. وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة ، من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.

٤

«كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر ـ جل أم حقر ، كبر أم صغر ـ وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين .. وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض ، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك (١) ..

* * *

هذه المناسبة التي كانت حاضرة في حياة الأمة المسلمة ـ والجاهلية من حولها ـ والتي عالجها سياق السورة على هذا النحو الذي سبقت الاشارة إليه في هذه المقتطفات .. هي هي موضوع بقية السورة التي سنعالجها في هذا الجزء. بعد ما مضى الشطر الأول من السورة في عرض قضية الألوهية والعبودية في محيطها الشامل ؛ وانتهى السياق إلى مواجهة هذه المناسبة الواقعية ، فربط بينها وبين القضية الكبرى ، ذلك الربط القوي المباشر.

إن السياق القرآني يحشد ـ لمواجهة تلك التقاليد الجاهلية في تحريم بعض المطاعم وتحليل بعضها ؛ وفي النذور من الثمار والأنعام والأولاد ـ حشدا ضخما من المؤثرات والتقريرات ؛ ويربطها بجملة من الحقائق والقواعد ، هي حقائق هذا الدين وقواعده الأساسية ؛ ويقدم لها ويعقب عليها تقدمات ضخمة وتعقيبات هائلة ؛ مما يدل على الأهمية البالغة التي ينوطها هذا الدين ، بتخليص الحياة كلها من قبضة الجاهلية ؛ وردها بجملتها إلى الإسلام .. أي إلى سلطان الله وحده ..

وهكذا يبدأ السياق بتقدمة لهذه القضية عن إحاطة مشيئة الله بالعباد جميعا : جنهم وإنسهم. وجريان الأحداث في هذه العوالم بمشيئته وقدره ؛ واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن ؛ وإمهاله لهم ، ليقترفوا ما هم مقترفون ؛ ولو شاء الله لقهرهم على الهدى ولكفهم عن الضلال قهرا أو لهداهم إلى الحق وشرح صدورهم له. أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم. فهم لا يعادون الرسل ، ولا يقترفون ما يقترفون ، خروجا على سلطان الله ومشيئته ؛ فهم أعجز من أن يخرجوا على سلطان الله ومشيئته. إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار والقدرة على الهدى وعلى الضلال ؛ وهم في قبضته على كل حال : «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، ولو شاء ربك ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون. ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون» ..

فإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل سنة يجري بها قدر الله. وأن هؤلاء الشياطين ، على كل ما يرتكبونه ، هم في قبضة الله. استنكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يبتغي «حكما» غير الله .. هكذا على الإطلاق ، في أي شأن وفي أي أمر .. ذلك أن تحكيم غير الله في شأن هذه المطاعم هو كالتحكيم لغير الله في كل شأن. وهو إقامة ربوبية غير ربوبية الله ينكرها رسول الله .. وأعقب ذلك تقرير أن كلمة ربه قد تمت بهذا الكتاب وبهذه الشريعة فلم يعد هناك قول لقائل ، ولا حكم لبشر. وحذر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يطيع البشر في دين الله ؛ فإن أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ؛ ولا علم عندهم يستيقن ؛ ومن يطعهم يضلوه. والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده .. وكان ذلك كله تمهيدا للأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ان كان المسلمون مؤمنين ، والنهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وتحذيرهم أن يطيعوا أولياء الشياطين في شيء من التحليل والتحريم. وإلا فهم مثلهم مشركون : وأنهيت الفقرة ببيان عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، والدوافع التي تدفع بالكافرين إلى هذا الذي يقترفون : «أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم

__________________

(١) ص ١٠١٧ ـ ١٠١٨ من الجزء السابع.

٥

الكتاب مفصلا ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .. فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم ـ إلا ما اضطررتم إليه ـ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين. وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون .. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ـ وإنه لفسق ـ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .. أو من كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته. سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون» ..

ثم يعود السياق فيقرر أن هدى المهتدين وضلال الضالين .. كلاهما إنما يتم بقدر من الله. وأن هؤلاء كهؤلاء في قبضة الله وسلطانه ، وفي اطار مشيئته وقدره : «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون». وينهي هذه الفقرة بتقرير أن ما مر من الأمر والنهي ، ومن الاعتقاد والتصور ، هو صراط الله المستقيم. فيربط بين ذلك الأمر والنهي وبين أصول الاعتقاد في مشيئة الله وقدره ، ويجعلهما حزمة واحدة. كما يجعلهما صراط الله المستقيم الذي يأمر الله العباد أن يسلكوه إليه ، لينتهوا إلى دار السلام والأمن عند ربهم وهو وليهم وناصرهم : «وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم ، وهو وليهم بما كانوا يعملون».

ولا تنتهي التعقيبات على مسألة الأمر والنهي في تناول الذبائح ، حتى يعرض السياق مصير شياطين الإنس والجن الذين يجادلون المؤمنين في هذه القضية ؛ وهم في قبضة الله ـ صاحب السلطان وصاحب الحكم في المصائر ـ وحتى يعرض سلطان الله كذلك في استخلاف من يستخلف في هذه الأرض ، والذهاب بمن يريد له أن يذهب. وتهديد من يركب رأسه منهم في الدنيا ـ بسبب ما منحه الله من حرية في اختيار طريقه ، ابتلاء من الله واختبارا ـ بانتهاء المهلة ؛ والأخذ بما كسب في فترة الابتلاء والاختبار : «ويوم يحشرهم جميعا : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس! وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. قال : النار مثواكم خالدين فيها ـ إلا ما شاء الله ـ إن ربك حكيم عليم. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون. ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون. وربك الغني ذو الرحمة ، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. إن ما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين. قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون» ..

بهذا الحشد العجيب من حقائق العقيدة الأساسية ، ومن المشاهد والمواقف والمؤثرات الموحية ؛ ومن تسليط

٦

الأضواء على حقائق المشيئة وحقائق الوجود الكوني وحقائق النفس البشرية ؛ والدوافع الظاهرة والخفية في حياة البشر. ومن التقريرات الشاملة عن سلطان الله في السماوات والأرض ؛ وفي الدنيا والآخرة ؛ وفي حياة البشر المستترة والظاهرة ... بهذا الحشد كله يواجه المنهج القرآني ظاهرة واحدة من ظواهر الجاهلية في الأكل أو عدم الأكل من ذبيحة .. فماذا؟ .. إنها القضية الأساسية في هذا الدين .. قضية الحاكمية ولمن تكون ... وبالتعبير المرادف .. قضية الألوهية والربوبية ولمن تكون .. ومن ثم تنال هذه الملابسة الجزئية كل هذا الاحتشاد والتجمع والاحتفال ..

وبمثل هذا الاحتشاد وهذا الاحتفال وهذا التجمع يواجه كذلك مسألة النذور في الجاهلية من الثمار والأنعام .. والأولاد ..

إن جاهلية العرب لم تكن تجحد الله البتة. ولم تكن تجعل معه إلها آخر يساويه! ولكنها إنما كانت تجعل معه آلهة ـ من دونه ـ أقل منه منزلة ورتبة! وكانوا يقولون : إنهم إنما يتخذون من هذه الآلهة شفعاء يقربونهم إلى الله .. وفي هذا كان شركهم. وبهذا كانوا مشركين!

وكان من شركهم كذلك أن يبتدعوا هم من عند أنفسهم ـ يقوم بذلك كهانهم ومشايخهم ـ شرائع وتقاليد في حياتهم ؛ ثم يزعمون أن الله شرعها لهم ، وأمرهم بها! .. إنهم لم يكونوا من التبجح في الشرك بحيث ينسبون هذه الشرائع إلى أنفسهم ؛ ويدعون أن لهم هم سلطة الحاكمية العليا التي يصدرون بها الشرائع مستقلين عن سلطان الله! لم يكونوا قد عرفوا بعد هذا التبجح الذي عرفه مشركو هذا الزمان ؛ ممن يدعون ـ من دون الله ـ السلطان .. وفي هذا كذلك كان شركهم ؛ وبهذا كانوا مشركين!

من هذه الشرائع والتقاليد التي ابتدعوها وزعموا أنها شريعة الله ما كانوا ينذرونه من الثمار والأنعام لله سبحانه ولآلهتهم المدعاة! ثم يتصرفون بعد ذلك على هواهم أو على هوى السدنة والكهنة «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله ، فهو يصل إلى شركائهم»!

ومنها ما كانوا ينذرونه من أولادهم للآلهة المزعومة ؛ وما كانوا يقتلونه من البنات اتباعا لعرف القبيلة! ومنها ما كانوا يحجرونه من الأنعام ومن الزروع ؛ لا يطعمه إلا من شاء الله ـ وهم الذين يزعمون تحريمها ، وهم كذلك الذين يعينون من هم الذين شاء الله أن يطعموها!

ومنها ما كانوا يحرمون ركوبه من الأنعام. كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي (١)!

ومنها ما كانوا يمنعون أن يذكر اسم الله عليه من الذبائح. زاعمين أن هذا من أمر الله!

ومنها ما كانوا يخصصونه ـ من الحمل الذي في بطون الأنعام ـ للذكور منهم دون الإناث. إلا إذا نزل ميتا فيشارك فيه الإناث .. وكانوا يجعلون هذا حراما وذلك حلالا!

ومنه الميتة التي كانوا يحلونها ويقولون : ذبحها الله. فهي حلال بذبح الله!

والقرآن يواجه هذا كله بحملة كاشفة ؛ يحشد فيها من المقررات الأساسية في العقيدة ؛ والمشاهد والحقائق المؤثرة ؛ ما يحشده في مواجهة قضية الشرك والإيمان في سياق السورة كله .. لأنها هي هي بعينها قضية الشرك والإيمان ، في صورة تطبيقية واقعة ..

ومن خلال هذه الحملة يتبين أن القضية هي قضية هذا الدين كما هي قضية هذه العقيدة. فهذه التشريعات

__________________

(١) يراجع تعريفها في سورة المائدة في الجزء السابع : ص ٩٨٩ ـ ٩٩٠.

٧

والتقاليد ، إنما زينها للمشركين شركاؤهم الذين يشرعونها لهم ليدمروا حياتهم ويلبسوا عليهم دينهم. وتلبيس الدين وتدمير الحياة كلاهما مرتبطان. فإما شرع الله فهو الدين الواضح والحياة السليمة ؛ وإما شرع غير الله فهو الدين الغامض والحياة المهددة بالردى : «وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم» ..

ويتبين أن الشياطين وراء هذا العدول عن شرع الله ودينه ، إلى شرع الشركاء ودينهم. وأن الشيطان وهو العدو المبين يقود خطى المشركين إلى الخسران والتدمير : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..

ويتبين أن التحريم والتحليل ـ بغير شرع الله ـ هو والشرك سواء. فهو شرك مثله ، وأن إحالة شيء من هذا كله إلى مشيئة الله القاهرة هو دعوى يدعيها المشركون في جميع العصور. فقد شاءت إرادة الله أن تعطي الناس قدرا من الاختيار تبتليهم به ؛ ومن ثم فلا قهر على الشرك في كل صوره ؛ إنما هو الابتلاء ، وهم غير مفلتين من قبضة الله على كل حال. «سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا. قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون. قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين».

ثم نجد موقفا للإشهاد على أن الله حرم هذا الذي يحرمونه ؛ يذكرنا بموقف الإشهاد على قضية الألوهية في أول السورة .. ذلك أنها قضية واحدة في الحقيقة. فمزاولة التشريع مزاولة لخصائص الألوهية .. وهي هي بذاتها القضية : «قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا. فإن شهدوا فلا تشهد معهم. ولا تتبع أهواء الذين كذّبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون» .. ويذكرنا التعبير «يعدلون» هنا بأنه هو بذاته اللفظ الذي استخدم في قضية الألوهية في أول السورة. كما ذكرنا في التعريف بالسورة (١).

ثم تختم هذه الحملة ببيان أن هذا الذي قرره الله في قضية التشريع والتقاليد في الثمار والأنعام والأولاد هو صراط الله المستقيم .. ذات التعبير الذي استخدم من قبل في قضية تحريم الذبائح وتحليلها .. كما استخدم بذاته في قضية الألوهية في أول السورة كما ذكرنا في التعريف بالسورة : «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».

ولا ينتهي السياق بهذا الحشد الذي اقتطفنا منه هذه الإشارات .. بل يمضي في طريقه يتحدث عن كتاب موسى الذي جاء لقوم موسى : (تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) وعن هذا الكتاب المبارك الذي نزله الله ليتبعه المسلمون ويتقوا لعلهم يرحمون. ولتنقطع حجتهم بأن الكتاب قد نزل على اليهود والنصارى من قبل. وأنهم هم لم يجئهم كتاب يفصل لهم كل شيء فيعرفوا ما شرعه الله حقا ؛ وما يقال لهم إنه من شرع الله افتراء!

يتبع هذا تهديد الذين لا يتبعون ما جاء به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويبقون على ما هم عليه من شرائع جاهلية ينسبونها إلى الله افتراء عليه ، ويتعللون بطلب الخوارق التي تحملهم على التصديق والاتباع .. تهديدهم بأن هذه الخوارق التي يطلبونها ستكون يوم تجيء هي فصل الخطاب ؛ حيث يتبعها الدمار والهلاك : «هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. قل : انتظروا إنا منتظرون» ..

__________________

(١) الجزء السابع : ص ١٠٠٤ ـ ١٠١٥

٨

ثم مفاصلة بين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والدين الذي جاء به والأمة المسلمة ؛ وبين أولئك الذين يحلون ويحرمون بغير شرع الله ؛ ويشترعون لأنفسهم ثم يزعمون أنها شريعة الله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) .. هكذا واضحة صريحة : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ..

وفي ختام السياق كله ـ السياق الذي واجه قضية الشرع والحكم هذه المواجهة بمناسبة تبدو في ظاهرها جزئية ـ يجيء الإيقاع الشامل لقضية العقيدة بجملتها ؛ ولقضية الدين برمتها .. العقيدة المستكنة في القلب والضمير. والدين الذي يترجم هذه العقيدة إلى نظام ومنهج للحياة : «قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ـ لا شريك له ـ وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين. قل : أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء؟ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم. إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم».

إنها جملة قضايا العقيدة والدين : في الدنيا والآخرة. في المحيا والممات. في العمل والجزاء. في العبادة والسلوك .. كلها يجمعها المنهج الرباني ليعقب بها في ذلك الإيقاع الجليل الرهيب الحبيب ، على قضية الحاكمية والتشريع ، ممثلة في أبسط مظاهرها في الحياة اليومية ومطاعمها ومشاربها! ذلك أنها هي قضية الألوهية والربوبية في أضخم مجالاتها وأخطر مواقفها ..

.. وهذا هو الإسلام. كما يعرضه مصدره الرباني الكريم ..

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(١١٣)

الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق ـ في نهاية الجزء السابع ـ ومتعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون! مما جعل بعض المسلمين أنفسهم

٩

يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون! ويقترحون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون!

والفقرة كلها جاءت هكذا :

«وأقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها. قل : إنما الآيات عند الله. وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ـ كما لم يؤمنوا به أول مرة ـ ونذرهم في طغيانهم يعمهون .. ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا ـ إلا أن يشاء الله ـ ولكن أكثرهم يجهلون» ..

ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع (١). فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص ؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها :

والحقيقة الأولى : هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال ... لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق. فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له .. ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق ، وهذه المعوقات يقول الله ـ سبحانه ـ للمؤمنين بشأنها :

«وما يشعركم أنها إذا جاءت (أي الآيات والخوارق) لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون» ..

فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى ، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك ـ بعد نزول الآية ـ فيمنعهم من الهدى كرة أخرى ..

إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته ؛ وفي الحق كذلك بذاته ؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية .. فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته ..

والحقيقة الثانية : هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء ؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه ـ وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو ـ فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذه بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات .. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة ، ومرد الأمر كله إليه في النهاية.

وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى :

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ـ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ـ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وفي قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ـ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ..

كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى :

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..

__________________

(١) ص ١١٦٩ ـ ١١٧٠ من هذه الطبعة المنقحة

١٠

كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ـ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ـ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ...) ..

فالأمر كله مرهون بمشيئة الله ، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى ، وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء ؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى ؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال .. بلا تعارض ـ في التصور الإسلامي ـ بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار (١).

والحقيقة الثالثة : هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء ، وتحت قهره وسلطانه سواء. فهم لا يملكون جميعا أن يحدثوا شيئا إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد .. ولكن المؤمنين يطابقون ـ في القدر المتروك لهم للاختيار ـ بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي ؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها ، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية ، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه. أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء ، ولا يحدثون شيئا إلا بقدره!

وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة. فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة ، ذلك أن هذا الشطر كله ـ كما بينا من قبل ـ يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها .. ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله. حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه ، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله. فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان ، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء.

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ـ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ..

(يقول ـ تعالى ذكره ـ لنبيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : «لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك» فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك ، ودلالة على نبوتك ، وأخبروهم أنك محق فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حق من عند الله ؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا (٢). ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك ـ إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) .. يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون

__________________

(١) يراجع فصل : «التوازن» في كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الأول. «دار الشروق»

(٢) يعنى مواجهة.

١١

أن ذلك كذلك. يحسبون أن الإيمان إليهم ، والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ، ومتى شاءوا كفروا. وليس ذلك كذلك ، ذلك بيدي. لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته).

وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح. ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح ـ التي أسلفناها ـ باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان .. إن الإيمان حدث والضلال حدث. وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). فأما السنة التي يجري على أساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان ، فهي التي تبينها مجموعة النصوص. وهي أن الإنسان مبتلى بقدر من الاختيار في الاتجاه. فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقق بقدر من الله. وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله. ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله .. وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه. وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة ، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة.

* * *

بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة ؛ هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها. ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية. وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة ..

الآيتان :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ـ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ـ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ).

.. كذلك .. كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق ، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس ، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية ..

كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء ، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن. وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى. وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويرضوه ، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ؛ ومن الضلال والفساد في الأرض ..

كل ذلك إنما جرى بقدر الله ؛ وفق مشيئته. ولو شاء ربك ما فعلوه. ولمضت مشيئته بغير هذا كله ؛ ولجرى قدره بغير هذا الذي كان. فليس شيء من هذا كله بالمصادفة. وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة!

فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم ، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم .. إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله ، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حمكة الله من وراء ما يجري في الأرض ؛ بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه ..

«وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ، شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا» ..

١٢

بإرادتنا وتقديرنا ، جعلنا لكل نبي عدوا .. هذا العدو هو شياطين الإنس والجن .. والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن. وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطانا ؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية .. وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه! وقد ورد : «الكلب الأسود شيطان».

هؤلاء الشياطين ـ من الإنس والجن ـ الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي ، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف ، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض ـ ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر ـ ويغر بعضهم بعضا ، ويحرض بعضهم بعضا على التمرد والغواية والشر والمعصية ..

وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض ، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي ، وللحق الذي معه ، وللمؤمنين به ، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان.

فأما شياطين الجن ـ والجن كله ـ فهم غيب من غيب الله ، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها ، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها. فأما أولئك الذين يتترسون «بالعلم» لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن ، فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء ، في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا «يعلم» ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن «يفترضه» أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم .. وهذا لا يمكن أن ينفي ـ حتى لو تأكدت الفروض ـ أن أنواعا أخرى من الحياة وأجناسا أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا «العلم» عنها شيئا! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم «العلم» وجود هذه العوالم الحية الأخرى.

وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن ؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية ـ كإبليس وذريته ـ كما يتشيطن بعض الإنس .. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن ، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله ـ سبحانه ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضا. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين ، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه ـ في هيئته الأصلية ـ وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم ، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين.

وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى ، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس ؛ ويحاسب ؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقا ضعيفا لا حول له ولا قوة! وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ..

ولقد كان الله ـ سبحانه ـ قادرا ـ لو شاء ـ ألا يفعلوا شيئا من هذا .. ألا يتمردوا ؛ وألا يتمحضوا للشر ؛ وألا يعادوا الأنبياء ؛ وألا يؤذوا المؤمنين ؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله .. كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم

١٣

قهرا على الهدى ؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى ؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به .. ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله ـ بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره ـ وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه ؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) ..

فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟

يخلص لنا ابتداء : أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء .. هم «شياطين»!. شياطين من الإنس ومن الجن .. وأنهم يؤدون جميعا ـ شياطين الإنس والجن ـ وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضا ويضله كذلك مع قيامهم جميعا بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله ..

ويخلص لنا ثانيا : أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئا من هذا كله ، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده. من تمحيص هؤلاء الأولياء ، وتطهير قلوبهم ، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله. وآب أعداء الله بالضعف والخذلان ؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) ..

ويخلص لنا ثالثا : أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا ـ فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة ـ وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان ـ فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا : أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله ، على السراء وعلى الضراء سواء. وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادرا على ألا يكون شيء من هذا الذي كان!

ويخلص لنا رابعا : هو ان الشياطين من الإنس والجن ، وهو ان كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم ؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم .. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر ، وهو الذي يأذن ، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين ؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم :

(فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) ..

دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم ، مدخر لهم جزاءهم ..

وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين ، وابتلاء المؤمنين .. لقد قدر الله أن يكون هذا العداء ، وأن يكون هذا الإيحاء ، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع .. لحكمة أخرى :

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .. فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا. وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي ، وينالون بالأذى أتباع كل نبي ، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل. فيخضعون للشياطين ، معجبين بزخرفهم الباطل ، معجبين بسلطانهم الخادع. ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد. في ظل ذلك الإيحاء ، وبسبب هذا الإصغاء ..

١٤

وهذا أمر أراده الله كذلك وجرى به قدره. لما وراءه من التمحيص والتجربة. ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.

ثم لتصلح الحياة بالدفع ؛ ويتميز الحق بالمفاصلة ؛ ويتمحض الخير بالصبر ؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة .. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله .. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء .. إنها مشيئة الله ، والله يفعل ما يشاء ..

والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية ، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة .. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة :

إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون .. شياطين الإنس والجن .. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة .. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه .. خطة مقررة فيها وسائلها .. «يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا» .. يمد بعضهم بعضا بوسائل الخداع والغواية ؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله .. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ؛ ويعين بعضهم بعضا على الضلال أيضا! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبدا. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلا!

ولكن هذا الكيد كله ليس طليقا .. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره .. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد ـ على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه ـ مقيدا مغلولا! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع ـ كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم .. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله ـ في حدود الابتلاء ـ ومرد الأمر كله إلى الله.

ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها .. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين ، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود ، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أولا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق ، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين ، وكيد الشياطين ، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) ..

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ

١٥

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٧)

الآن نجيء إلى القضية التي تعالجها بقية السورة ؛ والتي كان التمهيد لها مطردا في سياق السورة كله ؛ وآخر هذا التمهيد ما ساقه من قضايا العقيدة الكبيرة ؛ ومن واقع المعركة العقيدية الطويلة في الآيتين السابقتين. ومن تقرير سلطان الله المطلق فيما يقع من المعركة بين شياطين الإنس والجن وكل نبي. ومن قواعد الهدى والضلال وسنة الله التي يجري وفقها الضلال والهدى ... إلى آخر ما استعرضناه في الصفحات السابقة.

الآن نجيء إلى القضية التي جعلت هذه المقدمات كلها قاعدة لها .. قضية الحل والحرمة فيما ذكر اسم الله

١٦

عليه وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح .. وهي تأخذ أهميتها من ناحية تقرير المبدأ الإسلامي الأول : مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده ؛ وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور .. وحين تكون القضية هي قضية هذا المبدأ فإن الصغيرة تكون كالكبيرة في تحقيق هذا المبدأ أو نقضه .. ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة يؤكل منها أولا يؤكل ؛ أو أن يكون أمر دولة تقام أو نظام مجتمع يوضع. فهذه كتلك من ناحية المبدأ. وهذه كتلك تعني الاعتراف بألوهية الله وحده ؛ أو تعني رفض هذه الألوهية.

والمنهج القرآني يتكئ كثيرا جدا على هذا المبدأ لتقريره في كل مناسبة. ولا يمل تكراره حيثما جاءت مناسبته أمام كل تشريع للصغير وللكبير من الأمور .. ذلك أن هذا المبدأ هو العقيدة ، وهو الدين ، وهو الإسلام ؛ وليس وراءه من هذا الدين كله إلا التطبيقات والتفريعات.

وسنجد في هذا المقطع من السورة ـ كما سنجد في بقيتها إلى ختامها ـ أن تقرير هذا المبدأ يكرر في صور شتى ؛ بمناسبة عرض شرائع الجاهلية وتقاليدها ؛ ويتضح ارتباط هذه الشرائع والتقاليد بالشرك والاستكبار عن الإسلام ؛ وانبثاقها من نقطة إقامة ألوهية أخرى غير ألوهية الله ، ومن ثم يسلط عليها القرآن هذه الحملات العنيفة ، المنوعة الأساليب ، ويربطها هذا الربط بأصل الاعتقاد وأصل الإيمان والإسلام.

* * *

إن السياق يبدأ بتقرير جهة الحاكمية في أمر العباد كله ـ تمهيدا لتقرير جهة الحاكمية في التحليل والتحريم في الذبائح ، الأمر الذي يزاول فيه المشركون حق الحاكمية افتراء على الله واعتداء على سلطانه ـ ويمهد لهذا الأمر تمهيدا طويلا كما نلحظ من سياق الآيات في هذا الموضع :

«أفغير الله أبتغي حكما ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين».

هذا التمهيد كله يجيء قبل أن يدخل في الموضوع الواقع الحاضر الذي يمهد له هذا التمهيد ، ثم يربطه ربطا مباشرا بقضية الإيمان أو الكفر :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ .. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ .. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ـ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).

وقبل أن ينتهي من عرض قضية التحليل والتحريم ـ بعد ذلك التمهيد كله ـ يفصل بين فقرتين بتوجيهات وتعقيبات أخرى ، تحوي مؤثرات قوية من الأمر والنهي والبيان والوعيد :

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) ..

ثم يستأنف الحديث في قضية التحليل والتحريم ؛ فيربطها مباشرة بقضية الإسلام والشرك :

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ـ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ـ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ .. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ..

ثم يمضي بعد ذلك شوطا آخر في الحديث عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان .. شوطا كأنه تعقيب على أمر التحليل والتحريم.

١٧

ومن هذا التتابع ، وهذا الربط ، وهذا التوكيد ، تتمثل طبيعة نظرة الإسلام لقضية التشريع والحاكمية ، في شؤون الحياة اليومية ..

* * *

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ، وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ..

إنه سؤال على لسان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للاستنكار. استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الإطلاق. وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله ، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه. ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالبا حكمه في أمر الحياة كله :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً؟) ..

ثم .. تفصيل لهذا الإنكار ، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئا مستنكرا غريبا .. إن الله لم يترك شيئا غامضا ؛ ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر ، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) ..

لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته. ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلا ، محتويا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة. كما أنه تضمن أحكاما تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة .. وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة .. هذا ما يقرره الله ـ سبحانه ـ عن كتابه. فمن شاء أن يقول : إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل .. ولكن ليقل معه .. إنه ـ والعياذ بالله ـ كافر بهذا الدين ، مكذب بقول رب العالمين!

ثم إن هناك من حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكما في شأن من الشؤون أمرا مستنكرا غريبا .. إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله ، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ..

ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة ، يخاطب الله بها المشركين .. سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا ـ كما وقع من بعضهم ممن شرح الله صدره للإسلام ـ أو كتموها وجحدوها ـ كما وقع من بعضهم ـ فالأمر في الحالين واحد ؛ وهو إخبار الله سبحانه ـ وخبره هو الصدق ـ أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق .. فالحق محتواه ؛ كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله ..

وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق. وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به ، ومن هذا الحق الذي يحتويه. وما يزالون ـ من أجل علمهم بهذا كله ـ يحاربون هذا الدين ، ويحاربون هذا الكتاب ، حربا لا تهدأ .. وأشد هذه الحرب وأنكاها ، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب ؛ إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر. وجعل غير الله حكما ، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة ، ولا يصبح لدين الله وجود. وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده ؛ يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه ؛ ولا تشاركها شريعة أخرى ، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى ، تستمد منها أوضاع المجتمع ، وأصول التشريعات ، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها

١٨

كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته! وأهل الكتاب ـ من صليبيين وصهيونيين ـ من وراء هذا كله ؛ ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة!

وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصّلا ؛ وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق ، يلتفت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن وراءه من المؤمنين به ؛ يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين ؛ وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب :

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ..

وما شك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا امترى. ولقد ورد أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ما نزل الله عليه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) .. قال : «لا أشك ، ولا أسأل».

ولكن هذا التوجيه وأمثاله ؛ وهذا التثبيت على الحق ونظائره ؛ تدل على ضخامة ما كان يلقاه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود ؛ ورحمة الله ـ سبحانه ـ به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت ..

ويمضي السياق في هذا الاتجاه ؛ يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت ؛ وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق ، بالغا ما بلغ كيدهم :

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

لقد تمت كلمة الله ـ سبحانه ـ صدقا ـ فيما قال وقرر ـ وعدلا ـ فيما شرع وحكم ـ فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان. ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم ، أو عادة أو تقليد .. ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه ..

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..

الذي يسمع ما يقوله عباده ، ويعلم ما وراءه ، كما يعلم ما يصلح لهم ، وما يصلحهم.

وإلى جانب تقرير أن «الحق» هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله الله ، يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه ؛ واتباعه لا ينتهي إلا إلى الضلال. وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن ؛ ويحذر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم ؛ مهما بلغت كثرتهم ؛ فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون :

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ..

ولقد كان أكثر من في الأرض ـ كما هو الحال اليوم بالضبط ـ من أهل الجاهلية .. لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله ، ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله. ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم ، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه .. ومن ثم كانوا ـ كما هو الحال اليوم ـ في ضلالة الجاهلية ؛ لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه ؛ ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال .. كانوا ـ كما هم اليوم ـ يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس .. والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال .. وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله .. هكذا على وجه الإجمال. وإن كانت المناسبة الحاضرة حينذاك كانت هي مناسبة

١٩

تحريم بعض الذبائح وتحليل بعضها كما سيجيء في السياق ..

ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو الله وحده. لأن الله وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد ، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ..

فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم. لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله ـ كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن .. ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات ، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء.

والله ـ سبحانه ـ يقرر هنا أنه هو ـ وحده ـ صاحب الحق في وضع هذا الميزان. وصاحب الحق في وزن الناس به ، وتقرير من هو المهتدي ، ومن هو الضال.

إنه ليس «المجتمع» هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة .. ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية ، فتتغير قيمه وأحكامه .. حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي ، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي. وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البر جوازي ، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي .. ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات! الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره .. الإسلام يعين قيما ذاتية له يقررها الله ـ سبحانه ـ وهذه القيم تثبت مع تغير «أشكال» المجتمعات .. والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي .. إنه مجتمع غير إسلامي .. مجتمع جاهلي .. مجتمع مشرك بالله ، لأنه يدع لغير الله ـ من البشر ـ أن يصطلح على غير ما قرره الله من القيم والموازين والتصورات والأخلاق ، والأنظمة والأوضاع .. وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق .. إسلامي وغير إسلامي .. إسلامي وجاهلي .. بغض النظر عن الصور والأشكال!!

* * *

بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح ، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ .. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ .. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ـ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ـ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ـ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ـ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ..

وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية ، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها.

إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه. والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه. ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ .. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) ..

٢٠