في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

تكن ظلمة الليل. ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء» ..

... «إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية. وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب (ذكور النحل) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل. والنحلة الملكية تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور ، وبيضا مخصبا في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات. والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد ، تهيأن أيضا لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه. ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث ، ولا يغذين سوى العسل واللقح. والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات» ..

«أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة ، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن. وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضا مخصبا. وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة ، وبيضا خاصا ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء ، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء! وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة ، وتبدو ضرورية لوجودها. ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية ، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة. وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة!

«والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر. وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه. ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا ـ على ضعفها ـ قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة ..

«وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا ، وذلك بدقة تفوق كثيرا حاسة السمع المحدودة عندنا. وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال ، كما لو كانت فوق طبلة أذنه. ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي! «إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد (بالون) من خيوط العنكبوت. وتعلقه بشيء ما تحت الماء. ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها ، وتحملها إلى الماء ، ثم تطلقها تحت العش. ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش. وعندئذ تلد صغارها وتربيها ، آمنة عليها من هبوب الهواء. فها هنا تجد طريقة النسج ، بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية!

وسمك «السلمون» الصغير يمضي سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به. والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه .. فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعدا إذا نقلت إلى نهير آخر أدركت توا أنه ليس جدولها. فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار ، قاصدة إلى مصيرها!

«وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل ، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك ، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها ، هاجرت من مختلف البرك والأنهار. وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا. وهناك تبيض وتموت. أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة ـ فإنها تعود أدراجها وتجد طريقها

٦٤١

إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها. ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة. ولذا يظل كل جسم من الماء آهلا بثعابين البحار. لقد قاومت التيارات القوية ، وثبتت للأمداد والعواصف ، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ. وهي الآن يتاح لها النمو. حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها. فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟ لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية ، أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية. والطبيعة تبطئ في إنما ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها (إذ أن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي) ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معا في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟!

... «وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك ، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية. وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة. ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها ، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما. ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة؟ وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي ، فضلا عن السلك اللاقط للصوت (إيريال)؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟! ...

«إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية. وهما يتيحان لنا الاتصال السريع. ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان. وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة».

«والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم! كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى ، والرياح ، وكل شيء يطير أو يمشي ، ليوزع بذوره. وأخيرا أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ! فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء. غير أنه شديد التكاثر ؛ حتى أصبح مقيدا بالمحراث ، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن ، وعليه أن يربي ويهجن ، وأن يشذب ويطعم. وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه ، وتدهورت المدنية ، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية!» ..

«وكثير من الحيوانات هي مثل «سرطان البحر» الذي إذا فقد مخلبا عرف أن جزءا من جسمه قد ضاع ، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة ؛ ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل ، لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان!

«وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين. وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلا منه. ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح ، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعا جديدة ، أو لحما أو عظاما أو أظافر أو أعصابا؟ ـ إذا كان ذلك في حيز الإمكان؟!

«وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد : فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها ، إذا تفرقت ، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل. ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين ، وتفرق هذان ، تطور منهما فردان. وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين. ولكنه يدل على أكثر من ذلك. وهو أن كل خلية في البداءة يمكن أن تكون فردا كاملا بالتفصيل. فليس هناك شك إذن ، في أنك أنت ، في كل خلية ونسيج!» ..

ويقول في فصل آخر :

«إن جوزة البلوط تسقط على الأرض ، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة ، وتتدحرج في حفرة ما من الأرض ،

٦٤٢

وفي الربيع تستيقظ الجرثومة ، فتنفجر القشرة ، وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه «الجينات» (وحدات الوراثة) وهي تمد الجذور في الأرض ، وإذا بك ترى فرخا أو شتلة (شجيرة) وبعد سنوات شجرة! وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين ، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة ، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها. وفي خلال مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماما الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين (١)».

وفي فصل ثالث يقول :

«وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءا من اللحم. أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى. وعليها أن تصنع ميناء الأسنان ، وأن تنتج السائل الشفاف في العين ، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن. ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها. ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى. ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءا من الأذن اليمنى ، بينما الأخرى تصبح جزءا من الأذن اليسرى.

... «وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب. وفي المكان الصواب»!

وفي فصل رابع ..

... «في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري. فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط ، ويحفر حفرة في الأرض ، ويخز الجندب في المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه ، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ .. وأنثى الدبور تضع بيضا في المكان المناسب بالضبط ، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى ، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها ، فيكون ذلك خطرا على وجودها. ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما ، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض .. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية ، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة!

«وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض ، وترحل فرحا ، ثم تموت. فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية ، وهي لا تعلم ما ذا يحدث لصغارها ، أو أن هناك شيئا يسمى صغارا .. بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها!

... «وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء. وينشئ النمل ما هو معروف «بمخزن الطحن» وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن ، بإعداد الطعام للمستعمرة. وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف ، وتكون الحبوب كلها قد طحنت ، فإن «أعظم خير لأكبر عدد» يتطلب حفظ تلك المئونة من الطعام. وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان ، فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود. ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي ، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه!

«وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منهما ما يحلو لك) إلى زرع أعشاش للطعام

__________________

(١) يراجع ما جاء عن رحلة النطفة الجنينية في سورة (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ..

٦٤٣

فيما يمكن تسميته «بحدائق الأعشاش». وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق (وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية) فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له.

«والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه ، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب. وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها ، تستخدم صغارها ـ التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير ـ لحياكتها معا! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ، ولكنه قد خدم الجماعة! «فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة ، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟

«لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك» .. انتهى ..

أجل. لا شك أن هناك خالقا أرشدها ، وأرشد غيرها من الخلائق. كبيرها وصغيرها. إلى كل ذلك .. إنه (الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ..

وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان. ووراءها حشود من مثلها كثيرة .. وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) .. في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه ؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف!

* * *

وبعد عرض هذا المدى المتطاول ، من صفحة الوجود الكبيرة ، وإطلاق التسبيح في جنباته ، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة ، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها :

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).

والمرعى كل نبات. وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا. فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها.

والمرعى يخرج في أول أمره خضرا ، ثم يذوي فإذا هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى. وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى.

والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية. وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى ... (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) .. والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى .. والآخرة هي التي تبقى.

* * *

وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة .. تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود ؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار العريض الجميل. والملحوظ أن معظم السور

٦٤٤

في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار. الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا (١).

* * *

بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأمته من ورائه :

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ـ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ـ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ..

وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) .. فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه.

وهي بشرى للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه. الذي كان يندفع بعاطفة الحب له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه .. إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه. حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه.

وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة. فهي من الله. والله كافلها وحافظها في قلب نبيها. وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه.

وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم ، أو ناموس دائم ، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك ، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها. فهي طليقة وراء الوعد والناموس. ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع ـ كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال ـ ومن ذلك ما جاء هنا :

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) .. فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى. ليظل الأمر في اطار المشيئة الكبرى ؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها. ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا ..

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) .. وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء .. فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا.

* * *

والبشرى الثانية الشاملة :

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ..

بشرى لشخص الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبشرى لأمته من ورائه. وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود .. وإن هاتين الكلمتين : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضا. فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود. الوجود الخارج من يد القدرة في يسر. السائر في طريقه بيسر. المتجه إلى غايته بيسر. فهي انطلاقة من نور ؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود ..

__________________

(١) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب : «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق».

٦٤٥

إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا. يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه .. إلى الله .. فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير ـ وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير ـ يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص. اليسر في يده. واليسر في لسانه. واليسر في خطوه. واليسر في عمله. واليسر في تصوره. واليسر في تفكيره. واليسر في أخذه للأمور. واليسر في علاجه للأمور. اليسر مع نفسه واليسر مع غيره.

وهكذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في كل أمره .. ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة ـ رضي الله عنها (١) ـ وكما قالت عنه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساما ضحاكا» وفي صحيح البخاري : «كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنطلق به حيث شاءت»!

وفي هديه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة.

جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في «ملابسه» : «كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة. وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه ـ كما رواه مسلم في صحيحه. عن عمر بن حريث قال : رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. وفي مسلم أيضا عن جابر ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه». وفي فصل آخر قال : «والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها. وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس. من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر. ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة .. إلخ» ..

وقال في هديه في الطعام : «وكذلك كان هديه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسيرته في الطعام ، لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا. فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله ـ إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم ـ وما عاب طعاما قط. إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ، ولم يحرمه على الأمة ، بل أكل على مائدته وهو ينظر. وأكل الحلوى والعسل ـ وكان يحبهما ـ وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزبرة ـ وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق ـ وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل ، وأكل القديد ، وأكل الدباء المطبوخة ـ وكان يحبها ـ وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب. وأكل التمر بالزبد ـ وكان يحبه ـ ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه صبر ... إلخ».

وقال عن هديه في نومه وانتباهه : «كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير ، تارة ، وعلى

__________________

(١) أخرجه الشيخان عن عائشة.

٦٤٦

الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود» ..

وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور ـ وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها ـ كثيرة جدا يصعب تقصيها. من هذا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (أخرجه البخاري) .. «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ...» (أخرجه أبو داود) .. «إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (أخرجه البخاري) .. «يسروا ولا تعسروا» (أخرجه الشيخان).

وفي التعامل : «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» (أخرجه البخاري) «المؤمن هين لين» (أخرجه البيهقي) «المؤمن يألف ويؤلف» (أخرجه الدارقطني). «إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم» (أخرجه الشيخان).

ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه ، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعا وتكوينا .. عن سعيد بن المسيب عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ أنه جاء للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : ما اسمك؟ قال : حزن (أي صعب وعر) قال : بل أنت سهل. قال : لا أغير اسما سمانيه أبي! قال ابن المسيب رحمه‌الله : «فما زالت فينا حزونة بعد»! (أخرجه البخاري) .. «وعن ابن عمر رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غير اسم عاصية وسماها جميلة» (أخرجه مسلم). ومن قوله : «إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» (أخرجه الترمذي) ..

فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها ، ويميل بها إلى اليسر والهوادة!

وسيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا.

وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وطبيعته :

«جاءه أعرابي يوما يطلب منه شيئا فأعطاه. قال له : أحسنت إليك؟ قال الأعرابي : لا. ولا أجملت! فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ؛ فأشار إليهم أن كفوا. ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي ، وزاده شيئا. ثم قال : أحسنت إليك؟ قال : نعم. فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرا. فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. قال : نعم. فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إن هذ الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي. أكذلك؟ فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها. وإني لو تركتم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» ..

فهكذا كان أخذه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للنفوس الشاردة. بهذه البساطة ، وبهذا اليسر ، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق .. والنماذج شتى في سيرته كلها. وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفي

٦٤٧

دعوته وفي أموره جميعا ..

هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة. فتكون طبيعتها من طبيعتها ، وحقيقتها من حقيقتها ، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها ـ بتيسير الله وتوفيقه ـ على ضخامتها ... حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل ، إلى عمل محبب ، ورياضة جميلة ، وفراح وانشراح ..

وفي صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١) .. (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٢) فقد جاء ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رحمة للبشرية. جاء ميسرا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم ، حينما شددوا فشدد عليهم.

وفي صفة الرسالة التي حملها ورد : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣) .. (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) .. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٥) .. (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٦) فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجا ولا مشقة. وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٧).

وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال .. العقيدة ذاتها سهلة التصور. إله واحد ليس كمثله شيء. أبدع كل شيء ، وهداه إلى غاية وجوده. وأرسل رسلا تذكر الناس بغاية وجودهم ، وتردهم إلى الله الذي خلقهم. والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف. وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه (٨)» .. والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٩) .. وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف ...

ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة ، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة. في هذه السمة الأصيلة البارزة. وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة. فهي الأمة الوسط ، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة. الميسرة الحاملة لليسر .. تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير ..

وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك .. ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتناسب في مداراتها متناسقة متجاذبة. لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد .. وملايين الملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي إحكام.

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٧

(٢) الأعراف : ١٥٧

(٣) القمر : ٢٢

(٤) الحج : ٧٨

(٥) البقرة : ٢٨٦

(٦) المائدة : ٦

(٧) الروم : ٣٠

(٨) أخرجه الشيخان

(٩) الأنعام : ١١٩

٦٤٨

وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية. وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد!

إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة .. صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ..

لقد أقرأه فلا ينسى (إلا ما شاء الله) ويسره لليسرى. لينهض بالأمانة الكبرى .. ليذكر. فلهذا أعدّ ، ولهذا بشر .. فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذا للقلوب ، ووسيلة للبلاغ. ذكر (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) .. والذكرى تنفع دائما ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيرا كان أو قليلا. ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب ..

وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ، ندرك عظمة الرسالة ، وضخامة الأمانة ، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى ، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما ؛ كي ينهض الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعبء التذكير ، وهو مزود بهذا الزاد الكبير.

فإذا نهض ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا العبء فقد أدى ما عليه ، والناس بعد ذلك وشأنهم ؛ تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم ، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى :

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ..

فذكرّ ... وسينتفع بالذكرى (مَنْ يَخْشى) .. ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى ، فيخشى غضب الله وعذابه. والقلب الحي يتوجس ويخشى ، مذ يعلم أن للوجود إلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فلن يترك الناس سدى ، ولن يدعهم هملا ؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر ، ومجازيهم بالقسط والعدل. ومن ثم فهو يخشى. فإذا ذكر ذكر ، وإذا بصر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) .. يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها. وهو إذن (الْأَشْقَى) الأشقى إطلاقا وإجمالا. الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها. الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموجباتها العميقة. والذي يعيش قلقا متكالبا على ما في الأرض كادحا لهذا الشأن الصغير! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى :

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ..

والنار الكبرى هي نار جهنم. الكبرى بشدتها ، والكبرى بمدتها ، والكبرى بضخامتها .. حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول. فلا هو يموت فيجد طعم الراحة ؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة. إنما هو العذاب الخالد ، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى!

وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ..

والتزكي : التطهر من كل رجس ودنس ، والله ـ سبحانه ـ يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ،

٦٤٩

فاستحضر في قلبه جلاله : (فَصَلَّى) .. إما بمعنى خشع وقنت. وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي ، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب ، والشعور بمهابته في الضمير .. هذا الذي تطهر وذكر وصلى (قَدْ أَفْلَحَ) يقينا. أفلح في دنياه ، فعاش موصولا ، حي القلب ، شاعرا بحلاوة الذكر وإيناسه. وأفلح في أخراه ، فنجا من النار الكبرى ، وفاز بالنعيم والرضى ..

فأين عاقبة من عاقبة؟ وأين مصير من مصير؟

* * *

وفي ظل هذا المشهد. مشهد النار الكبرى للأشقى. والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ..

إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى. فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها. وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها ..

وتسميتها (الدُّنْيا) لا تجيء مصادفة. فهي الواطية الهابطة ـ إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) .. خير في نوعها ، وأبقى في أمدها.

وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير. لا يقدم عليهما عاقل بصير.

* * *

وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة ، وعراقة منبتها ، وامتداد جذورها في شعاب الزمن ، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان :

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) ..

هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى. هذا الحق الأصيل العريق. هو الذي في الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى.

ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها ، ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر .. إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد. تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة. ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد. الصادر من مصدر واحد .. من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ..

* * *

٦٥٠

(٨٨) سورة الغاشية مكيّة

وآياتها ستّ وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦)

هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة. الباعثة إلى التأمل والتدبر ، وإلى الرجاء والتطلع ، وإلى المخافة والتوجس ، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب!

وهي تطوّف بالقلب البشري في مجالين هائلين : مجال الآخرة وعالمها الواسع ، ومشاهدها المؤثرة. ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع. ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف .. كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ. رصين ولكنه رهيب!

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) ..

٦٥١

بهذا المطلع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله ، ولتذكرهم بآياته في الوجود ، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد. وبهذا الاستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقرير ؛ الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير. وتسمى القيامة هذا الاسم الجديد : (الْغاشِيَةِ) .. أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها. وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء .. الطامة .. الصاخة .. الغاشية .. القارعة .. مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة.

وهذا الخطاب : (هَلْ أَتاكَ ..؟) كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحس وقع توجيهه إلى شخصه ، حيثما سمع هذه السورة ، وكأنما يتلقاه أول مرة مباشرة من ربه ، لشدة حساسية قلبه بخطاب الله ـ سبحانه ـ واستحضاره لحقيقة الخطاب ، وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه .. قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عباس ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن ميمون ، قال : مر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امرأة تقرأ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) فقام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني» ..

والخطاب ـ مع ذلك ـ عام لكل من يسمع هذا القرآن. فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر. يذكر به وينذر ويبشر ؛ ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس ؛ كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع. ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل.

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟) .. ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ..

إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم ؛ فهو أقرب إلى جو (الْغاشِيَةِ) وظلها .. فهناك : يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ؛ عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ، ولم تجد إلا الوبال والخسارة ، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا ، فهي : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) .. عملت لغير الله ، ونصبت في غير سبيله. عملت لنفسها ولأولادها. وتعبت لدنياها ولأطماعها. ثم وجدت عاقبة العمل والكد. وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد. ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب. وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء! ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) وتذوقها وتعانيها.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) .. حارة بالغة الحرارة .. (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) .. والضريع قيل : شجر من نار في جهنم. استنادا إلى ماورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم. وقيل : نوع من الشوك اللاطئ بالأرض ، ترعاه الإبل وهو أخضر ، ويسمى «الشبرق» فإذا جني صار اسمه «الضريع» ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع!

وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة. إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم ، الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية ، ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه ، وهو شوك لا نفع فيه ولا غناء .. من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم. وعذاب الآخرة

٦٥٢

بعد ذلك أشد. وطبيعته لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله!

وعلى الجانب الآخر : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ : فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) ..

فهنا وجوه يبدو فيها النعيم. ويفيض منها الرضى. وجوه تنعم بما تجد ، وتحمد ما عملت. فوجدت عقباه خيرا ، وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع. شعور الرضى عن عملها حين ترى رضى الله عنها. وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته ، ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم. وفي النعيم. ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع ، ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) .. عالية في ذاتها رفيعة مجيدة. ثم هي عالية الدرجات. وعالية المقامات. وللعلو في الحس إيقاع خاص.

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) .. ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية .. وهذه وحدها نعيم. وهذه وحدها سعادة. سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة. وضجة وصخب ، وهرج ومرج. ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر ، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو ، هي طرف من حياة الجنة ، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم.

وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء. ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس. تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها. وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة. مما لا يعرفه إلا من يذوقه!

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) .. والعين الجارية : الينبوع المتدفق. وهو يجمع إلى الري الجمال. جمال الحركة والتدفق والجريان. والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التي تنتفض وتنبض! وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي ، الذي يتسرب إلى أعماق الحس.

(فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) .. والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة .. (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) .. مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد! (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) .. والنمارق الوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح! (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) .. والزرابي البسط ذات الخمل «السجاجيد» مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء! وكلها مناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض. وتذكر هذه الأشياء لتقريبها إلى مدارك أهل الأرض. أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك. للسعداء الذين يقسم الله لهم هذا المذاق!

ومن اللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم ـ أو طبيعة العذاب ـ في الآخرة. فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك. وأهل الأرض يدركون بحس مقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها. فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلت الحواجز وانطلقت الأرواح والمدارك ، وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها ، وكان ما سيكون ، مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون!

إنما نفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر تصورنا أقصى ما يطيقه من صور اللذاذة والحلاوة والمتاع. وهو

٦٥٣

ما نملك تذوقه ما دمنا هنا. حتى نعرف حقيقته هناك. حين يكرمنا الله بفضله ورضاه.

* * *

وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر ، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر. الحاضر. الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر ، وتميز الصنعة ، وتفرد الطابع. الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة ، وشأنا غير شأن الأرض. وخاتمة غير خاتمة الموت :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ؟) ..

وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة. كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله. حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال (ممثلة لسائر الحيوان) على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة.

إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان .. السماء والأرض والجبال والحيوان .. وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها.

والمعجزة كامنة في كل منها. وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها. وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى. ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟) .. والإبل حيوان العربي الأول. عليها يسافر ويحمل. ومنها يشرب ويأكل. ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل. فهي مورده الأول للحياة. ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان. فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد ، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف. مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال .. ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء ..

لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل ؛ وهي بين أيديهم ، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد .. (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟) .. أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون : كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا! إنهم لم يخلقوها. وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه ، وتقطع بوجوده ؛ كما تشي بتدبيره وتقديره.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ؟) .. وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن. وأولى الناس بأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء. حيث للسماء طعم ومذاق ، وإيقاع وإيحاء ، كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء! السماء بنهارها الواضح الباهر الجاهر. والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر. والسماء بغروبها البديع الفريد الموحي. والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئة وحديثها الفاتر. والسماء بشروقها الجميل الحي السافر.

هذه السماء. في الصحراء .. أفلا ينظرون إليها؟ أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء؟ إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها. فلا بد لها من رافع ولا بد لها من مبدع. لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن. فالنظرة الواعية وحدها تكفي ...

٦٥٤

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ؟) .. والجبال عند العربي ـ بصفة خاصة ـ ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية ـ بصفة عامة ـ جلالا واستهوالا. حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين ، ويخشع للجلال السامق الرزين. والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله ؛ وتشعر أنها إليه أقرب ، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة. ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يتحنث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في غار حراء في جبل ثور. وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان! والجبال هنا (كَيْفَ نُصِبَتْ) لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء. (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ؟) .. والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك. فقد سطحت قبل أن يكونوا هم .. أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون : من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا؟

إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئا. بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي. وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب. وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق.

ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني ، وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود ..

إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال «منصوبة» السنان لا راسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام .. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة. ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال (١).

* * *

والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يلتفت إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته ، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة :

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ..

فذكر بهذا وذاك. ذكرهم بالآخرة وما فيها. وذكرهم بالكون وما فيه. إنما أنت مذكر. هذه وظيفتك على وجه التحديد. وهذا دورك في هذه الدعوة ، ليس لك ولا عليك شيء وراءه. عليك أن تذكر. فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه.

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) .. فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا. حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان. فالقلوب بين أصابع الرحمن ، لا يقدر عليها إنسان.

فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان لإزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول.

وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى.

__________________

(١) فصل التناسق الفني في كتاب : التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق».

٦٥٥

في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير ، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة ، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة ، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهمّ من آمن وهمّ من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة ، وتقل الاستجابة ، ويكثر المعرضون والمخاصمون.

ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة ، هذه التوجيهات المتكررة للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله .. ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان ..

ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول ، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. ولا يذهب المكذبون ناجين ، ولا يتولون سالمين. إن هنالك الله وإليه تصير الأمور :

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) ..

وهم راجعون إلى الله وحده قطعا ، وهو مجازيهم وحده حتما. وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ..

بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة. ودور كل داعية إليها بعده .. إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله. ولا مفر لهم من العودة إليه ، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه. غير أنه ينبغي أن يفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير. فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء ، بلا تقصير فيها ولا اعتداء ..

* * *

٦٥٦

(٨٩) سورة الفجر مكيّة

وآياتها ثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر .. ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال. ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع!

٦٥٧

في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد .. (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ..).

وفي بعض مشاهدها شد وقصف. سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : (كَلَّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) ..

وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة. تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ..

وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين. بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ ..).

ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : (كَلَّا. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) ..

ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم. فقد جاء بعده : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ...) إلخ» .. فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير!

ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها .. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي. بحسب تنوع المعاني والمشاهد. فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني (١). فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس!

فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل. فنعرضها فيما يلي بالتفصيل :

* * *

(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟) ..

هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق. ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة : (وَالْفَجْرِ) .. ساعة تنفس الحياة في يسر ، وفرح ، وابتسام ، وإيناس ودود ندي ، والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا ، وكأن أنفاسه مناجاة ، وكأن تفتحه ابتهال!

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى .. قيل هي العشر من ذي الحجة ، وقيل هي العشر من المحرم. وقيل هي العشر من رمضان .. وإطلاقها هكذا أوقع وأندى. فهي ليال عشر يعلمها الله. ولها

__________________

(١) فصل : التناسق الفني. في كتاب : التصور الفني في القرآن.

٦٥٨

عنده شأن. تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة. وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح ، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف!

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) .. يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب. جو الفجر والليالي العشر .. «ومن الصلاة الشفع والوتر» (كما جاء في حديث أخرجه الترمذي) وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو. حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة ، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة ، وروح الفجر الوضيئة.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) .. والليل هنا مخلوق حي ، يسري في الكون ، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لأناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر ، والليالي العشر. والشفع والوتر!

إنها ليست ألفاظا وعبارات. إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟

إنه الجمال .. الجمال الحبيب الهامس اللطيف. الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة. لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة.

ومن ثم يعقب عليه في النهاية : ـ (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)؟ وهو سؤال للتقرير. إن في ذلك قسما لذي لب وعقل. إن في ذلك مقنعا لمن له إدراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام ـ مع إفادتها التقرير ـ أرق حاشية. فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق!

* * *

أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ؟ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ؟ .. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ..

وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات. والخطاب للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابتداء. ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى (رَبَّكَ) فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة. وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد.

وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم .. مصرع : «عاد إرم» وهي عاد الأولى. وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية. وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال. في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن. وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد. وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) في ذلك الأوان ..

٦٥٩

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) .. وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام. وقد قطعت الصخر وشيدته قصورا ؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات ..

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) .. وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان. وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار.

هؤلاء هم (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) .. وليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال ..

إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد ؛ ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف ؛ وكذلك قال فرعون .. (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عند ما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد.

ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد ..

ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة .. وهو فساد أي فساد.

فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ..

فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم. فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب. حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.

ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان.

ومن قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تفيض طمأنينة خاصة. فربك هناك. راصد لا يفوته شيء. مراقب لا يند عنه شيء. فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه. فإن ربه هناك! .. بالمرصاد .. للطغيان والشر والفساد! وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج الذي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود. وقد كان القرآن ـ ولا يزال ـ يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك. وفق الحالات والملابسات. ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء. لتطمئن على الحالين. وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء.

* * *

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) .. يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ

٦٦٠