في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

فتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب. وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم. فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم؟ نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية. فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية).

والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى. وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر. وأنه هو الأصل الدائم للمسألة. وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية. فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال. ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير. وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه.

ويبقى الاسترقاق. وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة ، وتقاليد في الحرب عامة. ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) .. في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين. ومن ثم طبقه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا. وفادى ببعضهم أسرى المسلمين ، وفادى بعضهم بالمال. وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء.

فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى ، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) لا نقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق. فليس الاسترقاق حتميا ، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام.

وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم. ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث .. والله الموفق للصواب.

ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده ، لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرئ الإسلام منها! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا ، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير ، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول : إنه يرى خيرا مما يرى الله. إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه.

وذلك .. ـ أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى ـ (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) .. أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. فهي القاعدة الكلية الدائمة. ذلك أن «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» كما يقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى تكون كلمة الله هي العليا (١).

* * *

والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر ، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد ، لأنه يستعين بهم ـ حاشاه ـ على الذين كفروا. فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ؛ الابتلاء الذي تقدر به منازلهم :

__________________

(١) من حديث أخرجه أبو داود ـ بإسناده ـ عن أنس رضي الله عنه.

٤١

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) ..

إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين ، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار ، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء. إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق. تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض ، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة ، تكاد تكون ضائعة ، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله.

فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع ، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها ، أن يكونوا نمالا صغيرة. لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات. لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله.

إنما يتخذ الله المؤمنين ـ حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم ـ إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته. ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة. كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم. بل لا نتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها ، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير. وهو يبتليهم ، ويربيهم ، ويصلحهم ، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.

يريد ليبتليهم. وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات. فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به ، حتى تجاهد في سبيله ، فتقتل وتقتل ، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه ، ولا تستطيع الحياة بدونه ، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.

ويريد ليربيهم. فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه. ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص ، وينفي كل زغل ودخل ، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد ، والتطلع إلى وجه الله ورضاه. فترجح هذه وتشيل تلك. ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت ، وأنها تربت فعرفت ، وأنها لا تندفع بلا وعي ، ولكنها تقدر وتختار.

ويريد ليصلحهم. ففي معاناة الجهاد في سبيل الله ، والتعرض للموت في كل جولة ، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف ، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه. وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته. سواء سلم منه أو لاقاه. والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.

ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها ، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها ؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله. ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه .. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد. ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد ؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح ، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله!

ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب. وتيسير

٤٢

الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه. وكل ميسر لما خلق له. وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته.

ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله :

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ ، وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) ..

لن يضل أعمالهم .. في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم. فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه ، وانبعثت حماية له ، واتجاها إليه. وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع.

ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة .. حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله .. فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) .. ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا. تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه. طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء :

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) ..

فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله ، يظل يتعهدهم بالهداية ـ بعد الاستشهاد ـ ويتعهدهم بإصلاح البال ، وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض ؛ أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه ، وإشراقه وسناه. فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون. وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى. ويزيدها هدى. ويزيدها صفاء ، ويزيدها إشراقا. وهي حياة نامية في ظلال الله. وأخيرا يحقق لهم ما وعدهم :

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) ..

وقد ورد حديث عن تعريف الله الجنة للشهداء رواه الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا زيد بن نمر الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مرة ، عن قيس الجذامي ـ رجل كانت له صحبة ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يعطى الشهيد ست خصال : عند أول قطرة من دمه ، تكفر عنه كل خطيئة ؛ ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإيمان» .. تفرد به أحمد. وقد روى حديثا آخر قريبا من هذا المعنى. وفيه النص على رؤية الشهيد لمقعده من الجنة. أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه.

فهذا تعريف الله الجنة للشهداء في سبيله. وهذه هي نهاية الهداية الممتدة ، وإصلاح البال المستأنف بعد مغادرتهم لهذه الأرض. ونماء حياتهم وهداهم وصلاحهم هناك عند الله.

* * *

وفي ظل هذه الكرامة للذين قتلوا في سبيل الله. وفي ظل ذلك الرضى ، وتلك الرعاية ، وبلوغ ذلك المقام. يحرض الله المؤمنين على التجرد لله ، والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة ؛ ويعدهم على هذا النصر والتثبيت في المعركة ؛ والتعس والضلال لأعدائهم وأعدائه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ..

٤٣

وكيف ينصر المؤمنون الله ، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟

إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئا ، شركا ظاهرا أو خفيا ، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا ، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها ، وسرها وعلانيتها ، ونشاطها كله وخلجاتها .. فهذا نصر الله في ذوات النفوس.

وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة ، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة. ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ، فهذا نصر الله في واقع الحياة.

ونقف لحظة أمام قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) .. وقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) ..

وفى كلتا الحالتين. حالة القتل. وحالة النصرة. يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله. وهي لفتة بديهية ، ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عند ما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال. وعند ما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص ، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم.

إنه لا جهاد ، ولا شهادة ، ولا جنة ، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده ، والموت في سبيله وحده ، والنصرة له وحده ، في ذات النفس وفي منهج الحياة.

لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا. وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.

عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (١).

وليس هنالك من راية أخرى ، أو هدف آخر ، يجاهد في سبيله من يجاهد ، ويستشهد دونه من يستشهد ، فيحق له وعد الله بالجنة. إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف. من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!

ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية ، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة ، وألا يلبسوا برايتهم راية ، ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على ضيعة العقيدة.

لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا. العليا في النفس والضمير. والعليا في الخلق والسلوك. والعليا في الأوضاع والنظم. والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة. وما عدا هذا فليس لله. ولكن للشيطان. وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد. وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام. وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف.

وان عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف ، فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهية الأولى في شرط الله ..

__________________

(١) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.

٤٤

وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا. فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام. وعد الله لا يخلفه. فإذا تخلف فترة ؛ فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت (١). ذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم ـ فترة ـ نصر الله :

ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير : (يَنْصُرْكُمْ. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ..

إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر ، ويكون سببا فيه. وهذا صحيح. ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت. معنى التثبيت على النصر وتكاليفه. فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان ، وبين الحق والضلال. فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة. للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر. وفي عدم التراخي بعده والتهاون. وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء. ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء. وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر. ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن. والعلم لله.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ..

وذلك عكس النصر وتثبيت الأقدام. فالدعاء بالتعس قضاء من الله سبحانه بالتعاسة والخيبة والخذلان وإضلال الأعمال ضياع بعد ذلك وفناء ..

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ..

وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم ، وتصادمه من داخلها ، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيرا في كل زمان وفي كل مكان ، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!

وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله ، أن أحبط الله أعمالهم. وإحباط الأعمال تعبير تصويري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعا من المرعى سام. ينتهي بها إلى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت .. ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة ، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام. المنتفخة كبطون الأنعام ، حين ترعى من ذلك النبت السام!

* * *

ثم يلوي أعناقهم إلى مصارع الغابرين قبلهم في شدة وعنف :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ. وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) ..

وهي لفتة عنيفة مروعة ، فيها ضجة وفرقعة. وفيها مشهد للذين من قبلهم يدمر عليهم كل ما حولهم ، وكل مالهم ، فإذا هو أنقاض متراكمة ، وإذا هم تحت هذه الأنقاض المتراكمة. وذلك المشهد الذي يرسمه التعبير

__________________

(١) تراجع الظلال في سورة الحج عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) من ص ٢٤٢٤ إلى ص ٢٤٢٧ من جزء ١٧.

٤٥

مقصود بصورته هذه وحركته ، والتعبير يحمل في إيقاعه وجرسه صورة هذا المشهد وفرقعته في انقضاضه وتحطمه!

وعلى مشهد التدمير والتحطيم والردم ، يلوح للحاضرين من الكافرين ، ولكل من يتصف بهذه الصفة بعد ، بأنها في انتظارهم. هذه الوقعة المدمرة التي تدمر عليهم كل شيء وتدفنهم بين الأنقاض : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها)!

وتفسير هذا الأمر الهائل المروع الذي يدمر على الكافرين وينصر المؤمنين هو القاعدة الأصيلة الدائمة :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ...

ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه ، وفيه الكفاية والغناء ؛ وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير. لا تخليا من الله عن ولايته له ، ولا تخلفا لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده. ومن لم يكن الله مولاه فلا مولى له ، ولو اتخذ الإنس والجن كلهم أولياء. فهو في النهاية مضيع عاجز ؛ ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي يعرفها الناس!

* * *

ثم يوازن بين نصيب الذين آمنوا ونصيب الذين كفروا من المتاع بعد ما بيّن نصيب هؤلاء وهؤلاء فيما يشتجر بينهم من قتال ونزال. مع بيان الفارق الأصيل بين متاع ومتاع :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ..

والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع ؛ ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين ـ وهو نصيبهم في الجنة ـ والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه.

ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار. فالله هو الذي يدخلهم. وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع. وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح ، متناسقا في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح.

ونصيب الذين كفروا متاع وأكل (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) .. وهو تصوير زري ، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه ؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره ، والمتاع الحيواني الغليظ. بلا تذوق ، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح .. إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة ، ولا من اختيار ، ولا حارس عليه من تقوى ، ولا رادع عنه من ضمير.

والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل ، ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم ، وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع ، كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته ، والذي له قيم خاصة للحياة ؛ فهو يختار الطيب عند الله. عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة ، ولا يضعفها هتاف اللذة. ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام ، وفرصة متاع ؛ بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح!

إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان : أن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة ، المتلقاة من الله خالق الحياة. فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله.

* * *

٤٦

وتعترض سلسلة الموازنات بين الذين آمنوا والذين كفروا لفتة إلى القرية التي أخرجت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وموازنة بينها وبين القرى الهالكة وكانت أشد قوة منها :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) ..

وهي آية يروى أنها نزلت في الطريق بين مكة والمدينة في أثناء رحلة الخروج والهجرة ، تسلية للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتسرية عنه ؛ وتهوينا من شأن المشركين الجبارين الذين وقفوا في وجه الدعوة ، وآذوا أصحابها ، حتى هاجروا من أرضهم وأهلهم وأموالهم فرارا بعقيدتهم.

* * *

ثم يمضي في الموازنة بين حال الفريقين ؛ ويعلل لم كان الله ولي المؤمنين يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ، بعد النصر والكرامة في الدنيا؟ ولم كان الذين كفروا لا مولى لهم معرضين للهلاك في الدنيا ـ بعد حياة حيوانية هابطة ـ وللعذاب في الآخرة والثوي في النار والإقامة :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟) ..

فهو فارق أصيل في الحالة التي عليها الفريقان ، وفي المنهج والسلوك سواء. فالذين آمنوا على بينة من ربهم .. رأوا الحق وعرفوه ، واستيقنوا من مصدره واتصلوا بربهم فتلقوا عنه ، وهم على يقين مما يتلقون. غير مخدوعين ولا مضللين. والذين كفروا زين لهم سوء عملهم ، فرأوه حسنا وهو سيئ ؛ ولم يروا ولم يستيقنوا ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). بلا ضابط يرجعون إليه ، ولا أصل يقيسون عليه ، ولا نور يكشف لهم الحق من الباطل.

أهؤلاء كهؤلاء؟ إنهم يختلفون حالا ومنهجا واتجاها. فلا يمكن أن يتفقوا ميزانا ولا جزاء ولا مصيرا!

وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ؛ وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ؟) ..

إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن. وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة. كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى.

والله الذي خلق البشر ، أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم ، وما يصلح لتربيتهم. ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم. والبشر صنوف ، والنفوس ألوان ، والطبائع شتى. تلتقي كلها في فطرة الإنسان ، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان. ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب ، وصنوف المتاع والآلام ، وفق علمه المطلق بالعباد ..

هنالك ناس يصلح لتربيتهم ، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن ، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، أو أنهار من عسل مصفى ، أو أنهار من خمر لذة للشاربين. أو صنوف من كل الثمرات. مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات .. فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم ، وما يليق لجزائهم.

وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها. أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب. أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها. ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة

٤٧

أو إلى نار ، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق. وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) .. أو أن يعلموا أنهم سيكونون : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ..

ولقد روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان يصلي حتى تنفر رجلاه. فقالت له عائشة ـ رضي الله عنها ـ يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا عائشة ا فلا أكون عبدا شكورا؟» (١) ..

وتقول رابعة العدوية : «ا ولو لم تكن جنة ولا نار لم يعبد الله أحد ، ولم يخشه أحد؟».

وتجيب سفيان الثوري وقد سألها : ما حقيقة إيمانك؟ تقول : ما عبدته خوفا من ناره ، ولا حبا لجنته ، فأكون كالأجير السوء. عبدته شوقا إليه» ..

وبين هذا اللون وذلك ألوان من النفوس والمشاعر والطباع .. وكلها تجد ـ فيما جعله الله من نعيم وعذاب ، ومن ألوان الجزاء ـ ما يصلح للتربية في الأرض ؛ وما يناسب للجزاء عند الله.

والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن. وحسب أنواع المخاطبين ، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات. وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار.

وهنا نوعان من الجزاء : هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله. والنوع الآخر :

(كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ..

وهي صورة حسية عنيفة من العذاب ، تناسب جو سورة القتال ، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم. وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام. فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ. والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء ، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام!

ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء ، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء ..

* * *

بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة ، واستمرت في معركة متصلة ، عنيفة ، حتى الختام ..

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ

٤٨

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)(٣١)

هذه الجولة مع المنافقين ، وموقفهم إزاء شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإزاء القرآن. ثم موقفهم من الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين لإعلاء كلمة الله. وأخيرا موقفهم من اليهود وتآمرهم معهم سرا للإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وحركة النفاق حركة مدينة ، لم يكن لها وجود في مكة ، لأنه لم يكن هناك ما يدعو إليها. فالمسلمون في مكة كانوا في موقف المضطهد ، الذي لا يحتاج أحد أن ينافقه! فلما أعز الله الإسلام والمسلمين بالأوس والخزرج في المدينة ، وانتشاره في المدينة ، وانتشاره في العشائر والبيوت بحيث لم يبق بيت إلا دخله الإسلام ، اضطر ناس ممن كرهوا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وللإسلام أن يعز ويستعلي ، ولم يملكوا في الوقت ذاته أن يجهروا بالعداوة ، اضطروا إلى التظاهر بالإسلام على كره. وهم يضمرون الحقد والبغضاء. ويتربصون بالرسول وأصحابه الدوائر. وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق المعروف.

وكان وجود اليهود في المدينة وتمتعهم فيها بقوة عسكرية وقوة اقتصادية وقوة تنظيمية في أول العهد المدني. وكراهيتهم كذلك لظهور محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودينه وأتباعه. كان وجود اليهود على هذا الوضع مشجعا للمنافقين. وسرعان ما جمعتهم البغضاء والحقد فأخذوا في حبك المؤامرات ودس الدسائس في كل

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله ابن وهب.

٤٩

مناسبة تعرض. فإن كان المسلمون في شدة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم ؛ وإذا كانوا في رخاء ظلت الدسائس سرية والمكايد في الظلام! وكانوا إلى منتصف العهد المدني يؤلفون خطرا حقيقيا على الإسلام والمسلمين.

وقد تواتر ذكر المنافقين ، ووصف دسائسهم ، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدينة ؛ كما تكرر ذكر اتصالهم باليهود ، وتلقيهم عنهم ، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة. وهذا أحد المواضع التي وردت فيها الإشارة إلى المنافقين ، والإشارة كذلك إلى اليهود.

* * *

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : ما ذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ..

ولفظة : (وَمِنْهُمْ) تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة : باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر ، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية.

كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم ، متظاهرون بالإسلام معهم. وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم ، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس.

ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم ، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة ، والحديث فيها عن المنافقين.

وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والاستماع معناه السماع باهتمام ـ يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقلوبهم لاهية غافلة. أو مطموسة مغلقة. كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : إن ما يقوله محمد لا يفهم ، أو لا يعني شيئا يفهم. فهاهم أولاء مع استماعهم له ، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه ـ كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم ـ فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية .. وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين :

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ..

ذلك حال المنافقين. فأما حال المهتدين فهو على النقيض :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ..

وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر. فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء ، فكافأهم الله بزيادة الهدى ، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) .. والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله ، شاعرا برقابته ، خائفا من غضبه ، متطلعا إلى رضاه ، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها .. هذه الحساسية المرهفة هي التقوى .. وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله.

والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة.

٥٠

ومن ثم يعود بعد هذه اللفتة إلى الحديث عن أولئك المنافقين المطموسين الغافلين ، الذين يخرجون من مجلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يعوا مما قال شيئا ينفعهم ويهديهم. ويستجيش قلوبهم للتقوى ، ويذكرهم بما ينتظر الناس من حساب وجزاء :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى لَهُمْ ـ إِذا جاءَتْهُمْ ـ ذِكْراهُمْ؟).

وهي جذبة قوية تخرج الغافلين من الغفلة بعنف ، كما لو أخذت بتلابيب مخمور وهززته هزا!

ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويخرجون منها ، غير واعين ، ولا حافظين ، ولا متذكرين؟ ما ذا ينتظرون؟ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟) .. فتفجأهم وهم سادرون غارون غافلون

هل ينظرون إلا الساعة؟ (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها). ووجدت علاماتها. والرسالة الأخيرة أضخم هذه العلامات ، فهي إيذان بأنها النذارة الأخيرة قرب الأجل المضروب. وقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها. (١) وإذا كان الزمن يلوح ممتدا منذ هذه الرسالة الأخيرة ؛ فإن أيام الله غير أيامنا. ولكنها في حساب الله قد جاءت الأشراط الأولى ؛ وما عاد لعاقل أن يغفل حتى تأخذه الساعة بغتة حيث لا يملك صحوا ولا ذكرا :

(فَأَنَّى لَهُمْ ـ إِذا جاءَتْهُمْ ـ ذِكْراهُمْ؟) ..

إنها الهزة القوية العنيفة التي تخرج الغافلين من غفلتهم ؛ والتي تتفق كذلك مع طابع السورة العنيف.

ثم يتجه الخطاب إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه من المهتدين المتقين المتطلعين ؛ ليأخذوا طريقا آخر. طريق العلم والمعرفة والذكر والاستغفار ، والشعور برقابة الله وعلمه الشامل المحيط ؛ ويعيشوا بهذه الحساسية يرتقبون الساعة وهم حذرون متأهبون :

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ؛ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ؛ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) ..

وهو التوجيه إلى تذكر الحقيقة الأولى التي يقوم عليها أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن معه :

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ..

وعلى أساس العلم بهذه الحقيقة واستحضارها في الضمير تبدأ التوجيهات الأخرى :

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ..

وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولكن هذا واجب العبد المؤمن الشاعر الحساس الذي يشعر أبدا بتقصيره مهما جهد ؛ ويشعر ـ وقد غفر له ـ أن الاستغفار ذكر وشكر على الغفران. ثم هو التلقين المستمر لمن خلف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن يعرفون منزلته عند ربه ؛ ويرونه يوجه إلى الذكر والاستغفار لنفسه. ثم للمؤمنين والمؤمنات. وهو المستجاب الدعوة عند ربه. فيشعرون بنعمة الله عليهم بهذا الرسول الكريم. وبفضل الله عليهم وهو يوجهه لأن يستغفر لهم ، ليغفر لهم!

واللمسة الأخيرة في هذا التوجيه :

__________________

(١) أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

٥١

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) ..

حيث يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة وبالخوف جميعا. الطمأنينة وهو في رعاية الله حيثما تقلب أو ثوى. والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في كل حالاته ، ويطلع على سره ونجواه ..

إنها التربية. التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهفة ، والتطلع والحذر والانتظار ..

* * *

وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عند ما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ! أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) ..

وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا. وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ!) ..

(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) .. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) .. أي الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .. وهو وصف من أوصاف المنافقين .. يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :

(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ..

وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشعف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق!

وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :

(فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ..

نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق .. أولى لهم (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .. طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة ، وتنهض بأمره عن ثقة. وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب ، وطهارة الضمير. وأولى لهم إذا عزم الأمر ، وجد الجد ، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله. يصدقوه عزيمة ، ويصدقوه شعورا. فيربط على قلوبهم ، ويشد من عزائمهم ، ويثبت أقدامهم ، وييسر

٥٢

المشقة عليهم ، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولا تفغر فاها لتلتهمهم! ويكتب لهم إحدى الحسنين : النجاة والنصر ، أو الاستشهاد والجنة .. هذا هو الأولى. وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم ، ويذهب بالفزع ، ويحل محله الثبات والاطمئنان.

وبينما هو يتحدث عنهم يلتفت إليهم مباشرة ليخاطبهم مقرعا مهددا بسوء العاقبة لو قادهم حالهم هذا إلى النكسة والتولي إلى الكفر ؛ وخلع ذلك الستار الرقيق من الإسلام :

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟) ..

وهذا التعبير .. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) .. يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين. ويلوح لهم بالنذير والتحذير .. احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها. تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام ، كما كان شأنكم قبل الإسلام ..

وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟).

أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه ، ولم يستيقنوه. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) .. وطردهم وحجبهم عن الهدى ، (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) .. وهم لم يفقدوا السمع ، ولم يفقدوا البصر ؛ ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر ، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر ؛ فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة.

ويتساءل في استنكار : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة ، ويفتح النوافذ ، ويسكب النور ، ويحرك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير ، (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!

* * *

ويمضي في تصوير حال المنافقين ، وسبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه ، فيتبين أنه تآمرهم مع اليهود ، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون :

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ـ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ـ الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ..

والتعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعد ما تبين لهم ، في صورة حركة حسية ، حركة الارتداد على الأدبار. ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان وتزيينه وإغرائه. فإذا ظاهر هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان! وهم المنافقون الذين يتخون ويتسترون! ثم يذكر السبب الذي جعل للشيطان عليهم هذا السلطان ، وانتهى بهم إلى الارتداد على الأدبار بعد ما عرفوا الهدى وتبينوه :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ..

واليهود في المدينة هم أول من كرهوا ما نزل الله ؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تكون الرسالة الأخيرة فيهم ، وأن يكون خاتم الرسل منهم ؛ وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ويوعدونهم ظهور النبي الذي يقودهم ويمكن لهم في الأرض ، ويسترجع ملكهم وسلطانهم. فلما اختار الله آخر رسله من نسل إبراهيم ، من غير يهود ،

٥٣

كرهوا رسالته. حتى إذا هاجر إلى المدينة كرهوا هجرته ، التي هددت ما بقي لهم من مركز هناك. ومن ثم كانوا إلبا عليه منذ أول يوم ، وشنوا عليه حرب الدس والمكر والكيد ، حينما عجزوا عن مناصبته العداء جهرة في ميادين القتال ؛ وانضم إليهم كل حانق ، وكل منافق ، وظلت الحرب سجالا بينهم وبين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى أجلاهم في آخر الأمر عن الجزيرة كلها وخلصها للإسلام.

وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم قالوا لليهود : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) .. والأرجح أن ذلك كان في الدس والكيد والتآمر على الإسلام ورسول الإسلام.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ).

وهو تعقيب كله تهديد. فأين يذهب تآمرهم وإسرارهم وماذا يؤثر ؛ وهو مكشوف لعلم الله؟ معرض لقوة الله؟

ثم التهديد السافر بجند الله ، والمتآمرون في نهاية الحياة :

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)!

وهو مشهد مفزع مهين. وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا قوة. وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض. وفي مستهل حياتهم الأخرى. هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار. في لحظة الوفاة ، لحظة الضيق والكرب والمخافة. الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى! فيالها من مأساة!

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ..

فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له ، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه .. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) .. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ؛ ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع!

* * *

وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وللمسلمين ، الذين يعيشون بينهم متخفين ؛ يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ؟ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ..

ولقد كان المنافقون يعتمدون على إتقانهم فن النفاق ، وعلى خفاء أمرهم في الغالب على المسلمين. فالقرآن يسفه ظنهم أن هذا الأمر سيظل خافيا ، ويهدّدهم بكشف حالهم وإظهار أضغانهم وأحقادهم على المسلمين. ويقول لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) .. أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم ، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه (وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم) ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم ، وإمالتهم للقول عن استقامته ، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ..

ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) .. فلا تخفى عليه منها خافية ..

ثم وعد من الله بالابتلاء .. ابتلاء الأمة الإسلامية كلها ، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح

٥٤

أخبارهم معروفة ، ولا يقع الالتباس في الصفوف ، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين ولا أمر الضعاف والجزعين :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ..

والله يعلم حقائق النفوس ومعادنها ، ويطلع على خفاياها وخباياها ، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلا. فما هذا الابتلاء؟ ولمن يكون العلم من ورائه بما يتكشف عنه؟

إن الله ـ جلت حكمته ـ يأخذ البشر بما هو في طوقهم ، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم. وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه. فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقنوها ، ثم ينتفعوا بها.

والابتلاء بالسراء والضراء ، وبالنعماء والبأساء ، وبالسعة والضيق ، وبالفرج والكرب .. كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس ، وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها ..

أما المراد بعلم الله لما تتكشف عنه النفوس بعد الابتلاء فهو تعلق علمه بها في حالتها الظاهرة التي يراها الناس عليها.

ورؤية الناس لها في صورتها التي تدركها مداركهم هو الذي يؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم ، ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم. وهكذا تتم حكمة الله في الابتلاء.

ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه. ويتطلع إلى عافيته ورحمته. فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له ، وهو مدرك لما وراءه من حكمة ؛ واستسلم لمشيئة الله واثقا من حكمته ، متطلعا إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.

وقد روي عن الفضيل العابد الصوفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا. فإنك إن بلوتنا فضحتنا ، وهتكت أستارنا وعذبتنا ..

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

٥٥

الحديث في الشطر الأول من هذا الشوط الأخير من السورة عن (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) .. وهؤلاء ، الأقرب أن يكونوا هم المشركين الذين كان الحديث عنهم في أول السورة. فهم الذين ينطبق عليهم هذا التبجح في الوقوف للدعوة الإسلامية. التبجح الذي يعبر عنه بالصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن كان هناك احتمال آخر ، وهو أن يكون الحديث عاما لكل من يقف هذا الموقف ؛ يشمل اليهود في المدينة ويشمل المنافقين ، على سبيل التهديد لهم إذا هموا أن يقفوا مثل هذا الموقف جهرة أو سرا. ولكن الاحتمال الأول أقرب على كل حال.

أما الحديث في الشطر الثاني والأخير حتى ختام السورة فهو خطاب للمؤمنين ، يدعوهم إلى مواصلة الجهاد بالنفس وبالمال ، دون تراخ أو دعوة إلى مهادنة الكفر المعتدي الظالم ، تحت أي مؤثر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة. ودون بخل بالمال الذي لا يكلفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة ، مراعيا الشح الفطري في النفوس! وإن لا ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة فإن الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها ، ويستبدل بهم قوما غيرهم ينهضون بتكاليفها ، ويعرفون قدرها. وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جو السورة ، كما يشي بأنه كان علاجا لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين إذ ذاك ـ من غير المنافقين ـ وذلك إلى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات. فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء. وكان القرآن يعالج ويربي لينهض بالمتخلفين إلى المستوي العالي الكريم ..

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ـ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ـ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) ..

إنه قرار من الله مؤكد ، ووعد منه واقع : أن الذين كفروا ، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس ؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل ، وشاقوا الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حياته بإعلان الحرب عليه ، والمخالفة عن طريقه ، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) .. وعرفوا أنه الحق ؛ ولكنهم اتبعوا الهوى ، وجمح بهم العناد ، وأعماهم الغرض ، وقادتهم المصلحة العاجلة ..

قرار من الله مؤكد ، ووعد من الله واقع أن هؤلاء (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) .. وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى. فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته. ولن يحدثوا حدثا في نواميسه وسننه. مهما بلغ من قوتهم ، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت. فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ؛ وليست ضرا حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه. والعاقبة مقررة : (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) .. فتنتهي إلى الخيبة والدمار. كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام!

وفي ظل هذا المصير المخيف للذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول .. يلتفت إلى الذين آمنوا ليحذرهم ظل هذا المصير ، ويوجههم إلى طاعة الله وطاعة الرسول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ..

وهذا التوجيه يوحي بأنه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة ؛ أو من تثقل عليه بعض التكاليف ، وتشق عليه بعض التضحيات ، التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف

٥٦

للإسلام ، وتناوشه من كل جانب ؛ والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيا كما تقتضي العقيدة ذلك.

ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين ؛ فارتعشت له قلوبهم ، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ، ويذهب بحسناتهم ..

قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : كان أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .. فخافوا أن يبطل الذنب العمل.

وروي من طريق عبد الله بن المبارك ، أخبرني بكر بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : «كنا معشر أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .. فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش. حتى نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) .. فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك. فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها.

ومن هذه النصوص يتجلى كيف كانت نفوس المسلمين الصادقين تتلقى آيات القرآن : كيف تهتز لها وتضطرب ، وكيف ترتجف منها وتخاف ، وكيف تحذر أن تقع تحت طائلتها ، وكيف تتحرى أن تكون وفقها ، وأن تطابق أنفسها عليها .. وبهذه الحساسية في تلقي كلمات الله كان المسلمون مسلمين من ذلك الطراز! ثم بين الله لهم في الآية التالية مصير الذين يشاقون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويخرجون عن طاعته ، ثم يصرون على هذا ، ويذهبون من هذه الأرض كافرين :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ..

فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا ؛ وباب التوبة يظل مفتوحا للكافر وللعاصي حتى يغرغر. فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة ، فقد ذهبت الفرصة التي لا تعود.

ومثل هذه الآية يخاطب المؤمنين كما يخاطب الكفار. فأما هؤلاء فهي نذارة لهم ليتداركوا أمرهم ويتوبوا قبل أن تغلق الأبواب. وأما أولئك فهي تحذير لهم وتنبيه لاتقاء كافة الأسباب التي تقرب بهم من هذا الطريق الخطر المشئوم!

ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ..

فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه ، ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول ، ليحذروا شبحه من بعيد! وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة ؛ وتهن عزائمهم دونه ؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب. وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم ، أو ذوي مصالح وأموال ؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة. فالنفس البشرية هي

٥٧

هي ؛ والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها. وقد نجحت نجاحا خارقا. ولكن هذا لا ينفي أن تكون هناك رواسب في بعض النفوس ، وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني. وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب. فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس. فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية. والنفوس هي النفوس :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. وَاللهُ مَعَكُمْ. وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ..

أنتم الأعلون. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم. أنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة. وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى. وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية. وأنتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا .. ثم .. أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة. فمعكم القوة الكبرى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) .. فلستم وحدكم. إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار. وهو لكم نصير حاضر معكم. يدافع عنكم. فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون ، وكل ما تفعلون ، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم ، لا يضيع منه شيء عليكم : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) .. ولن يقطع منها شيئا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه.

فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم ، من يقرر الله ـ سبحانه ـ له أنه الأعلى. وأنه معه. وأنه لن يفقد شيئا من عمله. فهو مكرم منصور مأجور؟

هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية تهوين من شأن هذه الحياة الدنيا ، التي قد يصيبهم بعض التضحيات فيها. وتوفية كاملة في الآخرة للأجور مع عدم إبهاظهم ببذل المال مقابل هذه الأجور!

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ، وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ..

والحياة الدنيا لعب ولهو حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى. حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها. ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة ؛ ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية. وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة التالية في الآية : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) .. فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبا ولهوا ؛ ويطبعها بطابع الجد ، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني ، إلى مستوى الخلافة الراشدة ، المتصلة بالملأ الأعلى. ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعا ولا مقطوعا ؛ فعنه ينشأ الأجر الأوفى ، في الدار الأبقى .. ومع هذا فإن الله لا يسأل الناس أن يبذلوا أموالهم كلها ، ولا يشق عليهم في فرائضه وتكاليفه ، لعلمه سبحانه بشح نفوسهم فطرة وخلقة. وهو لا يكلف نفسا إلا وسعها. وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بذلها كلها ، فتضيق صدورهم وتظهر أضغانهم : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ، وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) ..

وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير ، كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس. ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين ، ومراعاته للفطرة ، وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعدادتها ، وطاقاتها ، وأحوالها. فهو عقيدة ربانية لإنشاء نظام رباني إنساني. نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده ؛ وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته. والله هو الذي خلق ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.

وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم إلى البذل في سبيل الله ؛ ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية ، كما عالج شحها في ذات النفس عند الجهاد :

٥٨

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ. وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ. وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ..

والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك. ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة. فهي تقرر أن منهم من يبخل. ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء. وقد كان هذا واقعا ، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة ، وسجله القرآن في مواضع أخرى. وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!

والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية :

(وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) ..

فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور ، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد ، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون. فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور. فإذا بخلوا بالبذل ، فإنما يبخلون على أنفسهم ؛ وإنما يقللون من رصيدهم ؛ وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم ؛ وإنما يحرمونها بأيديهم!

أجل. فالله لا يطلب إليهم البذل ، إلا وهو يريد لهم الخير ، ويريد لهم الوفر ، ويريد لهم الكنز والذخر. وما يناله شيء مما يبذلون ، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون :

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) ..

فهو الذي أعطاكم أموالكم ، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها. وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا ، الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة. وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين. أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا ، فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه. وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة ، فهو الذي يتفضل به عليكم ، وما أنتم بموفين شيئا مما عليكم ، فضلا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة ، إلا أن يتفضل عليكم.

ففيم البخل إذن وفيم الشح؟ وكل ما في أيديكم ، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله ، ومن فضل الله؟

ثم الكلمة الأخيرة وهي فصل الخطاب ..

إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومنّ وعطاء. فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل ، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة ، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه .. فإن الله يسترد ، ما وهب ، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله :

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ..

وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان ، وأحس بكرامته على الله ، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه ؛ ونور الله في كيانه ؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه ..

وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه ، ويطرد من الكنف ،

٥٩

وتوصد دونه الأبواب. لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب.

إن الإيمان هبة ضخمة ، لا يعد لها في هذا الوجود شيء ؛ والحياة رخيصة ، والمال زهيد زهيد ، حين يوضع الإيمان في كفة ، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه ..

ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن ، وهو يتلقاه من الله ..

* * *

٦٠