في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

وعلى ذكر الهدى والضلال ، يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى ، وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها ، ولم يكونوا من الشاكرين :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ..

وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان ، حقيقة تلح على العقل البشري ، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده. فالإنسان قد وجد ـ وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق ـ وهو لم يوجد نفسه ، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده .. ولا مفر من الاعتراف بخالق. فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة. والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام.

والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة :

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ..

وما قابل الإنسان به هذه النعمة : نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة :

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ..

والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة ، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد ..

وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة :

«تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية ، ولا يعلم الا الله أين تنتهي. ويقول العلم : إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن ، التي تنظم دخوله ، ليقع على طبلة الأذن. وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن.

«والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة. وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس.

«فما طول القوس منها وحجمها؟ وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا؟ وما الحيز الذي وضعت فيه؟ ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة. هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية. وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة. دقة وعظمة تحير الألباب» (١).

«ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار. وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية .. وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية (٢).

«وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة ، والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات. ويقال : إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود ، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات .. وعدسة عينيك تختلف في الكثافة ، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة ، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا (٣)» ..

فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا. وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف

__________________

(١) منقول عن كتاب : الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل ص ٥٧.

(٢) منقول عن : المصدر السابق ص ٥٨.

(٣) نقلا عن كتاب : العلم يدعو للإيمان ترجمة الأستاذ محمود صالح الفلكي ص ١١٣.

٤٠١

بها الإنسان في هذا الملك العريض. والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال. أمانة الإيمان الاختياري ، والاهتداء الذاتي ، والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم (١) ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة ، ولا مركزها ، داخل الجسم أو خارجه! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه.

وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى ، فإنه لم يشكر : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) .. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به ، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر ، لا يشكر نعمة الله عليه ؛ وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه!

* * *

ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية. إنما هي فرصة الحياة للابتلاء. ثم الجزاء في يوم الجزاء :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ..

والذرء : الإكثار. ويحمل كذلك معنى الانتشار. والحشر : الجمع بعد النشر في الأرجاء. وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية ، تقابلهما من الناحية المعنوية. ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض. وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر! ويجمعهما السياق في آية واحدة ، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن. وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها ، هي الجمع والحشر. وأن هناك أمرا وراء هذا ، ووراء الابتلاء بالموت والحياة.

ثم يحكي شكهم في هذا الحشر ، وارتيابهم في هذا الوعد :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ ..

وهو سؤال الشاك المستريب. كما أنه سؤال المماحك المتعنت. فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر ؛ ولا علاقة لها بحقيقته ، وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء. ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غدا أو أن يجيء بعد ملايين السنين .. فالمهم أنه آت ، وأنهم محشورون فيه ، وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة.

ومن ثم لم يطلع الله أحدا من خلقه على موعده ، لأنه لا مصلحة لهم في معرفته ، ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته ، ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعدادا لملاقاته ، بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة ، واختصاص الله بعلم ذلك الموعد ، دون الخلق جميعا :

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق. وتتجرد ذات الله ووحدانيته بلا شبيه ولا شريك. ويتمحض العلم له سبحانه. ويقف الخلق ـ بما فيهم الرسل والملائكة (٢) ـ في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم : (قُلْ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. وظيفتي الإنذار ، ومهمتي البيان. أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك.

وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ،

__________________

(١) يراجع تفسير قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ... في ص ٢٨٨٤ ـ ٢٨٨٦ من الجزء ٢٢ من الظلال.

(٢) في حديث حقيقة الإسلام والإيمان .. سأل جبريل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الساعة ، فقال : «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ..

أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

٤٠٢

والموعد الذي يشكون فيه قد حان ؛ وكأنما هم واجهوه الآن. فكان فيه ما كان :

«فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون»!

فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد. فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء. ووجه إليهم التأنيب : (وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) .. هذا هو حاضرا قريبا. وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون!

وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه.

ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة. فهذا اليوم كائن في علم الله ؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر. وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله. ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله. فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لا نكشفت لهم. في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم.

* * *

ولقد كانوا يتربصون بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم. كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال. فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) ..

وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه ـ كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه. والله باق لا يموت. وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون ..

ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم؟ ولا ينص على أنهم كافرون. إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .. وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية. فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم .. فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد.

ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح!

ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين ، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه ، مع التلميح إلى اطمئنانهم لإيمانهم ، وثقتهم بهداهم ، وبأن الكافرين في ضلال مبين.

(قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..

وذكر صفة (الرَّحْمنُ) هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه ؛ فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون.

٤٠٣

ويوجه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن. صلة الإيمان (آمَنَّا بِهِ) .. وصلة التوكل (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) .. عليه وحده .. والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن. والله ـ سبحانه ـ هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى ، ويوجهه إلى هذا الإعلان. وكأنما ليقول له : لا تخف مما يقوله الكفار. فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إليّ. وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة ، وهذا المقام! فقل لهم ... وهذا ود من الله وتكريم ..

ثم ذلك التهديد الملفوف : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ؛ ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا ، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم. وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس ..

* * *

وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول ، وهو الماء :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟) ..

والماء الغور : الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه. والمعين : النابع الفائض المتدفق. وهي لمسة قريبة في حياتهم ، إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه .. والملك بيد الله وهو على كل شيء قدير. فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب!

ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن الله بوقوع هذا المحذور!

* * *

وهكذا تنتهي هذه السورة ، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات ، وهذه الرحلات والجولات. في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف. وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا. أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب ، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب.

إنها سورة ضخمة. سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها. وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد ، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد!

وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة ؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة ، وحقيقة الهيمنة المطلقة. وحقيقة الابتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء. وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله. وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى. وحقيقة مصدر الرزق. وحقيقة حفظ الله للخلائق ، وحضوره سبحانه ـ مع كل مخلوق ... وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه. وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود. هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله. مع ربه. ومع نفسه. ومع الناس. ومع الأحياء. ومع الكون كله من أحياء وأشياء. والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه ، واستقباله للحياة ...

* * *

٤٠٤

(٦٨) سورة القلم مكيّة

وآياتها ثنتان وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)

٤٠٥

أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٥٢)

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا ـ ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقولهم : إنه مجنون!

والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة.

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه .. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى :

٤٠٦

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) .. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات.

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت .. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالدعوة العامة. وبعد قول الله تعالى له : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) .. وبعد ما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء .. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) .. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون. ولم يقع شيء من هذا ـ كما تقول الروايات الراجحة ـ إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة.

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) .. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها.

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل ـ قابلة للزيادة ـ بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها.

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا. وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر.

* * *

لقد كانت هذه الغرسة ـ غرسة العقيدة الإسلامية ـ تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا.

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة

٤٠٧

المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى ـ دين إبراهيم عليه‌السلام ـ وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان.

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية .. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق.

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين .. وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن.

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعو إليها ويمثلها.

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات ـ ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها ـ على ضخامتها.

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!) .. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار. فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هؤلاء المشيخة!

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل (عمرو بن هشام) يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف .. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!».

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة.

والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى .. هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين.

٤٠٨

وكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، (وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) .. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين!

والسخرية والاستهزاء ـ مع الضعف والقلة ـ مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول.

ومن ثم نرى في السور المكية ـ كسور هذا الجزء ـ أن الله كأنما يحتضن ـ سبحانه ـ رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء!

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

(ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ..

وقوله تعالى عن المؤمنين :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟!) ..

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ). إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين. سنسمه على الخرطوم!» ..

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) ..

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) ..

ويضرب لهم أصحاب الجنة ـ جنة الدنيا ـ مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين.

وفي نهاية السورة يوصي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالصبر الجميل : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ..).

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله ـ سبحانه ـ بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف .. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة! كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء.

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)!

٤٠٩

وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون.

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) .. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) ..

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ...).

ونلمحها في القصة ـ قصة أصحاب الجنة ـ التي ضربها الله لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ..) إلخ.

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ : إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ؟ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟) ...

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة .. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين ..

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف.

* * *

(ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ..

يقسم الله ـ سبحانه ـ بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة. والعلاقة واضحة بين الحرف (نون). بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة .. فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في

٤١٠

علم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض. ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة. وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى.

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) .. وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي ـ الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة ـ ولكنه بدأ الوحي إليه منوها بالقراءة والتعليم بالقلم. ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون. وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون.

* * *

يقسم الله ـ سبحانه ـ بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ..

فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي .. يثبت نعمة الله على نبيه ، في تعبير يوحي بالقربى والمودة : حين يضيفه سبحانه إلى ذاته : (رَبُّكَ). وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله ، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه ..

وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قومه ، من قولتهم هذه عنه ، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة. وهم الذين لقبوه بالأمين ، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته ، بعد عدائهم العنيف له ، فقد ثبت أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ تخلف عن رسول الله أياما في مكة ، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده ؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف. وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة. فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته؟ قال أبو سفيان ـ وهو عدوه قبل إسلامه ـ لا ، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله!

إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم ، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم. ولكن الحقد يعمي ويصم ، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج! وقائلها يعرف قبل كل أحد ، أنه كذاب أثيم!

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .. هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم ، ردا على ذلك الحقد الكافر ، وهذا الافتراء الذميم.

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) ..

وإن لك لأجرا دائما موصولا ، لا ينقطع ولا ينتهي ، أجرا عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم .. وهو إيناس كذلك وتسرية وتعويض فائض غامر عن كل حرمان وعن كل جفوة وعن كل بهتان يرميه به المشركون. وماذا فقد من يقول له ربه : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)؟ في عطف وفي مودة وفي تكريم؟

* * *

٤١١

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ..

وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ، يقول له فيها : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين!

ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تبرز من نواح شتى :

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.

وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتلقيها. وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها مالا يدركه أحد من العالمين.

إن إطاقة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل ـ ولو أنها ثناء ـ ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن .. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير. وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير!

والله أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعظمة نفسه هذه ـ من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها.

إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة. طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى ـ بعد ذلك ـ عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك .. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين.

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها. وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار!

ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان .. لقد كان ـ وهو بشر ـ يثني على أحد أصحابه ، فيهتز

٤١٢

كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر. إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود. دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله. وهو يعلم من هو الله. هو بخاصة يعلم من هو الله! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير ... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!!

إنه محمد ـ وحده ـ هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد ـ وحده ـ هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني. إنه محمد ـ وحده ـ هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ؛ حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد ـ وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته ـ وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه ـ جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ). وهو ـ جل شأنه ـ وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم ..

* * *

ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله ؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.

والناظر في هذه العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير ؛ والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع. وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.

والرسول الكريم يقول : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل. وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية ، وصورة رفيعة ، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. فيمجد بهذا الثناء نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه ـ سبحانه ـ وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا ؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق. وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة ، كي يحققوا إنسانيتهم العليا ، وكي يصبحوا أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض ؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) .. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض ؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد.

ثم إنها ليست فضائل مفردة : صدق. وأمانة. وعدل. ورحمة. وبر .... إنما هي منهج متكامل ، تتعاون

٤١٣

فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية ؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا ، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله. لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة!

وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتمثلت في ثناء الله العظيم ، وقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ..

* * *

وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم ؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ..

والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال. أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقته. وكلا المدلولين قريب من قريب .. وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه .. أيا كان مدلول الجنون الذي رموه به. والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل. فالواقع يكذب هذا القول. إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع ـ كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانا هو الذي يمده ببديع القول! ـ وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم.

وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه. ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه ؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .. وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه. وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء!

* * *

ثم يكشف الله له عن حقيقة حالهم ، وحقيقة مشاعرهم ، وهم يخاصمونه ويجادلونه في الحق الذي معه ، ويرمونه بما يرمونه ، وهم مزعزعو العقيدة فيما لديهم من تصورات الجاهلية ، التي يتظاهرون بالتصميم عليها. إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه! على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين .. فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ..

فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق. كما يفعلون في التجارة. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها ؛ لأن الصغير منها كالكبير. بل ليس في العقيدة صغير وكبير. إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء. لا يطيع فيها صاحبها أحدا ، ولا يتخلى عن شيء منها أبدا.

وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق. وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان. جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء. إن الهوة

٤١٤

بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة. وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق!

ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليدهن لهم ويلين ؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان حاسما في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)!

ولم يساوم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته. وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفا لقلوبهم ، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد ..

روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :

«فلما بادى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قومه بالإسلام. وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ـ فيما بلغني ـ حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ـ إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون ـ وحدب على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أمر الله مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء.

«فلما رأت قريش أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب .. عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية. وأبو البختري واسمه العاص بن هشام. والأسود بن المطلب بن أسد. وأبو جهل (واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى أبا الحكم) والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر .. أو من مشى منهم .. فقالوا : يا أبا طالب. إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ؛ فنكفيكه! فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه.

«ومضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما هو عليه : يظهر دين الله ، ويدعو إليه. ثم شري (١) الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتذامروا (٢) فيه. وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى. فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ؛ وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ـ أو كما قالوا

__________________

(١) زاد واشتد.

(٢) تغيظوا وحض بعضهم بعضا عليه.

٤١٥

له .. ثم انصرفوا عنه. فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم ولا خذلانه. قال ابن إسحق : وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدّث ، أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له : يا بن أخي. إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا (للذي كانوا قالوا له) فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. قال : فظن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» .. قال : واستعبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبكى. ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي. قال : فأقبل عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا».

فهذه صورة من إصرار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه. حاميه وكافيه ، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه!

هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها ، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها ... جديدة جدة هذه العقيدة ، رائعة روعة هذه العقيدة ، قوية قوة هذه العقيدة. فيها مصداق قول الله العظيم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق ، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد إذ أعياهم أمره ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه.

قال ابن إسحق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش. ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يزيدون ويكثرون. فقالوا : يا أبا الوليد قم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا بن أخي. إنك منا حيث علمت : من السطة (١) في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها. قال : فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «قل يا أبا الوليد أسمع» .. قال : يا ابن أخي. إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه! ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يستمع منه قال : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم. قال : «فاستمع مني». قال : أفعل. فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ

__________________

(١) أي المنزلة الرفيعة المهيبة.

٤١٦

الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ...) ثم مضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه. ثم انتهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى السجدة منها فسجد. ثم قال. «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت. فأنت وذاك» .. فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أنني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم ..

وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) .. فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد! وذلك مخافة أن يقع النذير. وقام إلى القوم فقال ما قال!

وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة. وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم. تبدو في أدبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في تصوره لقيم هذا الكون ، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض. ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر ، حتى يفرغ الرجل من مقالته ، وهو مقبل عليه. ثم يقول في هدوء : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» زيادة في الإملاء والتوكيد. إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث .. وهما معا بعض دلالة الخلق العظيم.

وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال :

«واعترض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم. فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه! فأنزل الله تعالى فيهم : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) : السورة كلها ..

وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. وقال لهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أمره ربه أن يقول ...

* * *

ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات ، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة ، ويتوعده بالإذلال والمهانة :

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ. أَنْ كانَ ذا مالٍ

٤١٧

وَبَنِينَ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ..

وقد قيل : إنه الوليد بن المغيرة ، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا!! إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ! كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ قُتِلَ! كَيْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ..

ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإنذار أصحابه ، والوقوف في وجه الدعوة ، والصد عن سبيل الله .. كما قيل : إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق .. وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولجوا في حربه والتأليب عليه أمدا طويلا.

وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة ، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى ، وفي سواها ، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح ، في حرب الرسول والدعوة ، كما هي شاهد على سوء طويته ، وفساد نفسه ، وخلوها من الخير.

والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم ..

فهو حلاف .. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق ، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به ، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه ، ويستجلب ثقة الناس.

وهو مهين .. لا يحترم نفسه ، ولا يحترم الناس قوله. وآية مهانته حاجته إلى الحلف ، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطانا طاغية جبارا. والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا!

وهو هماز .. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء. وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية ؛ فهو يخالف المروءة ، ويخالف أدب النفس ، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا. وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع ؛ فقال : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) .. وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور ..

وهو مشاء بنميم. يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ، ويقطع صلاتهم ، ويذهب بموداتهم. وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين ، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراما عند الآخرين. حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام ، ناقل الكلام ، المشاء بالسوء بين الأوداء. حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه.

ولقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه. وكان يقول : «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (١).

وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال : مر رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة».

__________________

(١) أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود.

٤١٨

وروى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن حذيفة قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «لا يدخل الجنة قتات» أي نمام (ورواه الجماعة إلا ابن ماجه).

وروى الإمام أحمد كذلك ـ بإسناده ـ عن يزيد بن السكن. أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «الذين إذا رؤوا ذكر الله عزوجل» ثم قال : «ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب».

ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع ، الذي يفسد القلب ، كما يفسد الصحب ، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة ، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع ، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض ، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين!

وهو مناع للخير .. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره. ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير. وعرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته ، كلما آنس منهم ميلا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا. فكان يمنعهم بهذا التهديد عن الإسلام. ومن ثم سجل القرآن عليه هذه الصفة «مناع للخير» فيما كان يفعل ويقول.

وهو معتد .. متجاوز للحق والعدل إطلاقا. ثم هو معتد على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين .. والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماما كبيرا .. وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها ، حتى في الطعام والشراب : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) .. لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل.

وهو أثيم .. يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت. (أَثِيمٍ) .. بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها. فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة ، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم!

وهو بعد هذا كله (عُتُلٍّ) .. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات ، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات. فقد يقال : إن العتل هو الغليظ الجافي. وإنه الأكول الشروب. وإنه الشره المنوع. وإنه الفظ في طبعه ، اللئيم في نفسه ، السيّء في معاملته .. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : «العتل كل رغيب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، جموع للمال ، منوع له» .. ولكن تبقى كلمة «عتل» بذاتها أدل على كل هذا ، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه.

وهو زنيم .. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام ـ وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم ـ والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم ، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه ، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره. والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة. وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهينا في القوم ، وهو المختال الفخور.

ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله ، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين :

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ..

وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين ؛ استهزاء بآياته ، وسخرية من رسوله ، واعتداء على دينه .. وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم.

٤١٩

ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين ؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه .. ويسمع وعد الله القاطع :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ..

ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري .. ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز. وأنف في الرغام للذليل .. أي في التراب! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزا. ومنه الأنفة .. والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير .. الأول الوسم كما يوسم العبد .. والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير!

وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصما. فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر ـ ولو بالباطل ـ مذمة يتوقاها الكريم! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض. بهذا الأسلوب الذي لا يبارى. في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود. ثم يستقر في كيان الوجود .. في خلود .. إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم ..

* * *

وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين ؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ : أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ : أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ. فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ! قالُوا : سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ، قالُوا : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ .. كَذلِكَ الْعَذابُ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ..

وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني.

ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوي من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة!

والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن ؛ وفيه مفاجآت مشوقة ، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده. وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع ـ أو القارئ ـ يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى (١). فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :

__________________

(١) يراجع فصل : القصة في القرآن في كتاب : التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق»

٤٢٠