في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد. وهو كذلك اعتداء. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين (١).

ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها. فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله.

وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.

إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله. فلا خصومه على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية ـ أي عصبية ـ من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة.

ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ..) إلخ» .. فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة. بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة. ولكن هذا إنما كان بعد ما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) .. وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية ـ وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها ـ من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود. وهي حالة اعتداء في صميمها. تنطبق عليها حالة الاعتداء. وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية. فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك.

ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ، اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ؛ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا. ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ..

__________________

(١) يراجع فصل : سلام العالم في كتاب السلام العالمي والإسلام. «دار الشروق».

٣٠١

وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : «على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا» .. فلما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة. ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتنّ في دينهن وهن ضعاف.

ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور. على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية.

وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام!

قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله.

وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك.

وهذا هو الامتحان .. وهو يعتمد على ظاهر حالهن وإقرارهن مع الحلف بالله. فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، لا سبيل للبشر إليها : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ..) فإذا ما أقررن هكذا (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ..

(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) ..

فقد أنبتت الوشيجة الأولى .. وشيجة العقيدة .. فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة. والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى. والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره. والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن.

وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد. فأما بعد صلح الحديبية ـ أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة ـ فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله.

ومع إجراء التفريق إجراء التعويض ـ على مقتضى العدل والمساواة ـ فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر. كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته.

وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن .. مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن؟ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات ... ثلاثة قروء .. أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة؟

(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ،

٣٠٢

وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا).

ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن. ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :

(ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..

وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال. فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم. وهو حكم المطلع على ذوات الصدور. وهو حكم القوي القدير. ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه. وهو يوقن أن مرده إلى الله.

فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا ، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن ـ كما حدث في بعض الحالات ـ عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام ، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين :

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق :

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ..

وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب.

وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها ؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف ؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة ، وربطها كلها بمحور الإيمان ؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض. وتبقى شارة واحدة تميز الناس .. شارة الحزب الذي ينتمون إليه .. وهما حزبان اثنان : حزب الله وحزب الشيطان ..

* * *

ثم بيّن لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كيف يبايعهن على الإيمان ، هن وغيرهن ممن يردن الدخول في الإسلام. وعلى أي الأسس يبايعهن :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ، وَلا يَسْرِقْنَ ، وَلا يَزْنِينَ ، وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ، فَبايِعْهُنَّ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

وهذه الأسس هي المقومات الكبرى للعقيدة ، كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة ..

إنها عدم الشرك بالله إطلاقا .. وعدم إتيان الحدود .. السرقة والزنا .. وعدم قتل الأولاد .. إشارة إلى ما كان يجري في الجاهلية من وأد البنات ، كما أنه يشمل قتل الأجنة لسبب من الأسباب .. وهن أمينات على ما في بطونهن .. (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) .. قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن. وكذلك قال مقاتل. ولعل هذا التحفظ ـ بعد المبايعة على عدم الزنا ـ كان للحالات الواقعة في الجاهلية من أن تبيح المرأة نفسها لعدة رجال ، فإذا جاءت بولد ، نظرت أيهم أقرب به شبها فألحقته به ، وربما اختارت هي أحسنهم فألحقت به ابنها وهي تعلم من هو أبوه!

وعموم اللفظ يشمل هذه الحالة وغيرها من كل بهتان مزور يدّعى. ولعل ابن عباس ومقاتل خصصاه بذلك المعنى لمناسبة واقعة وقتذاك.

٣٠٣

والشرط الأخير : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) .. وهو يشمل الوعد بطاعة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في كل ما يأمرهن به. وهو لا يأمر إلا بمعروف. ولكن هذا الشرط هو أحد قواعد الدستور في الإسلام ، وهو يقرر أن لا طاعة على الرعية لإمام أو حاكم إلا في المعروف الذي يتفق مع دين الله وشريعته. وأنها ليست طاعة مطلقة لولي الأمر في كل أمر! وهي القاعدة التي تجعل قوة التشريع والأمر مستمدة من شريعة الله ، لا من إرادة إمام ولا من إرادة أمة إذا خالفت شريعة الله. فالإمام والأمة كلاهما محكوم بشريعة الله ، ومنها يستمدان السلطات!

فإذا بايعن على هذه الأسس الشاملة قبلت بيعتهن. واستغفر لهن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما سلف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .. يغفر ويرحم ويقيل العثرات.

* * *

وفي الختام يجيء هذا الإيقاع العام :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ).

يجيء هتافا للذين آمنوا باسم الإيمان ، وبالصفة التي تميزهم عن سائر الأقوام ، إذ تصلهم بالله وتفصلهم عن أعداء الله.

وقد وردت بعض الروايات بأن المقصود بالقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود ، استنادا إلى دمغهم بهذه الصفة في مواضع أخرى من القرآن. ولكن هذا لا يمنع من عموم النص ليشمل اليهود والمشركين الذين ورد ذكرهم في السورة ، وكل أعداء الله. وكلهم غضب عليه الله. وكلهم يائس من الآخرة ، لا يعلق بها رجاء ، ولا يحسب لها حسابا كيأس الكفار من الموتى ـ أصحاب القبور ـ لاعتقادهم أن أمرهم انتهى ، وما عاد لهم من بعث ولا حساب.

وهو هتاف يتجمع من كل إيقاعات السورة واتجاهاتها. فتختم به كما بدأت بمثله. ليكون هو الإيقاع الأخير. الذي تترك السورة أصداءه في القلوب ..

* * *

٣٠٤

(٦١) سورة الصف مدنية

وآياتها اربع عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ

٣٠٥

أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح ، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين :

تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة ، سبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية ، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات ، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد ، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات. وأن يظهره على الدين كله في الأرض ..

ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا ، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ. فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) .. وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله ؛ فلم يعودوا أمناء عليه ، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين.

ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتدادا لرسالة موسى ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وممهدا للرسالة الأخيرة ومبشرا برسولها ؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .. وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به.

وكان مقررا في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم ، وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة ، وإدراكه لقصة العقيدة ، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض .. يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله ـ كما أراد الله ـ وعدم التردد بين القول والفعل ؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنة ، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات .. ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله .. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرى تُحِبُّونَها : نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا ، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره

٣٠٦

إلى الله ، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ..

هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح ، يستغرقان كل نصوصها تقريبا. فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة ـ وهذه قصتها وهذه غايتها ـ وهذا التنديد متصل دائما بالخطين الأساسيين فيها. وذلك قول الله تعالى ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ذكر تبشير عيسى ـ عليه‌السلام ـ به : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ..

وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض ؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه ؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله ، كما يحب الله ؛ ويتضح طريقة ، فلا يبقى في تصوره غبش ، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية ، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد.

وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما لا يفعل ، وألا يختلف له قول وفعل ، ولا ظاهر وباطن ، ولا سريرة وعلانية. وأن يكون هو نفسه في كل حال. متجردا لله. خالصا لدعوته. صريحا في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه. متضامنا مع إخوانه. كالبنيان المرصوص ..

* * *

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم ، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله ؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله ، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم ، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته ، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله ؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض ؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله ، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم.

* * *

ثم يعاتب الله الذين آمنوا عتابا شديدا على أمر حدث من طائفة منهم. أمر يكرهه الله أشد الكره ، ويمقته أكبر المقت ، ويستفظعه من الذين آمنوا على وجه الخصوص :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ..

قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عزوجل دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين ،

٣٠٧

وشق عليهم أمره ، فقال الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ...) .. وقد اختار ابن جرير في تفسيره هذا القول.

وقال ابن كثير في تفسيره : «وحملوا الآية ـ يعني الجمهور ـ على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ..

وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون : قتلنا. ضربنا. طعنا. وفعلنا ... ولم يكونوا فعلوا ذلك! والراجح من سياق الآيات وذكر القتال أن مناسبة النزول هي التي عليها الجمهور وهي اختيار ابن جرير. ولكن النصوص القرآنية دائما أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها ، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها. ومن ثم فإننا نسير مع هذه النصوص إلى مدلولاتها العامة ، مع اعتبار الحادث الذي تذكره روايات النزول.

إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟).

وتثني باستنكار لهذا الفعل وهذا الخلق في صيغة تضخم هذا الاستنكار :

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ؟) ..

والمقت الذي يكبر (عِنْدَ اللهِ) .. هو أكبر المقت وأشد البغض وأنكر النكر .. وهذا غاية التفظيع لأمر ، وبخاصة في ضمير المؤمن ، الذي ينادى بإيمانه ، والذي يناديه ربه الذي آمن به.

والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا .. وهو الجهاد .. وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ..

فليس هو مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ..

* * *

إن القرآن ـ كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء ـ كان يبني أمة. كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس. ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة ، ويبنيها عملا واقعا .. كلها في آن واحد .. فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة. ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط ، وذات نظام ، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها. هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض. وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي.

والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية ـ ليس دين أفراد منعزلين ، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة .. إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته ، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته.

٣٠٨

ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة. إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها. ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه. والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما. والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك. وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا. ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس. وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة. وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله ، ويقوم ـ فيها ـ على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس.

ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي ـ أو جماعة مسلمة ـ ذات قيادة مطاعة هي قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذات التزامات جماعية بين أفرادها ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها ، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها ـ في الوقت ذاته ـ حياة هذه الجماعة .. وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة. بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة ..

* * *

وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية ، في ظل العقيدة الدينية ، وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه.

إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون ..

وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم .. الصدق .. والاستقامة. وأن يكون باطنه كظاهره ، وأن يطابق فعله قوله .. إطلاقا .. وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة.

وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيرا ، وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيدا : يقول الله تعالى منددا باليهود : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) .. ويقول تعالى منددا بالمنافقين : (وَيَقُولُونَ : طاعَةٌ. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) .. ويقول فيهم كذلك : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) .. ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان (١)». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه .. روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : وأنا صبي ، فذهبت لأخرج لألعب. فقالت أمي : يا عبد الله تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وما أردت أن تعطيه!» فقالت : تمرا. فقال : «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» .. ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثا. حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ! فتحرج أن يروي عنه ، وقد كذب على بغلته!

فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أمينا على منهج الله في الأرض.

__________________

(١) رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

٣٠٩

وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة. وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر.

فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها .. وهو موضوع الجهاد .. فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة.

نقف أولا أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة ، فلا يعصمها منها إلا عون الله ، وإلا التذكير الدائم ، والتوجيه الدائم ، والتربية الدائمة .. فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات : إنهم من المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في مكة من شدة الحماس والاندفاع. وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) في المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!) .. أو هم جماعة من المسلمين في المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه!

وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه ؛ وهي تواجه التكاليف الشاقة ، لتستقيم في طريقها ، وتتغلب على لحظات ضعفها ، وتتطلع دائما إلى الأفق البعيد. كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية! فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه! وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون ؛ حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد ، وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف!

ونقف ثانية أمام حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص .. نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله .. وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال. ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام ، وأن وراءه حكمة دائمة.

إن الإسلام لا يتشهى القتال ، ولا يريده حبا فيه. ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه ، ولأن الهدف الذي وراءه كبير. فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة. وهذا المنهج ـ ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة ـ إلا أنه يكلف النفوس جهدا لتسمو إلى مستواه ، ولتستقر على هذا المستوي الرفيع. وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر ، لأنه يسلبها كثيرا من الامتيازات ، التي تستند إلى قيم باطله زائفة ، يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر. وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوي الإيماني وتكاليفه ، كما تستغل جهل العقول ، وموروثات الأجيال ، لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه. والشر عارم. والباطل متبجح. والشيطان لئيم! ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان. أقوياء في أخلاقهم ، وأقوياء في قتال خصومهم على السواء. ويتعين عليهم أن يقاتلوا عند ما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد ، وحرية الاعتقاد به ، وحرية العمل وفق نظامه المرسوم.

وهم يقاتلون في سبيل الله .. لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون .. عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت .. في سبيل الله وحده ، لتكون كلمة الله هي العليا. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (١)

__________________

(١) أخرجه الخمسة.

٣١٠

وكلمة الله هي التعبير عن إرادته. وإرادته الظاهرة لنا ـ نحن البشر ـ هي التي تتفق مع الناموس الذي يسير عليه الكون كله. الكون الذي يسبح بحمد ربه. ومنهج الله في صورته الأخيرة التي جاء بها الإسلام هو الذي يتناسق مع ذلك الناموس ؛ ويجعل الكون كله ـ والناس من ضمنه ـ يحكمون بشريعة الله. لا بشريعة يضعها سواه.

ولم يكن بد أن يقاومه أفراد ، وأن تقاومه طبقات ، وأن تقاومه دول. ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة ؛ ولم يكن بد أن يكتب الجهاد على المسلمين لنصرة هذا المنهج ، وتحقيق كلمة الله في الأرض. ولهذا أحب الله ـ سبحانه ـ الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص. (١).

ونقف ثالثا أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها : (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) .. فهو تكليف فردي في ذاته ، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام. ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية ، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة ؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما ، وصفا متينا راسخا ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة ، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا .. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده ، ويجاهد وحده ، ويعيش وحده ، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين ، وعن مقتضياته في حالة الجهاد ، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم ، وتوضح لهم معالم الطريق ، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع : (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) .. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك ، وتؤدي كل لبنة دورها ، وتسد ثغرتها ، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء .. إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة ، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور ، وارتباط الحركة ، داخل النظام المرسوم ، المتجه إلى هدف مرسوم.

* * *

بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ؟ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ..

وإيذاء بني إسرائيل لموسى ـ وهو منقذهم من فرعون وملئه ، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم ـ إيذاء متطاول متعدد الألوان ، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق. ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء.

كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم ، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا)! كأنهم لا يرون في رسالته

__________________

(١) يراجع فصل سلام العالم في كتاب : السلام العالمي والإسلام. «دار الشروق».

٣١١

خيرا ، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير!

وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون .. حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه .. (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا : يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) .. وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح ، حتى أضلهم السامري : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ!) ..

ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء : المن والسلوى. فقالوا : (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها)!

وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) .. (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) .. (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) .. (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)!

ثم طلبوا يوم عطلة مقدسا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه.

وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) .. فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ..

ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد ، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث.

وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة :

(يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ؟) ..

وهم كانوا يعلمون عن يقين .. إنما هي لهجة العتاب والتذكير ..

وكانت النهاية أنهم زاغوا بعد ما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة ، فزادهم الله زيغا ، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى. وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدا : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ..

وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله ، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر ، وهم على هذا الزيغ والضلال.

ثم جاء عيسى بن مريم. جاء يقول لبني إسرائيل :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) ..

فلم يقل لهم : إنه الله ، ولا إنه ابن الله ، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ..

في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة ، يسلم بعضها إلى بعض ، وهي متماسكة في حقيقتها ، واحدة في اتجاهها ، ممتدة من السماء إلى الأرض ، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة .. وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه. فهو منهج واحد في أصله ، متعدد في صوره ، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها ، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري ، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة ، تخاطب العقل الراشد ، في ضوء تلك التجارب ، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده ،

٣١٢

داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته ، المتفق مع طاقاته واستعداداته.

وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص ، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها. فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن.

وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) .. وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة ، التي كانوا يتواصون بتكتمها!

كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه ، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية. ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم. فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم ، كرهوا هذا وحاربوه!

وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار. وهو القول الأخير ..

* * *

ويبدو أن الآيات التالية في السورة جاءت على الأكثر بصدد استقبال بني إسرائيل ـ اليهود والنصارى ـ للنبي الذي بشرت به كتبهم. والتنديد بهذا الاستقبال ، وكيدهم للدين الجديد الذي قدر الله أن يظهره على الدين كله ، وأن يكون هو الدين الأخير!

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ..

ولقد وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل ، وحاربوه بشتى الوسائل والطرق حربا شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم. حاربوه بالاتهام : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) .. كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد. وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي ، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة ، وبين الأوس والخزرج من الأنصار. وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة. وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب. وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي بن سلول ، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدو الله عبد الله بن سبأ. وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير ـ حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم.

ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة. فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام ، وظلتا تغيران عليه أو تؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال. حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق ، وحاربوه في الأندلس في المغرب ، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حربا شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه «الرجل المريض» .. واحتاجوا أن يخلقوا أبطالا مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام. فلما أرادوا تحطيم «الخلافة» والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا «بطلا»! .. ونفخوا فيه. وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلا في أعين مواطنيه. بطلا يستطيع إلغاء الخلافة ، وإلغاء اللغة العربية ، وفصل تركيا عن المسلمين ، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة

٣١٣

لها بالدين! وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين ، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين! وراية غير راية الدين.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ. وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ..

وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة ، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) .. ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد. وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل!

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) .. وصدق وعد الله. أتم نورة في حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار. صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة ، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب ، ولكن حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه ، ويجاهدون في سبيله ، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر. فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء. وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين. وتنبض وتنتفض قائمة ـ على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد. لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه ، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد ، في أيدي العبيد!

وإن خيل للطغاة الجبارين ، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغوا هذا الهدف البعيد!

لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين ، فكان من الحتم أن يكون :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ..

وشهادة الله لهذا الدين بأنه (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) هي الشهادة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة. ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين ، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته. فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال. وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها ، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها ، فهو هي ، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان.

ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها ، ونقصت من أطرافها ، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة. وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبدا ، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود.

فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته. فأما من ناحية واقع الحياة ، فقد صدق وعد الله مرة ، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان. ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وإفريقية ، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى .. وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة ـ منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي «البطل» الذي صنعوه! ـ وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد ، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي «أبطال» آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء.

وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهرا بإذن الله على الدين كله تحقيقا لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل!

٣١٤

ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى. وكانت تطمينا لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة. وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة. بإذن الله.

* * *

وفي ظلال قصة العقيدة ، وفي مواجهة وعد الله بالتمكين لهذا الدين الأخير ، يهتف القرآن الكريم بالذين آمنوا .. من كان يواجه ذلك الخطاب ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم الدين .. يهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة. تجارة الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرى تُحِبُّونَها : نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ..

وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل ، واستفهام وجواب ، وتقديم وتأخير ، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية.

يبدأ بالنداء باسم الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .. يليه الاستفهام الموحي. فالله ـ سبحانه ـ هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) ..

ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية ، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق. ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) .. وهم مؤمنون بالله ورسوله. فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم! (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) .. وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة ، يجيء في هذا الأسلوب ، ويكرر هذا التكرار ، ويساق في هذا السياق. فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار ، وهذا التنويع ، وهذه الموحيات ، لتنهض بهذا التكليف الشاق ، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض ... ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .. فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد .. ثم يفصل هذا الخير في آية تالية مستقلة ، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه ، ويقره في الحس ويمكن له : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .. وهذه وحدها تكفي. فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئا؟ ولكن فضل الله ليست له حدود : (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) .. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة ـ حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ـ ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم .. وحقا .. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..

وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة. وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة. فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق. فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض ، ومتاع محدود في هذه الحياة الدنيا ، فيكسب به خلودا لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله ، ومتاعا غير مقطوع ولا ممنوع؟

٣١٥

لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ ليلة العقبة. قال لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اشترط لربك ولنفسك ما شئت». فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» .. قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : «الجنة» قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل!

ولكن فضل الله عظيم. وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض ، يناسب تركيبها البشري المحدود. وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض ، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل : «وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب. وبشر المؤمنين» ..

وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله. الله الذي لا تنفد خزائنه ، والذي لا ممسك لرحمته. فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة. وفوقها .. فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب .. فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟!

وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب .. إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة ؛ ويعيش بقلبه في هذا التصور ؛ ويطلع على آفاقه وآماده ؛ ثم ينظر للحياة بغير إيمان ، في حدودها الضيقة الصغيرة ، وفي مستوياتها الهابطة الواطية ، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة .. هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان ، ولا يتردد لحظه واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع ، ليعيش فيه ، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك .. ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجرا خارجا عن ذاته. فهو ذاته أجر .. هذا الجهاد .. وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح. ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان. ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان. فهو مدفوع دفعا إلى الجهاد. كائنا مصيره فيه ما يكون ..

ولكن الله ـ سبحانه ـ يعلم أن النفس تضعف ، وأن الاندفاع يهبط ، وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط ..

ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد ؛ ويعالجها ذلك العلاج ، ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع ، في شتى المناسبات. ولا يكلها إلى مجرد الإيمان ، ولا إلى نداء واحد باسم هذا الإيمان.

فها هو ذا يختم السورة بنداء جديد ، يحمل طابعا جديدا ، وإغراء جديدا ، وموحيا جديدا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ ، كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ..

والحواريون هم تلاميذ المسيح ـ عليه‌السلام ـ قيل : الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به ، وينقطعون للتلقي عنه. وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه.

والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة ، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من السورة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) .. في هذا الموضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله. وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيرا للرب؟! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم .. كونوا أنصار الله ، (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ

٣١٦

اللهِ) .. فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم. وعيسى جاء ليبشر بالنبي الجديد والدين الأخير .. فما أجدر أتباع محمد أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم ، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت! وهذه هي اللمسة الواضحة في عرض هذا الحوار في هذا السياق.

وماذا كانت العاقبة؟

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) .. وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه‌السلام هم المسيحيون إطلاقا من استقام ومن دخلت في عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ. وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد. ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان. أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير ؛ وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ. وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في هذا السياق.

والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها ، وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية. المختارين لهذه المهمة الكبرى. استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) .. والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين.

إنها الجولة الأخيرة في السورة ، واللمسة الأخيرة في السياق ؛ وهي ذات لون وذات طعم يناسبان جو السورة وسياقها ، مع ما فيها من تجدد في اللون وتنوع في المذاق ..

* * *

٣١٧

(٦٢) سورة الجمعة مدنيّة

وآياتها إحدى عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

نزلت هذه السورة بعد سورة «الصف» السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة.

إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية ؛

٣١٨

وأن هذا فضل من الله عليها ؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين ـ وهم العرب ـ منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة ؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعد ما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء ؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها!

تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان.

وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى ؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوّقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية ؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به ـ على عادة الجاهلية ـ من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة! وتركوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قائما. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون! كما تذكر الروايات ، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد ، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم.

وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعا. وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال ، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة ، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى.

وفي السورة مباهلة مع اليهود ، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك ردا على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس ، وأنهم شعب الله المختار ، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون! كما كانوا يدعون! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم. وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه ، وأنه ملاقيهم مهما فروا ، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون .. وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم ، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك. فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض ، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق!

هذا هو اتجاه السورة ، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها ، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه ، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به ، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الاتجاه الواحد العام. فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه ..

* * *

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ..

٣١٩

هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله ؛ ويصفه ـ سبحانه ـ بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة. السورة التي اسمها «الجمعة» وفيها تعليم عن صلاة الجمعة ، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها ، وترك اللهو والتجارة ، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة. ومن ثم تذكر : (الْمَلِكِ) .. الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب. وتذكر (الْقُدُّوسِ) الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض ، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره. وتذكر (الْعَزِيزِ) .. بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعا والرجعة إليه والحساب. وتذكر (الْحَكِيمِ) .. بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .. وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال.

* * *

ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون ـ في الأعم الأغلب ـ وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال : «إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب (١)» .. وقيل : إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم ، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم.

وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم : إنهم «جوييم» باللغة العبرية أي أمميون. نسبة إلى الأمم ـ بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم! ـ والنسبة في العربية إلى المفرد .. أمة .. أميون. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة.

ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم ، فيجمعهم بعد فرقة ، وينصرهم بعد هزيمة ، ويعزهم بعد ذل. وكانوا يستفتحون بهذا على العرب ، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير.

ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب ، من الأميين غير اليهود ؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية ـ كما سيجيء في المقطع التالي في السورة ـ وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف. وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعد ما كان منها في تاريخها الطويل! وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه الصلاة والسلام ـ تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه‌السلام : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ .. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب ، ومن وراء القرون ، محفوظة عند الله لا تضيع ، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله ، وفق حكمته ؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسيقه ، وحتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء ، ولا يستأخر عن موعده المرسوم.

__________________

(١) ذكره الإمام الجصاص صاحب أحكام القرآن بغير إسناد.

٣٢٠