في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

وهي إشارة سريعة تلمس القصة لمسة واحدة بدون إيضاح. كأنما ليقال : واذكر قوم نوح. وقد وردت (قَوْمَ) منصوبة وبدون لفظ «في» بتقدير كلمة «اذكر» قبلها. وتلتها (وَالسَّماءَ بَنَيْناها ..) معطوفة عليها .. وهذه آية كونية ، وتلك آية تاريخية. يربطهما السياق معا ، ويربط بهما هذا القطاع بالقطاع الثالث في السورة ..

* * *

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..

إنها عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة ، في صورة من صوره الكثيرة التي يجلوها القرآن للقلوب. واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك ، يصل آية نوح بآية السماء وآية الأرض وآية الخلائق. ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ..

والأيد : القوة. والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق. بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء. سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب. أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم. أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب .. أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء.

والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين ، لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب.

ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قال من قبل : إنها في السماء ولو أن السماء هناك مجرد رمز إلى ما عند الله. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا معينة ، يبدو أنها مقصودة في التعبير ، لخطاب المشاعر البشرية خطابا موحيا.

ومثلها الإشارة الأخرى إلى الأرض الممهودة المفروشة :

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) ..

فقد أعد الله هذه الأرض لتكون مهدا للحياة كما أسلفنا. والفرش يوحي باليسر والراحة والعناية. وقد هيئت الأرض لتكون محضنا ميسرا ممهدا ، كل شيء فيه مقدر بدقة لتيسير الحياة وكفالتها : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) ..

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ..

وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض ـ وربما في هذا الكون. إذ أن التعبير لا يخصص الأرض ـ قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شَيْءٍ) تشمل غير الأحياء أيضا. والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.

وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا. وأن فكرة عموم الزوجية ـ حتى في الأحياء ـ لم تكن معروفة حينذاك. فضلا على عموم الزوجية في كل شيء .. حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم .. وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير!

كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة. وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة. وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء : موجب وسالب! فقد

١٤١

تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب ..

وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة الهائلة المدى : في أجواز السماء ، وفي آماد الأرض ، وفي أعماق الخلائق. يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والأرض والخلائق ، متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها ؛ موحدين الله الذي خلق هذا الكون وحده بلا شريك.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..

والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق ، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض ، وتثقلها عن الانطلاق ، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثم يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك. وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين ، زيادة في التنبيه والتحذير!

* * *

وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطرادا مع آيات الرسالات والرسل. فلما انتهت جاء التعقيب على قصص الرسل التي سلفت في السياق :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ..

فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين ؛ وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) .. كما يقول هؤلاء المشركون! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين!

والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور ، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون ، ألا يحفل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكذيب المشركين. فهو غير ملوم على ضلالهم ، ولا مقصر في هدايتهم : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) .. إنما هو مذكر ، فعليه أن يذكر ، وأن يمضي في التذكير ، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) .. ولا تنفع غيرهم من الجاحدين. والتذكير هو وظيفة الرسل. والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة ، والأمر فيهما إلى الله وحده. الذي خلق الناس لأمر يريده.

* * *

هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة. ويتضح معنى الفرار إلى الله ، والتخلص من الأوهاق والأثقال ، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها ، ومنحهم وجودهم ليؤدوها :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ..

وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة ، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر

١٤٢

في الأرض بدون إدراكها واستيقانها. سواء كانت حياة فرد أم جماعة. أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها.

وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي ، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة ، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.

وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده ؛ وأصبح بلا وظيفة ، وباتت حياته فارغة من القصد ، خاوية من معناها الأصيل ، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود ، وانتهى إلى الضياع المطلق ، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود ، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.

هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله .. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يعبد ، ورب يعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.

ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة ، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر ؛ والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) .. فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض ، والتعرف إلى قواها وطاقاتها ، وذخائرها ومكنوناتها ، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى ، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :

الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد ، وربّا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء ؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.

والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.

بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ؛ ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله .. كلها عبادة ؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.

عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى ، جاء لينهض بها فترة ، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ، ولا غاية له من ورائها ، إلا الطاعة ، وجزاؤها الذي يجده في نفسه

١٤٣

من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله ، ومن أنس برضى الله عنه ، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما.

وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقا. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله ، واستقر في الوضع الكوني الأصيل : عبدا لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض ، وينهض بتكاليفها ، ويحقق أقصى ثمراتها ؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها ؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ، ثم الفرار إلى الله منها!

ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها ، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها ..

ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك. فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه ، وليست من شأنه. إنما هو قدر الله ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته.

ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد ؛ وشعر أنه أخذ نصيبه ، وضمن جزاءه ، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد ، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف. ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض ، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.

والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه. بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهمّ الرزق ومن شح النفس. فالرزق في ذاته مكفول. تكفل به الله تعالى لعباده. وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه ـ سبحانه ـ أو يرزقوه. حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه ، والقيام بحق المحرومين فيه :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ..

وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق. بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة ، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة. ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد ، طليقا من التعلق بنتائج الجهد .. وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصور الكريم.

وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها ، فذلك لأنها لم تعش ـ كما عاش جيل المسلمين الأول ـ في ظلال هذا القرآن. ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم.

وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق. أفق العبادة. أو أفق العبودية. ويستقر عليه ، فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة. ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا. فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم. ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ

١٤٤

الغايات ، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات ، تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء. أما الغايات فموكولة لله ، يأتي بها وفق قدره الذي يريده. ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله ، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله.

ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير ، وطمأنينة النفس ، وصلاح البال ، في جميع الأحوال. سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها. تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها. فهو قد أنهى عمله ، وضمن جزاءه ، عند تحقق معنى العبادة. واستراح. وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته .. وقد علم هو أنه عبد ، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد. وعلم أن الله رب ، فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب. واستقرت مشاعره عند هذا الحد ، ورضي الله عنه ، ورضي هو عن الله.

وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة ، التي تقررها آية واحدة قصيرة : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .. وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عند ما تستقر حقا في الضمير ...

* * *

وفي ضوء هذه الحقيقة الكبيرة ينذر الذين ظلموا فلم يؤمنوا ؛ واستعجلوا وعد الله ، وكذبوا. وتختم السورة بهذا الإنذار الأخير:

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً (١) مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ..

* * *

__________________

(١) الذنوب : الدلو. وهو كناية عن أن لهم مثل ما أصاب من قبلهم من الظالمين ..

١٤٥

(٥٢) سورة الطّور مكيّة

وآياتها تسع وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)

١٤٦

قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان .. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها ، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام!

وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة ، والمعنى والمدلول ، والصور والظلال ، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف ، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام!

وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء. بعضها مكشوف معلوم! وبعضها مغيب مجهول : (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) ..

القسم على أمر عظيم رهيب ، يرج القلب رجا ، ويرعب الحس رعبا. في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ؛ وفي مشهد كذلك ترجف له القلوب : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ..

وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب ، من ويل وهول ، وتقريع وتفزيع : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

١٤٧

(أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

هذا شوط من حملة المطاردة. يليه شوط آخر من لون آخر. شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب ـ إطماعها في الأمن والنعيم. بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم. وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد ، يطول عرضه ، وتكثر تفصيلاته ، وتتعدد ألوانه. مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ؛ بعد كرب العذاب وهوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ..

والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ؛ وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني .. الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ؛ ويلاحق الشبهات والأضاليل ؛ ويدحض الحجج والمعاذير. ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة. تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل ، مستقيم لا يحتمل اللف والدوران. يلوي الأعناق ليّا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم .. ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليمضي في تذكيره لهم ، على الرغم من سوء أدبهم معه ؛ وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟ قُلْ : تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ؟ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؟ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ؟ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ..

وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة. بل هذه القذائف الصاعقة. التي تنسف الباطل نسفا ، وتحرج المكابر والمعاند ، وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه .. عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوس : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ). والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح ، ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح.

هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة. قذيفة التهديد الرعيب ، بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ، الذي عرض عليهم في مطلع السورة : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) .. كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي .. إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه : (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) .. ويقولون : كاهن أو مجنون. موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم. في تعبير لا نظير له في القرآن كله ؛ ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ،

١٤٨

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) ..

إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم ، من أولئك المتعنتين المعاندين ، الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم ..

* * *

(وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

هذه الآيات القصيرة ، والفواصل المنغمة ، والإيقاعات الفاصلة ، تصاحب السورة من مطلعها. وهي تبدأ كلمة واحدة. ثم تصبح كلمتين. ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة. مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع.

والطور : الجبل فيه شجر. والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن ، المذكور في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ والذي نزلت فوقه الألواح. فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء.

والكتاب المسطور في رق منشور. الأقرب أن يكون هو كتاب موسى الذي كتب له في الألواح. للمناسبة بينه وبين الطور. وقيل. هو اللوح المحفوظ. تمشيا مع ما بعده : البيت المعمور ، والسقف المرفوع. ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود.

والبيت المعمور : قد يكون هو الكعبة. ولكن الأرجح أن يكون بيت عبادة الملائكة في السماء لما ورد في الصحيحين في حديث الإسراء : «ثم رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم» .. يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم!

والسقف المرفوع : السماء. قاله سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك بن خالد بن عرعرة عن علي ـ كرم الله وجهه ـ قال سفيان : ثم تلا : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) ..

والبحر المسجور : المملوء. وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد. في انفساحه وامتلائه وامتداده. وهو آية فيها رهبة ولها روعة. تؤهلانه للذكر مع هذه المشاهد المقسم بها على الأمر العظيم. وقد يكون معنى المسجور : المتقد. كما قال في سورة أخرى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي توقدت نيرانا. كما أنه قد يشير إلى خلق آخر كالبيت المرفوع يعلمه الله.

يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم. بعد أن يتهيأ الحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ..

فهو واقع حتما ، لا يملك دفعه أحد أبدا. وإيقاع الآيتين والفاصلتين حاسم قاطع. يلقي في الحس أنه أمر داهم قاصم ، ليس منه واق ولا عاصم. وحين يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشري بلا عائق فإنه يهزه ويضعضعه ويفعل به الأفاعيل .. قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن داود ، عن صالح

١٤٩

المري ، عن جعفر بن زيد العبدي قال : خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة ، فمر بدار رجل من المسلمين ، فوافقه قائما يصلي ، فوقف يستمع قراءته فقرأ : (وَالطُّورِ) .. حتى بلغ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) .. قال : قسم ورب الكعبة حق. فنزل عن حماره. واستند إلى حائط ، فمكث مليا ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه. رضي الله عنه.

وعمر ـ رضي الله عنه ـ سمع السورة قبل ذلك ، وقرأها ، وصلى بها ، فقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يصلي بها المغرب. وعمر يعلم. ويتأسى. ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا ، وحسا مفتوحا ، فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت. حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة ؛ التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة ، فتتخللها وتتعمقها ، في لمسة مباشرة كهذه اللمسة ، تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأول كما تلقاها قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها. فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر ـ رضي الله عنه ـ حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى ..

ويعقب هذا الإيقاع الرهيب مشهد مصاحب له رهيب :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ..

ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام. ومشهد الجبال الصلبة الراسية تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار. أمر مذهل مزلزل. يدل ضمنا على الهول الذي تمور فيه السماء وتسير منه الجبال. فكيف بالمخلوق الإنساني الصغير الضعيف في ذلك الهول المذهل المخيف؟!

وفي زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء ؛ وفي ظل هذا الرعب المزلزل لكل شيء ، يعاجل المكذبين بما هو أهول وأرعب. يعاجلهم بالدعاء عليهم بالويل من العزيز الجبار :

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) ..

والدعاء بالويل من الله حكم بالويل وقضاء. فهو أمر لا محالة واقع ، ما له من دافع. وهو كائن حتما ، يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا. فيتناسب هذا الهول مع ذلك الويل ، وينصبّ كله على المكذبين .. (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) ..

وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة ، وتصوراتهم المهلهلة ؛ وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات ، التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة. وهي لعب لا جد فيه. لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء ، غير قاصد إلى شاطئ أو هدف ، سوى الخوض واللعب!

ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي .. وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة ـ سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم ـ في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله .. إن سائر التصورات ـ حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني ـ تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة. تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي ـ وبخاصة في القرآن ـ عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا. يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد. لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها. ويفسر لها الوجود وعلاقتها به ، كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه.

وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ؛ وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه ، وهم يحاولون

١٥٠

تفسير هذا الوجود وارتباطاته ؛ كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة .. وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا ، لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء. وهذا طبيعي ، فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته .. أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله. والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة!

إنه عبث. وخلط. وخوض .. حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة ، المطابقة ، التي يعرضها القرآن على الناس ، فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة ، المستحيلة الاكتمال والنضوج!

وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره ، متأثرة بالتصورات المنحرفة ، وبالمحاولات البشرية الناقصة .. ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره. فإذا النور الهادئ. والميزان الثابت. وإذا هو يجد كل شيء في موضعه ، وكل أمر في مكانه ، وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور. ويحس بعدها أن نفسه استراحت ، وأن باله هدأ ، وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح ، وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور.

كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة. حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس ، ويعلق بها القلب ، ويشغله بتدبرها وتحقيقها. وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها ، والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها ، وانغماسهم فيها ، وتعظيمهم لها ، وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة ، يحسبونها شخوصا ؛ ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها!!!

إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ؛ وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ؛ وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس : من أين جئت؟ لما ذا جئت؟ إلى أين أذهب؟

وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله. فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها. فهو واحد منها. جاء من حيث جاءت. وشاركها علة وجودها. ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب. فالإجابة على تلك الأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله ، وارتباطاته وارتباطات الإنسان به. وارتباط الجميع بخالق الجميع.

وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ؛ ويرفعها إلى مستواه. ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون ، عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون!

إن حياة المسلم حياة كبيرة ـ لأنها منوطة بوظيفة ضخمة ، ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير ، وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير. وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب. وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود (١).

وويل لأولئك الخائضين اللاعبين : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) .. وهو مشهد عنيف. فالدعّ : الدفع

__________________

(١) فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان (بحث للمؤلف يرجو أن يوفق إلى إخراجه).

١٥١

في الظهور. وهي حركة غليظة تليق بالخائضين اللاعبين ، الذين لا يجدّون ، ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم من الأمور. فيساقون سوقا ويدفعون في ظهورهم دفعا.

حتى إذا وصل بهم الدفع والدع إلى حافة النار قيل لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ!) ..

وبينما هم في هذا الكرب ، بين الدع والنار التي تواجههم على غير إرادة منهم. يجيئهم الترذيل والتأنيب ، والتلميح إلى ما سبق منهم من التكذيب : (أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟). فقد كانوا يقولون عن القرآن : إنه سحر. فهل هذه النار التي يرونها كذلك سحر؟! أم إنه الحق الهائل الرعيب؟ أم إنهم لا يبصرون هذه النار كما كانوا لا يبصرون الحق في القرآن الكريم؟!

وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس. (اصْلَوْها. فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا. سَواءٌ عَلَيْكُمْ. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة. من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء. فالعذاب واقع ، ما له من دافع. وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع. والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع .. والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل. فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل!

وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ؛ كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف.

* * *

أما الشوط الثاني فهو مثير للحس ، ولكن بما فيه من رخاء ورغد ، وهتاف بالمتاع لا يقاوم ، وبخاصة بعد مشهد العذاب البئيس :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ. وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ؛ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ..

والمشهد أقرب إلى مشاهد النعيم الحسي ، الذي يخاطب المشاعر في أول العهد ، والذي يجتذب النفوس بلذائذ الحس في صورتها المصفاة. وهو مقابل لذلك العذاب الغليظ الذي تواجه به القلوب الجاسية والقلوب اللاهية كذلك :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ..

ومجرد الوقاية من عذاب الجحيم الذي عرضت مشاهده في هذه السورة فضل ونعمة. فكيف ومعه (جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)؟ وهم يلتذون ما آتاهم ربهم ويتفكهون؟

ومع النعيم ولذته التهنئة والتكريم :

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

وهذا بذاته متاع أكرم. وهم ينادون هذا النداء العلوي ، ويعلن استحقاقهم لما هم فيه :

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) .. منسقة يجدون فيها لذة التجمع بإخوانهم في هذا النعيم : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ

١٥٢

عِينٍ) .. وهذه تمثل أمتع ما يجول في خواطر البشر من متاع جميل.

ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ..

ويستطرد المشهد يعرض ألوان المناعم واللذائذ في ذلك النعيم. فإذا فاكهة ولحم مما يشتهون. وإذا هم يتعاطون فيها كأسا ليست كخمر الدنيا تطلق اللغو والهذر من الشفاه والألسنة ، وتشيع الإثم والمعصية في الحس والجوارح. إنما هي مصفاة مبرأة : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) .. وهم يتجاذبونها بينهم ويتعاطونها مجتمعين ، زيادة في الإيناس واللذة والنعيم. في حين يقوم على خدمتهم ويطوف بالكأس عليهم غلمان صباح أبرياء ، فيهم نظافة ، وفيهم صيانة ، وفيهم نداوة : (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مما يضاعف إيناس المجلس اللطيف في الجوارح والقلوب.

واستكمالا لجو المشهد المأنوس يعرض سمرهم فيما بينهم ، وتذاكرهم ماضيهم ، وأسباب ما هم فيه من أمن ورضى ورخاء ورغد وأنس ونعيم. فيكشف للقلوب عن سر هذا المتاع ، ويشير إلى الطريق المؤدي إلى هذا النعيم :

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ..

السر إذن أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم. عاشوا في خشية من لقاء ربهم. عاشوا مشفقين من حسابه. عاشوا كذلك وهم في أهلهم ، حيث الأمان الخادع. ولكنهم لم ينخدعوا. وحيث المشغلة الملهية. ولكنهم لم ينشغلوا.

عندئذ منّ الله عليهم ووقاهم عذاب السموم ، الذي يتخلل الأجسام كالسم الحار اللاذع! وقاهم هذا العذاب منة منه وفضلا ، لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم. وهم يعرفون هذا. ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة إلا بمنة من الله وفضل. فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده ، ورغب فيما عند الله. وهذا هو المؤهل لفضل الله.

وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) .. وهم يعرفون من صفاته البر بعباده والرحمة بعبيده : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ..

وكذلك ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم.

* * *

والآن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول ؛ وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني ؛ وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق .. فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات. يطارده فيها بالحقائق الصادعة ، ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية ، وتحديات قوية ، لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق :

(فَذَكِّرْ. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟ قُلْ : تَرَبَّصُوا

١٥٣

فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ؟ أَمْ يَقُولُونَ : تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؟ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ؟ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) ..

(فَذَكِّرْ) .. والخطاب للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه ، وسوء اتهامهم له. وقد كانوا يقولون عنه مرة : إنه كاهن. ويقولون عنه مرة : إنه مجنون. ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين. وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس ، فيصابون بالجنون. فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين : كاهن أو مجنون! وكان يحملهم على وصف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا الوصف أو ذاك ، أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر. كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول ، وهم أهل القول! ولما كانوا لا يريدون ـ لعلة في نفوسهم ـ أن يعترفوا أنه من عند الله ، فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر. فقالوا : إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم. فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن ، أو ساحر يستعين بهم ، أو شاعر له رئيّ من الجن ، أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب!

وإنها لقولة فظيعة شنيعة. فالله ـ سبحانه ـ يسلي رسوله عنها ، ويصغر من شأنها في نفسه. وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه ، التي لا تكون معها كهانة ولا جنون : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ..

ثم يستنكر قولهم : إنه شاعر : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟) .. وقد قالوها. وقال بعضهم لبعض : اصبروا عليه ، واثبتوا على ما أنتم فيه ، حتى يأتيه الموت ، فيريحنا منه! وتواصوا أن يتربصوا به الموت المريح. ومن ثم يلقن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يرد عليهم في تهديد ملفوف : (قُلْ : تَرَبَّصُوا. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) .. وستعلمون من تكون له العاقبة ، ومن ينتهي به التربص إلى النصر والظهور.

ولقد كان شيوخ قريش يلقبون بذوي الحلوم. أو ذوي الأحلام. إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور. فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام. وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل ، فيسأل في تهكم : أهذه الأوصاف التي يصفون بها محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم؟ أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول :

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)!

وفي السؤال الأول تهكم لاذع. وفي السؤال الثاني اتهام مزر. وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب!

ولقد تطاولت ألسنتهم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاتهموه بافتراء ما يقول. فهو هنا يسأل في استنكار : إن كانوا يقولون : تقوّله : كأن هذه الكلمة لا يمكن أن تقال. فهو يسأل عنها في استنكار : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟) .. ويبادر ببيان علة هذا القول الغريب : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ). فعدم استشعار قلوبهم للإيمان ، هو الذي ينطقهم بمثل هذا القول ؛ بعد أن يحجبهم عن إدراك حقيقة هذا القرآن. ولو أدركوها لعلموا أنه ليس من صنع بشر ؛ وأنه لا يحمله إلا صادق أمين.

١٥٤

وما دامت قلوبهم لا تستشعر حقيقة هذا التنزيل ؛ فهو يتحداهم إذن ببرهان الواقع الذي لا يقبل المراء : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

وقد تكرر هذا التحدي في القرآن الكريم ؛ وتلقاه المنكرون عاجزين ، ووقفوا تجاهه صاغرين. وكذلك يقف أمامه كل أحد إلى يوم الدين.

إن في هذا القرآن سرا خاصا ، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء ، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها. إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير. وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن. يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنه على كل حال موجود. هذا العنصر الذي ينسكب في الحس ، يصعب تحديد مصدره : أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟!

ذلك سر مودع في كل نص قرآني ، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء .. ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله :

في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل. التصور لحقيقة الوجود الإنساني ، وحقيقة الوجود كله ، وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة. حقيقة الله سبحانه.

وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري. وهو يخاطب الفطرة ، خطابا خاصا ، غير معهود مثله في كلام البشر أجمعين ؛ وهو يقلب القلب من جميع جوانبه ومن جميع مداخله ، ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه.

وفي الشمول والتوازن والتناسق بين توجيهاته كلها ، والاستواء على أفق واحد فيها كلها. مما لا يعهد إطلاقا ، في أعمال البشر ، التي لا تستقر على حال واحدة ، ولا تستقيم على مستوى واحد ، ولا تحيط هكذا بجميع الجوانب ، ولا تملك التوازن المطلق الذي لا زيادة فيه ولا نقص ، ولا تفريط فيه ولا إفراط ، والتناسق المطلق الذي لا تعارض فيه ولا تصادم سواء في ذلك الأصول والفروع.

فهذه الظواهر المدركة .. وأمثالها .. مع ذلك السر الخافي الذي لا سبيل إلى إنكاره ... مما يسبغ على هذا الكتاب سمة الإعجاز المطلق في جميع العصور. وهي مسألة لا يماري فيها إنسان يحترم حسه ، ويحترم نفسه ، ويحترم الحقيقة التي تطالعه بقوة وعمق ووضوح ، حيثما واجه هذا القرآن بقلب سليم .. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) ..

والاستفهام التالي عن حقيقة وجودهم ، هم أنفسهم ، وهي حقيقة قائمة لا مفر لهم من مواجهتها ، ولا سبيل لهم إلى تفسيرها بغير ما يقوله القرآن فيها ، من أن لهم خالقا أوجدهم هو الله سبحانه. وهو موجود بذاته. وهم مخلوقون.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟) ..

ووجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء ؛ ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل. أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدّعوه ولا يدّعيه مخلوق. وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة ، فإنه لا يبقى إلا الحقيقة التي يقولها القرآن. وهي أنهم جميعا من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه

١٥٥

أحد في الخلق والإنشاء ؛ فلا يجوز أن يشاركه أحد في الربوبية والعبادة .. وهو منطق واضح بسيط.

كذلك يواجههم بوجود السماوات والأرض حيالهم. فهل هم خلقوها؟ فإنها لم تخلق نفسها بطبيعة الحال كما أنهم لم يخلقوا أنفسهم :

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ) ..

وهم ـ ولا أي عقل يحتكم إلى منطق الفطرة ـ لا يقولون : إن السماوات والأرض خلقت نفسها ، أو خلقت من غير خالق. وهم كذلك لا يدّعون أنهم خلقوها .. وهي قائمة حيالهم سؤالا حيا يتطلب جوابا على وجوده! وقد كانوا إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض قالوا الله .. ولكن هذه الحقيقة لم تكن تتضح في إدراكهم إلى درجة اليقين الذي ينشئ آثاره في القلب ، ويحركه إلى اعتقاد واضح دقيق .. (بَلْ لا يُوقِنُونَ) ..

ثم يهبط بهم درجة عن درجة الخلق والإبداع لأنفسهم أو للسماوات والأرض. فيسألهم : هل هم يملكون خزائن الله ، ويسيطرون على القبض والبسط ، والضر والنفع :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟) ..

وإذا لم يكونوا كذلك ، ولم يدعوا هذه الدعوى. فمن ذا يملك الخزائن ، ومن ذا يسيطر على مقاليد الأمور؟ القرآن يقول : إنه الله القابض الباسط ، المدبر المتصرف. وهذا هو التفسير الوحيد لما يجري في الكون من قبض وبسط وتصريف وتدبير. بعد انتفاء أن يكونوا هم المالكين للخزائن المسيطرين على تصريف الأمور! ثم يهبط بهم درجة أخرى فيسألهم إن كانت لهم وسيلة للاستماع إلى مصدر التنزيل :

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؟ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

إن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول لهم : إنه رسول يوحى إليه ، وإن هذا القرآن يتنزل عليه من الملأ الأعلى. وهم يكذبونه فيما يقول. فهل لهم سلم يستمعون فيه ، فيعلموا أن محمدا لا يوحى إليه ، وأن الحق غير ما يقول؟ : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). أي ببرهان قوي يحمل في ذاته سلطانا على النفوس يلجئها إلى التصديق. وفي هذا تلميح إلى سلطان القرآن الذي يطالعهم في آياته وحججه ، وهم يكابرون فيها ويعاندون! ثم يناقش إحدى مقولاتهم المتهافتة عن الله سبحانه. تلك التي ينسبون إليه فيها بنوة الملائكة ، الذين يتصورونهم إناثا ؛ موجها الخطاب مباشرة إليهم ، زيادة في التخجيل والترذيل :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟).

وهم كانوا يعتبرون البنات في درجة أقل من درجة البنين ، إلى حد أن تسود وجوههم من الكمد والكظم حين يبشرون بالأنثى. وكانوا مع هذا لا يستحيون من نسبة البنات إلى الله! فهو هنا يأخذهم بعرفهم وتقاليدهم ، ليخجلهم من هذا الادعاء. وهو في ذاته متهافت لا يستقيم!

وهم كانوا يستثقلون دعوة النبي لهم إلى الهدى ؛ وهو يقدمه لهم خالصا بريئا ، لا يطلب عليه أجرا ، ولا يفرض عليهم إتاوة. وأيسر ما يقتضيه هذا العرض البريء أن يستقبل صاحبه بالحسنى ، وأن يرد بالحسنى إذا لم يقبلوا ما يقدمه لهم ويعرضه عليهم. وهو هنا يستنكر مسلكهم الذي لا داعي له يقول :

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟) ..

أي مثقلون من الغرم الذي تكلفهم إياه في صورة الأجر على ما تقول! فإذا كان الواقع أن لا أجر ولا غرامة. فكم يبدو عملهم مسترذلا قبيحا ، يخجلون منه حين يواجهون به؟

١٥٦

ويعود يواجههم بحقيقة وجودهم ووضعهم في هذا الوجود. فهم عبيد لهم حدود. مكشوف لهم من هذا الوجود بقدر. محجوب عنهم ما وراءه ، مما يختص به صاحب هذا الوجود. فهنالك غيب من اختصاص الله يقف دونه العبيد ، لا علم لهم به ، لأنهم عبيد :

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟) ..

وهم يعلمون أن ليس عندهم الغيب ، وأن ليس لهم به علم ، وأن ليس لهم عليه قدرة. وأنهم لا يكتبون في سجل الغيب شيئا ، إنما يكتب الله فيه ما يريد ، مما يقدره للعبيد.

والذي يملك أمر الغيب وما يقدر فيه وما يدبر ، هو الذي يملك أن يدبر فيه وأن يكيد. فما لهم وهم عن الغيب محجوبون ، وفي سجله لا يكتبون يكيدون لك ويدبرون ، ويحسبون أنهم قادرون على شيء من أمر المستقبل : فيقولون : شاعر نتربص به ريب المنون؟!

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)!

وهم الذين يحيق بهم ما يقدره صاحب الغيب لهم ، وهم الذين يقع عليهم كيده ومكره. والله خير الماكرين.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ؟) .. يقيهم ويتولاهم ويرد عنهم كيد الله .. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وتنزه ـ سبحانه ـ عن تصورهم الباطل السقيم!

وبهذا التنزيه لله سبحانه عن الشرك والشركاء تختم هذه الحملة المتلاحقة الخطى ، القوية الإيقاع. وقد انكشفت كل شبهة ، ودحضت كل حجة ، ووقف القوم أمام الحقيقة العارية مجردين من كل عذر ومن كل دليل. عندئذ يقدمهم على حقيقتهم معاندين مكابرين يمارون في الحق الواضح ، متمسكين بأدنى شبهة من بعيد :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) ..

أي إنه إذا أرسل عليهم العذاب في صورة قطعة من السماء تسقط عليهم وفيها الهلاك ، قالوا وهم يرونها تسقط : (سَحابٌ مَرْكُومٌ) .. فيه الماء والحياة! عنادا منهم أن يسلموا بالحق ، ولو كان السيف على رقابهم كما يقولون! ولعله يشير بهذا إلى قصة عاد. وقولهم حين رأوا سحابة الموت والدمار : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) .. حيث كان الرد : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ : رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) ..

* * *

وعند هذا الحد من تصوير عنادهم ومكابرتهم في الحق ، ولو كان فوق رؤوسهم الهلاك ، يتجه بالخطاب إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لينفض يده من أمرهم ، ويدعهم لليوم الذي ورد ذكره ووصفه في أول السورة. وللعذاب الذي ينتظرهم من قبله. وأن يصبر لحكم ربه الذي يعزه ويرعاه ويكلؤه. وأن يسبح بحمد ربه في الصباح حين يقوم ، ومن الليل ، وعند إدبار النجوم :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) ..

وهو شوط جديد في الحملة يبدأ بالتهديد ، بذلك اليوم الرعيب ، يوم ينفخ في الصور فيصعقون. ـ قبيل البعث والنشور ـ يوم لا ينفعهم تدبير ولا ينصرهم نصير. فإذا كانوا اليوم يكيدون ويدبرون ، فهم في ذلك

١٥٧

اليوم لا يغني عنهم كيد ولا تدبير. على أن لهم قبل ذلك اليوم عذابا ـ يتركه مجهولا ولكن أكثرهم لا يعلمون.

ويفرغ بهذا التهديد الأخير من أمر المكذبين الظالمين ، الذين طاردهم هذه المطاردة الطويلة العنيفة ، لينتهي بهم إلى موقف المهدد الذي ينتظره العذاب من بعيد ومن قريب .. يفرغ منه ليلتفت إلى النبي الكريم الذي تطاول عليه المتطاولون ، وتقوّل عليه المتقولون ، يلتفت إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوجهه إلى الصبر على هذا العناء. وهذا التكذيب ، وهذا التطاول ؛ والصبر على طريق الدعوة الشاق الطويل. تاركا الأمر لحكم الله يفعل به ما يشاء : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ..

ومع التوجيه إلى الصبر إيذان بالإعزاز الرباني ، والعناية الإلهية ، والأنس الحبيب الذي يمسح على مشقات الطريق مسحا ، ويجعل الصبر عليها أمرا محببا ، وهو الوسيلة إلى هذا الإعزاز الكريم :

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) ..

ويا له من تعبير! ويا له من تصوير! ويا له من تقدير!

إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان. هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله. حتى بين التعبيرات المشابهة.

لقد قيل لموسى عليه‌السلام : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) .. وقيل له : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) .. وقيل له : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ..

وكلها تعبيرات تدل على مقامات رفيعة. ولكنه قيل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) وهو تعبير فيه إعزاز خاص ، وأنس خاص. وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل .. ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص. فحسبنا أن نشير إلى ظلاله ، وأن نعيش في هذه الظلال.

ومع هذا الإيناس هداية إلى طريق الصلة الدائمة به : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) .. فعلى مدار اليوم. عند اليقظة من النوم. وفي ثنايا الليل. وعند إدبار النجوم في الفجر. هنالك مجال الاستمتاع بهذا الإيناس الحبيب. والتسبيح زاد وأنس ومناجاة للقلوب. فكيف بقلب المحب الحبيب القريب؟؟؟

* * *

١٥٨

(٥٣) سورة النجم مكية

وآياتها ثنتان وستون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ

١٥٩

الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)

هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة. ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ؛ ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه ـ إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني ـ مثل ذلك قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) .. فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن. ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية. ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة. ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة. ومثلها كلمة (إِذاً) في وزن الآيتين بعدها : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى!) فكلمة (إِذاً) ضرورية للوزن. وإن كانت ـ مع هذا ـ تؤدي غرضا فنيا في العبارة ... وهكذا.

ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص. لون يلحظ فيه التموج والانسياب. وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة. وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول. ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير. وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع.

١٦٠