في ظلال القرآن - ج ٦

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٦

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٨٧

والآية بعد الإيحاء بالقيم الحقيقة في ميزان الله ، وبعد استجاشة شعور الأخوة ، بل شعور الاندماج في نفس واحدة ، تستثير معنى الإيمان ، وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم ، والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز : (بِئْسَ الِاسْمُ : الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ). فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما ، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وَلا تَجَسَّسُوا ، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ فَكَرِهْتُمُوهُ. وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ..

فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب ..

وتبدأ ـ على نسق السورة ـ بذلك النداء الحبيب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .. ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك. وتعلل هذا الأمر : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيّء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما!

بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السّيّئ ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع. وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب. بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم. بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم. والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «إذا ظننت فلا تحقق» (١) .. ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم. حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه. ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم!

فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير؟

ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :

(وَلا تَجَسَّسُوا) ..

والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات.

__________________

(١) أخرجه الطبراني بإسناده عن حارثة بن النعمان.

١٠١

والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم. وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.

ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا. فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية.

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال.

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر ـ مهما يكن ـ لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات. حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم. وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم. وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة.

قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب. قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.

وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما ظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله.

وروى الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن دجين كاتب عقبة. قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم. قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم. قال : ففعل فلم ينتهوا. قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا. وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة : ويحك! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها» (١)

وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم». فقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ كلمة سمعها معاوية ـ رضي الله عنه ـ من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نفعه الله تعالى بها (٢).

فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار.

فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام؟

__________________

(١) رواه أبو داود والنسائي من حديث الليث ابن سعيد

(٢) رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري.

١٠٢

بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ فَكَرِهْتُمُوهُ) ..

لا يغتب بعضكم بعضا. ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية. مشهد الأخ يأكل لحم أخيه .. ميتا ..! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!

ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ..

ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب. ويتشدد فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض.

في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ذكرك أخاك بما يكره». قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» .. ورواه الترمذي وصححه.

وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قلت للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : حسبك من صفية كذا وكذا (قال عن مسدد تعني قصيرة) فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته». قالت : وحكيت له إنسانا. فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا» ..

وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. قلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» ..

ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب! ثم سار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى مر بجيفة حمار ، فقال : «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار». قالا : غفر الله لك يا رسول الله! وهل يؤكل هذا؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» (١).

وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ.

* * *

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير وقال : إسناده صحيح.

١٠٣

وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا ؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية ؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه ..

بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق ، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها ، ليردها إلى أصل واحد ، وإلى ميزان واحد ، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ..

يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا ، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.

يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم .. من ذكر وأنثى .. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان ، واختلاف الطباع والأخلاق ، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) .. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ..

وهكذا تسقط جميع الفوارق ، وتسقط جميع القيم ، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة ، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر ، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون : ألوهية الله للجميع ، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته : لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس ، والعصبية للأرض ، والعصبية للقبيلة ، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها ، تتزيا بشتى الأزياء ، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!

وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة : راية الله .. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب. ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» (١).

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن العصبية الجاهلية : «دعوها فإنها منتنة» (٢).

وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي ، الذي تحاول البشرية

__________________

(١) رواه أبو بكر البزار في مسنده من حديث حذيفة.

(٢) رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله.

١٠٤

في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق ، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم .. الطريق إلى الله .. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة .. راية الله ..

* * *

وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته ، في الرد على الأعراب الذين قالوا : (آمَنَّا) وهم لا يدركون حقيقة الإيمان. والذين منوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان :

(قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا. قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. قُلْ : أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. قُلْ : لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ..

قيل : إنها نزلت في أعراب بني أسد. قالوا : آمنا. أول ما دخلوا في الإسلام. ومنوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول. وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاما ، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان. فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم. ولم تشربها أرواحهم : (قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا. وَلكِنْ قُولُوا : أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ..

ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا. فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيمانا واثقا مطمئنا. هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار. ولا ينقص من أجرها شيء عند الله ما بقوا على الطاعة والاستسلام : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً). ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة ، فيقبل من العبد أول خطوة ، ويرضى منه الطاعة والتسليم ، إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

ثم بين لهم حقيقة الإيمان :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله. التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور. والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب. في واقع الحياة. في دنيا الناس. يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة. ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله. لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة. ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن. يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس. والخصومة

١٠٥

بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي. وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف. فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) .. الصادقون في عقيدتهم. الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون. فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة ، فالإيمان لا يتحقق. والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون.

ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ـ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ـ) .. إنه ليس مجرد عبارة. إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية. وعلاج لحالة تقوم في النفس. حتى بعد إيمانها .. (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى .. (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ .. ثُمَّ اسْتَقامُوا ..) فعدم الارتياب. والاستقامة على قولة : ربنا الله. تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة ـ تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة ـ من ارتياب ومن اضطراب. وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع. والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله.

والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عند ما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح!

ثم يستطرد مع الأعراب يعلمهم أن الله أعلم بقلوبهم وما فيها ؛ وأنه هو يخبرهم بما فيها ولا يتلقى منهم العلم عنها :

(قُلْ : أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..

والإنسان يدعي العلم ، وهو لا يعلم نفسه ، ولا ما يستقر فيها من مشاعر ، ولا يدرك حقيقة نفسه ولا حقيقة مشاعره ؛ فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل ، لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله. وحين يراقب نفسه يكف عن عمله الطبيعي ، فلا يبقى هناك ما يراقبه! وحين يعمل عمله الطبيعي لا يملك أن يشغل في الوقت ذاته بالمراقبة! ومن ثم فهو عاجز عن معرفة خاصة ذاته وعن معرفة طريقة عمله! وهو هو الأداة التي يتطاول بها الإنسان!

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) .. علما حقيقيا. لا بظواهرها وآثارها. ولكن بحقائقها وماهياتها. وعلما شاملا محيطا غير محدود ولا موقوت.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .. بهذا الإجمال الشامل المحيط.

وبعد بيان حقيقة الإيمان التي لم يدركوها ولم يبلغوها ، يتوجه إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالخطاب عن منّهم عليه بالإسلام ؛ وهذا المن ذاته دليل على أن حقيقة الإيمان لم تكن قد استقرت بعد في تلك القلوب ، وأن حلاوة الإيمان لم تكن بعد قد تذوقتها تلك الأرواح :

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. قُلْ : لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ. بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..

١٠٦

لقد منوا بالإسلام ، وزعموا الإيمان. فجاءهم الرد أن لا يمنوا بالإسلام ، وأن المنة لله عليهم لو صدقوا في دعوى الإيمان.

ونحن نقف أمام هذا الرد ، الذي يتضمن حقيقة ضخمة ، يغفل عنها الكثيرون ، وقد يغفل عنها بعض المؤمنين ..

إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عبد من عباده في الأرض. إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد ؛ وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع.

إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة ؛ وتجعل له في نظام الكون دورا أصيلا عظيما.

وأول ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري ، حين تستقر حقيقته في قلبه ، هو سعة تصوره لهذا الوجود ، ولارتباطاته هو به ، ولدوره هو فيه ؛ وصحة تصوره للقيم والأشياء والأشخاص والأحداث من حوله ؛ وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى الله ، وأنسه بكل ما في الوجود حوله ، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود ؛ وشعوره بقيمته وكرامته ؛ وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى عنه الله ، ويحقق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه.

فمن سعة تصوره أن يخرج من نطاق ذاته المحدودة في الزمان والمكان ، الصغيرة الكيان ، الضئيلة القوة. إلى محيط هذا الوجود كله ، بما فيه من قوى مذخورة ، وأسرار مكنونة ؛ وانطلاق لا تقف دونه حدود ولا قيود في نهاية المطاف.

فهو ، بالقياس إلى جنسه ، فرد من إنسانية ، ترجع إلى أصل واحد. هذا الأصل اكتسب إنسانيته ابتداء من روح الله. من النفخة العلوية التي تصل هذا الكائن الطيني بالنور الإلهي. النور الطليق الذي لا تحصره سماء ولا أرض ولا بدء ولا انتهاء. فلا حد له في المكان ، ولا حد له في الزمان. وهذا العنصر الطليق هو الذي جعل من المخلوق البشري هذا الإنسان .. ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان ليرفعه في نظر نفسه ، وليكرمه في حسه ، وليشعره بالوضاءة والانطلاق ؛ وقدماه تدبان على الأرض ، وقلبه يرف بأجنحة النور إلى مصدر النور الأول الذي منحه هذا اللون من الحياة.

وهو ، بالقياس إلى الفئة التي ينتسب إليها ، فرد من الأمة المؤمنة. الأمة الواحدة ، الممتدة في شعاب الزمن ، السائرة في موكب كريم ، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين ، صلوات الله عليهم أجمعين .. ويكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان ، فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة ، العميقة الجذور ، الممتدة الفروع ، المتصلة بالسماء في عمرها المديد .. يكفي أن يشعر الإنسان هذا الشعور ليجد للحياة طعما آخر ؛ وليحس بالحياة إحساسا جديدا ، وليضيف إلى حياته هذه حياة كريمة ، مستمدة من هذا النسب العريق.

ثم يتسع تصوره ويتسع حتى يتجاوز ذاته وأمته وجنسه الإنساني ؛ ويرى هذا الوجود كله. الوجود الصادر عن الله ، الذي عنه صدر ، ومن نفخة روحه صار إنسانا. ويعرفه إيمانه أن هذا الوجود كله كائن حي ، مؤلف من كائنات حية. وأن لكل شيء فيه روحا ، وأن لهذا الكون كله روحا .. وأن أرواح الأشياء ، وروح هذا الكون الكبير ، تتوجه إلى بارئها الأعلى ـ كما تتوجه روحه هو ـ بالدعاء والتسبيح ؛ وتستجيب له بالحمد والطاعة ، وتنتهي إليه بالإذعان والاستسلام. فإذا هو في كيان هذا الكون ، جزء من كل ، لا ينفصل ولا ينعزل. صادر عن بارئه ، متجه إليه بروحه ، راجع في النهاية إليه. وإذا هو أكبر من ذاته المحدودة. أكبر بقدر تصوره لضخامة هذا الوجود الهائل. وإذا هو مأنوس بكل ما حوله من أرواح. ومأنوس بعد ذلك كله

١٠٧

بروح الله التي ترعاه. وعندئذ يشعر أنه يملك أن يتصل بهذا الوجود كله ، وأن يمتد طولا وعرضا فيه ؛ وأنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة ، وأن ينشئ أحداثا ضخمة ، وأن يؤثر بكل شيء ويتأثر. ثم يملك أن يستمد مباشرة من تلك القوة الكبرى التي برأته وبرأت كل ما في الوجود من قوى وطاقات. القوة الكبرى التي لا تنحسر ولا تضعف ولا تغيب.

ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات. ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود ، ومهمته الحقيقية في هذه الحياة. بوصفه قدرا من أقدار الله في الكون ، يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء. ويمضي في رحلته على هذا الكوكب ، ثابت الخطو ، مكشوف البصيرة ، مأنوس الضمير.

ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله ، ولحقيقة الدور المقسوم له ، ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور. من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله ، ولما يقع له. فهو يعرف من أين جاء؟ ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا هو واجد هناك؟ وقد علم أنه هنا لأمر ، وأن كل ما يقع له مقدر لتمام هذا الأمر. وعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة ، وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ، ولن يمضي مفردا ..

ومن هذه المعرفة تختفي مشاعر القلق والشك والحيرة الناشئة عن عدم معرفة المنشأ والمصير ؛ وعدم رؤية المطوي من الطريق ، وعدم الثقة بالحكمة التي تكمن وراء مجيئه وذهابه ، ووراء رحلته في ذلك الطريق.

يختفي شعور كشعور الخيام الذي يعبر عنه بما ترجمته :

لبست ثوب العمر لم أستشر

وحرت فيه بين شتى الفكر

وسوف أنضو الثوب عني ولم

أدر لما ذا جئت أين المقر؟

فالمؤمن يعرف ـ بقلب مطمئن ، وضمير مستريح ، وروح مستبشرة ـ أنه يلبس ثوب العمر بقدر الله الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخيبر. وأن اليد التي ألبسته إياه أحكم منه وأرحم به ، فلا ضرورة لاستشارته لأنه لم يكن ليشير كما يشير صاحب هذه اليد العليم البصير. وأنه يلبسه لأداء دور معين في هذا الكون ، يتأثر بكل ما فيه ، ويؤثر في كل ما فيه. وأن هذا الدور يتناسق مع جميع الأدوار التي يقوم بها كل كائن من الأشياء والأحياء منذ البدء حتى المصير.

وهو يعلم إذن لما ذا جاء ، كما أنه يعرف أين المقر ، ولا يحار بين شتى الفكر ، بل يقطع الرحلة ويؤدي الدور في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين. وقد يرتقي في المعرفة الإيمانية ، فيقطع الرحلة ويؤدي الدور في فرح وانطلاق واستبشار ، شاعرا بجمال الهبة وجلال العطية. هبة العمر ـ أو الثوب ـ الممنوح له من يد الكريم المنان ، الجميل اللطيف ، الودود الرحيم. وهبة الدور الذي يؤديه ـ كائنا ما كان من المشقة ـ لينتهي به إلى ربه في اشتياق حبيب!

ويختفي شعور كالشعور الذي عشته في فترة من فترات الضياع والقلق ، قبل أن أحيا في ظلال القرآن ، وقبل أن يأخذ الله بيدي إلى ظله الكريم. ذلك الشعور الذي خلعته روحي المتعبة على الكون كله ، فعبرت عنه أقول :

وقف الكون حائرا أين يمضي؟

ولما ذا وكيف ـ لو شاء ـ يمضي؟

عبث ضائع وجهد غبين

ومصير مقنّع ليس يرضي

١٠٨

فأنا أعرف اليوم ـ ولله الحمد والمنة ـ أنه ليس هناك جهد غبين فكل جهد مجزي. وليس هناك تعب ضائع فكل تعب مثمر. وأن المصير مرض وأنه بين يدي عادل رحيم. وأنا أشعر اليوم ـ ولله الحمد والمنة ـ أن الكون لا يقف تلك الوقفة البائسة أبدا ؛ فروح الكون تؤمن بربها ، وتتجه إليه ، وتسبح بحمده. والكون يمضي وفق ناموسه الذي اختاره الله له ، في طاعة وفي رضى وفي تسليم!

وهذا كسب ضخم في عالم الشعور وعالم التفكير ، كما أنه كسب ضخم في عالم الجسد والأعصاب ، فوق ما هو كسب ضخم في جمال العمل والنشاط والتأثر والتأثير.

والإيمان ـ بعد ـ قوة دافعة وطاقة مجمعة. فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل ، ولتحقق ذاتها في الواقع ، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة. كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها ، وتدفعها في الطريق ..

«ذلك سر قوة العقيدة في النفس ، وسر قوة النفس بالعقيدة. سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض وما تزال في كل يوم تصنعها. الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم ، وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى ؛ وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار ، فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد مؤمن. وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعا ، ولكنها القوة الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح ، والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضاعف» (١).

«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة ، ولا تعتمد على التهاويل والرؤى. إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة. إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخفية ، وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة ، وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة ، بقوة اليقين في النصر ، وقوة الثقة في الله. وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء ، وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه ، وتجمع طاقاته وقواه كلها ، وتدفعها في اتجاه. ومن هنا كذلك قوتها. قوة تجميع القوى والطاقات حول محور واحد ، وتوجيهها في اتجاه واحد ، تمضي إليه مستنيرة الهدف ، في قوة ، وفي ثقة ، وفي يقين» (٢).

ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهره وخافيه. وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة تتجه اتجاها إيمانيا ، فيلتقي بها المؤمن في طريقه ، وينضم إلى زحفها الهائل لتغليب الحق على الباطل. مهما يكن للباطل من قوة ظاهرة لها في العيون بريق!

وصدق الله العظيم : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. قُلْ : لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ. بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فهي المنة الكبرى التي لا يملكها ولا يهبها إلا الله الكريم ، لمن يعلم منه أنه يستحق هذا الفضل العظيم.

وصدق الله العظيم. فماذا فقد من وجد الأنس بتلك الحقائق والمدركات وتلك المعاني والمشاعر؟ وعاش بها ومعها ، وقطع رحلته على هذا الكوكب في ظلالها وعلى هداها؟ وماذا وجد من فقدها ولو تقلب في أعطاف

__________________

(١) مقتطفات من فصل : «العقيدة والحياة» في كتاب : «السلام العالمي والإسلام».

(٢) المصدر السابق.

١٠٩

النعيم. وهو يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام. والأنعام أهدى لأنها تعرف بفطرتها الإيمان ؛ وتهتدي به إلى بارئها الكريم؟

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ..

والذي يعلم غيب السماوات والأرض يعلم غيب النفوس ، ومكنون الضمائر ، وحقائق الشعور ويبصر ما يعمله الناس ، فلا يستمد علمه بهم من كلمات تقولها ألسنتهم ؛ ولكن من مشاعر تجيش في قلوبهم ، وأعمال تصدق ما يجيش في القلوب ..

* * *

وبعد فهذه هي السورة الجليلة ، التي تكاد بآياتها الثمانية عشرة تستقل برسم معالم عالم كريم نظيف رفيع سليم. بينما هي تكشف كبريات الحقائق ، وتقرر أصولها في أعماق الضمير ..

* * *

١١٠

(٥٠) سورة ق مكيّة

وآياتها خمس وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي

١١١

جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ، في الجماعات الحافلة .. وإن لها لشأنا ..

إنها سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال.

وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ؛

١١٢

وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب!

وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع .. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ..

وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير.

فلنأخذ في استعراض السورة بذاتها .. والله المستعان ..

* * *

(ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، فقال الكافرون : هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد. قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ، وعندنا كتاب حفيظ. بل كذبوا بالحق لما جاءهم ، فهم في أمر مريج. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقا للعباد ، وأحيينا به بلدة ميتا. كذلك الخروج.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ؛ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ..

* * *

هذا هو المقطع الأول في السورة. وهو يعالج قضية البعث ، وإنكار المشركين له ، وعجبهم من ذكره والقول به. ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده. إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلا إلى الحق ، ويقوّم ما فيها من عوج ؛ ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود. ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث. وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر ، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب .. وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب!

وتبدأ السورة بالقسم. القسم بالحرف : «قاف» وبالقرآن المجيد ، المؤلف من مثل هذا الحرف. بل إنه هو أول حرف في لفظ «قرآن» ..

ولا يذكر المقسم عليه. فهو قسم في ابتداء الكلام ، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام. فالأمر جلل ، والله يبدأ الحديث بالقسم ، فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء. إذ يضرب بعده بحرف (بَلْ) عن المقسم عليه ـ بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب ـ ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج :

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، فَقالَ الْكافِرُونَ : هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

١١٣

بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. وما في هذا من عجب. بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقلبه الفطرة السليمة ببساطة وترحيب. الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحدا منهم ، يحس بإحساسهم ، ويشعر بشعورهم ، ويتكلم بلغتهم ، ويشاركهم حياتهم ونشاطهم ، ويدرك دوافعهم وجواذبهم ، ويعرف طاقتهم واحتمالهم ، فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه ؛ ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح ؛ ويبلغهم التكاليف التي يفرضها الاتجاه الجديد ، وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف.

ولقد عجبوا من الرسالة ذاتها ، وعجبوا ـ بصفة خاصة ـ من أمر البعث الذي حدثهم عنه هذا المنذر أول ما حدثهم. فقضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة الإسلامية. قاعدة تقوم عليها العقيدة ويقوم عليها التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة. فالمسلم مطلوب منه أن يقوم على الحق ليدفع الباطل ، وأن ينهض بالخير ليقضي على الشر ، وأن يجعل نشاطه كله في الأرض عبادة لله ، بالتوجه في هذا النشاط كله لله. ولا بد من جزاء على العمل. وهذا الجزاء قد لا يتم في رحلة الأرض. فيؤجل للحساب الختامي بعد نهاية الرحلة كلها. فلا بد إذن من عالم آخر ، ولا بد إذن من بعث للحساب في العالم الآخر .. وحين ينهار أساس الآخرة في النفس ينهار معه كل تصور لحقيقة هذه العقيدة وتكاليفها ؛ ولا تستقيم هذه النفس على طريق الإسلام أبدا.

ولكن أولئك القوم لم ينظروا للمسألة من هذا الجانب أصلا. إنما نظروا إليها من جانب آخر ساذج شديد السذاجة ، بعيد كل البعد عن إدراك حقيقة الحياة والموت ، وعن إدراك أي طرف من حقيقة قدرة الله. فقالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)!

والمسألة إذن في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى. وهي نظرة ساذجة كما أسلفنا ، لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى. كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة ، وتحيط بهم في جنبات الكون كله. وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة.

غير أننا قبل أن نمضي مع لمسات القرآن وآياته الكونية في معرض الحياة ، نقف أمام لمسة البلى والدثور التي تتمثل في حكاية قولهم والتعليق عليه :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...)؟ .. وإذن فالناس يموتون. وإذن فهم يصيرون ترابا. وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه ، وإلى غيره من الأحياء حوله. يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور. بل ليحس دبيب البلى في جسده وهو بعد حي فوق التراب! وما كالموت يهز قلب الحي ، وليس كالبلى يمسه بالرجفة والارتعاش.

والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها ؛ وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئا فشيئا :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) ..

لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها ، وتأكلها رويدا رويدا. ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى. ليقول : إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم ، وهو مسجل في كتاب حفيظ ؛ فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب ، فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي.

وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها ، وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال. وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها!

ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية. ذلك أنهم تركوا الحق الثابت ،

١١٤

فمادت الأرض من تحتهم ، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدا :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ..

وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت ، فلا يقر لهم من بعده قرار ..

إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه ، ولا تضطرب خطاه ، لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله ـ عدا الحق الثابت ـ مضطرب مائج مزعزع مريج ، لا ثبات له ولا استقرار ، ولا صلابة له ولا احتمال. فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج ، وفقد الثبات والاستقرار ، والطمأنينة والقرار. فهو أبدا في أمر مريج لا يستقر على حال!

ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء ، وتتناوحه الهواجس ، وتتخاطفه الهواتف ، وتمزقه الحيرة ، وتقلقه الشكوك. ويضطرب سعيه هنا وهناك ، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال. وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين ، ولا بملجأ أمين .. فهو في أمر مريج ..

إنه تعبير عجيب ، يجسم خلجات القلوب ، وكأنها حركة تتبعها العيون!

واستطرادا مع إيقاع الحق الثابت المستقر الراسي الشامخ ـ وفي الطريق إلى مناقشة اعتراضهم على حقيقة البعث ـ يعرض بعض مظاهر الحق في بناء الكون ؛ فيوجه أنظارهم إلى السماء وإلى الأرض وإلى الرواسي ، وإلى الماء النازل من السماء ، وإلى النخل الباسقات ، وإلى الجنات والنبات. في تعبير يتناسق مع صفة الحق الثابت الراسي .. الجميل ..

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها؟ وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) ..

إن هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه. أفلم ينظروا إلى ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار؟ وإلى ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال وبراءة من الخلل والاضطراب! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا. مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال. ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج.

وكذلك الأرض صفحة من كتاب الكون القائم على الحق المستقر الأساس الجميل البهيج :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ..

فالامتداد في الأرض والرواسي الثابتات والبهجة في النبات .. تمثل كذلك صفة الاستقرار والثبات والجمال ، التي وجه النظر إليها في السماء.

وعلى مشهد السماء المبنية المتطاولة الجميلة ، والأرض الممدودة الراسية البهيجة يلمس قلوبهم ، ويوجهها إلى جانب من حكمة الخلق ، ومن عرض صفحات الكون :

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ..

تبصرة تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح القلوب ، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب ، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب .. تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب ، يرجع إلى ربه من قريب.

وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل. هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون ، والتعرف إليه أثرا في القلب البشري ، وقيمة في الحياة البشرية. هذه هي الوصلة

١١٥

التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها «علمية» في هذا الزمان. فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه. فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون ؛ وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير. وكل معرفة بنجم من النجوم ، أو فلك من الأفلاك ، أو خاصة من خواص النبات والحيوان ، أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة ـ إذا كانت هناك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود! ـ كل معرفة «علمية» يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري ، وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون ، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء. وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه .. وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر ، هي معرفة ناقصة ، أو علم زائف ، أو بحث عقيم!

إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح ، الذي يقرأ بكل لغة ، ويدرك بكل وسيلة ؛ ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ ، والمتحضر ساكن العمائر والقصور. كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده ، فيجد فيه زادا من الحق ، حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق. وهو قائم مفتوح في كل آن : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين. لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة «المنهج العلمي». المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه!

والمنهج الإيماني لا ينقص شيئا من ثمار «المنهج العلمي» في إدراك الحقائق المفردة. ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض ، وردها إلى الحقائق الكبرى ، ووصل القلب البشري بها ، أي وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود ، وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم ؛ لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق ..

وبعد هذه اللفتة يمضي في عرض صفحات الحق في كتاب الكون ـ في طريقه إلى قضية الإحياء والبعث :

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ..

والماء النازل من السماء آية تحيي موات القلوب قبل أن تحيي موات الأرض. ومشهده ذو أثر خاص في القلب لا شك فيه. وليس الأطفال وحدهم هم الذين يفرحون بالمطر ويطيرون له خفافا. فقلوب الكبار الحساسين تستروح هذا المشهد وتصفق له كقلوب الأطفال الأبرياء ، القريبي العهد بالفطرة!

ويصف الماء هنا بالبركة ، ويجعله في يد الله سببا لإنبات جنات الفاكهة وحب الحصيد ـ وهو النبات المحصود ـ ومما ينبته به النخل. ويصفها بالسموق والجمال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) .. وزيادة هذا الوصف للطلع مقصودة لإبراز جمال الطلع المنضد في النخل الباسق. وذلك تمشيا مع جو الحق وظلاله. الحق السامق الجميل.

ويلمس القلوب وهو يمتن عليها بالماء والجنات والحب والنخل والطلع : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) .. رزقا يسوق الله سببه ، ويتولى نبته ، ويطلع ثمره ، للعباد ، وهو المولى ، وهم لا يقدرون ولا يشكرون!

١١٦

وهنا ينتهي بموكب الكون كله إلى الهدف الأخير :

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ..

فهي عملية دائمة التكرار فيما حولهم ، مألوفة لهم ؛ ولكنهم لا ينتبهون إليها ولا يلحظونها قبل الاعتراض والتعجيب .. كذلك الخروج .. على هذه الوتيرة ، وبهذه السهولة .. الآن يقولها وقد حشد لها من الإيقاعات الكونية على القلب البشري ذلك الحشد الطويل الجميل المؤثر الموحي لكل قلب منيب .. وكذلك يعالج القلوب خالق القلوب ..

* * *

ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون ، تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث ، وكذبوا كما يكذبون بالرسل ، فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ..

والرس : البئر : المطوية غير المبنية. والأيكة : الشجر الملتف الكثيف. وأصحاب الأيكة هم ـ في الغالب ـ قوم شعيب. أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة. وكذلك قوم تبع. وتبع لقب لملوك حمير باليمن. وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقارئ القرآن.

وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام. ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين. حين كذبوا الرسل. والذي يلفت النظر هو النص على أن كلا منهم كذب الرسل : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ). وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة. فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين ؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون. والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان ، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها ، وصورة منها. ومن يمس منها فرعا فقد مس الأصل وسائر الفروع .. (فَحَقَّ وَعِيدِ) ونالهم ما يعرف السامعون!

وفي ظل هذه المصارع يعود إلى القضية التي بها يكذبون. قضية البعث من جديد. فيسأل : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟) .. والخلق شاهد حاضر فلا حاجة إلى جواب! (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) .. غير ناظرين إلى شهادة الخلق الأول الموجود! فماذا يستحق من يكذب وأمامه ذلك الشاهد المشهود؟!

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ .. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا

١١٧

بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ..

* * *

وهذا هو المقطع الثاني في السورة : استطراد مع قضية البعث ، التي عالجها الشوط الأول ؛ وعلاج للقلوب المكذبة بلمسات جديدة ، ولكنها رهيبة مخيفة. إنها تلك الرقابة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. ومشاهدها التي تمثلها وتشخصها. ثم مشهد الموت وسكراته. ثم مشهد الحساب وعرض السجلات. ثم مشهد جهنم فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها البشري تقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟). وإلى جواره مشهد الجنة والنعيم والتكريم.

إنها رحلة واحدة تبدأ من الميلاد ، وتمر بالموت ، وتنتهي بالبعث والحساب. رحلة واحدة متصلة بلا توقف ؛ ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد ؛ وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملص ولا يتفلت ، وتحت رقابته التي لا تفتر ولا تغفل. وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة. وكيف بإنسان في قبضة الجبار ، المطلع على ذات الصدور؟ وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان ، الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام!

إنه ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه ، حين يشعر أن السلطان في الأرض يتتبعه بجواسيسه وعيونه ، ويراقبه في حركته وسكونه. وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا الحركة الظاهرة. وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره ، وإذا أغلق عليه بابه ، أو إذا أغلق فمه! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار. وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار .. فكيف؟ كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة؟!

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ، وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ..

إن ابتداء الآية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) .. يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة. فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها. وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشئ مادتها ، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها. فكيف بالمنشئ الموجد الخالق؟ إن الإنسان خارج من يد الله أصلا ؛ فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره ..

(وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) .. وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر ، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله ، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده!

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .. الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة ، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها. بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة.

١١٨

ولكن القرآن يستطرد في إحكام الرقابة. فإذا الإنسان يعيش ويتحرك وينام ويأكل ويشرب ويتحدث ويصمت ويقطع الرحلة كلها بين ملكين موكلين به ، عن اليمين وعن الشمال ، يتلقيان منه كل كلمة وكل حركة ويسجلانها فور وقوعها :

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). أي رقيب حاضر ، لا كما يتبادر إلى الأذهان أن اسمي الملكين رقيب ، وعتيد!

ونحن لا ندري كيف يسجلان. ولا داعي للتخيلات التي لا تقوم على أساس. فموقفنا بإزاء هذه الغيبيات أن نتلقاها كما هي ، ونؤمن بمدلولها دون البحث في كيفيتها ، التي لا تفيدنا معرفتها في شيء. فضلا على أنها غير داخلة في حدود تجاربنا ولا معارفنا البشرية.

ولقد عرفنا نحن ـ في حدود علمنا البشري الظاهر ـ وسائل للتسجيل لم تكن تخطر لأجدادنا على بال. وهي تسجل الحركة والنبرة كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما وأشرطة التليفزيون. وهذا كله في محيطنا نحن البشر. فلا داعي من باب أولى أن نقيد الملائكة بطريقة تسجيل معينة مستمدة من تصوراتنا البشرية المحدودة ، البعيدة نهائيا عن ذلك العالم المجهول لنا ، والذي لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به الله. بلا زيادة!

وحسبنا أن نعيش في ظلال هذه الحقيقة المصورة ، وأن نستشعر ونحن نهم بأية حركة وبأية كلمة أن عن يميننا وعن شمالنا من يسجل علينا الكلمة والحركة ؛ لتكون في سجل حسابنا ، بين يدي الله الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير.

حسبنا أن نعيش في ظل هذه الحقيقة الرهيبة. وهي حقيقة. ولو لم ندرك نحن كيفيتها. وهي كائنة في صورة ما من الصور ، ولا مفر من وجودها ، وقد أنبأنا الله بها لنحسب حسابها. لا لننفق الجهد عبثا في معرفة كيفيتها!

والذين انتفعوا بهذا القرآن ، وبتوجيهات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الخاصة بحقائق القرآن ، كان هذا سبيلهم : أن يشعروا ، وأن يعملوا وفق ما شعروا ..

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة ، عن بلال بن الحارث المزني ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ، ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتاب الله عزوجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتاب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» .. قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. (ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث محمد بن عمرو به وقال الترمذي : حسن صحيح).

وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن. فسمع أن الأنين يكتب. فسكت حتى فاضت روحه رضوان الله عليه.

وهكذا كان أولئك الرجال يتلقون هذه الحقيقة فيعيشون بها في يقين.

* * *

تلك صفحة الحياة ، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ. ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ..

١١٩

والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه ، أو يبعد شبحه عن خاطره. ولكن أنى له ذلك : والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطىء الخطى ، ولا يخلف الميعاد ؛ وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : «سبحان الله. إن للموت لسكرات» .. يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله. فكيف بمن عداه؟

ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) .. وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت. تراه بلا حجاب ، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد ، ولكن بعد فوات الأوان ، حين لا تنفع رؤية ، ولا يجدي إدراك ، ولا تقبل توبة ، ولا يحسب إيمان. وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج! .. وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئا ولا يفيد!

* * *

ومن سكرة الموت ، إلى وهلة الحشر ، وهول الحساب :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ..

وهو مشهد يكفي استحضاره في النفس لتقضي رحلتها كلها على الأرض في توجس وحذر وارتقاب. وقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن له؟» قالوا : يا رسول الله ، كيف نقول؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل». فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل (١) ..

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) .. جاءت كل نفس. فالنفس هنا هي التي تحاسب ، وهي التي تتلقى الجزاء. ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها. قد يكونان هما الكاتبان الحافظان لها في الدنيا. وقد يكونان غيرهما. والأول أرجح. وهو مشهد أشبه شيء بالسوق للمحاكمة. ولكن بين يدي الجبار.

وفي هذا الموقف العصيب يقال له : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .. قوي لا يحجبه حجاب ، وهذا هو الموعد الذي غفلت عنه ، وهذا هو الموقف الذي لم تحسب حسابه ، وهذه هي النهاية التي كنت لا تتوقعها. فالآن فانظر. فبصرك اليوم حديد!

هنا يتقدم قرينه. والأرجح أنه الشهيد الذي يحمل سجل حياته : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) .. حاضر مهيأ معد. لا يحتاج إلى تهيئة أو إعداد!

ولا يذكر السياق شيئا عن مراجعة هذا السجل تعجيلا بتوقيع الحكم وتنفيذه. إنما يذكر مباشرة النطق العلوي الكريم ، للملكين الحافظين : السائق والشهيد : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ

__________________

(١) رواه الترمذي.

١٢٠