في ظلال القرآن - ج ٥

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٥

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٩

الأرض ؛ فهم أحق الناس بأن يحذروه ، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه ، وأن يبيتوا منه على وجل ، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان ، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؟) ليشعرهم أن أمرهم يهمه ، فهو واحد منهم ، ينتظر مصيره معهم ؛ وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم ، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص. وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه ، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف.

هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتا على سلطانه ، ونقصا من نفوذه ، ومشاركة له في النفوذ والسلطان :

(قالَ فِرْعَوْنُ : ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ..

إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا ، وأعتقده نافعا. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!

ولكن الرجل المؤمن يجد من إيمانه غير هذا ؛ ويجد أن عليه واجبا أن يحذر وينصح ويبدي من الرأي ما يراه. ويرى من الواجب عليه أن يقف إلى جوار الحق الذي يعتقده كائنا ما كان رأي الطغاة. ثم هو يطرق قلوبهم بإيقاع آخر لعلها تحس وتستيقظ وترتعش وتلين. يطرق قلوبهم بلفتها على مصارع الأحزاب قبلهم. وهي شاهدة ببأس الله في أخذ المكذبين والطغاة :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ..

ولكل حزب كان يوم. ولكن الرجل المؤمن يجمعها في يوم واحد : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الله .. وهو يوم واحد في طبيعته على تفرق الأحزاب .. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) إنما يأخذهم بذنوبهم ، ويصلح من حولهم ومن بعدهم بأخذهم بأيام الله.

ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى ، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله. يوم القيامة. يوم التنادي :

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ..

وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف. وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار. وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة .. فالتنادي واقع في صور شتى. وتسميته (يَوْمَ التَّنادِ) تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك ، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) .. وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم ، أو محاولتهم الفرار. ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض ، أصحاب الجاه والسلطان!

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) .. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) .. وتلميحا بأن الهدى هدى الله. وأن من أضله الله فلا هادي له. والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال.

٥٤١

وأخيرا يذكرهم بموقفهم من يوسف ، ومن ذريته كان موسى ـ عليهما‌السلام ـ وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات ، فلا يكرروا الموقف من موسى ، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف ، فكانوا منه في شك وارتياب. ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولا ، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ : لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ. الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ..

وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف ـ عليه‌السلام ـ للقوم في مصر. وقد عرفنا من سورة يوسف ، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض ، المتصرف فيها. وأنه أصبح «عزيز مصر» وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر. وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر ـ وإن لم يكن ذلك مؤكدا ـ وذلك قوله :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) ..

وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئا آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية. وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان. ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن. حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل ، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) .. وكأنما استراحوا لموته ، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة ، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص ، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) .. فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول ، لأن هذه كانت رغبتهم. وكثيرا ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه ، لأن تحققه يلبي هذه الرغبة!

والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ..

فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات.

ثم يشتد في مواجهتهم بمقت الله ومقت المؤمنين لمن يجادل في آيات الله بغير حجة ولا برهان. وهم يفعلون هذا في أبشع صورة. ويندد بالتكبر والتجبر ، وينذر بطمس الله لقلوب المتكبرين المتجبرين!

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ..

والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الأصل من التعبير المباشر في مطالع السورة. المقت للمجادلين في آيات الله بغير برهان ، والإضلال للمتكبرين المتجبرين حتى ما يبقى في قلوبهم موضع للهدى ، ولا منفذ للإدراك.

* * *

وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها ؛ فقد ظل فرعون في ضلاله ، مصرا على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته

٥٤٢

كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهربا جديدا :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً. وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) ..

يا هامان ابن لي بناء عاليا لعلي أبلغ به أسباب السماوات ، لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) .. هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. وبعيد أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى. وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله ، وتبجحه في جحوده : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) ..

وهو مستحق لأن يصد عن السبيل ، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل.

ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار :

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) ..

* * *

وأمام هذه المراوغة ، وهذا الاستهتار ، وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة ، بعد ما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله ، وهو طريق الرشاد. وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة ؛ وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية ؛ وحذرهم عذاب الآخرة ؛ وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ. وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ. فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ. إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ..

إنها الحقائق التي تقررت من قبل في صدر السورة ، يعود الرجل المؤمن فيقررها في مواجهة فرعون وملئه. إنه يقول في مواجهة فرعون :

(يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ..

وقد كان فرعون منذ لحظات يقول : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق لا يخشى فيها سلطان فرعون الجبار ، ولا ملأه المتآمرين معه من أمثال هامان وقارون. وزيري فرعون فيما يقال.

ويكشف لهم عن حقيقة الحياة الدنيا : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) .. متاع زائل لاثبات له ولا دوام. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) .. فهي الأصل وإليها النظر والاعتبار.

ويقرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار :

٥٤٣

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ..

فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديرا لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب.

ويستنكر الرجل المؤمن أن يدعوهم إلى النجاة فيدعونه إلى النار ، فيهتف بهم في استنكار :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) ..

وهم لم يدعوه إلى النار. إنما دعوه إلى الشرك. وما الفرق بين الدعوة إلى الشرك والدعوة إلى النار؟ إنها قريب من قريب. فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية :

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) ..

وشتان بين دعوة ودعوة. إن دعوته لهم واضحة مستقيمة. إنه يدعوهم إلى العزيز الغفار. يدعوهم إلى إله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته ، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره. يدعوهم إليه ليغفر لهم وهو القادر على أن يغفر ، الذي تفضل بالغفران : (الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) .. فإلى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله. عن طريق إشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز!

ويقرر من غير شك ولا ريبة أن هؤلاء الشركاء ليس لهم من الأمر شيء ، وليس لهم شأن لا في دنيا ولا في آخرة ، وأن المرد لله وحده ، وأن المسرفين المتجاوزين للحد في الادعاء سيكونون أهل النار :

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة؟ وقد جهر بها الرجل في مواجهة فرعون وملئه بلا تردد ولا تلعثم ، بعد ما كان يكتم إيمانه ، فأعلن عنه هذا الإعلان؟ لا يبقى إلا أن يفوض أمره إلى الله ، وقد قال كلمة وأراح ضميره ، مهددا إياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى. والأمر كله إلى الله :

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ..

وينتهي الجدل والحوار. وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.

* * *

ويجمل السياق حلقات القصة بعد هذا. وما كان بين موسى وفرعون وبني إسرائيل. إلى موقف الغرق والنجاة :

ويقف ليسجل «لقطات» بعد هذا الموقف الأخير. وبعد الحياة :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها ، إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا : بَلى. قالُوا :

٥٤٤

فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..

لقد طويت الدنيا ، وعرضت أول صفحة بعدها. فإذا الرجل المؤمن الذي قال كلمة الحق ومضى ، قد وقاه الله سيئات مكر فرعون وملئه ، فلم يصبه من آثارها شيء في الدنيا ، ولا فيما بعدها أيضا. بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

والنص يلهم أن عرضهم على النار غدوا وعشيا ، هو في الفترة من بعد الموت إلى قيام الساعة. وقد يكون هذا هو عذاب القبر. إذ أنه يقول بعد هذا : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .. فهو إذن عذاب قبل يوم القيامة. وهو عذاب سيىء. عرض على النار في الصباح وفي المساء. إما للتعذيب برؤيتها وتوقع لذعها وحرها ـ وهو عذاب شديد ـ وإما لمزاولتها فعلا. فكثيرا ما يستعمل لفظ العرض للمس والمزاولة. وهذه أدهى .. ثم إذا كان يوم القيامة أدخلوا أشد العذاب!

فأما في الآية التالية فقد كانت القيامة فعلا ، والسياق يلتقط لهم موقفا في النار! وهم يتحاجون فيها :

(فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟).

إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا. لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولا وإمعات! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنما تساق! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار!

لقد منحهم الله الكرامة. كرامة الإنسانية. وكرامة التبعة الفردية. وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعا. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم : لا. بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال .. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) .. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعا لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة. سوق الشياه! ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) .. كما كانوا يوهمونهم في الأرض أنهم يقودونهم في طريق الرشاد ، وأنهم يحمونهم من الفساد ، وأنهم يمنعونهم من الشر والضر وكيد الأعداء!

فأما الذين استكبروا فيضيقون صدرا بالذين استضعفوا ، ويجيبونهم في ضيق وبرم وملالة. وفي إقرار بعد الاستكبار :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) ..

(إِنَّا كُلٌّ فِيها) .. إنا كل ضعاف لا نجد ناصرا ولا معينا. إنا كل في هذا الكرب والضيق سواء. فما سؤالكم لنا وأنتم ترون الكبراء والضعاف سواء؟

(إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) .. فلا مجال لمراجعة في الحكم ، ولا مجال لتغيير فيه أو تعديل. وقد قضي الأمر ، وما من أحد من العباد يخفف شيئا من حكم الله.

وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع ، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء :

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ : ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) ..

إنهم يستشفعون حراس جهنم ، ليدعوا ربهم. في رجاء يكشف عن شدة البلاء : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا

٥٤٥

يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) .. يوما. يوما فقط. يوما يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون. فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء.

ولكن خزنة جهنم لا يستجيبون لهذه الضراعة البائسة الذليلة الملهوفة. فهم يعرفون الأصول. ويعرفون سنة الله ، ويعرفون أن الأوان قد فات. وهم لهذا يزيدون المعذبين عذابا بتأنيبهم وتذكيرهم بسبب هذا العذاب :

(قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ .. قالُوا : بَلى).

وفي السؤال وفي جوابه ما يغني عن كل حوار. وعندئذ نفض الخزنة أيديهم منهم ، وأسلموهم إلى اليأس مع السخرية والاستهتار :

(قالُوا : فَادْعُوا) ..

إن كان الدعاء يغير من حالكم شيئا ، فتولوا أنتم الدعاء.

وتعقب الآية قبل تمامها على هذا الدعاء :

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ..

لا يبلغ. ولا يصل. ولا ينتهي إلى جواب. إنما هو الإهمال والازدراء للكبراء والضعفاء سواء.

* * *

عند هذا الموقف الحاسم يجيء التعقيب الأخير على الحلقة كلها ، وعلى ما تقدمها من الإشارة إلى الأحزاب التي تعرضت لبأس الله ، بعد التكذيب والاستكبار.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.) ..

هذا التعقيب الجازم ، يناسب ذلك الموقف الحاسم. ولقد اطلعت منه البشرية على مثل من نهاية الحق والباطل. نهايتهما في هذه الأرض ونهايتهما كذلك في الآخرة. ورأت كيف كان مصير فرعون وملئه في الحياة الدنيا ، كما رأوهم يتحاجون في النار ، وينتهون إلى إهمال وصغار. وذلك هو الشأن في كل قضية كما يقرر القرآن :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) ..

فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان.

إن وعد الله قاطع جازم : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ..) .. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذبا مطرودا ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد .. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!

ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر

٥٤٦

ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة .. إبراهيم عليه‌السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .. والحسين ـ رضوان الله عليه ـ وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!

وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال ..

ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم. قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!

على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه.

وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالا من الشرك خفية ؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله. ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول. وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله ، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير. فسيكل هذا كله لله. ويلتزم. ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير .. وذلك معنى من معاني النصر .. النصر على

٥٤٧

الذات والشهوات. وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

وقد رأينا في المشهد السابق كيف لا تنفع الظالمين معذرتهم. وكيف باءوا باللعنة وبسوء الدار. فأما صورة من صور النصر في قصة موسى فهو ذاك :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ..

وكان هذا نموذجا من نماذج نصر الله. إيتاء الكتاب والهدى. ووراثة الكتاب والهدى. وهذا النموذج الذي ضربه الله مثلا في قصة موسى ، يكشف لنا رقعة فسيحة ، نرى فيها صورة خاصة من صور النصر تشير إلى الاتجاه.

وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع ، توجيها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن كانوا معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة. ولكل من يأتي بعدهم من أمته ، ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه :

(فَاصْبِرْ. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ..

الإيقاع الأخير .. الدعوة إلى الصبر .. الصبر على التكذيب. والصبر على الأذى. والصبر على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان. والصبر على طباع الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك. والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال. والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد تجيء من جانب الأصدقاء قبل أن تجيء من جانب الأعداء!

(فَاصْبِرْ. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) .. مهما يطل الأمد ، ومهما تتعقد الأمور ، ومهما تتقلب الأسباب. إنه وعد من يملك التحقيق ، ومن وعد لأنه أراد.

وفي الطريق ، خذ زاد الطريق :

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ..

هذا هو الزاد ، في طريق الصبر الطويل الشاق. استغفار للذنب ، وتسبيح بحمد الرب. والاستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب ، وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد. وتطهير للقلب وزكاة. وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب ، فتعقبها الصورة الأخرى في واقع الحياة.

واختيار العشي والإبكار. إما كناية عن الوقت كله ـ فهذان طرفاه ـ وإما لأنهما آنان يصفو فيهما القلب ، ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر الله.

هذا هو المنهج الذي اختاره الله لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد. ولا بد لكل معركة من عدة ومن زاد ..

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)

٥٤٨

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧)

هذا الشوط متصل تمام الاتصال بالشوط الذي قبله ، وهو استمرار للفقرة الأخيرة من الدرس الماضي. وتكملة لتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للصبر على التكذيب والإيذاء والصد عن الحق والتبجح بالباطل. فبعد هذا التوجيه يكشف عن علة المجادلة في آيات الله بغير حجة ولا برهان. إنه الكبر الذي يمنع أصحابه

٥٤٩

من التسليم بالحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في الصدور.

ومن ثم يجيء التنبيه إلى عظمة هذا الكون الذي خلقه الله ، وصغر الناس جميعا بالقياس إلى السماوات والأرض. ويمضي الدرس يعرض بعض الآيات الكونية. وفضل الله في تسخير بعضها للناس وهم أصغر منها وأضأل. ويشير إلى فضل الله على الناس في ذوات أنفسهم. وهذه وتلك تشهد بوحدانية المبدع الذي يشركون به. ويوجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الجهر بكلمة التوحيد والإعراض عما يعبدون من دون الله. وينتهي الشوط بمشهد عنيف من مشاهد القيامة يسألون فيه عما يشركون سؤال التبكيت والترذيل. ويختم كما ختم الشوط الماضي. بتوجيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الصبر سواء أبقاه الله ليشهد بعض ما وعدهم ، أم توفاه إليه قبل مجيء وعد الله. فالأمر لله. وهم إليه راجعون على كل حال.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ. فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ، قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ..

إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة ، ينسى أنه كائن صغير ضعيف ، يستمد القوة لا من ذاته ، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول. من الله. فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ ، ويورم ، ويتشامخ ، ويتعالى. يحيك في صدره الكبر. يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر. ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله!

وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر. وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع ، ويجادل لأنه غير مستيقن. والله العليم بعباده ، السميع البصير المطلع على السرائر ، يقرر أنه الكبر. والكبر وحده. هو الذي يحيك في الصدر. وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه. الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته. ومحاولة أخذ مكان ليس له ، ولا تؤهله له حقيقته. وليست له حجة يجادل بها ، ولا برهان يصدع به. إنما هو ذلك الكبر وحده :

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ..

ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود ، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو ، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود .. لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح ، ولتطامن كذلك وتواضع ، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ..

والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح ، الذي يتوقع منه الشر والأذى .. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله ؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه .. (إِنَّهُ هُوَ

٥٥٠

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .. الذي يسمع ويرى ، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه.

ثم يكشف للإنسان عن وضعه الحقيقي في هذا الكون الكبير. وعن ضآلته بالقياس إلى بعض خلق الله الذي يراه الناس ، ويدركون ضخامته بمجرد الرؤية ، ويزيدون شعورا به حين يعلمون حقيقته :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

والسماوات والأرض معروضتان للإنسان يراهما ، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين «يعلم» حقيقة النسب والأبعاد وحقيقة الأحجام والقوى ، يطامن من كبريائه ، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضئالة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه ، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم ..

ولمحة خاطفة عن السماوات والأرض تكفي لهذا الإدراك.

هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس.

وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا ؛ والتي نحن منها. وقد كشف البشر ـ حتى اليوم ـ نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه! والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو ـ على ضآلته ـ هائل شاسع يدير الرؤوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو من ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي ـ على الأرجح ـ أم هذه الأرض الصغيرة. ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة : ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال!

أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف مليون سنة .. ضوئية .. والسنة الضوئية تعني مسافة ست مائة مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية!

وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية ..!

ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض!

والله ـ سبحانه ـ يقول :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..

وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر. ولا أصعب ولا أيسر. فهو خالق كل شيء بكلمة .. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها ، وكما يعرفها الناس ويقدرونها .. فأين الإنسان من هذا الكون الهائل؟ وأين يبلغ به كبره من هذا الخلق الكبير؟

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) .. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) .. فالبصير يرى ويعلم ؛ ويعرف قدره وقيمته ، ولا يتطاول ، ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه ، ولا نسبته إلى ما حوله ، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به ، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير .. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير.

٥٥١

وهذا عمي وجهل فهو يسيء .. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه ، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطئ في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى .. والعمى عمى القلوب!

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) ..

ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير ..

ثم لو تذكرنا الآخرة ، ووثقنا من مجيئها ، وتصورنا موقفنا فيها ، واستحضرنا مشهدنا بها :

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ..

ومن ثم فهم يجادلون ويستكبرون ، فلا يذعنون للحق ، ولا يعرفون مكانهم الحق ، فلا يتجاوزوه.

والتوجه إلى الله بالعبادة ، ودعاؤه والتضرع إليه ، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به ، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله ـ سبحانه ـ يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه ، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه ؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار :

(وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ..

وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها ، أو تخصيص وقت أو ظرف ، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله ، والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول : «أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه» وهي كلمة القلب العارف ، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما ـ حين يوفق الله ـ متوافقان متطابقان.

فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة ، وفي هذه الحياة الرخيصة ، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار.

* * *

ولما ذكر الذين يستكبرون عن عبادة الله ، شرع يعرض بعض نعم الله على الناس ، تلك النعم التي توحي بعظمته تعالى والتي لا يشكرون الله عليها ، بل يستكبرون عن عبادته والتوجه إليه :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً. إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. هُوَ الْحَيُّ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والأرض والسماء خلقان كونيان كذلك. وهي تذكر مع تصوير الله للبشر وإحسان صورهم ، ومع رزق الله لهم من الطيبات .. وتعرض كلها في معرض نعم الله وفضله على الناس ، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله. فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني ، وعلى وجود

٥٥٢

الصلة بينها ، ووجوب تدبرها في محيطها الواسع ، وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق.

إن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله عليها ، ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له ، هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها ، كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده ، ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنا له وراحة واستجماما ، والنهار مبصرا معينا على الرؤية والحركة ، والأرض قرارا صالحا للحياة والنشاط ، والسماء بناء متماسكا لا يتداعى ولا ينهار ، ولا تختل نسبه وأبعاده ـ ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان ، الذي صوره الله فأحسن صورته ، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون ، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطا بهذا الوجود الكبير .. فهذه كلها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى ؛ ومن ثم يذكرها القرآن في مكان واحد ، بهذا الترابط. ويتخذ منها برهانه على وحدانية الخالق. ويوجه في ظلها القلب البشري إلى دعوة الله وحده ، مخلصا له الدين ، هاتفا : الحمد لله رب العالمين. ويقرر أن الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلها. وهو الله. رب العالمين. فكيف يصرف الناس عن هذا الحق الواضح المبين؟

ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان .. مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله ..

«لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار ..

«لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل ، وتفككت الأرض ، وتناثرت هي الأخرى في الفضاء ..

«لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حر ومن برد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها ، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم ، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها.

«لو لا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها.

«ما ذا يحدث لو استقام محور الأرض ، وجرت الأرض في مدارها حول الشمس في دائرة ، الشمس مركزها؟ إذن لاختفت الفصول ، ولم يدر الناس ما صيف وما شتاء ، وما ربيع وما خريف (١)».

«لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين. ولما أمكن وجود حياة النبات.

«ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.

«لو كان الأوكسجين بنسبة ٥٠ في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من ٢١ في المائة فإن جميع المواد القابلة

__________________

(١) عن كتاب «مع الله. في السماء للدكتور أحمد زكي.

٥٥٣

للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال. لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى ١٠ في المائة أو أقل فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان ـ كالنار مثلا ـ تتوافر له (١)».

وهناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو اختل واحد منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها ، موافقة هكذا لحياة الإنسان.

فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء ؛ وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة ؛ وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن ؛ وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض ؛ مجهزا بأداة الخلافة الأولى : العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض.

ولو رحنا نبحث دقة التكوين الإنساني وتناسق أجزائه ووظائفه ـ بوصفها داخلة في قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ـ لوقفنا أمام كل عضو صغير ، بل أمام كل خلية مفردة ، في هذا الكيان الدقيق العجيب.

ونضرب مثلا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان ، يزحم اللثة واللسان ؛ وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنها من الدقة بحيث يلتقيان تماما ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة!

ثم .. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون .. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيأ لحياته ، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف.

إنه مخلوق لهذا الوسط. ليعيش فيه ، ويتأثر به ، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء .. ألا إنه الإعجاز في هذا القرآن ..

وتكفي هذه الإشارات بهذا الاختصار إلى دقة صنع الله وتناسقه بين الكون والإنسان.

ونقف وقفات سريعة أمام النصوص القرآنية :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) ..

إن السكون بالليل ضرورة لكل حي. ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية وتستكن لتزاول نشاطها في النور. ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون. بل لا بد من ليل. لا بد من ظلام. فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تصل إلى حد من الإجهاد تتلف معه أنسجتها لأنها لم تتمتع بقسط ضروري لها من السكون.

__________________

(١) عن كتاب «العلم يدعو للإيمان» ترجمة محمود صالح الفلكي.

٥٥٤

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) .. والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص. وكأنما النهار حي يبصر ويرى. وإنما الناس هم الذين يبصرون فيه. لأن هذه هي الصفة الغالبة ..

وتقلب الليل والنهار على هذا النحو نعمة في طيها نعم. ولو كان أحدهما سرمدا. بل لو كان أطول مما هو مرات معدودة لانعدمت الحياة. فلا عجب أن يقرن توالي الليل والنهار بذكر الفضل الذي لا يشكره أكثر الناس :

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ..

ويعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين ، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلها يستحق هذا الاسم العظيم :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) ..

وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء ، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضا بحكم وجود الأشياء ، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه ، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله ، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار .. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) ..

ولكنه هكذا يصرف ناس عن هذا الحق الواضح. هكذا كما يقع من المخاطبين الأولين بالقرآن. كذلك كان في كل زمان ؛ بلا سبب ولا حجة ولا برهان :

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ..

وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار ، إلى تصميم الأرض لتكون قرارا ، والسماء لتكون بناء :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) ..

والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالا. والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان ، المحسوب حسابها في تصميم هذا الوجود ، المقدرة في بنائه تقديرا ..

ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره :

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ..

ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ. فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ..

ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر ، ويراعيكم ويقدر لكم مكانا في ملكه .. ذلكم الله ربكم. (فَتَبارَكَ اللهُ) .. وعظمت بركته وتضاعفت. (رَبُّ الْعالَمِينَ) .. أجمعين.

(هُوَ الْحَيُّ) ..

أجل. هو وحده الحي. الحي حياة ذاتية غير مكسوبة ولا مخلوقة. وغير مبتدئة ولا منتهية. وغير حائلة ولا زائلة. وغير متقلبة ولا متغيرة. وما من شيء له هذه الصفة من الحياة. سبحانه هو المتفرد بالحياة.

وهو المتفرد بالألوهية. بما أنه المتفرد بالحياة. فالحي الواحد هو الله :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ..

٥٥٥

ومن ثم .. (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .. واحمدوه في الدعاء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

* * *

وأمام هذه الآيات والهبات ، وما تلاها من تعقيبات ، وفي أشد اللحظات امتلاء بحقيقة الوحدانية ، وحقيقة الألوهية. وحقيقة الربوبية. يجيء التلقين لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليعلن للقوم أنه منهي عن عبادة ما يدعون من دون الله ، مأمور بالإسلام لله رب العالمين :

(قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ..

أعلن لهؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله ويجحدون هباته ، أنك نهيت عن عبادة ما يدعون من دون الله. وقل لهم : إنني نهيت وانتهيت (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) فعندي بينة ، وأنا بها مؤمن ، ومن حق هذه البينة أن أقتنع بها وأصدق ، ثم أعلن كلمة الحق .. ومع الانتهاء عن عبادة غير الله ـ وهو سلب ـ الإسلام لرب العالمين ـ وهو إيجاب ـ ومن الشقين تتكامل العقيدة.

ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعد ما استعرض آياته في الآفاق. هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة ؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..

وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان ، لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثا بعد نزول هذا القرآن بقرون!

فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة ، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة. وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة ، واتحادهما ، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة .. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى ، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله ، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة : مرحلة الطفولة. ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أن يبلغ هذه المراحل جميعا أو بعضها. (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) مقدرا معلوما لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .. فمتابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير ، مما للعقل فيه دور كبير ..

ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقا. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص. ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه.

ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي

٥٥٦

مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر .. فيحسون .. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون!

وهو يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعا :

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) ..

وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقع عليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة. فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم ، ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع ، وتخضر وتورق وتزهر ، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة .. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة .. وعكس هذه الرحلة .. من الحياة إلى الموت ، كالرحلة من الموت إلى الحياة .. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات.

ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة (كُنْ) .. فإذا الوجود ينبثق على إثرها (فَيَكُونُ) فتبارك الله أحسن الخالقين ..

* * *

وأمام نشأة الحياة البشرية. وفي ظل مشهد الحياة والموت. وحقيقة الإنشاء والإبداع .. يبدو الجدال في آيات الله مستغربا مستنكرا ؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجيبا نكيرا. ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ. ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ..

إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله ، في ظل استعراض هذه الآيات. مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك!

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) ..

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) ..

وهم كذبوا كتابا واحدا. ورسولا واحدا. ولكنهم إنما يكذبون بهذا كل ما جاء به الرسل. فهي عقيدة واحدة ، تتمثل في أكمل صورها في الرسالة الأخيرة. ومن ثم فهم كذبوا بكل رسالة وبكل رسول .. كل مكذب في القديم والحديث صنع هذا حين كذب رسوله الذي جاءه بالحق الواحد وبعقيدة التوحيد.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..

ثم يعرض ماذا سوف يعلمون ..

إنها الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب. (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) ..

٥٥٧

بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟!

وبعد السحب والجر في هذا العذاب وفي هذه المهانة ، ينتهي بهم المطاف إلى ماء حار وإلى نار :

(فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ..

أي يربطون ويحبسون ، على طريقة سجر الكلاب. أي يملأ لهم المكان ماء حارا ونارا موقدة. وإلى هذا ينتهون.

وبينما هم في هذا العذاب المهين يوجه إليهم التبكيت والترذيل والإحراج والإعنات :

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟) ..

فيجيبون إجابة المخدوع الذي انكشفت له خدعته ، وهو يائس حسير.

(قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا. بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) ..

غابوا عنا فلم نعد نعرف لهم طريقا ، وما عادوا يعرفون لنا طريقا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. فقد كانت كلها أوهاما وأضاليل!

وعلى إثر الجواب البائس يجيء التعقيب العام :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) ..

ثم يوجه إليهم التأنيب الأخير :

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ..

يا مغيث! وأين إذن كان السحب في السلاسل والأغلال ، وكان الماء الحار والنار؟ يبدو أنها كانت مقدمة للدخول في جهنم للخلود .. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) .. فعن الكبر نشأت هذه المهانة. وجزاء على الكبر كان هذا التحقير!

* * *

وأمام هذا المشهد. مشهد الذل والمهانة والعذاب الرعيب. وعاقبة الجدال في آيات الله ، والكبر النافخ في الصدور .. أمام هذا المشهد وهذه العاقبة يتجه السياق إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوصيه بالصبر على ما يجده من كبر ومن جدال ، والثقة بوعد الله الحق على كل حال. سواء أراه الله بعض الذي يعدهم في حياته ، أو قبضه إليه وتولى الأمر عنه. فالقضية كلها راجعة إلى الله ، وليس على الرسول إلا البلاغ ، وهم إليه راجعون :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ..

وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق. إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود ، يقال له ما مفهومه : أد واجبك وقف عنده. فأما النتائج فليست من أمرك. حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى. يؤدي واجبه ويمضي. فالأمر ليس أمره. والقضية ليست قضيته. إن الأمر كله لله. والله يفعل به ما يريد.

يا لله! يا للمرتقى العالي. ويا للأدب الكامل. الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة. في شخص رسوله الكريم.

٥٥٨

وإنه لأمر شاق على النفس البشرية. أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة. لعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة. فلم يكن هذا تكرارا للأمر الذي سبق فيها. إنما كان توجيها إلى صبر من لون جديد. ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب؟!

إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته ، بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء ، أمر شديد على النفس صعيب. ولكنه الأدب الإلهي العالي ، والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين ، وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب ، حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين!

ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين. فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب ، التي تبدو بريئة في أول الأمر ، ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم!

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥)

هذا الشوط استكمال للتعقيب في آخر الدرس الماضي. استكمال لتوجيه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين إلى الصبر ، حتى يأذن الله ، ويتحقق وعده ووعيده ، سواء تحقق هذا في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أم استأخر بعد وفاته. فالأمر ليس أمره ، إنما هو أمر هذه العقيدة والمؤمنين بها والمجادلين فيها ، المستكبرين عنها. والحكم في هذا الأمر هو الله. وهو الذي يقود حركتها ويوجه خطواتها كما يشاء.

فأما هذا الشوط الجديد ـ الذي تختم به السورة ـ فيستطرد في عرض جوانب أخرى من هذه الحقيقة ..

٥٥٩

إن قصة هذا الأمر قصة طويلة وقديمة ، ولم تبدأ برسالة الإسلام ورسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقبله كانت رسل. قص الله بعضهم عليه وبعضهم لم يقصصهم عليه. وكلهم ووجهوا بالتكذيب والاستكبار. وكلهم طولب بالآيات والخوارق. وكلهم تمنى لو يأتي الله بخارقة يذعن لها المكذبون. ولكن ما من آية إلا بإذن الله ، في الوقت الذي يريده الله. فهي دعوته ، وهو يصرفها كيف يشاء.

على أن آيات الله مبثوثة في الكون ، معروضة للأنظار في كل زمان ومكان. يتحدث منها هنا عن الأنعام ، والفلك ، ويشير إشارة عامة إلى سائرها الذي لا يملك إنكاره أحد.

ويختم السورة بلمسة قوية عن مصارع الغابرين ، الذين وقفوا موقف المكذبين ، وغرهم ما كانوا فيه من القوة والعمارة والعلم. ثم أدركتهم سنة الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) ..

وبهذا الإيقاع تختم السورة التي دارت كلها على المعركة بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والصلاح والطغيان حتى ختمت هذا الختام الأخير ..

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ؛ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ..

إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه. وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم ؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف ؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح.

وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكئ عليها لتقررها تقريرا شديدا :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ..

فالنفس البشرية ـ ولو كانت نفس رسول ـ تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعا. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ؛ ويروضوا أنفسهم عليه ؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله.

ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة ..

كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم ؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ..

ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير.

* * *

ثم يوجه طلاب الخوارق إلى آيات الله الحاضرة التي ينسون وجودها بطول الألفة. وهي لو تدبروها بعض

٥٦٠